ثقافة

يأبى الله لنا

ورد عن الإمام الحسين بن علي (ع) أنه حينما حاصره الأعداء في صحراء كربلاء، وقف خطيباً في القوم وصرخ: «ألا إن الدعي ابن الدعي قد ركز بين اثنتين، بين السلة والذلة وهيهات منا الذلة يأبى الله لنا ذلك ورسوله والمؤمنون وجدود طابت وحجور طهرت وأنوف حمية ونفوس أبية من أجل أن نؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام».

أعلن تيار الوفاء الإسلامي وحركة الحق شعار هذا العام «يأبي الله لنا» وهذه الكلمة التي استقيناها من خطاب الإمام الحسين (ع) ومن مدرسة كربلاء، لأن كربلاء ليست بقعة جغرافية وإنما هي مدرسةٌ تمتد عبر الأزمان والعصور، نحن اليوم في أمس الحاجة لاستلهام دروس كربلاء ودروس عاشوراء لذلك نحاول من خلال هذه اللقاءات التي ستكون في الخمس الليالي القادمة أن نضيء على كلمات الإمام الحسين (ع).

عندما قال الإمام الحسين (ع) يأبى الله لنا ذلك، في اللغة العربية معنى كلمة يأبي هي: امتنع والامتناع الشديد، ليس الامتناع فحسب بل الامتناع الشديد، ذكر الإمام الحسين كلمة الإباء مرتين (ع) في خطبته، المرة الأولى حينما قال «يأبى الله لنا» ذلك وهو الشعار الذي تبينيناه وفي مقطع آخر قال «ونفوسٌ أبية» وقد وردت هذه الكلمتين يأبى وإباء في القرآن الكريم عدة مرات فمثلاً يذكر صاحب كتاب الراغب في مفردات القرآن الكريم، الإباء بمعنى شدة الامتناع وكل إباء امتناع وليس كل امتناع إباء.

إذاً الإباء ليس الامتناع فحسب بل شدة الامتناع، هذا ما نريد أن نشير إليه في قضية أن كثير منا قد يرفض الذل ولكن عندما تضغط عليه الظروف قد يرضخ للذل، كثير منا قد يرفض الظلم ولكن عندما تضغط عليه الظروف يقبل بالظلم، كثير منا يرفض الاستسلام ولكن عندما تضغط عليه الظروف يرضخ للاستسلام، الإمام الحسين (ع) استخدم مفردة الإباء، يأبى الله لنا بمعنى بأنه حتى لو كانت هناك ظروف ضاغطة على الإنسان يجب أن يمتنع امتناع شديد.

اليوم كثيرٌ من أولئك الذين يبررون مشاركتهم في الانتخابات الصورية الشكلية القادمة يقولون أنه لاطاقة لنا، تعب شعب البحرين، تعب المساجين، تعبت الأمهات، هذا الكلام إذا كان الأمر بيدي وبيدك ولكن هنا الإمام الحسين أشار إلى مسألة في غاية الأهمية وهي إن الإباء الموجود هو من الله سبحانه وتعالى وليس إباء مني ومنك، عندما عبّر قال يأبى الله، الله سبحانه وتعالى يرفض ذلك، هذا الإباء يرفضه لنا، من نحن؟ يرفضه لنا بما نحن مؤمنين، إذا كنا مؤمنين فإن الله سبحانه وتعالى يقرن عزتنا بعزته، يقول: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ)[1]، فيقرون عزة الله سبحانه وتعالى التي هي في مقابل الظلم، يقرونها بعزة الله سبحانه وتعالى.

هنا عندما نقول يأبى، هذه إرادة من إرادات الله سبحانه وتعالى، والإرادة الإلهية على قسمين:

  1. الإرادة التكوينية: التي لا تتخلف كما هي إرادة الله سبحانه وتعالى بطلوع الشمس أو بغياب الشمس أو بمجيء النهار أو بمجيء الليل أو بدوران الأرض، كل هذه إرادة تكوينية، هذه الإرادة التكوينية لا تتخلف ولا تتوقف، ليس للإنسان دورٌ في إيقافها وفي إيجادها.
  2. الإرادة التشريعية: وهي توجيه الله سبحانه وتعالى لنا كبشر كمؤمنين، يقول لنا أريد لكم أن تصلوا، أن تدخلوا الجنة ولكن نحن إذا أطعنا الله سبحانه وتعالى ندخل الجنة وإذا خالفنا الله سبحانه وتعالى لا ندخل الجنة، هذه الإرادة تسمى الإرادة التشريعية، عندما عبّر الإمام الحسين (ع) بأنه يأبى الله لنا ذلك، إشارة إلى هذا النوع من الإرادة، بإمكان الإنسان بأن يرفض الذل والاستسلام والخضوع والخنوع للطغاة والمجرمين وبإمكانه أن يستسلم لإرادة الطغاة والمجرمين ولكن ما هي الآثار وما هي الأمور التي يأباها الله سبحانه وتعالى ويمنع عنها منعا شديداً؟

الأمر الأول هو ما ذكره ألا أن الدعي يا بن دعي قد ركز بين اثنتين بين السلة والذلة، الأمر الذي يرفضه الله ويأباه الله سبحانه وتعالى هو الاستسلام لإرادة الطغاة والمجرمين، إذا استسلم المؤمن والمجاهد لإرادة الطغاة والمجرمين، عندما يخيّره الطغاة بين الاستسلام أو الموت، فإن عليه أن يختار الموت العزيز على الحياة الذليلة وهي ما عبّر عنه الإمام الحسين (ع) « موتٌ في عز خيرٌ من حياةٍ في ذل» وهي التي عبّر عنها يأبى الله لنا، إذن المطلوب بأنه عندما يخيرنا القاضي بين السلة والذلة، بين مصارع الكرام وبين حياة الذل والهوان فإن المؤمنين والحسين والسائرين على خط الحسين يختارون المواجهة التي قد تكلفهم حياتهم وراحتهم وأمنهم وحريتهم.

يا شعب البحرين .. يا شباب البحرين .. يا إخوتنا الثائرين في البحرين .. لا يدخلكم اليأس والضعف والهوان، إخوتنا وأعزتنا من يرزحون في غياهب السجون، يا من طالت عليهم الليالي بقسوتها، أيتها الأمهات الصابرات، لا ينبغي أن نضعف أو نهون أو نستسلم لإرادة الطاغي، الله سبحانه وتعالى يريد لنا أن نحيى أحرار وأن نعيش العزة والكرامة وأن لا نرضخ ولا نستسلم للطغاة والجبابرة، إذا استسلم المؤمنون وخضعوا لإرادة الطغاة فإن ذلك تمكينٌ وبقاءٌ وانتشارٌ للظلم ونكون كمن ساهم في ظلم نفسه، الذين قال لهم (قَالُوا فِيمَ كُنتُمْ ۖ قَالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ ۚ قَالُوا أَلَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ وَاسِعَةً فَتُهَاجِرُوا فِيهَا)[2] الآية تعبر عن هؤلاء الذين ظلموا أنفسهم، لماذا ظلموا أنفسهم؟ لأنهم استسلموا لإرادة الطغاة والجبابرة.

المؤمن أمام خيارين، إما خيار المواجهة وإما خيار الرحيل والابتعاد عن ساحة المواجهة ولكن دون الاستسلام والتسليم، خيار الهجرة والعدة والإعداد والمقاومة، لذلك عندما خيّر الطاغية المجرم ابن زياد ويزيد بن معاوية الإمام الحسين (ع) بين الحرب العسكرية وبين الاستسلام والذلة، صدح بصوته ورفع صوته بأنه «هيهات منا الذلة»، الإمام الحسين (ع) لم يكن راغباً في الحرب العسكرية ولكن لا عن خوف ورعب وإنما كان يخشى على القوم أن يدخلوا النار بسببه لأنه إن قاتلهم وقتلهم سيدخلون النار وفي حال قاتلهم وقتلوه سيدخلون النار لأنهم يواجهون الإمام المعصوم وحجة الله وخليفته في الأرض، حينما كان يبكي الإمام الحسين كان يبكي على القوم لأنهم سيدخلون النار بسببه فما كان عند الإمام الحسين (ع) إلا خيار المواجهة وأما خيار الاستسلام فكان خياراً مرفوضاً بشكلٍ قطعي لدى الإمام الحسين لأن فيه تمكينٌ للظلم والفساد والجور وفيه ظلمٌ للنفس وللأجيال وفيه انتشارٌ للرذيلة وموتٌ ومحاصرةٌ للفضيلة والأمر الآخر فيها إذلالٌ للمؤمنين، وردت الرواية عن الإمام (ع): «إن الله قد فوض للإنسان كل شؤونه إلا أن يذل نفسه». كل أمور الإنسان مفوضة إليه إلا أن يقبل للذل، لذلك عندما عبّر الإمام الحسين قال: يأبى الله لنا، أي يرفض رفضاً شديداً، لذلك ليس من خياراتنا وليس من حقنا أن نقبل بالذل وأن نعيش الهوان تحت مبررات «الواقعية وفن الممكن وأننا لا نستطيع أن نغيّر شيئاً»، لا .. الله سبحانه وتعالى يأبى أن نعيش وأن نقبل حياة الذل والإمام الحسين (ع) قد قطع الطريق عن كل الناس، من هو أعظم من الإمام الحسين (ع) ليقدم الإمام الحسين نفسه الزكية الطاهرة قرباناً من أجل العزة والكرامة، يرفض الذل والهوان.

نحن في عصرنا وزماننا الحاضر يمكن أن نضرب مثالين للذين رفضوا الذل وعاشوا الإباء حتى لقوا الله سبحانه وتعالى مضرجين بدمائهم، سقوا هذه الشجرة التي زرعها الإمام الحسين (ع) شجرة العزة والكرامة:

  1. الشهيد السعيد محمد باقر الصدر: عندما جاءه مسؤول الاستخبارات العراقية «فاضل البرّاك» وبدأ يفاوضه بأنه قدم تنازل بسيط من أجل أن يعفو عنك صدام اللعين، قال له فقط أعتذر واسحب فتواك في حكم الانضمام إلى حزب البعث وصدام مستعد أن يعفوا عنك، أبى السيد الشهيد الصدر ذلك، قال له لا نريدك أن تسحب فتواك، ادن الثورة الإسلامية في إيران، أبى الشهيد الصدر ورفض ذلك، قال له لا نريد منك شيء، امدح الحكومة لأنها عملت الشوارع ولأن يوجد لديها تعليم راقي وللخدمات التي تقدمها إلى أبناء الشعب العراقي، رفض وأبى ولن يمدح النظام البعثي ولو بكلمة واحدة، بكي حينها فاضل البرّاك مسؤول الاستخبارات العراقية، بدأ يبكي بين يدي الشهيد الصدر وقال كلمته المعروفة «حيف على مثلك ياكله الگاع»، بدأ يبكي بين يدي الشهيد الصدر، كان بإمكان الشهيد الصدر أن يقبل له أي مبرر ليقبل حياة الهوان والذل ويعيش بقية حياته ويدرس في الحوزة العلمية ويؤلف الكتب العلمية الراقية والكبيرة ولكنه أبى ورفض ومشى وسار على خط الإمام الحسين (ع).
  2. الشهيد باقر النمر: الشهيد النمر رضوان الله تعالى عليه طلبوا منه أن يعتذر وأن يتراجع عن مواقفه، عندما أخذوه إلى المحكمة سألوه هل أنت على مواقفك؟ قال نعم أنا على مواقفي، أطلب بخروج درع الجزيرة من البحرين وأناصر قضية وثورة البحرين وأرفض حكم آل سعود وأرفض البيعة لآل سعود، قال له تراجع قليلاً وقدم رسالة اعتذار ونحن سنجلب لك العفو عن الإعدام، رفض الشهيد النمر ولن يقبل ولن يخضع، جاؤوا إلى عائلته وأرادوا أن يقنعوا عائلته بأن يُقدّموا التماس ويكتبوا رسالة إلى الطغاة المجرمين بأن يعفوا عن الشيخ النمر رضوان الله تعالى عليه، فاتصل الشيخ النمر بعائلته وقال: «هذه القضية قضيتي وهذه الحياة حياتي ولا أبرء ذمتكم إذا طلبتم العفو عني». أراد أن يسجل موقفاً للتاريخ، أراد أن يستنهض الأمم، أراد أن ينفض غبار الذل الذي علق بلباس وحياة الأمة التي اعتادت أن تعيش بحياة الذل والهوان.

نحن اليوم على مائدة مدرسة كربلاء، نستلهم منها العزة والكرامة والإباء والشموخ ونحن الذين نهتف ليل نهار «يا ليتنا كنا معكم فنفور فوزاً عظيماً»، كربلاء لم تنتهي، كربلاء باقية حاضرة وهذه الساحات كلها مدارس وساحات وقضية كربلاء، نحن الذين نقرأ في سجود زيارة عاشوراء: اللهم لك الحمد حمد الشاكرين على مصابهم، الحمدلله على عظيم رزيتي، اللهم ارزقنا شفاعة الحسين يوم الورود وقدم لنا قدم صدقٍ عندك مع الحسين، قدم الصدق مع الحسين (ع) هو السير على خطى الحسين وعلى منهج الحسين، لا نبحث عن تبريرات ولا نتهرب عن مسؤولياتنا ولا نقبل بحياة الذل والهوان عندما تتعارض مع الموت العزيز ويكون شعارنا شعار الحسين (ع): «موتٌ في عز خيرٌ من حياةٍ في ذل».

السلام عليك يا أبا عبدالله وعلى الأرواح التي حلت بفنائك عليكم مني جميعاً سلام الله أبداً ما بقيت وبقي الليل والنهار ولا جعله آخر العهد مني لزيارتكم.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين وعلى أولاد الحسين وعلى أصحاب الحسين.

والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

المراجع والمصادر

  • [1]- المنافقون: 8
  • [2]- النساء: 97

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى