ثقافة

عقيدة الحياة بعد الموت

آيه الله جوادي آملي

إن مسألة المعاد والحياة بعد الموت معقدة وصعبة إلى درجة أن عقول المفكرين قد حارت بشأنها أكثر من حيرتها في مسألة مبدأ العالم. إذ أن القول بإنكار وعدم وجود نهاية للعالم لم ينحصر فقط بالماديين ومنكري مبدأ العالم بل أن بعض المعتقدين بمبدأ العالم والمؤمنين بخالق الكون كان لديهم شك بشأنِ القيامة ولم يتقبّلوها. وهذا الإنكار إضافة إلى ما يسبّبه من تعقيد لمسألة المعاد، له نكتة أخرى بحيث أنه لم يأتِ بدون سبب. فالاعتقاد بالقيامة والإيمان بيوم الجزاء يوجب قبول التعهد والمسؤولية ويمنع الإنسان من هوس اللعب والظلم ويجعله خاضعاً للقوانين، لهذا كان إنكار المعاد لأجل توجيه الظلم والعبث واللهو له دور فعَّال ومؤثر. بناء على هذا يلزم قبل الشروع في البحث حول أصل المعاد أن نبين دوره الأصيل والبنَّاء في تهذيب النفس وتزكية الروح، ونتعرف على سر إصرار الأنبياء على ضرورة المعاد في مقابل إنكار المنكرين للقيامة.

القرآن الكريم عندما ينقل بعض إشكالات منكري المعاد ويقوم بحلها، يقول أن الشبهة العلمية لم تكن هي المانع لهم عن قبول المعاد بل الشهور العملية والفجور:
﴿أيحسب الإنسان ألن نجمع عظامه، بلى قادرين على أن نسوّي بنانه، بل يريد الإنسان ليفجر أمامه﴾ (القيامة 3-5).

والفرق بين الشبهة العلمية والشهوة العملية سوف يبيّن في الفصل الثاني حيث نطرح شبهات مفكري المعاد. ﴿إن الذين يضلون عن سبيل الله لهم عذاب شديد بما نسوا يوم الحساب﴾ (ص-39). عندما لا يكون الحساب موجوداً ولا يوجد جزاء من ثواب أو عقاب على أي عمل، فلن يكون لذلك أثر سوى الانحراف عن طريق الله حيث الصعاب والشقاء.
إن الجنة حفّت بالمكاره، وإن النار حفّت بالشهوات” نهج البلاغة، خطبة 175.

ثم إن الاعتقاد بالقيامة ضامن للفضائل الإنسانية، إذ يعتبر القرآن أن ذكر المعاد وحضوره في الذهن سببٌ لتعالي الروح وخلوص الإيمان. لأنه يقول بشأن المخلصين:
﴿إنَّا أخلصناهم بخالصة ذكرى الدار﴾ (ص-46).

وعلى أساس هذه الأهمية المتقابلة في الفضائل والرذائل نجد أن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم إضافة إلى الاستدلالات القاطعة التي يبيّنها. يقسم أن المعاد حق. وأيضاً منكرو القيامة الذين يعتقدون بمبدأ الخلقة ولكن لا اعتقاد لهم بربوبيته، وبمعزل عن إلقاء الشبهة الواهية، يقسمون أن المعاد باطل.

﴿وقال الذين كفروا لا تأتينا الساعة، قل بلى وربي﴾ (سبأ -3). (وذكر أيضاً مضمون هذه الآية في سورة يونس آية 53. وفي سورة التغابن آية 7) ﴿وأقسموا بالله جهد أيمانهم لا يبعث الله من يموت…﴾. يظهر هذا الموقف المتقابل لأن الاعتقاد بالمعاد عامل للتعهد والتقوى في حين أن إنكاره يؤدي إلى الفساد والفجور.

النقطة التي لا ينبغي إغفالها هي أن قسم النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم ليس مثل قسم الآخرين. لأن القسم يكون عادة بدلاً عن الشاهد والبرهان، فالمدعي إذا لم يكن لديه شاهد يقسم. ولكن النبي الأكرم صلى الله عليه وآله وسلم حين يبيّن ضرورة المعاد، لا يعطي فقط شاهداً قاطعاً على ذلك بل أنه يقسم بذلك الدليل القطعي، لأن القسم بالرب يعني القسم بمبدأ العالم وعامل رشد العالم. ولأن العالم عندما يصبح متكاملاً يصل إلى الهدف وبدون الهدف فهو خام وناقص، يصبح أن لازم ربوبية الله هو إيصال العالم الطبيعي إلى الكمال في ظل تربيته الخاصة.

﴿الله لا إله إلاَّ هو ليجمعنّكم إلى يوم القيامة لا ريب فيه…﴾ (النساء 87). أي أن الألوهية تقتضي المعاد والقيامة لأن المعاد في الحقيقة رجوع إلى المبدأ. إذن فرب العالم حقيقة هو “المبدأ” وهو أيضاً “المنتهى” أي أنه هو موجب لنشوء العالم وأيضاً سبب لتربيته وهدايته إلى الهدف النهائي الذي هو المعاد. الآن وقد اتضح الدور المؤثر للاعتقاد بالمعاد في إيجاد التعهد والتقوى نصل إلى أصل البحث وهو إثبات الحياة بعد الموت.

القرآن الشريف بمقتضى الآية الشريفة: ﴿ونزلنا إليك الكتاب تبياناً لكل شيء﴾. قد بيَّن كل المعارف الإنسانية، وكل شيء يساهم في تأمين سعادة الإنسان. ولكن بما أن بيان مطلب ما يكون محكماً عندما يعرض بالبرهان، ﴿يا أيها الناس قد جاءكم برهان من ربكم..﴾لذلك يعرض القرآن مسألة المعاد التي لا يتطرق إليها الخلل ببيان الدليل القاطع عليها ويبيّن أيضاً ضرورة المعاد في ظل معرفة العالم ومعرفة الإنسان كذلك؛ أي أنه يعرّف العالم المشهود وعالم الطبيعة كما هو، والإنسان أيضاً كما خُلق حتى يصبح معلوماً ضرورة المعاد وحتمية يوم القيامة. وإن كان البحث حول معاد العالم شامل لمعاد الإنسان أيضاً لأن الناس هم جزء من هذا العالم المشهود، إلاَّ أن صفاتهم الخاصة توجب أن يطرح البحث حول معاد الإنسان منفصلاً.
وما يطرح الآن هو أصل حدوث المعاد لا كيفيّته.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى