ثقافة

قراءة في بيانات الثورة – التبصير وإقامة الحجة

المناسبة : في طريق الإمام الحسين ( عليه السلام ) من مكة المكرمة إلى العراق ، نزل في منطقة شراف ، وهناك طلع عليه ( الحر بن يزيد الرياحي ) مع ألف فارس ، وكانت لديه مهمة عسكرية كلفه بها ( ابن زياد ) وهي إجبار الإمام الحسين ( عليه السلام ) على الدخول إلى الكوفة . وكان ( الحر الرياحي ) يتعامل مع الإمام الحسين ( عليه السلام ) بأدب ولباقة . وبعد صلاة الظهر بإمامة الإمام الحسين ( عليه السلام ) خطب فيهم .. فحمد الله ( تبارك وتعالى ) وأثنى عليه وصلى على النبي محمد وآله وقال :

نص البيان  ـ القسم الأول : ” أيها الناس : إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ، ونحن أهل بيت محمد ( صلى الله عليه وآله وسلم ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ، فإن أبيتم إلا الكراهية لنا ، والجهل بحقنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت علي به رسلكم ، انصرفت عنكم ” ( البحار . ج 44 . ص 377 ) .

قراءة في البيان ـ القسم الأول : تضمن هذا القسم من البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :

أولا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : إنكم إن تتقوا الله وتعرفوا الحق لأهله ، يكن أرضى لله عنكم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : تختلف أنظمة الحكم في الأرض ، وأن رضا الله سبحانه وتعالى يكون في إتباع النظام الإلهي الحق .. وهو النظام الذي يدعو إليه الإمام الحسين ( عليه السلام ) .

النقطة الثانية : أن الله سبحانه وتعالى ، قد جعل على نظام الحكم الإلهي ، أئمة هدى يدعون إليه ويطبقون أحكامه .. والمطلوب من الناس : معرفتهم وطاعتهم .

النقطة الثالثة : أن التمسك بأئمة الهدى القائمين على نظام الحكم الإلهي ( في عصر الظهور والغيبة ) يحتاج إلى التقوى ومخالفة الهوى ومقاومة الترهيب والترغيب من أئمة الجور ، وعدم الخضوع لهم ، فإن من يتبع الهوى ، لا يتبع أئمة الهدى ، ومن يخضع للترهيب والترغيب من أئمة الجور .. قد ينحرف عنهم فكريا وسياسيا .

ثانيا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” ونحن أهل بين محمد ( صلى الله عليه وآله ) أولى بولاية هذا الأمر عليكم من هؤلاء المدعين ما ليس لهم ، والسائرين بالجور والعدوان ”

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : أن أهل البيت ( عليهم السلام ) هم أئمة الهدى الذين جعلهم الله تعالى على رأس نظام الحكم الإلهي ، وهم أهل لذلك بما يتحلون به من الصفات .. مثل : العلم الكامل بالشريعة ، والكفاءة في التدبير ، والشجاعة ، والعفة ، والكرم . أما ( يزيد بن معاوية ) فليس له الحق ( إسلاميا ) في تولي الحكم الإسلامي ( لا بالنص ولا بالتفويض من الأمة ، ولا هو يتحلى بالصفات المطلوبة في الحاكم ) وأن توليه للحكم يقوم على أساس القوة وفرض الأمر الواقع .. وهو أمر باطل شرعا وعقلا .

النقطة الثانية : أن ( يزيد بن معاوية ) بالإضافة إلى عدم شرعية حكمه ، فإنه حاكم ظالم ومفسد في الأرض ، وأن ظلمه ليس نابعا من مجرد المخالفة للأحكام الشرعية ، وإنما بسبب طبعه الخبيث وأخلاقه الفاسدة .. وعليه : لا يوجد أساس عقلي ولا ديني ولا عملي للقبول ببقائه في الحكم ، وتفضيله على الإمام الحسين ( عليه السلام ) بل على العكس من ذلك : توجد كل المبررات العقلية والدينية والعملية للثورة عليه وإقصائه عن الحكم ، وإن السكوت على حكمه مخالف للعقل والفطرة والدين ، وهذا ما لا ينبغي أن تفعله الشعوب الحية أبدا .

ثالثا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” فإن أبيتم إلا الكراهية لنا ، والجهل بحقنا ، وكان رأيكم الآن على غير ما أتتني به كتبكم ، وقدمت علي به رسلكم ، انصرفت عنكم ” .

يتناول الإمام الحسين ( عليه السلام ) في هذا المقطع من البيان جانبا ( عمليا ) يقيم من خلاله الحجة البالغة على خصومه . فبعد أن أوضح لهم الأسس العقلية والدينية والعملية لأحقيته بالحكم والداعية إلى إقصاء ( يزيد بن معاوية ) وتقديمه عليه .. قال لهم : إذا كنتم لا تريدون الالتزام بهذه الأسس العقلية والدينية والعملية الداعية إلى إقصاء ( يزيد بن معاوية ) من الحكم وتقديمي عليه ، فإنكم قد قدمتم إلي الدعوة للحضور إلى العراق ، فإن كان رأيكم في ذلك قد تغير ، فدعوني أرجع من حيث أتيت .

فرد عليه الحر : ” إني لست من هؤلاء ( يعني الذين كتبوا إليه ) وإني أمرت أن لا أفارقك إذا لقيتك .. حتى أقدمك الكوفة على ابن زياد ” .

فرد عليه الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” الموت أدنى لك من ذلك ” وهذه هي حقيقة النفوس الأبية الكريمة ( دائما ) في مواجهة التحديات وعمليات الإهانة والإذلال والاضطهاد وانتهاكات حقوق الإنسان .

وبعد أخذ ورد .. قال الحر : ” إني لم أؤمر بقتالك ، وإنما أمرت أن لا أفارقك حتى أقدمك الكوفة .. فإذ أبيت : فخذ طريقا نصفا بيني وبينك ، لا يدخلك الكوفة ، ولا يردك المدينة ، حتى اكتب إلى الأمير ( عبيد الله بن زياد ) فلعل الله أن يرزقني العافية من أن أبتلى بشيء من أمرك ” .. وعليه اتفق الطرفان .

وفي منطقة البيضة خطب الإمام الحسين ( عليه السلام ) فيهم ثانية ، فحمد الله ( تبارك وتعالى ) وأثنى عليه .. وقال :

نص البيان ـ القسم الثاني : ” أيها الناس : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قال في حياته : من رأي منكم سلطانا جائرا ، مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهده ، مخالفا لسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بقول ولا فعل ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله .. وقد علمتم أن هؤلاء القوم : قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله ، وأنا أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسـول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وقد أتتني كتبكم ، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي بيعتكم ، فقد أصبتم حظكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة . وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم ، والمغرور من اغتر بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ، والسلام ” ( البحار . ج 44 . ص 382 ) .

قراءة في القسم الثاني من البيان : يتضمن هذا القسم من البيان الكثير من الحقائق والأفكار .. وهي كالتالي :

أولا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : إن رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) قد قال في حياته : من رأي منكم سلطانا جائرا ، مستحلا لحرم الله ، ناكثا لعهده ، مخالفا لسنة رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يعمل في عباد الله بالإثم والعدوان ، فلم يغير عليه بقول ولا فعل ، كان حقا على الله أن يدخله مدخله ” .

لقد تجاهل ( الحر الرياحي ) الأسس الدينية والعقلية والعملية التي طرحها سيد الشهداء الإمام الحسين ( عليه السلام ) الداعية لإقصاء يزيد عن الحكم ، وتقديـم سبط رسـول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) الإمام الحسين ( عليه السلام ) كبديل عنه .. وتمسك بأمرين ذا بعد شخصي وهما :

الأمر الأول : أنه لم يكن من الذين كتبوا للإمام الحسين ( عليه السلام ) .
الأمر الثاني : التكليف العسكري له من القيادة السياسية التي بايعها .

وهذا يدل على غياب التأسيس الفكري والقيمي للمواقف السياسية ، مما يغيب المعايير الصحيحة لحكم عليها ، وهذا ما يفعله الطواغيت والحكام المستبدون ( دائما ) بهدف التضليل وتحصيل الدعم الأعمى من الشعوب المستضعفة لمواقفهم الاستبدادية الظالمة ، وهو مخالف ( بالطبع ) للمنهج الإسلامي العظيم ، الذي يسعى دائما إلى التأسيس الفكري والقيمي للمواقف ، لكي يعطي للمواقف السياسية هويتها ، ويتيح للناس فرصة التقييم الدقيق والصحيح إليها .

لهذا نجد أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) قد لجأ إلى أمر مباشر ، وهو حديث من الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) يأمر فيه المسلمين بالثورة على الحاكم المنحرف عن الدين ، والذي يسير في الناس بالظلم والعدوان ، ومن لم يفعل ذلك منهم ، فإنه يغضب الله ( عز وجل ) وأن مصيره إلى النار ، وهذا يدخل ضمن التنويع في قواعد التأسيس للمواقف .

فقد أشار الإمام الحسين ( عليه السلام ) بصورة مباشرة إلى جانبين .. وهما :

الجانب الأول : التحريض المباشر على الثورة استنادا إلى فتوى شرعية عن الرسول الأعظم الأكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) وهي ملزمة لكل مسلم .

الجانب الثاني : التخويف بالعذاب في الآخرة لمن يخالف الفتوى أو التكليف الشرعي .

وهذا يدل على أمور في غاية الأهمية ، ينبغي علينا أن نتعلمها من المنهج الثوري للإمام الحسين ( عليه السلام ) .. منها :

الأمر الأول : سعي الإمام الحسين ( عليه السلام ) لإعادة بناء نظام المعرفة وتشكيل وعي الأمة ، وتطهير عقلها من الأفكار القاتلة للثورة ، والداعية لمهادنة الظلم والطغيان وقوى الاستكبار ، وليبعث فيها روح الحياة من جديد ، فتحطم القيود والأغلال التي تمنعها من النهوض والانطلاق في المسار الصحيح لصناعة تاريخها الرسالي المشرق ، مستفيدا مما يختزنه التراث الإسلامي العظيم من قوة التأثير ، ليقدم لها معالجات جذرية للسكون المميت في حياتها كأمة تريد أن تشق طريقها بين الأمم كخير أمة أخرجت للنـاس ، وقـد حرص الإمام الحسين ( عليه السلام ) على أن تلتحم في معالجاته وتأسيساته الفكرية والسياسية ، معطيات الكتاب والسنة ( الوحي ) مع البراهين العقلية ، والحكمة العملية ، والقيم الأخلاقية ، والمشاعر الفطرية للإنسان .

الأمر الثاني : أن المواقف النبيلة من الإمام الحسين ( عليه السلام ) مع خصومه والصبر عليهم ، والنفس الطويل في معالجة أوضاعهم بشكل يتجلى فيه الإيثار والتضحية والحرص الشديد على هدايتهم ، يدل على عدم وجود عداوة شخصية بينه ( عليه السلام ) وبين خصومه ( وهذا حال كافة الثوار المؤمنين ) فهو لا يريد لهم الشر ، وإنما يريد لهم الخير والهداية ، وأن خصومته هي في الحقيقة مع أطروحاتهم ومواقفهم المنحرفة عن الحق والعدل والخير والفضيلة .. وليست مع أشخاصهم . وهذا الحال أو الموقف من الإمام الحسين ( عليه السلام ) مع خصومه ، ليس بسبب الضعف أو الخوف من الموت ، وليس من أجل المصالح المادية والدنيوية ، وإنما لأنه ( عليه السلام ) يحمل رسالة سماوية تريد الخير للناس جميعا ، وهو يمتـلك كامـل الاسـتعداد لأن يضحي بنفسه وما يملك من اجلها .. وهذا ما أثبتته التجربة بما لا يدع أي مجال للشك عند أحد من العقلاء المنصفين .

ونتوصل من خلال هذا المقطع من البيان إلى النتائج المهمة التالية :

النتيجة الأولى : أن التكليف الأولي ( الموقف الأصل ) للمسلم هي الثورة على الباطل والظلم والاستبداد والاضطهاد والفساد ، لأن الإسلام العظيم يريد تحقيق السعادة للإنسان ، فلا بد له أن يحارب العوامل المضادة لها . وهو يستقبح الباطل والظلم والاستبداد والاضطهاد والفساد في الأرض ، فلا بد له أن يحارب الظالمين والمستبدين والمفسدين ، ولا يمكنه أن يقبل من المسلمين الرضا بهم ( اختيارا ) في مجتمعاتهم . ولهذا فالإسلام يرفض النظم التي تقوم على أساس الباطل والقهر والاستبداد ودعا إلى مجابهتها ، وقد عظم قيمة الشهادة ، ورفع من شأن الشهداء في سبيل الحق والعدل والفضيلة والحرية ، واستقبح السكوت عن الباطل والظلم والفساد والاستبداد .. واعتبر الساكت شيطان أخرس .

أما العلماء المسلمون : فيعتبرون الثورة على الظلم والانحراف ميل فطري لدى الإنسان السوي ، وحكم عقلي أقرته الشريعة الإسلامية المقدسة ، والثورة في الإسلام جزء من التكليف الشرعي للإنسان المؤمن ، من أجل إقامة الحق ، وإشاعة العدل والسلام والخير والفضيلة في المجتمع ، ومن يتخلى من المسلمين عن هذا التكليف ( بدون عذر ) فإن مصيره إلى النار وبئس القرار .. مع التأكيد على ثلاثة أمور أساسية وهي :

الأمر الأول : أن ممارسة هذا التكليف ( الثورة ) تحتاج إلى غطاء شرعي ، ووجود الحاكم الشرعي ضروري منذ اللحظة الأولى ( بحسب فتوى بعض الفقهاء ) .

الأمر الثاني : أن التعاطي المرحلي مع النظام الظالم ، ينبغي أن يكون على حذر ، بحيث لا يستغل لصالح النظام المستبد الظالم ، ولا يسمح بإطالة عمره وتدعيم أركان وجوده .

الأمر الثالث :ٍ أن السكوت على الظلم يحتاج إلى عذر وتبرير عقلي واقعي وإلى رخصة شرعية من القيادة الإسلامية الشرعية العليا .

النتيجة الثانية : أن البيعة لا تعطي الشرعية ، وأن قيمتها حينما تأتي مع الشرعية ، وتفيد الوقوف العملي إلى صفها ، وهي غير ملزمة ، ولا قيمة لها مع عدم توفر الشرعية .

النتيجة الثالثة : أن ما احتج به ( الحر ) لا يلغي مسؤوليته الدينية والاجتماعية في الثورة على ( يزيد ) ونصرة الإمام الحسين ( عليه السلام ) لأنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق .

ثانيا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” وقد علمتم أن هؤلاء القوم : قد لزموا طاعة الشيطان ، وتركوا طاعة الرحمن ، وأظهروا الفساد ، وعطلوا الحدود ، واستأثروا بالفيء ، وأحلوا حرام الله ، وحرموا حلاله ، وأنا أحق بهذا الأمر لقرابتي من رسول الله ( صلى الله عليه وآله وسلم ) ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : أن التجربة العملية للمسلمين مع حكم ( يزيد بن معاوية ) تشير إلى انحرافه في نفسه عن الدين ، وإظهاره للفساد والظلم في المجتمع ، مما يوجب ( شرعا وعقلا ) الثورة عليه .. وإن زعم القائمون على السلطة وأبواقهم المأجورة ( كما هي العادة في كل زمان ومكان ) خلاف ذلك .

يقول ( عبيد الله بن زياد ) في خطاب له في مسجد الكوفة ، يحرض فيه أهل الكوفة على حرب الإمام الحسين ( عليه السلام ) : ” أيها الناس : إنكم بلوتم آل أبي سفيان ، فوجدتموهم كما تحبون .. وهذا أمير المؤمنين ( يزيد ) قد عرفتموه : حسن السيرة ، محمود الطريقة ، محسنا إلى الرعية ، يعطي العطاء في حقه ، وقد أمنت السبل على عهده ، كذلك كان أبوه معاوية في عصره ، وهذا ابنه ( يزيد ) يكرم العباد ويغنيهم بالأموال ، وقد زادكم في أرزاقكم مائة مائة ، وأمرني أن أوفرها عليكم ، وأخرجكم إلى حرب الحسين ، فاسمعوا له وأطيعوا ” ( مقتل الحسين . المقرم . ص 237 ) .

النقطة الثانية : أن البديل عن ( يزيد ) في الحكم ، هو الإمام الحسين ( عليه السلام ) نظرا لقرابته من الرسول الأعظم الكرم ( صلى الله عليه وآله وسلم ) فهو الأعلم بدينه ، والأكثر أمانة عليه ، والأصدق في تطبيق منهجه ، والقيام بالعدل في أمته ، وقد أوصى الله ( تبارك وتعالى ) الأمة برعاية أهل بيت النبوة .

قال الله تعالى : { تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا كَسَبُوا وَهُوَ وَاقِعٌ بِهِمْ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فِي رَوْضَاتِ الْجَنَّاتِ لَهُم مَّا يَشَاؤُونَ عِندَ رَبِّهِمْ ذَلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الكَبِيرُ . ذَلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبَادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى وَمَن يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَّزِدْ لَهُ فِيهَا حُسْنًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ } ( الشورى : 22 ـ 23 ) .

ثالثا ـ قوله ( عليه السلام ) : ” وقد أتتني كتبكم ، وقدمت علي رسلكم ببيعتكم ، أنكم لا تسلموني ولا تخذلوني ، فإن وفيتم لي بيعتكم ، فقد أصبتم حظكم ورشدكم ، ونفسي مع أنفسكم ، وأهلي وولدي مع أهاليكم وأولادكم ، فلكم بي أسوة . وإن لم تفعلوا ونقضتم عهدكم ، وخلعتم بيعتكم ، فلعمري ما هي منكم بنكر ، لقد فعلتموها بأبي وأخي وابن عمي مسلم ، والمغرور من اغتر بكم ، فحظكم أخطأتم ، ونصيبكم ضيعتم ، ومن نكث فإنما ينكث على نفسه ، وسيغني الله عنكم ” .

يتضمن هذا المقطع من البيان نقاط عديدة .. منها :

النقطة الأولى : الإشارة إلى ما جاءه من الكتب والرسل من أهل الكوفة ، وهذه النقطة قد تكرر ذكرها في بيانات ثورة الإمام الحسين ( عليه السلام ) وهي تدل على عدة أمور أساسية .. منها :

الأمر الأول : أهمية تكرار بعض الحقائق لترتيب الأثر المطلوب في النتيجة .

الأمر الثاني : التأكيد على أن الإمام الحسين ( عليه السلام ) معذور ( عقلا وشرعا ) في قدومه إلى الكوفة ، وهذا يفرض التعاطف معه من قبل كل إنسان غيور ، ولو بالتوصل إلى الحلول الوسطى .. وعدم القبول بقتله فضلا عن المشاركة فيه .

الأمر الثالث : التأكيد على خيانة الذين تخلوا عن نصرته بعد مراسلته ، مما يساعد أصحاب الضمائر على التعاطف معه ونصرته ضد هؤلاء الخونة ، وهذا يدخل ضمن التأسيس الاجتماعي والقيمي للمواقف .

النقطة الثانية : الإشارة إلى النتائج الإيجابية للوفاء بالبيعة ( في دائرتها الشرعية ) والنتائج السلبية لنقضها ، وتحذيرهم من سوء العاقبة في الدنيا والآخرة .

النقطة الثالثة : تذكيرهم بتاريخهم السيئ في نقض البيعة مع أبيه وأخيه وابن عمه ( مسلم بن عقيل ) وهذا يدل على سوء طبعهم وخيانتهم ، وكان قد تجنب قبل ذلك الإشارة إلى هذا الموضوع ، ولكن مع تكرار الخيانة ، رأى الإشارة إليها وإلى دلالتها الأخلاقية وعواقبها الوخيمة في الدنيا والآخرة .. بهدف الردع عنها .

قال الله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ } ( الأنفال : 27 ) .

وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) : ” إياكم والخيانة ، فإنها شر معصية ، فإن الخائن لمعذب بالنار على خيانته ” ( ميزان الحكمة . ج3 . ص 195 ) .

وقال ( عليه السلام ) : ” غاية الخيانة خيانة الخل الودود ونقض العهود ” .
( نفس المصدر . ص 198 ) .

النقطة الرابعة : تأكيده ( عليه السلام ) على أن خيانتهم له ونقضهم لبيعته ، لن يحمله على التراجع عن الثورة ، فقد حزم حقائبه للسير في طريقها ، وهو مصمم على المضي فيها حتى نهايتها .. وحتى يحكم الله بينه وبين القوم الظالمين وهو خير الحاكمين .

النقطة الخامسة : الإشارة إلى العلاقة التي سوف تربطه بهم كقائد ، فسوف يكون متواجدا معهم في المحن والأزمات الصعبة والأوضاع الخطيرة كواحد منهم ، يتحسس آلامهم وهمومهم ويخدم قضاياهم ، وسوف يربط مصيره بهم ، ولن يتخلى عنهم .. لأن القيادة في وجهة نظره تهدف : إلى خدمة الناس وسعادتهم ، والقضاء على الظلم والتخلف والاستبداد والفساد قربة إلى الله ( تبارك وتعالى ) وليس السيادة من أجل رضا النفس والسيطرة على ثروات الشعوب ونهبها .

إن هذه العلاقة بين القيادة والقاعدة : تعتبر الأسلوب الأكثر تأثيرا في تحريك الأمة في كافة القضايا الكبيرة والمصيرية في حياتها ، وضمان ديمومة الثورة والدولة ونجاحهما في تحقيق أهدافهما ، وأن تبقى الثورة والدولة في خدمة عامة الناس ولا سيما المستضعفين منهم ، وتحصين الشعوب والثوار من اختراق القوى المضادة لهما ، وأن أي نظام سياسي لا يقوم على أساس إرادة الناس وخدمة مصالحهم ، ويحظى بتأييدهم له .. لا يمكن أن يكتب له البقاء والنجاح .

قال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب ( عليه السلام ) في عهده لمالك الأشتر : ” وأشعر قلبك الرحمة للرعية ، والمحبة لهم ، واللطف بهم ، ولا تكن عليهم سبعا ضاريا تغتنم أكلهم .. فإنهم صنفان : إما أخ لك في الدين ، وإما نظير لك في الخلق ، يفرط ( يسبق ) منهم الزلل ، وتعرض منهم العلل ، ويؤتى على أيديهم ( السيئات ) في العمد والخطأ ، فأعطهم عفوك وصفحك ، مثل الذي تحب أن يعطيك الله من عفوه وصفحه ، فإنك فوقهم ، ووالي الأمر عليك فوقك ، والله فوق من ولاك ” ( نهج البلاغة ) .

يقول آية الله العظمى السيد محمد حسين فضل الله ( أمد الله تعالى في ظله المبارك ) : ” إن القيادة التي تعتبر نفسها جزءا من الجماهير هي القيادة التي يمكن أن تنفع الجماهير وتغيرها . أما القيادة التي تعتبر نفسها فوق الجماهير فهي قيادة لا تستطيع أن تفهم الجماهير ” .
( صراع الإرادات . سليم الحسني . ص 73 ) .

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى