ثقافة

قراءة في بيانات الثورة – ساعة المواجهة

المناسبة : نزل سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) في كربلاء المقدسة في يوم الخميس بتاريخ ( 2 / محرم / 61هـ ) الموافق ( 2 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 680م ) وفي يوم الجمعة ، العاشر من المحرم ، سنة إحدى وستين ( 10 / محرم / 61هـ ) الموافق ( 10 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 680م ) أحاط الجيش الأموي وقوامه ( ثلاثون ألف مقاتل ) بقيادة ( عمر بن سعد ) بسبط الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الإمام الحسين بن علي بن أبي طالب (عليهما السلام ) فلما نظر إليهم ، رفع يديه بالدعاء .. وقال :

” اللهم أنت ثقتي في كل كرب ، ورجائي في كل شدة ، وأنت لي في كل أمر نزل بي ثقة وعدة . كم هم يضعف فيه الفؤاد ، وتقل فيه الحيلة ، ويخذل فيه الصديق ، ويشمت فيه العدو ، أنزلته بك ، وشكوته إليك ، رغبة مني إليك عمن سواك ، فكشفته ، وفرجته . فأنت ولي كل نعمة ، ومنتهى كل رغبة ” .

ثم دعا براحلته فركبها ونادى بصوت عال يسمعه جلهم .. فقال :

نص البيان ـ القسم الأول : ” أيها الناس : اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى أعذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدقتم قولي ، وأعطيتموني النصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكون أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون ، إن وليي الله الذي نزل الكتاب ، وهو يتولى الصالحين .

عباد الله : اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ، فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد ، لكانت الأنبياء أحق بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وأرضى بالقضاء ، غير أن الله خلق الدنيا للفناء ، فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر ، والمنزل تلعة ، والدار قلعة ، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقوا الله لعلكم تفلحون .

أيها الناس : إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ، وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحل بكم نقمته ، فنعم الرب ربنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبعدا للقوم الظالمين .

أيها الناس : انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا ..
هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟
ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول مؤمن مصدق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما جاء به من عند ربه ؟
أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟
أو ليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي ؟
أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟
فإن صدقتموني بما أقول ( وهو الحق ) والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا ( جابر بن عبد الله الأنصاري ) و ( أبا سعيد الخدري ) و ( سهل بن سعد الساعدي ) و ( زيـد بن أرقـم ) و ( أنس بن مالك ) يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولأخي .
أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟!

فقال له ( شمر بن ذي الجوشن ) : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول !
فقال له ( حبيب بن مظاهر ) : والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول .. فقد طبع الله على قلبك .

فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : فإن كنتم في شك من هذا القول ، أفتشوكن أني ابن بنت نبيكم ؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم .
ويحكم : اتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟
أو مال لكم استهلكته ؟
أو بقصاص من جراحة ؟

فأخذوا لا يكلمونه ..
فنادى : يا ( شبث بن ربعي ) ويا ( حجار بن أبحر ) ويا ( قيس ين الأشعث ) ويا ( زيـد بن الحارث ) ألم تكتبوا إلي أن أقدم ، قد أينعت الثمار ، واخضر الجنان ، وإنما تقدم على جند لك مجندة ؟

فقالوا : لم نفعل !!
فقال : سبحان الله .. بلى والله لقد فعلتم .

أيها الناس : إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض !!

فقال له قيس ابن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمك ؟
فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .

فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : أنت أخو أخيك !! أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟
لا والله : لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد .

عباد الله : إني عذت بربي وربكم أن ترجمون . وأعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ” ( البحار . ج45 . ص 6 ـ 7 ) .

يتضمن هذا القسم من البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :

أولا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : اسمعوا قولي ولا تعجلوا حتى أعظكم بما هو حق لكم علي ، وحتى أعذر إليكم من مقدمي عليكم ، فإن قبلتم عذري ، وصدقتم قولي ، وأعطيتموني النصف من أنفسكم ، كنتم بذلك أسعد ، ولم يكن لكم علي سبيل ، وإن لم تقبلوا مني العذر ، ولم تعطوا النصف من أنفسكم ، فاجمعوا أمركم وشركاءكم ، ثم لا يكون أمركم عليكم غمة ، ثم اقضوا إلي ولا تنظرون { إِنَّ وَلِيِّـيَ اللّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتَابَ وَهُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ } ( الأعراف : 196 ) .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : طلبه ( عليه السلام ) منهم أن يسمعوا له ولا يستعجلوا قتاله ، وان الهدف من ذلك هو عظتهم وبيان عذره في القدوم إليهم ، ويرى بأن وعظهم حق لهم عليه ، وانه يدخل في دائرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر .

ويدل هذا الموقف على عدة أمور .. منها :

الأمر الأول : مدى الشفقة والرحمة التي يحملها الإمام الحسين ( عليه السلام ) إلى عامة الناس .. حتى خصومه وأعدائه ، والتعامل معهم بمسؤولية كبيرة ، مثله كمثل جده الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

قال الله تعالى : { فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللّهِ إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ } ( آل عمران : 159 ) .

وقال الله تعالى : { لَقَدْ جَاءكُمْ رَسُولٌ مِّنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ . فَإِن تَوَلَّوْاْ فَقُلْ حَسْبِيَ اللّهُ لا إِلَـهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَهُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ } ( التوبة : 128 ـ 129 ) .

الأمر الثاني : أنه لا خصومة شخصية بينه وبين الذين برزوا لقتاله ظلما وعدوانا ، وأنه يتعامل معهم من خلال الحكم الشرعي والقيم السماوية والإنسانية العالية ، وأن الموقف الصعب الذي يقف فيـه معهم ، لا ينسيه تكليفه الشرعي بوجوب وعظهم وإرشادهم ونصيحتهم قبل قتاله معهم .

قال الله تعالى : { وَإِذَ قَالَتْ أُمَّةٌ مِّنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْمًا اللّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذَابًا شَدِيدًا قَالُواْ مَعْذِرَةً إِلَى رَبِّكُمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ( الأعراف : 164 ) .

الأمر الثالث : صدقه فيما طرحه عن العلاقة التي تربطه بهم كقائد رسالي عظيم .

النقطة الثانية : الإشارة إلى أنهم بين موقفين .. وهما :

الموقف الأول ـ الاستجابة له : وفيه الإنصاف منهم ، وسعادتهم في الدنيا والآخرة .
الموقف الثاني ـ عـدم الاستجابة له : وهو ظلم منهم وخيانة ، وشقاء لهم في الدنيا والآخرة .

النقطة الثالثة : أن موقفه هذا منهم ، ليس خوفا من الموت ، وإنما هو استجابة لتكليف رسالي وإنساني مقدس .

قال ( عليه السلام ) : ” الناس عبيد الدنيا ، والدين لعق على ألسنتهم ، يحوطونه ما درت معايشهم ، فإذا محصوا بالبلاء قل الديانون ” .

وقال ( عليه السلام ) مخاطبا أصحابه : ” أما بعد : فقد نزل بنا من الأمر ما قد ترون ، وإن الدنيا قد تغيرت وتنكرت وأدبر معروفها ، ولم يبقى منها إلا صبابة كصبابة الإناء ، وخسيس عيش كالمرعى الوبيل . إلا ترون إلى الحق لا يعمل به ، وإلى الباطل لا يتناهى عنه ، ليرغب المؤمن في لقاء الله ، فإني لا أرى الموت إلا سعادة ، والحياة مع الظالمين إلا برما ” ( البحار . ج 44 . ص 381 ) .

النقطة الرابعة : أن وليه وناصره في موقفه هو الله ( تبارك وتعالى ) وانه لا ناصر لهم من الله ( عز وجل ) في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ . وَالَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْسًا لَّهُمْ وَأَضَلَّ أَعْمَالَهُمْ . ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا مَا أَنزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمَالَهُمْ . أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرُوا كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَلِلْكَافِرِينَ أَمْثَالُهَا . ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لَا مَوْلَى لَهُمْ } ( محمد : 7 ـ 11 ) .

ثانيا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” عباد الله : اتقوا الله وكونوا من الدنيا على حذر ، فإن الدنيا لو بقيت على أحد أو بقي عليها أحد ، لكانت الأنبياء أحق بالبقاء ، وأولى بالرضا ، وأرضى بالقضاء ، غير أن الله خلق الدنيا للفناء ، فجديدها بال ، ونعيمها مضمحل ، وسرورها مكفهر ، والمنزل تلعة ، والدار قلعة ، فتزودوا فإن خير الزاد التقوى ، واتقوا الله لعلكم تفلحون ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الوصية بتقوى الله تعالى والحذر من الدنيا .

وهذا يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : التأكيد على ما جاء في بيان فلسفة الثورة ، من أن الصراع بين الثوار المؤمنين وخصومهم .. يقوم على أساس : حرص الثوار المؤمنين على الدين والآخرة ، بينما حرص خصومهم على الدنيا وما فيها من السلطة والثروة والجاه والنفوذ .

الأمر الثاني : أن تقوى الله تعالى تردع المتقين عن الظلم والعدوان من أجل الدنيا أو تحت تأثير الترهيب والترغيب .

الأمر الثالث : أن كل موقف في الحياة له صلة بالتقوى . فموقفهم من قتاله ونصرة ( يزيد بن معاوية ) أو العكس .. له صلة مباشرة بالتقوى ، وعليهم أن يحددوا موقفهم على هذا الأساس .

الأمر الرابع : أن الإعراض عن التقوى يؤدي إلى شقاء الإنسان وليس سعادته ، ويأتي على حساب إنسانيته وكرامته .

قال الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَعْرَضَ عَن ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى } ( طه : 124 ) .

النقطة الثانية : الإشارة إلى عدم بقاء الإنسان في الدنيا ، وأنه راحل عنها بالموت إلى الآخرة .. وعليه : فإنها لا تستحق أن يفضلها الإنسان على الآخرة .

النقطة الثالثة : الإشارة إلى تقلب أحوال الإنسان في الدنيا . من الصحة إلى المرض ، ومن الغنى إلى الفقر ، ومن النصر إلى الهزيمة ، ومن العز إلى الذل .. وعليه : فإن الإنسان العاقل لا يركن إليها ، ولا يغتر بها .

النقطة الرابعة : الوصية بالـتزود إلى الآخرة ، وبيـان أن خـير الـزاد للآخـرة التقـوى .. ويترتب على ذلك : مراجعتهم لموقفهم من قتاله على أساس التقوى ، ومن البديهي ( بحسب كل الاعتبارات ) أن قتاله ونصرة ( يزيد بن معاوية ) مخالف للتقوى .

النقطة الخامسة : أن فوزهم أو خسارتهم ، سعادتهم أو شقائهم في الدنيا والآخرة ، يتوقف على مدى التزامهم بالتقوى في المواطن والمواقف كلها ، وعليهم أن يأخذوا ذلك بعين الاعتبار في موقفهم من قتاله ونصرة ( يزيد بن معاوية ) .

ثالثا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : إن الله تعالى خلق الدنيا فجعلها دار فناء وزوال ، متصرفة بأهلها حالا بعد حال ، فالمغرور من غرته ، والشقي من فتنته ، فلا تغرنكم هذه الدنيا ، فإنها تقطع رجاء من ركن إليها ، وتخيب طمع من طمع فيها ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإشارة إلى حقيقة الدنيا ، وأنها دار فناء وليست دار بقاء ، ولهذا فإنها تتقلب بأهلها من حال إلى حال ، وهذا دليل فنائها وزوالها .. ويترتب عليه : ضرورة وجود الآخرة ، وإلا أصبح الخلق كله عبثا .

قال الله تعالى : { أَفَحَسِبْتُمْ أَنَّمَا خَلَقْنَاكُمْ عَبَثًا وَأَنَّكُمْ إِلَيْنَا لَا تُرْجَعُونَ . فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ } ( المؤمنون : 151 ـ 161 ) .

النقطة الثانية : التحذير من الركون إلى الدنيا ، لأن الركون إليها من الغرور الذي لا يقوم على أساس صحيح من العقل والدين ( بحسب الحقيقة الثابتة لها ) وهو يكشف عن ظلمة في القلب والنفس ، وحماقة في التفكير .

قال الله تعالى : { إِنَّمَا مَثَلُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا كَمَاء أَنزَلْنَاهُ مِنَ السَّمَاء فَاخْتَلَطَ بِهِ نَبَاتُ الأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَالأَنْعَامُ حَتَّىَ إِذَا أَخَذَتِ الأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ وَظَنَّ أَهْلُهَا أَنَّهُمْ قَادِرُونَ عَلَيْهَآ أَتَاهَا أَمْرُنَا لَيْلاً أَوْ نَهَارًا فَجَعَلْنَاهَا حَصِيدًا كَأَن لَّمْ تَغْنَ بِالأَمْسِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ } ( يونس : 24 ) .

وقول الله تعالى : { اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَبَاتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَرَاهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطَامًا وَفِي الْآخِرَةِ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَمَغْفِرَةٌ مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانٌ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ } .
( الحديد : 20 ) .

النقطة الثالثة : أن الركون إلى الحياة الدنيا وأتباع أعداء الله ( تبارك وتعالى ) استنادا إليه ينتهي ( بالبداهة ) إلى الخسارة النوعية في الآخرة ، وهو خلاف فطرة الإنسان الذي جبل على دفع الضرر عن نفسه .

قال الله تعالى : { أَفَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَن يَتَّخِذُوا عِبَادِي مِن دُونِي أَوْلِيَاء إِنَّا أَعْتَدْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ نُزُلًا . قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمَالًا . الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعًا . أُولَئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَلِقَائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمَالُهُمْ فَلَا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا . ذَلِكَ جَزَاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِمَا كَفَرُوا وَاتَّخَذُوا آيَاتِي وَرُسُلِي هُزُوًا } .
( الكهف : 102 ـ 106 ) .

رابعا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” وأراكم قد اجتمعتم على أمر قد أسخطتم الله فيه عليكم ، وأعرض بوجهه الكريم عنكم ، وأحل بكم نقمته ، فنعم الرب ربنا ، وبئس العبيد أنتم ، أقررتم بالطاعة ، وآمنتم بالرسول محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم إنكم زحفتم إلى ذريته وعترته تريدون قتلهم ، لقد استحوذ عليكم الشيطان فأنساكم ذكر الله العظيم ، فتبا لكم ولما تريدون ، إنا لله وإنا إليه راجعون ، هؤلاء قوم كفروا بعد إيمانهم ، فبعدا للقوم الظالمين ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : تشخيص أن موقفهم مخالف للتقوى ، وانه يعرضهم لغضب الله ( جبار السماوات والأرض ) عليهم ( وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض ) ويؤدي لأن يعرض الله ( تبارك وتعالى ) بوجهه الكريم عنهم ، وهذه خسارة فادحة لا يتهاون فيها الإنسان العاقل السوي ، ولا يرضاها لنفسه ، مما يعني أنهم بعيدين عن رحمة الله ( تبارك وتعالى ) وفي معرض انتقامه منهم في الدنيا والآخرة .. نعوذ بالله العظيم من ذلك .

يقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في دعاء كميل : ” يا رب وأنت تعلم ضعفي عن قليل من بلاء الدنيا وعقوباتها ، وما يجري فيها من المكاره على أهلها ، على أن ذلك بلاء ومكروه قليل مكثه ، يسير بقاؤه ، قصير مدته ، فكيف احتمالي لبلاء الآخرة ، وجليل وقوع المكاره فيها ، وهو بلاء تطول مدته ، ويدوم مقامه ، ولا يخفف عن أهله ، لأنه لا يكون إلا عن غضبك وانتقامك وسخطك ، وهذا ما لا تقوم له السماوات والأرض .. يا سيدي : فكيف بي وأنا عبدك الضعيف ، الذليل ، الحقير ، المسكين ، المستكين ” .

وقال ( عليه السلام ) في نفس الدعاء : ” فهبني يا إلهي وسيدي ومولاي وربي ، صبرت على عذابك !! فكيف أصبر على فراقك ؟ وهبني يا إلهي صبرت على حر نارك !! فكيف أصبر عن النظر إلى كرامتك ؟ ” ( دعاء كميل ) .

النقطة الثانية : أن الله ( تبارك وتعالى ) هو نعم الرب ، لأنه خلق الإنسان ولم يكن شيئا مذكورا ، وسخر له الشمس والقمر والنجوم والأرض والبحار ، وأنعم عليه بالطيبات من الرزق الحلال ، من المأكل والمشرب والمسكن والأثاث والأنعام ومتعة الجنس والأبناء وغيرها من زينة الحياة الدنيا ، وبعث إليه الرسل مبشرين ومنذرين ليرشدوه إلى طريق الهداية والصواب في الحياة ، وليبلغ أعلى مراتب القرب من الله ( تبارك وتعالى ) وأكمل السعادة في الآخرة .. إلا أن أهل الكوفة : بحربهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) ونصرتهم لـ( يزيد بن معاوية ) بئس العبيد ، لأنهم أقروا بألسنتهم بالطاعة لله ( عز وجل ) والإيمان بالرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ثم يرتكبون إثما عظيما ( ليس بعده إثم ) وهو قتلهم لذرية الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) مع سبق الإصرار .. وهذا يوجب ( قطعا ) غضب الله ( عز وجل ) عليهم .

قال الله تعالى : { وَمَن يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُّتَعَمِّدًا فَجَزَآؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا } ( النساء : 93 ) .

النقطة الثالثة : أن حربهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) هو من عمل الشيطان ، وهو بئس الاختيار ، لأنه يؤدي بهم إلى الخسران والهلاك في الدنيا والآخرة .

أما في الدنيا : فلأن دولة ( يزيد بن معاوية ) لن تحقق لهم الحياة الإنسانية الكريمة .. وذلك للأسباب التالية :

السبب الأول : لأنها تقوم على الباطل وحب الدنيا ، فهي لن تغذي إنسانيتهم ، ولن توصلهم إلى السعادة الممكنة لهم بحسب خلقهم وتكوينهم وفطرتهم التي فطرهم الله ( تبارك وتعالى ) عليها .

السبب الثاني : لأنها تقوم على الظلم والجور والفساد ، فهي لن تحقق لهم ما يطمحون إليه من العزة والكرامة والحرية والسعة في الرزق والأمن والرفاه .

السبب الثالث : لأنها تأتي على حساب الآخرة .

أما في الآخرة : فلأن مصيرهم إلى النار وبئس القرار .

وهذا القول من الإمام الحسين ( عليه السلام ) يدل على أنهم لن يصلوا إلى مآربهم وما يطمحون إليه في الدنيا .

النقطة الرابعة : الحوقلة . وفيها دلالة على قلة حيلته ( عليه السلام ) في هدايتهم بعد أن طبع الله ( جل جلاله ) على قلوبهم ، واستحوذ عليهم الشيطان الرجيم ، فأنساهم ذكر اللـه ( تبارك وتعالى ) والآخرة .

قال الله تعالى : { إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَن يَشَاء وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ } .
( القصص : 56 ) .

وقال الله تعالى : { أَفَأَنتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَمَن كَانَ فِي ضَلَالٍ مُّبِينٍ } .
( الزخرف : 40 )

وفي هذه النقطة دلالة على مدى الخطر الذي يحدق بالإنسان الذي ينظر إلى الأمور بمنظار مادي ، ويتخذ المواقف في الحياة على هذا الأساس ، وهو على خلاف ما ينبغي أن يكون عليه الإنسان المؤمن في التفكير .. وأن منهج الثوار المؤمنين يبعدهم عن ذلك بعدا كبيرا .

النقطة الخامسة : تقريره ( عليه السلام ) بأن إصرارهم على قتاله ونصرة ( يزيد بن معاوية ) هو بمثابة الارتداد ( العملي ) بعد الإيمان ( النظري ) وقد حمله ذلك على الدعاء عليهم .

قال الله تعالى : { فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ } ( القصص : 50 ) .

وقال الله تبارك وتعالى : { وَتِلْكَ عَادٌ جَحَدُواْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ وَعَصَوْاْ رُسُلَهُ وَاتَّبَعُواْ أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ . وَأُتْبِعُواْ فِي هَـذِهِ الدُّنْيَا لَعْنَةً وَيَوْمَ الْقِيَامَةِ أَلا إِنَّ عَادًا كَفَرُواْ رَبَّهُمْ أَلاَ بُعْدًا لِّعَادٍ قَوْمِ هُودٍ } ( هود : 59 ـ 60 ) .

وهذا يدل على أمور عديدة مهمة .. منها :

الأمر الأول : أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) معذور في قتالهم .
الأمر الثاني : أنهم مستحقون للعذاب في الآخرة بسوء اختيارهم .

خامسا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : انسبوني من أنا ، ثم ارجعوا إلى أنفسكم وعاتبوها وانظروا ..
هل يحل لكم قتلي وانتهاك حرمتي ؟
ألست ابن بنت نبيكم وابن وصيه وابن عمه وأول مؤمن مصدق لرسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بما جاء به من عند ربه ؟
أوليس حمزة سيد الشهداء عم أبي ؟
أو ليس جعفر الطيار في الجنة بجناحين عمي ؟
أو لم يبلغكم قول رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولأخي : هذان سيدا شباب أهل الجنة ؟

فإن صدقتموني بما أقول ( وهو الحق ) والله ما تعمدت الكذب منذ علمت أن الله يمقت عليه أهله ، وإن كذبتموني فإن فيكم من إن سألتموه عن ذلك أخبركم ، سلوا ( جابر بن عبد الله الأنصاري ) و ( أبا سعيد الخدري ) و ( سهل بن سعد الساعدي ) و ( زيـد بن أرقـم ) و ( أنس بن مالك ) يخبروكم أنهم سمعوا هذه المقالة من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لي ولأخي .
أما في هذا حاجز لكم عن سفك دمي ؟!

فقال له ( شمر بن ذي الجوشن ) : هو يعبد الله على حرف إن كان يدري ما تقول !
فقال له ( حبيب بن مظاهر ) : والله إني لأراك تعبد الله على سبعين حرفا ، وأنا أشهد أنك صادق ما تدري ما يقول ، فقد طبع الله على قلبك .

فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : فإن كنتم في شك من هذا القول ، أفتشكون أني ابن بنت نبيكم ؟ فو الله ما بين المشرق والمغرب ابن بنت نبي غيري فيكم ولا في غيركم .

ويحكم : اتطلبوني بقتيل منكم قتلته ؟
أو مال لكم استهلكته ؟
أو بقصاص من جراحة ؟
فأخذوا لا يكلمونه ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة قدمها الإمام الحسين ( عليه السلام ) في مقام الاحتجاج على الذين برزوا لقتاله ، وطالبهم بالتفكر فيها ، والاستناد إليها في تقرير موقفهم من قتاله ، والنقاط تقع في دائرة التنويع الذي يحرص عليه الثوار المؤمنون في التأسيس لمواقفهم ، وقطع الحجة على خصومهم .. والنقاط هي :

النقطة الأولى : نسبه الشريف .. فهو : ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وابن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) أول الناس إيمانا برسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ولهذا النسب حرمته لدى كل مسلم ملتزم بإسلامه .

النقطة الثانية : دور أهل بيته ( الحمزة وجعفر ) في نصرة الدين ، والدفاع عن المظلومين والمضطهدين ، وهذا يتطلب من كل مسلم وإنسان شريف ، أن يحفظ هذا الجميل ويرده لأهل هذا البيت .. وحفظ الجميل من أخلاق وشيم كل إنسان نبيل وشريف .

النقطة الثالثة : أنه سيد شباب أهل الجنة ، وهذا يعني أنه لا يدعوا إلى باطل أو ضلال ، وأن من يتعمد قتاله في النار .

النقطة الرابعة : أنه الوحيد ابن بنت نبي الباقي على وجه الأرض . ولهذا قيمته المعنوية الكبيرة ، لدى كل الذين يؤمنون بالنبوة ودورها في هداية الناس وخدمة الإنسانية ويحفظون حقها عليهم .. وهذا وحده كاف لحرصهم على بقاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) لو كانوا مؤمنين .

النقطة الخامسة : أنهم لا يطالبونه بدم ، ولا مال ، ولا قصاص .

وكل هذه النقاط تقطع عليهم الحجة ، ولا تترك لهم العذر في قتاله .. فلم يجيبوه ، وأصروا على قتاله وقتله ظلما وعدوانا . وذلك لأن الله ( تبارك وتعالى ) قد ختم على قلوبهم فهم لا يفقهون .. كما يدل على ذلك قول ( الشمر بن ذي الجوشن ) ورد العبد الصالح ( حبيب بن مظاهر ) عليه .

قال الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْهَا وَنَسِيَ مَا قَدَّمَتْ يَدَاهُ إِنَّا جَعَلْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَن يَفْقَهُوهُ وَفِي آذَانِهِمْ وَقْرًا وَإِن تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدَى فَلَن يَهْتَدُوا إِذًا أَبَدًا } ( الكهف : 57 ) .

سادسا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” فنادى : ( يا شبث بن ربعي ) ويا ( حجار بن أبحر ) ويا ( قيس بن الأشعث ) ويا ( زيد بن الحارث ) ألم تكتبوا إلي أن أقدم ، قد أينعت الثمار ، واخضر الجنان ، وإنما تقدم على جند لك مجندة ؟
فقالوا : لم نفعل !!
فقال : سبحان الله .. بلى والله لقد فعلتم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : تذكيرهم بكتبهم ورسلهم إليه ، وقد تكرر منه هذا التذكير في الكثير من بياناته ، ولهذا أهميه في التأسيس ـ كما سيتضح في قراءة الأقسام التالية من هذا البيان ـ والتكرار يدل على أمور عديدة ، ذكرت في قراءة القسم الثاني من البيان الخامس .. منها :

الأمر الأول : أهمية التكرار في ترتيب الأثر المطلوب في النتيجة .
الأمر الثاني : التأكيد على عذره في القدوم إلى العراق .
الأمر الثالث : كشف خيانة الذين خذلوه .

وقد ترك ذلك التكرار تأثيره الإيجابي الكبير في ( الحر بن يزيد الرياحي ) وآخرين ( روي أن عددهم ثلاثون شخصا ) وحملهم على التوبة والوقوف إلى صف الإمام الحسين ( عليه السلام ) ضد الذين خانـوه وغـدروا به .

النقطة الثانية : نكرانهم أنهم كتبوا للإمام الحسين ( عليه السلام ) وهذا يدل على خبثهم ، وإصرارهم على قتاله ونصرتهم لـ( يزيد بن معاوية ) حبا في الدنيا ، وإيثارها على الآخرة .

النقطة الثالثة : إصراره على أنهم كتبوا إليه ، وتأكيده لذلك بالقسم ، مما يدل على صدقه وكذبهم ، وصحة منهجه وخطأ منهجهم ، وأنهم من أشر خلق الله ( تبارك وتعالى ) .

سابعا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : إذا كرهتموني فدعوني أنصرف عنكم إلى مأمني من الأرض !!
فقال له قيس ابن الأشعث : أولا تنزل على حكم بني عمك ؟
فإنهم لن يروك إلا ما تحب ، ولن يصل إليك منهم مكروه .

فقال الإمام الحسين ( عليه السلام ) : أنت أخو أخيك !! أتريد أن يطلبك بنو هاشم أكثر من دم مسلم بن عقيل ؟
لا والله : لا أعطيهم بيدي إعطاء الذليل ، ولا أفر فرار العبيد “
.

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : إظهار رغبته بالعودة عنهم إلى مأمنه ، ليس خوفا من القتل ، وإنما لعدة أمور .. منها :

الأمر الأول : عدم رغبته في قتالهم ، وإن كانوا مستحقين لذلك بسوء اختيارهم ، ليمنحهم فرصة التوبة ، ولكي لا يدخلوا النار بسببه ، لأنه كجده الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) رحمة للعاملين ، وهذا هو شعور الثوار المؤمنين ( دائما ) يريدون الخير والسعادة إلى كافة الناس .. ولا يريدون لهم الشقاء والعذاب في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلَّا رَحْمَةً لِّلْعَالَمِينَ } ( الأنبياء : 107 ) .

الأمر الثاني : إقامة الحجة التامة البالغة عليهم ، لألا يكون لهم على الله ( تبارك وتعالى ) وعليه حجة يوم القامة .. وهو حجة الله تعالى عليهم .

قال الله تعالى : { رُّسُلاً مُّبَشِّرِينَ وَمُنذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللّهُ عَزِيزًا حَكِيمًا } ( النساء : 165 ) .

النقطة الثانية : طلبهم منه النزول على حكم يزيد ، وتبريرهم السخيف لذلك ، بأنه لن يرى من يزيد إلا خيرا ، وكأن الإمام الحسين ( عليه السلام ) يقاتل ويعمل من أجل الحياة الدنيا وزينتها ، وهذا الموقف منهم يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : أن مواقف أعوان الظلمة تفتقر إلى التأسيس المنطقي من كافة الجوانب .
الأمر الثاني : أن مواقفهم تقوم على أساس المصالح المادية قصيرة النظر .
الأمر الثالث : أن منطقهم تبريري بحت ، وأنه يفتقر إلى الحجة والبرهان .
الأمر الرابع : أنهم مستعدون تحت تأثير الطمع المادي لارتكاب كل جريمة مهما عظمت في حساب القيم والمنطق الإنساني .

النقطة الثالثة : رده ( عليه السلام ) عليهم بأنه لن يعطي بيده إعطاء الذليل ، مؤكدا ذلك بالقسم ، مما يضيف التأسيس القيمي إلى التأسيس الفكري والفقهي للمواقف .

وهو يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : حرصه ( عليه السلام ) على تنويع قواعد التأسيس للمواقف ، مما يعني حرصه على تنويع جوانب التأثير فيهم ( وهو نفس المنهج الذي يتبعه القرآن الكريم في الدعوة إلى الله تبارك وتعالى ) لعلهم يتعظون أو يسمعون .

الأمر الثاني : أن موقفهم من قتاله ونصرة ( يزيد بن معاوية ) يفتقر إلى التأسيس القيمي ، كما يفتقر إلى التأسيس الفكري والشرعي ، مما يعني أنهم يمارسون الحياة بصورة عبثية كالحيوانات .

قال الله تعالى : { إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِندَ اللّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ } ( الأنفال : 22 ) .

ثامنا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” عباد الله : إني عذت بربي وربكم أن ترجمون . وأعوذ بربي وربكم من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : استعاذته بالله ( تبارك وتعالى ) من الرجم . وهذا يدل على إيمانه القوى ، واعتماده المطلق على الله ( جل جلاله ) في مواجهتهم ، وليس على قوته الذاتية ، وأن ذكر أسم ( الرب ) يدل على أنه تحت عين الله ( تبارك وتعالى ) ورعايته ، وأن ليس بيدهم أن يضروه بشيء إلا أن يأذن الله ( عز وجل ) بذلك .. وهذا ( بدون شك ) يورثه الثبات والاطمئنان .

والموقف يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : شعوره بالأمن في موقفه أمام تهديداتهم الخطرة ، فهو لا يخاف ولا يهتز أمامهم ، مهما جمعوا له من قوة وعزموا عليه من شر ، وأنه صامد حتى النفس الأخير من في مواجهتهم .

الأمر الثاني : أن موقفه هو في سبيل الله ( تبارك وتعالى ) وليس في سبيل نفسه ومصالحه الدنيوية .

النقطة الثانية : تخصيص الاستعاذة بالله ( تبارك وتعالى ) من كل متكبر لا يؤمن بيوم الحساب ، يدل على أن القوم الذين يقاتلونه وينصرون ( يزيد بن معاوية ) أناس لا يؤمنون بيوم الحساب .. وهذا يدل على أمور عديدة منها :

الأمر الأول : أن الذين يقاتلونه وينصرون ( يزيد بن معاوية ) أناس خطرون ، ينبغي التعوذ من شرورهم .

الأمر الثاني : أن سبب كفرهم وخطرهم ، هو نظرهم إلى أنفسهم ( أنانيتهم المفرطة ) مما يحملهم على نكران الحقائق وتغييرها ، وعدم التقيد بالشرائع والقيم السماوية والإنسانية ، وعدم التفكير في عواقب الأمور ونتائجها ، واستعدادهم المطلق لارتكاب الجرائم في سبيل إرضاء غرورهم وأنانيتهم .. ومنه : استعدادهم لقتل الأنبياء وأولاد الأنبياء ، وقد أثبتت التجارب التاريخية والمعاصرة صحة ذلك .

ثم خطب ( زهير بن القين ) فقال :

نص البيان ـ القسم الثاني : ” يا أهل الكوفة : نذار لكم من عذاب الله ، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف وأنتم للنصيحة منا أهل ، فإذا وقع السيف انقطعت العصمة وكنا أمة وانتم أمة . إن الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينظر ما نحن وأنتم عاملون . إنا ندعوكم إلى نصرهم وخذلان الطاغية ( يزيد ) و ( عبيد الله ابن زياد ) فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما ، يسملان أعينكم ، ويقطعان أيدكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعونكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم .. أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني ابن عروة وأشباهه .

فردوا عليه بالسب والثناء على عبيد الله بن زياد .. وقالوا : لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلما .

فقال زهير : عباد الله : إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم ، فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ( عليه السلام ) .

فرماه الشمر بسهم .. وقال : اسكت أسكت الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك .

فقال زهير : يا ابن البوال على عقبيه !! ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم .

فقال الشمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة .

فقال زهير : أفبالموت تخوفني ؟
فو الله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم .

ثم أقبل على القوم رافعا صوته .. وقال :
عباد الله : لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلـف الجافي وأشباهه ، فو الله لا تنال شفاعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوما هرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم ” .

فناداه رجل من أصحابه : إن أبا عبد الله يقول لك أقبل ، فلعمري لئن كان مؤمن آل فرعون نصح قومه وأبلغ في الدعاء ، فلقد نصحت هؤلاء وأبلغت ، لو نفع النصح والإبلاغ .
( مقتل الحسين . المقرم . ص 178 ـ 280 ) .

يتضمن هذا القسم من البيان ، وهو على لسان ( زهير بن القين ) الكثير من الحقائق والأفكار التأسيسية ( الفكرية والأخلاقية والفقهية والاجتماعية ) للموقف ، مما يدلل على استيعاب القيادات مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) للمنهج الإسلامي الثوري بصورة واضحة ، ويعود الفضل في ذلك إلى حرص الإمام ( عليهم السلام ) على التأسيس للمواقف بصورة دائمة ، مما يعطي للمواقف هويتها ، ويعطي البصيرة الفكرية والسياسية للأتباع ، ويتيح الفرصة لكافة الناس للتقييم على أسس دقيقة وصحيحة .

والحقائق والأفكار التي تضمنها هذا القسم من البيان .. هي كالتالي :

أولا ـ قوله ( رضي الله تعالى عنه ) : ” يا أهل الكوفة : نذار لكم من عذاب الله ، إن حقا على المسلم نصيحة أخيه المسلم ، ونحن حتى الآن أخوة على دين واحد ما لم يقع بيننا وبينكم السيف ، وأنتم للنصيحة منا أهل ، فإذا وقع السيف ، انقطعت العصمة ، وكنا أمة وانتم أمة ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإنذار لأهل الكوفة . وهو تخويفهم من سوء عاقبة موقفهم في الدنيا والآخرة . فإن عاقبة موقفهم في الدنيا ، الخزي والعار والاستئصال ، وعاقبته في الآخرة ، الخلود في نار جهنم ، كما حدث للكثير من الأقوام الذين استكبروا على الحق ، وأصروا على الباطل ، ومارسوا الظلم والعدوان ، والإتباع الأعمى إلى الظلمة والطواغيت .

قال الله تعالى : { فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنذَرْتُكُمْ صَاعِقَةً مِّثْلَ صَاعِقَةِ عَادٍ وَثَمُودَ } .
( فصلت : 13 ) .

وقال الله تعالى : { فَأَنذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى . لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى . الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى } .
( الليل : 14 ـ 16 ) .

والإنذار ( عادة ) يسعى لتحقيق الأهداف الأربعة الرئيسية التالية :

الهدف الأول : التبصير بحقيقة الموقف الخاطئ .
الهدف الثاني : التحذير من سوء عاقبة الموقف الخاطئ .
الهدف الثالث : تحديد الموقف الصحيح المطلوب .
الهدف الرابع : الترغيب في الموقف الصحيح ، والتحريض على تحمل المسؤولية الدينية والإنسانية باتخاذه .

وقيام ( زهير بن القين ) بإنذار أهل الكوفة يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : أنهم في قتالهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) ونصرتهم للطاغية ( يزيد بن معاوية ) على موقف خاطئ وخطير جدا ، من شأنه أن يؤدي بهم إلى عذاب الآخرة .

قال الله تعالى : { إِنَّا أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ أَنْ أَنذِرْ قَوْمَكَ مِن قَبْلِ أَن يَأْتِيَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ } .
( نوح : 1 ) .

الأمر الثاني : أن الذي ينجيهم من العذاب هو التفكر في حقيقة الموقف وعواقب المخالفة للإنذار ، ومن ثم تحمل المسؤولية تجاه أنفسهم بتغيير الموقف ، والانتقال من نصرة الطاغية ( يزيد بن معاوية ) إلى نصرة الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

الأمر الثالث : أن الإنذار لا قيمة له ما لم تكن لديهم قابلية الاستماع والاستفادة . لأن كلمات الحق ، والبراهين والمواعظ ( مهما كانت كبيرة وعظيمة في نفسها ) لا تكفي ( لوحدها ) لتحقيق النتيجة المطلوبة ، ما لم يكن هناك استعداد للتقبل والاستفادة منها .. تماما : مثل البذرة التي لا تنمو إلا في الأرض الصالحة .

قال الله تعالى : { وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا فِيهِم مُّنذِرِينَ . فَانظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الْمُنذَرِينَ . إِلَّا عِبَادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ } ( الصافات : 72 ـ 74 ) .

الأمر الرابع : أن القابلية للتقبل والاستفادة ( عمليا ) من الإنذار تحتاج إلى الإيمان بالآخرة والتقوى ، ومن لا يؤمن بالآخرة ، ومن ليس له نصيب من التقوى يحدد على ضوئها مواقفه في الحياة ، فهو لا يستفيد ( عمليا ) من الإنذار ، وهو إنسان خطير جدا ، وفي خطر عظيم ، ومستحق للعقاب في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { وَأَنذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخَافُونَ أَن يُحْشَرُواْ إِلَى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُم مِّن دُونِهِ وَلِيٌّ وَلاَ شَفِيعٌ لَّعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ } ( الأنعام : 51 ) .

وقال الله تعالى : { قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ . فَهَلْ يَنتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْاْ مِن قَبْلِهِمْ قُلْ فَانتَظِرُواْ إِنِّي مَعَكُم مِّنَ الْمُنتَظِرِينَ } ( يونس : 101 ـ 102 ) .

النقطة الثانية : حق النصيحة للمسلم على المسلم ، والتزام الثوار المؤمنين ( عمليا ) بهذا الحق رغم صعوبات المواقف وظلم الآخرين .

قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” إن أعظم الناس منزلة عند الله يوم القيامة ، أمشاهم في أرضه بالنصيحة لخلقه ” ( أصول الكافي . ج2 . ص 208 ) .

والنصيحة تعني : أن يعطي المسلم معرفته وحصيلة تجاربه في الحياة لأخيه المسلم ، بكل محبة وإخلاص وأدب وإتقان ، من أجل هدايته وإرشاده ، وتجنيبه الوقوع في الأخطاء والأخطار الكبيرة والصغيرة . والمسلم يبذل النصيحة لأخيه المسلم وإن لم يطلبها منه ، وهو بعيد كل البعد عن كل المقاصد الدنيئة في بذلها ، ولا يقدم لأخيه إلا المعلومات والتجارب التي يتيقن من صحتها . والعاقل يطلب النصيحة ( دائما ) قبل الإقدام على الأعمال الخطيرة من أجل تجنيب نفسه كلفتها الباهظة بغير طائل . وفي الحديث : ” الحكمة ضالة المؤمن أنى وجدها أخذها ” .

والتزام الثوار المؤمنين بالنصيحة للآخرين يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : إخلاص الثوار المؤمنين لمبادئهم ، وصدقهم في مواقفهم ، وحرصهم الشديد على هداية وإرشاد المخالفين لهم .

الأمر الثاني : أنه ليست للثوار المؤمنين مصالح مادية في مواقفهم وصراعاتهم مع الغير .

الأمر الثالث : أنه لا توجد خصومة أو عداء أو مواقف شخصية بين الثوار المؤمنين وخصومهم السياسيين أو العسكريين ، وإنما خصومتهم مع الأطروحات الباطلة ، والمواقف الظالمة للخصوم ، فإذا تخلى الخصوم عنها ، أصبحوا للثوار المؤمنين إخوانا .

النقطة الثالثة : أن حق الأخوة والنصح لهم ثابت قبل وقوع القتال ، فإذا لم يستمعوا للنصح والإنذار ، وأصروا واستكبروا ووقع القتال ، تغير الحال ، وأصبحوا مستحقين للقتل دفاعا عن الحق والنفس ، ومستحقين للعذاب يوم القيامة ، جزاء قتلهم المؤمنين بغير حق .

ويدل موقف ( زهير بن القين ) الذي تناوله في هذا المقطع من البيان ، على توازن الثوار المؤمنين ، فقد وقف ( زهير بن القين ) على خط التوازن الدقيق بين أداء التكليف الشرعي بالنصيحة لأهل الكوفة ، والصلابة والقوة وعدم الاهتزاز في الموقف ، فلم يضعف التكليف بالنصيحة صلابة الموقف ، ولم تغفل الصلابة في الموقف التكليف بالنصيحة . وهكذا هم الثوار المؤمنون بفضل التربية الإسلامية الفكرية والروحية والأخلاقية الراقية جدا .. حفظ الله ( تبارك تعالى ) الثوار المؤمنين ذخرا للبشرية .

ثانيا ـ قوله ( رضي الله تعالى عنه ) : ” إن الله ابتلانا وإياكم بذرية نبيه محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) لينظر ما نحن وأنتم عاملون . إنا ندعوكم إلى نصرهـم وخذلان الطاغية ( يزيد ) و ( عبيد الله ابن زياد ) فإنكم لا تدركون منهما إلا سوء عمر سلطانهما ، يسملان أعينكم ، ويقطعان أيدكم وأرجلكم ، ويمثلان بكم ، ويرفعونكم على جذوع النخل ، ويقتلان أماثلكم وقراءكم .. أمثال : حجر بن عدي وأصحابه ، وهاني ابن عروة وأشباهه ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإشارة إلى الابتلاء الرباني للمسلمين ( امتحانهم لتنكشف حقيقة أنفسهم وإيمانهم وأعماله : خيرا أو شرا ) بذرية الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .

جاء في دعاء الندبة : ” وقلت إنما يريد الله ليذهب عنكم الرجس أهل البيت ويطهركم تطهيرا ، ثم جعلت أجر محمد صلواتك عليه وآله مودتهم في كتابك فقلت : قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى .. وقلت : ما سألتكم عليه من أجر إلا من شاء أن يتخذ إلى ربه سبيلا ، فكانوا هم السبيل إليك والمسلك إلى رضوانك ” ( مفاتيح الجنان . ص 665 ) .

وفي حديث الثقلين ـ قال الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) : ” إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أحدهما أعظم من الآخر ، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض ، وعترتي أهل بيتي ، ولن يفترقا حتى يردا علي الحوض ، فانظروا كيف تخلفوني فيهما ” ( صحيح الترمذي . ج2 . ص 308 ) .

فقد أذهب الله ( جل جلاله ) عن أهل البيت ( عليهم السلام ) الرجس وطهرهم من الذنوب والمقاصد الدنيئة ، وجعلهم السبيل إلى الهداية والأمن من الضلال ، وقد نافسهم عبيد الدنيا الباحثين عن السلطة والجاه والثروة على الناس ، واستخدموا كل أساليب التضليل والترهيب والترغيب لصرف الناس عنهم ، وأصبح الناس أمام امتحان شديد تنكشف من خلاله حقيقة أنفسهم وإيمانهم وأعماله .. فهم : إما أن يتغلبوا على أساليب التضليل والترهيب والترغيب المستخدمة لصرفهم عن أهل البيت ( عليهم السلام ) فيحصلوا بذلك على سعادتهم ويفوزوا ويفلحوا في الدنيا والآخرة ، وإما أن ينهزموا أمامها ، فيصبحوا من الأشقياء ، ويخسروا الدين والدنيا والآخرة . وقد أراد الثائر المؤمن ( زهير بن القين ) تذكير أهل الكوفة بهذا البلاء الرباني العظيم لهم ، ليحددوا على ضوئه موقفهم في الصراع بين إمام الهدى الحسين بن علي ( عليهما السلام ) وإمام الضلال ( يزيد بن معاوية ) ودعاهم لنصرة إمام الهدي الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) وخذلان إمام الضلال الطاغية ( يزيد بن معاوية ) وواليه على الكوفة ( عبيد الله بن زياد ) لكي يكسبوا المعركة العظيمة المقدسة في جهاد النفس .

النقطة الثانية : التأسيس السياسي للموقف من الصراع . فبعد أن أشار ( ضمنا ) في الفقرة السابقة إلى الأرباح والخسائر المعنوية المتعلقة بالإيمان والهداية والتقوى المترتبة على حكومة أئمة الهدى وحكومة الطاغوت ، أشار في هذه الفقرة إلى الخسائر المادية والسياسية ( الملموسة ) المترتبة على القبول بحكومة ( يزيد بن معاوية وعبيد الله بن زياد ) وأهمها الظلم والجور والاستبداد والاضطهاد وتصفية العناصر الصالحة التي لن تكون إلا معارضة للنظام الطاغوتي المستبد الظالم ، في مقابل الحرية والعدل والإحسان والأمن والاستقرار والتقدم والرخاء المضمونة ( قطعا ) في حكومة ولي الله الأعظم وإمام الهدي الحسين بن علي بن أبي طالب ( عليهما السلام ) .

والخلاصة : هناك دوافع وأهداف دينية وسياسية واضحة لتمسك الثوار المؤمنين بحكومة أئمة الهدى ( الأنبياء والأوصياء والفقهاء ) ورفضهم ومواجهتهم لحكومة الطاغوت والاستبداد .

ثالثا ـ بعد أن رد عليه الجمع بالسب والثناء على عبيد الله بن زياد ، وقالوا : لا نبرح حتى نقتل صاحبك ومن معه ، أو نبعث به وبأصحابه إلى عبيد الله بن زياد سلما .

قال ( رضي الله تعالى عنه ) : ” عباد الله : إن ولد فاطمة أحق بالود والنصر من ابن سمية ، فإن لم تنصروهم فأعيذكم بالله أن تقتلوهم ، فخلوا بين هذا الرجل وبين يزيد ، فلعمري إنه ليرضى من طاعتكم بدون قتل الحسين ( عليه السلام ) ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الرد المطمئن والهادئ من العبد الصالح والثائر المؤمن ( زهير بن القين ) على استكبار أهل الكوفة بإصرارهم ( غير الواقعي ) على نصرة الطاغية ( عبيد الله بن زياد ) وقتل إمام الهدى الحسين بن علي ( عليهما السلام ) وأصحابه ، بأن الإمام الحسين بن علي ( عليهما السلام ) أحق ( بحسب الفطرة والعقل والدين ) بالود والنصر من الطاغية ( عبيد الله بن زياد ) .

النقطة الثانية : تخويفه لأهل الكوفة بعذاب الله ( جل جلاله ) وسوء عاقبة قتلهم للإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، وطرحه عليهم خيار الوقوف على الحياد في الصراع بين الطرفين كحد أدنى ، وتشجيعه لهم على اتخاذ هذا الخيار .. على أساس : أنهم غير مجبورين على قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه ، فيزيد : يمكن أن يقبل منهم عدم الوقوف إلى صف الإمام الحسين ( عليه السلام ) وعدم التورط في قتله .

وهذا الطرح من قبل ( زهير بن القين ) يدل على قمة الصدق والإخلاص في النصيحة لدى الثوار المؤمنين لخصومهم ، وشدة حرصهم على هدايتهم وإنقاذهم من الهلاك .

رابعا ـ لقد رما ( الشمر ) ( زهير بن القين ) بسهم قائلا : اسكت أسكت الله نامتك ، أبرمتنا بكثرة كلامك .

فقال ( رضي الله تعالى عنه ) : يا ابن البوال على عقبيه !! ما إياك أخاطب ، إنما أنت بهيمة ، والله ما أظنك تحكم من كتاب الله آيتين ، فابشر بالخزي يوم القيامة والعذاب الأليم .
فقال الشمر : إن الله قاتلك وصاحبك عن ساعة .
فقال زهير : أفبالموت تخوفني ؟
فو الله للموت معه أحب إلي من الخلد معكم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الكشف عن بعض أهم خصائص أعوان الظلمة والطواغيت .. وهي :

الخاصية الأولى : أنهم ينطلقون في مواقفهم من الجهل وإتباع الهوى والشيطان والنفس الأمارة بالسوء .

الخاصية الثانية : أنهم يهدفون إلى تحقيق مصالح مادية وشخصية بحته ، بعيدة عن الدين والأخلاق والمصالح العامة للناس .

الخاصية الثالثة : أنهم يعتمدون على القوة في إسكات الآخرين ومواجهتهم ، بديلا عن العقل والبرهان .

ويدل هذا الرد على إدراك الثوار المؤمنين إلى حاجتهم السياسية في الصراع مع قوى البغي والظلم والجور ، إلى كشف حقيقة النماذج السيئة التي يعتمد عليها الطواغيت والظلمة في دولهم لتمرير سياساتهم الاستبدادية الظالمة على الشعوب المستضعفة ، وتعريتها أمام الشعوب ، ليكونوا منهم على حذر شديد ، ويحددوا مواقفهم على ضوء ذلك .

النقطة الثانية : إدراك الثوار المؤمنين إلى ماهية الحياة ، وأنه لا قيمة للإنسان إذا عاش حياته ذليلا مهانا بدون حرية وكرامة ، مهما كان غنيا أو مرفها أو مسؤولا ، وهذا هو الفرق الجوهري بين حياة الإنسان وحياة الحيوان .

وعلى ذلك تترتب النتائج المهمة ( التالية ) في منهج الثوار المؤمنين :

النتيجة الأولى : حرص الثوار المؤمنين الشديد جدا على الحرية والعزة والشرف والفضيلة والكرامة ( القيم المعنوية ) وحقوق الإنسان في الحياة .

النتيجة الثانية : استعدادهم التام للتضحية من أجل أهدافهم ومبادئهم ، وعدم خوفهم من الموت بشرف في ساحات الثورة والجهاد .

النتيجة الثالثة : أنهم يفضلون الموت بشرف إلى صف أولياء الله وأئمة الهدى ( الأنبياء والأوصياء والفقهاء العدول ) طلبا للحق والعدل والحرية والفضيلة والحياة الكريمة ، على العيش الذليل في ظل الحكومات الطاغوتية المستبدة وظلمها وانتهاكها لحقوق الإنسان وكرامته .

خامسا ـ قوله ( رضي الله تعالى عنه ) : ” عباد الله : لا يغرنكم عن دينكم هذا الجلف الجافي وأشباهه ، فو الله لا تنال شفاعة محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قوما هرقوا دماء ذريته وأهل بيته وقتلوا من نصرهم وذب عن حريمهم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : تحذير ( زهير بن القين ) أهل الكوفة من الاغترار بقول ( شمر ) وغيره من أعوان الظلمة والطواغيت ، وتنبيهه إلى حقيقتهم ودوافعهم وأهدافهم ، ليعرفهم الناس على حقيقتهم حق المعرفة ، ويحددوا مواقفهم على بصيرة منهم . وهذا يدل على ما سبق ذكره من حاجة الثوار المؤمنين في صراعهم مع الأنظمة الطاغوتية المستبدة إلى تعرية أعوان الظلمة المأجورين الذين يعتمدون عليهم في تمرير سياساتهم الاستبدادية على الشعوب المستضعفة ، فهم من الأعمدة الأساسية التي تقوم عليها هذه الأنظمة ، ويجب على الثوار المؤمنين التوجه لهدمها ، لكي تسقط الأنظمة الطاغوتية المستبدة .

النقطة الثانية : التبصير بحقيقة الفريقين المتصارعين الواقفين على أرض كربلاء ، والمصير المحتوم السيئ لقتلة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه يوم القيامة .

ثم استأذن ( برير بن خضير ) الإمام الحسين ( عليه السلام ) أن يكلم القوم ، وكان شيخا ناسكا من شيوخ القراء في جامع الكوفة ، وذو شرف وقدر كبير في الهمدانيين ( قبيلة قحطانية من اليمن ، كانت أراضيهم مركزا لثقافة عربية عالية ) فأذن الإمام الحسين ( عليه السلام ) له فوقف قريبا منهم ونادى ..

نص البيان ـ القسم الثالث : ” يا معشر الناس : إن الله بعث محمدا بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله بإذنه وسراجا منيرا . وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقيد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله ..
أفجزاء محمد هذا ؟

فقالوا : يا برير : قد أكثرت الكلام فاكفف عنا فو الله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله .

قال برير : يا قوم : إن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم .

فقالوا : نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم رأيه .

قال برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه ؟
ويلكم يا أهل الكوفة !!
أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟
ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم ، وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات !!
بئسما خلفتم نبيكم في ذريته !!
ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم !

فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول !

فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة . اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم . اللهم الق بأسهم بينهم ، حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان ” ( البحار . ج 45 . ص 5 ) .
فجعل القوم يرمونه بالسهام فتقهقر .

يتضمن هذا القسم من البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :

أولا ـ قوله ( رضي الله تعالى عنه ) : ” يا معشر الناس : إن الله بعث محمدا بشيرا ونذيرا وداعيا إلى الله وسراجا منيرا . وهذا ماء الفرات تقع فيه خنازير السواد وكلابه ، وقيد حيل بينه وبين ابن بنت رسول الله ..
أفجزاء محمد هذا ؟ “

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإشارة إلى فضل الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) علي الناس ، حيث أخرجهم من الظلمات إلى النور ، ومن الذل إلى العز .

قالت فاطمة الزهراء ( عليها السلام ) : ” وكنتم على شفا حفرة من النار ، مذقة ( شربة ) للشارب ، ونهزة ( فرصة ) الطامع ، وقبسة العجلان ( كناية عن الاستعجال ) وموطئ الأقدام ( كناية عن المغلوبية ) تشربون الطرق ( ماء المطر الذي تبول فيه الحيوانات ) وتقتاتون القد ( اللحم المملوح المجفف في الشمس ) أذلة خاسئين ، تخافون أن يتخطفكم الناس من حولكم ، فأنقذكم الله بأبي محمد بعد اللتيا والتي ” .
( الاحتجاج . ج 1 . ص 135 ـ 136 ) .

وقول ( برير ) هذا فيه مطالبة برد الجميل إلى الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بحفظه في أهل بيته .

النقطة الثانية : الإشارة إلى عظمة نهر الفرات وكثرة الماء فيه ، وأن الشرب منه متاح للكلاب والخنازير ، وفي نفس الوقت يمنع على أهل بيت النبوة الشرب من مائه ، وهذا على خلاف ما تدعوا إليه الأخلاق الإنسانية ، وحفظ الجميل للرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ويدخل هذا المقطع من البيان في دائرة التأسيس الأخلاقي للموقف .

ثانيا ـ فقالوا : يا برير : قد أكثرت الكلام فاكفف عنا فو الله ليعطش الحسين كما عطش من كان قبله .

فقال ( رضي الله تعالى عنه ) : ” يا قوم : إن ثقل محمد قد أصبح بين أظهركم ، وهؤلاء ذريته وعترته وبناته وحرمه ، فهاتوا ما عندكم وما الذي تريدون أن تصنعوه بهم .

فقالوا : نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم رأيه .

قال برير : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه ؟
ويلكم يا أهل الكوفة !!
أنسيتم كتبكم وعهودكم التي أعطيتموها وأشهدتم الله عليها ؟
ويلكم أدعوتم أهل بيت نبيكم ، وزعمتم أنكم تقتلون أنفسكم دونهم ، حتى إذا أتوكم أسلمتموهم إلى ابن زياد ، وحلأتموهم عن ماء الفرات !!
بئسما خلفتم نبيكم في ذريته !!
ما لكم لا سقاكم الله يوم القيامة ، فبئس القوم أنتم ! ” .
فقال له نفر منهم : يا هذا ما ندري ما تقول !

فقال برير : الحمد لله الذي زادني فيكم بصيرة . اللهم إني أبرأ إليك من فعال هؤلاء القوم . اللهم الق بأسهم بينهم ، حتى يلقوك وأنت عليهم غضبان ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإشارة إلى واقع الحال ، والدخول معهم في حوار مباشر لدراسة الخيارات على أسس فكرية ودينية وأخلاقية وسياسية .. فيقول لهم : أنتم قوم مسلمون ، وأهل بيت النبوة بين أيديكم ، فتحملوا مسؤولية الموقف ، وقولوا ماذا تريدون أن تفعلوا بهم ؟

فطرحوا خيارهم : نريد أن نمكن منهم الأمير عبيد الله بن زياد فيرى فيهم رأيه ، وهم يعلمون رفض الإمام الحسين ( عليه السلام ) لهذا الخيار .

لهذا طرح عليهم ( برير ) خيارا آخر : أفلا تقبلون منهم أن يرجعوا إلى المكان الذي جاؤا منه ؟
وهو خيار وسط ينبغي عليهم أن يقبلوا به لو كان لديهم شيء من الإنصاف والإنسانية ، ولكنهم لم يفعلوا ذلك لأنهم تجردوا من كل إنسانية ، وقد طبع الله ( تبارك وتعالى ) على قلوبهم فأنساهم ذكره والآخرة .

ثم يذكرهم بكتبهم التي بعثوا بها ورسلهم إلى الإمام الحسين ( عليه السلام ) الأمر الذي يفرض عليهم أخلاقيا وإنسانيا : إن لم ينصروه ، القبول بالحل الوسط الذي طرحه عليهم ، وليس الإصرار على قتله أو السعي إلى تسليمه إلى ابن زياد ، ولكـنهم لـم يقبلـوا مـن ( برير ) ما طرحه عليهم ، وأصروا على موقفهم الإجرامي من الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه !!

قال الله تبارك وتعالى : { وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّن ذُكِّرَ بِآيَاتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْهَا إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنتَقِمُونَ } ( السجدة : 22 ) .

النقطة الثانية : بعد إصرارهم على موقفهم ، يكشف لهم عن حقيقة أنفسهم الخبيثة ، ومخالفتهم لكل الأعراف الدينية والاجتماعية .. ويدعو عليهم .

النقطة الثالثة : شكره لله ( تبارك تعالى ) على زيادة البصيرة لديه في سلامة موقفه بنصرة مولاه وسيده الإمام الحسين ( عليه السلام ) وقتال أعدائه .. وذلك : من خلال الوجدان والتجربة العملية .

النقطة الرابعة : البراءة إلى الله ( تبارك تعالى ) من موقف أهل الكوفة بنصرتهم لـ( يزيد بن معاوية ) و ( عبيد الله ابن زياد ) وإصرارهم على قتل الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأصحابه وأهل بيته ، وهذا يدل على عمق إدراكه لقبح موقفهم هذا ، فهو موقف مشبع بكفر النعمة والخيانة ونكران الجميل والجرأة على الله ( جبار السماوات والأرض ) وعلى كافة الحرمات والاستعداد الكامل لارتكاب أكبر الجرائم وأعظمها في التاريخ من أجل هوى النفس وطاعة السلطان الجائر ، وهو موقف خطير على الدين والمجتمع ، وهذا مما يخافه الثوار المؤمنون .. مما دفعه للدعاء عليهم من جديد ، مع التأكيد على أن حقيقة الإيمان لا تكتمل إلا بالولاية لأولياء الله ( تبارك وتعالى ) والبراءة من أعدائهم .

قال الله تعالى : { لاَ إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِن بِاللّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَىَ لاَ انفِصَامَ لَهَا وَاللّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ } ( البقرة : 256 ) .

وقال الله تعالى : { قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قَالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَاء مِنكُمْ وَمِمَّا تَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ كَفَرْنَا بِكُمْ وَبَدَا بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةُ وَالْبَغْضَاء أَبَدًا حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ } ( الممتحنة : 4 ) .



ثم تقدم الإمام الحسين ( عليه السلام ) وأخذ مصحفا ونشره على رأسه ، ووقف بإزاء القوم فاستنصتهم ، فأبوا أن ينصتوا حتى قال لهم : ” ويلكم ما عليكم أن تنصتوا إلي فتسمعوا قولي ، وإنما أدعوكم إلى سبيل الرشاد ، فمن أطاعني كان من المرشدين ، ومن عصاني كان من الهالكين ، وكلكم عاص لأمري ، غير مستمع قولي ، فقد ملئت بطونكم من الحرام ، وطبع على قلوبكم .
ويلكم ألا تنصتون ؟
ألا تسمعون ؟
إن بيني وبينكم كتاب الله وسنة جدي رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) .
فتلاوموا وقالوا أنصتوا له .
فاستشهدهم عن نفسه المقدسة وما عليه من لامة النبي ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعمامته وما بيده من سيفه .. فأجابوه بالتصديق .
فسألهم : عما أقدمهم على قتله ؟
قالوا : طاعة للأمير عبيد الله بن زياد .
فقال ( عليه السلام ) ..

نص البيان ـ القسم الرابع : ” تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا والهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن خبأها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم ألبا على أوليائكم ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيل لنا ، فهلا لكم الويلات ! إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم كتداعي الفراش ، فقبحا لكم ، فسحقا لكم يا طواغيت الأمة وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرفي الكلم ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين .
ويحكم : أهؤلاء تعضدون ، وعنا تتخاذلون ؟

أجل والله : الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته أصولكم وفروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث شيء ، سنخا للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا .. فأنتم والله هم .

ألا إن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام .

ألا قد أعذرت وأنذرت .
ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر .

ثم أنشد أبيات فروة بن مسيك المرادي ..
فإن نهزم فهزامون قدما وإن نهزم فغير مهزومينا
وما أن طبنا جبن ولكن منايانا ودولة آخرينا
فقل للشامتين بنا أفيقوا سيلقى الشامتون كما لقينا
إذا ما الموت رفع عن أناس بكلكله أناخ بآخرينا

أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

ثم رفع يديه نحو السماء .. وقال : اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصبرة ، ولا يدع فيهم أحدا إلا قتله قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرونا وكذبونا ، وخذلونا ، وأنت ربنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير ” .
( البحار . ج45 . ص 8 ـ 10 ) .

بين يدي البيان : وفيه نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : لقد ظهر الإمام الحسين ( عليه السلام ) لأهل الكوفة الذين برزوا لقتاله بمظهر تقشعر منه الأبدان ، وتلين له القلوب ، وتنفتح عليه العقول ، لو كانت ثمة قلوب أو عقول حاضرة في المشهد العظيم . فالقرآن ( الذكر الحكيم ) منشور فوق رأسه ، وعليه ما يعرفون من لباس الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وعمامته وبيده لامة حربه التي يعرفونها أيضا ، ولكنهم أبوا أن يسمعوا له ، وأصروا واستكبروا استكبارا ، وهم يزعمون أنهم على دين الإسلام .

قال الله تعالى : { إِنَّكَ لَا تُسْمِعُ الْمَوْتَى وَلَا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعَاء إِذَا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ . وَمَا أَنتَ بِهَادِي الْعُمْيِ عَن ضَلَالَتِهِمْ إِن تُسْمِعُ إِلَّا مَن يُؤْمِنُ بِآيَاتِنَا فَهُم مُّسْلِمُونَ } .
( النمل : 80 ـ 81 ) .

النقطة الثانية : تأكيده لهم أن دعوته دعوة هدى ورشاد ، وان الذين يتبعونه يرشدوا ، والذين يعصونه يهلكوا ، وطلبه منهم الاحتكام إلى كتاب الله ( عز وجل ) .

النقطة الثالثة : تنبيهه لهم بأن سبب عصيانهم له وعدم سماعهم لقوله ، أن بطونهم مملوءة بالحرام ، وعليه بنيت أجسامهم ، ومنه تشكلت أرواحهم وأفكارهم وأخلاقهم ونفسياتهم ، فهيهات .. هيهات أن يسمعوا لدعوة الحق .

قراءة في البيان : لقد سألهم عن غايتهم من خيارهم لقتله ، وهم يعلمون انه سبط الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ووارثه ، فأجابوه طاعة للأمير ( عبيد الله بن زياد ) فحاورهم حول خيانتهم له ، وكشف لهم أبعاد موقفهم .

وقد تضمن البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :

أولا ـ قوله ( عليه السلام ) :ٍ ” تبا لكم أيتها الجماعة وترحا ، أفحين استصرختمونا والهين متحيرين ، فأصرخناكم مؤدين مستعدين ، سللتم علينا سيفا في رقابنا ، وحششتم علينا نار الفتن خبأها عدوكم وعدونا ، فأصبحتم ألبا على أوليائكم ويدا عليهم لأعدائكم ، بغير عدل أفشوه فيكم ، ولا أمل أصبح لكم فيهم ، إلا الحرام من الدنيا أنالوكم ، وخسيس عيش طمعتم فيه ، من غير حدث كان منا ، ولا رأي تفيل لنا، فهلا لكم الويلات ! إذ كرهتمونا وتركتمونا تجهزتموها والسيف لم يشهر ، والجأش طامن ، والرأي لما يستحصف ، ولكن أسرعتم علينا كطيرة الذباب ، وتداعيتم كتداعي الفراش ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : بين لهم أنهم مخطؤون في خيارهم ، وسوف يجر لهم هذا الخيار ، الخسائر الفادحة ، والأحزان العظيمة ، ويؤدي بهم إلى الهلاك .

قال الله تعالى : { وَمَن يَتَّخِذِ الشَّيْطَانَ وَلِيًّا مِّن دُونِ اللّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْرَانًا مُّبِينًا . يَعِدُهُمْ وَيُمَنِّيهِمْ وَمَا يَعِدُهُمُ الشَّيْطَانُ إِلاَّ غُرُورًا } ( النساء : 119 ـ 120 ) .

وقال الله تعالى : { وَمَا تَأْتِيهِم مِّنْ آيَةٍ مِّنْ آيَاتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كَانُواْ عَنْهَا مُعْرِضِينَ . فَقَدْ كَذَّبُواْ بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنبَاء مَا كَانُواْ بِهِ يَسْتَهْزِؤُونَ } ( الأنعام : 4 ـ 5 ) .

وقال الله تعالى : { أَهُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ أَهْلَكْنَاهُمْ إِنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ } .
( الدخان : 37 ) .

النقطة الثانية : المقارنة بين موقفه من الاستجابة لهم لنصرتهم على أعدائهم والاستعداد للتضحية من أجل حريتهم وخلاصهم من عدوهم ، وموقفهم بخيانتهم وخذلانهم له أمام عدوه وعدوهم .

النقطة الثالثة : أن التغير في موقفهم بنقض بيعتهم له بالنصرة والوقوف إلى صف عدوه والإصرار على قتله لصالحه ، لم يكن لعدل أظهره العدو ، ولا لأمل بالخير يرجونه منه ، فكل الدلائل والتجارب تشير إلا خلاف ذلك ، في الوقت الذي لم يتغير فيه موقف الناصر ، وهو الإمام الحسين ( عليه السلام ) بالوقوف إلى صفهم ونصرته معدة لهم على عدوهم . فالولي على موقفه من النصرة ، والعدو على موقفه من الظلم والجور ، ومع ذلك تغير الموقف ( منهم ) لصالح العدو ضد الناصر !!

النقطة الرابعة : أن تغيير موقفهم على الوجه المبين أعلاه ، يمثل فضيحة دينية وأخلاقية وسياسية كبيرة ، فهو دليل على الشقاء ، وخبث النفس ، وخساسة الطبع ، وفقدان البصيرة في الدين والدنيا .. ويزيد في ذلك : أن تغيير الموقف جاء قبل المواجهة مع العدو ، وأنهم لم يكونوا مجبرين على تغير موقفهم ، وأن قتالهم لولي الله الأعظم الذي جاء لنصرتهم وتخليصهم من عدوهم ، ليس هو الخيار الوحيد المتاح أمامهم ، وأن عاقبته الخسران في الدنيا والآخرة !!

نعم : هذا هو حال أعوان الطواغيت ومناصريهم ( دائما ) في كل زمان ومكان ، إنهم أعداء أنفسهم والإنسانية !!

ثانيا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” فقبحا لكم ، فسحقا لكم يا طواغيت الأمة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرفي الكلم ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين .
ويحكم : أهؤلاء تعضدون ، وعنا تتخاذلون ؟
أجل والله : الخذل فيكم معروف ، وشجت عليه عروقكم ، وتوارثته أصولكم وفروعكم ، وثبتت عليه قلوبكم ، وغشيت صدوركم ، فكنتم أخبث شيء ، سنخا للناصب ، وأكلة للغاصب ، ألا لعنة الله على الناكثين ، الذين ينقضون الأيمان بعد توكيدها ، وقد جعلتم الله عليكم كفيلا .. فأنتم والله هم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الكشف عن الحقيقة الفكرية والدينية والروحية والأخلاقية والسياسية التي تتجلى في موقفهم من خلال الأوصاف التي نعتهم بها .. فهم : طواغيت الأمة ، وشذاذ الأحزاب ، ونبذة الكتاب ، ونفثة الشيطان ، وعصبة الآثام ، ومحرفي الكلم ، ومطفئي السنن ، وقتلة أولاد الأنبياء ، ومبيري عترة الأوصياء ، وملحقي العهار بالنسب ، ومؤذي المؤمنين ، وصراخ أئمة المستهزئين ، الذين جعلوا القرآن عضين .

النقطة الثانية : التأكيد على أن الغدر الذي تجلى بأبشع صوره في تغيير موقفهم ، ليس بجديد عليهم ، فهو قديم ومتأصل فيهم ومعروف كأحد طبائعهم الدنيئة ، وأنهم ملعونون عند الله ( جل جلاله ) بسبب نكثهم العهد ، ونقضهم الإيمان بعد توكيدها ، وأن مصيرهم إلى الخسران في الدنيا والآخرة .

قال الله تعالى : { إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَن نَّكَثَ فَإِنَّمَا يَنكُثُ عَلَى نَفْسِهِ وَمَنْ أَوْفَى بِمَا عَاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا } ( الفتح : 10 ) .

وقال الله تعالى : { وَالَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَآ أَمَرَ اللّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُوْلَئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَلَهُمْ سُوءُ الدَّارِ } ( الرعد : 25 ) .

وقال الله تعالى : { الَّذِينَ يَنقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِن بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَن يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ أُولَـئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ } ( البقرة : 27 ) .

ثالثا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” ألا إن الدعي بن الدعي قد ركز بين اثنتين ، بين السلة والذلة ، وهيهات منا الذلة ، يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون ، وجدود طابت ، وحجور وطهرت ، وأنوف حمية ، ونفوس أبية ، من أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام
ألا قد أعذرت وأنذرت .
ألا وإني زاحف بهذه الأسرة على قلة العدد وخذلان الناصر ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : أن الطاغية ( عبيد الله بن زياد ) والجيش الأموي ، قد ضيق عليه الخيارات وجعله بين خيارين .. وهما :

الخيار الأول ـ المواجهة العسكرية : لأن ( ابن زياد ) يرى نفسه وجيشه في موقع القوة ، والإمام الحسين ( عليه السلام ) غير راغب ( اختيارا ) في هذا الخيار ، ليس خوفا من القتل ، ولكن رغبة منه في إعطاء الفرصة لخصومه بالتوبة .. لكي لا يدخلوا بسببه النار .

الخيار الثاني ـ الاستسلام : وهو خيار مرفوض ( قطعا ) بصورة نهائية من الإمام الحسين ( عليه السلام ) وذلك للأسباب التالية :

السبب الأول : لأن فيه انتصار للباطل والظلم والطغيان والاستبداد ، على حساب الدين والعدل والخير والفضيلة والحرية والسلام .

السبب الثاني : لأن فيه مذلة للمؤمنين ، والقبول به مخالف للعقل والدين والأخلاق والقيم الإنسانية النبيلة والتربية التي أنشأ عليها .

النقطة الثانية : أنه سوف يختار المواجهة على غير رغبته .. وذلك للأسباب التالية :

السبب الأول : لأنه أجبر عليها من قبل الطاغية ( ابن زياد ) وجيشه .
السبب الثاني : لأنه يفضل الموت في عز ( مصارع الكرام ) على الحياة في ذل ( طاعة اللئام ) .

النقطة الثالثة : الإشارة إلى أنه معذور في قتالهم بعد كل الذي عرضه عليهم من الوعظ والإرشاد والخيارات لنجاتهم من العذاب ولم يسمعوا له ، فهم يتحملوا بعد ذلك كامل المسؤولية أمام الله ( تبارك وتعالى ) لسوء اختيارهم .

قال الله تعالى : { وَلَوْ شَاء رَبُّكَ لآمَنَ مَن فِي الأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعًا أَفَأَنتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُواْ مُؤْمِنِينَ . وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللّهِ وَيَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لاَ يَعْقِلُونَ . قُلِ انظُرُواْ مَاذَا فِي السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَمَا تُغْنِي الآيَاتُ وَالنُّذُرُ عَن قَوْمٍ لاَّ يُؤْمِنُونَ } .
( يونس : 99 ـ 101 ) .


رابعاً ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أما والله لا تلبثون بعدها إلا كريث يركب الفرس ، حتى تدور بكم دور الرحى ، وتقلق بكم قلق المحور ، عهد عهده إلي أبي عن جدي رسول الله { فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } { إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللّهِ رَبِّي وَرَبِّكُم مَّا مِن دَآبَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِـذٌ بِنَاصِيَتِهَا إِنَّ رَبِّي عَلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ } .

ثم رفع يديه نحو السماء .. وقال : “اللهم احبس عنهم قطر السماء ، وابعث عليهم سنين كسني يوسف ، وسلط عليهم غلام ثقيف يسقيهم كأسا مصطبرة ، ولا يدع فيهم أحدا إلا قتله قتلة بقتلة ، وضربة بضربة ، ينتقم لي ولأوليائي ولأهل بيتي وأشياعي منهم ، فإنهم غرونا وكذبونا ، وخذلونا ، وأنت ربنا ، عليك توكلنا ، وإليك أنبنا ، وإليك المصير ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : إخبار الإمام الحسين ( عليه السلام ) أهل الكوفة الذين اجتمعوا لقتله مع أهل بيته وأصحابه ، نقلا عن جده رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) بأنهم لن يلبثوا بعده طويلا ، فالأوضاع سوف تتغير ، وأن الله ( جل جلاله ) سوف ينتقم منهم جميعا ، وهذا ما حدث لهم فعـلا على يـد الثوار المؤمنين بقيادة المجاهدين العظيمين : ( سليمان بن صرد ) و ( المختار الثقفي ) .

النقطة الثانية : بعد هذا التحذير وهو آخر التحذيرات التي وجهها إليهم ، أعرب عن استعداده لمواجهتهم ، وأنه متوكل على الله ( جل جلاله ) في ذلك ، شأنه شأن الأنبياء الذين يرشدون ويحذرون وينصحون ، ثم يواجهون تحديات المعاندين بكل صـلابة وشموخ .. متوكلين على الله رب العالمين .

قال الله تعالى : { وَاتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قَالَ لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِن كَانَ كَبُرَ عَلَيْكُم مَّقَامِي وَتَذْكِيرِي بِآيَاتِ اللّهِ فَعَلَى اللّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُواْ أَمْرَكُمْ وَشُرَكَاءكُمْ ثُمَّ لاَ يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُواْ إِلَيَّ وَلاَ تُنظِرُونِ } ( يونس : 71 ) .

وهذا يدل على أمور عديدة .. منها :

الأمر الأول : أنه معذور أمام الله تبارك وتعالى وأمام البشرية لقتاله إياهم .
الأمر الثاني : الاطمئنان لسلامة أطروحته وموقفه ، وأنه بذل ما في وسعه لأداء تكليفه في النصح والإرشاد لهم على أساس الحق والعدل والصدق .. وأنه أتم الحجة عليهم .
الأمر الثالث : تحديهم وصلابة موقفه في المواجهة ، والاستعداد لتقبل جميع نتائجها لأنها تحت عين الله ( تبارك وتعالى ٍ) .
الأمر الرابع : توقعه بأنهم لن يدخروا جهد في التنكيل به بشتى الوسائل بسبب رداءة معدنهم ، إلا أن ذلك لا يخوفه ، ولا يغير شيئا من موقفه ، فهـكذا هم الثـوار المؤمنون ( دائما ) لا تخيفهم قوة العدو في مقابل أداء التكليف الرباني وخدمة الإنسانية .
الأمر الخامس : الثقة بأن الله ( تبارك وتعالى ) لن يضيع عمله ، وأن ثورته سوف تؤتي ثمارها ويتحقق ما كان يريد منها .

النقطة الثالثة : دعاء الإمام الحسين ( عليه السلام ) على أهل الكوفة المجتمعين من اجل قتله مع أهل بيته وأصحابه ظلما وعدوانا بالقحط والانتقام منهم ، بسبب استكبارهم وتكذيبهم له وإصرارهم على قتله وقتل أهل بيته وأصحابه بغير حق .. وقد وجدنا مثل هذا الموقف في سير بعض الأنبياء ( عليهم السلام ) .

قال الله تعالى : { قَالَ نُوحٌ رَّبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَاتَّبَعُوا مَن لَّمْ يَزِدْهُ مَالُهُ وَوَلَدُهُ إِلَّا خَسَارًا . وَمَكَرُوا مَكْرًا كُبَّارًا . وَقَالُوا لَا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَلَا تَذَرُنَّ وَدًّا وَلَا سُوَاعًا وَلَا يَغُوثَ وَيَعُوقَ وَنَسْرًا . وَقَدْ أَضَلُّوا كَثِيرًا وَلَا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلَالًا . مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُم مِّن دُونِ اللَّهِ أَنصَارًا . وَقَالَ نُوحٌ رَّبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا . إِنَّكَ إِن تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبَادَكَ وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا } ( نوح : 21 ـ26 ) .

وقال الله تعالى : { وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلأهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّواْ عَن سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلَى أَمْوَالِهِمْ وَاشْدُدْ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَلاَ يُؤْمِنُواْ حَتَّى يَرَوُاْ الْعَذَابَ الأَلِيمَ } ( يونس : 88 ) .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى