ثقافة

استشراف مرجعية أهل البيت

تمهيد

أيها الأحبة الأعزاء، الإسلام ـ كما هو في الحديث، وبإجماع المسلمين ـ هو قول: لا إله إلا الله، محمد رسول الله. فمن قال هاتين الكلمتين، دخل في الإسلام، وأصبح له ما للمسلمين، وعليه ما عليهم.

قال الرسول الأعظم الأكرم (ص): «أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله، وأني رسول الله، فإذا قالوها، عصموا مني دماءهم وأموالهم إلا بحقها وحسابهم على الله»[1].

وقال الإمام الصادق عليه السلام: «الإسلام شهادة أن لا إله إلا الله، والتصديق برسول الله (ص)، به حقنت الدماء، وعليه جرت المناكح والمواريث، وعلى ظاهره جماعة الناس»[2].

وقد اختلف المسلمون بعد رحيل الرسول الأعظم الأكرم (ص)، وأصبحوا فرقا ومذاهب عديدة مختلفة فيما بينها، تميّزت من بينها مدرسة أهل البيت (ع) حيث ينظر الأئمة من أهل البيت وشيعتهم إلى مدرستهم على أنها الامتداد الطبيعي لدعوة الرسول الأعظم الأكرم (ص)، وأنها الإسلام كله، وليست مذهبا كسائر المذاهب الإسلامية، وهذا ادعاء خطير ليس في وسع غيرهم أن يدعيه؛ لأن جميع المدارس الكلامية والفقهية التي يتبعها المسلمون من غير مدرسة أهل البيت (ع) لم تكن موجودة ـ على أقل تقدير ـ في العهد الأول للصحابة، فلم يتعبدوا بشيء منها، فلا أحد يستطيع أن يثبت بأن التعبد بأحدها واجب على المسلمين. أما الاجتهاد في مدرسة أهل البيت (ع) فهو اجتهاد في داخل المدرسة نفسها، فهو نوعيا كاجتهاد الصحابة على عهد الرسول الأعظم الأكرم (ص) تماما، والفرق هو في الدرجة فقط.

المسألة الأم للاختلاف: وأرغب في هذه الليلة المباركة، أن أسلط الضوء على المسألة الأم للاختلاف بين مدرسة أهل البيت (ع) وبين المذاهب الإسلامية المختلفة، وبعض ما يرتبط بها من المسائل المهمة، وهذه المسألة، هي: المرجعية الشرعية للمسلمين بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص)، ويمكن التعبير عنها بسهولة كبيرة في السؤال التالي: ممّن نأخذ الإسلام؟ ولمن نرجع بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص)؟

الأجوبة لدى المسلمين على هذا السؤال شتى لا أريد الدخول فيها، وإنما أريد الجواب في مدرسة أهل البيت (ع)، وجوابهم: كما كان المسلمون يرجعون إلى القرآن الكريم وإلى الرسول الأعظم الأكرم (ص) ويأخذون الدين منهما، يجب عليهم الرجوع إلى القرآن الكريم وإلى أهل البيت (ع) لأخذ الدين منهما، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «إني تارك فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي، أحدهما أعظم من الآخر، كتاب الله حبل ممدود من السماء إلى الأرض، وعترتي أهل بيتي، ولن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض، فانظروا كيف تخلفوني فيهما»[3].

بينما يقول غيرهم بالرجوع إلى القرآن الكريم، وإلى سنة الرسول الأعظم الأكرم (ص) وإلى الصحابة. ولي محاضرة قديمة تتبعت فيها النصوص الواردة في مصادر الحديث لمدرسة الصحابة، وقمت بترتيبها في تسلسل منطقي، وانتهيت إلى نتيجة محددة، وهي: أن المصادر توجب مرجعية أهل البيت (ص) دون غيرهم.

الجدير بالذكر أن حياة الأئمة الاثني عشر (ع) قد امتدت حتى زمن الغيبة مدة (250 سنة) تقريبا، كانت الأحوال فيها متغيرة، وتعرّض فيها الأئمة للتضييق والتشريد والاعتقال وفرض الإقامة الجبرية والقتل ونحوها، وفيهم من تولى الإمامة وعمره سبع سنين، وكان بعيدا عن أبيه مثل الإمام الجواد (ع) ومع ذلك كله، لا نجد بينهم اختلاف في عقيدة أو مفهوم أو حكم شرعي، وكل ما صدر عنهم يتفق تماما مع ما صدر عن الرسول الأعظم الأكرم (ص)، وأن الفقهاء يتعاملون علميا مع مجموع النصوص التي صدرت عنهم جميعا وعن الرسول الأعظم الأكرم (ص) وبدون تفريق كوحدة واحدة لا تتجزأ ولا تختلف فيما بينها. وهذه ظاهرة غريبة لا مثيل لها في حياة الناس العاديين، ولا تفسير لها إلا أن يكون علمهم هو من عند الله سبحانه وتعالى، لا من عند أنفسهم ولا من عند غيرهم، قول الله تعالى: (فَوَجَدَا عَبْدًا مِّنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِندِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِن لَّدُنَّا عِلْمًا)[4]، والظاهرة دليل قطعي على عصمتهم.

فالإنسان العادي يغير آراءه تبعا لتطور وزيادة معرفته، ولا يكون له رأي واحد في جميع المسائل الفكرية والعقائدية والشرعية لا يتغيّر طوال عمره.

ولا يوجد شخصان يتفقان في جميع الأفكار والمفاهيم والعلوم، حتى بين الآباء وأبنائهم، والأساتذة وتلاميذهم. بينما نجد أن وضع الصحابة ـ من هذه الجهة ـ هو كوضع سائر الناس العاديين، فهم يختلفون فيما بينهم في العلم والمعرفة، ويغيّر الواحد منهم رأيه تباعا لتطور علمه ومعرفته، وقد كفّر وقاتل بعضهم بعضا، فلا يمكن أن يقاس علم الصحابة بعلم أهل البيت (ع) بأي حال من الأحوال. وإن المسلمين يختلفون حول فهم القرآن والسنة، فلابد من وجود حجة لله على الناس في فهم القرآن والسنة، قول الله تعالى: (لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ)[5].

بعاد مرجعية أهل البيت (ع)

وفي واقع الأمر فإن مرجعية أهل البيت (عليهم السلام) لها أبعاد عديدة ومتنوعة، أهمها أربعة:

البعد (1) التبليغ عن الله سبحانه وتعالى: فمنهم يؤخذ الدين الحق، كما كان يؤخذ عن الرسول الأعظم الأكرم (ص)، ويدل عليه بوضوح تام حديث الثقلين السابق الذكر، وهو حديث متواتر بمعناه في مصادر الحديث لدى مدرسة الصحابة.

البعد (2) ولاية الأمر أو الحكم: فهم ولاة أمر المسلمين بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص)، كما كان الرسول الأعظم الأكرم (ص) ولي أمرهم في عهده الشريف المبارك، ويدل عليه بوضوح تام حديث الغدير، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «أيها الناس! من أولى الناس بالمؤمنين من أنفسهم؟ قالوا: الله ورسوله أعلم. قال: إن الله مولاي، وأنا مولى المؤمنين، وأنا أولى بهم من أنفسهم، فمن كنت مولاه فعلي مولاه»[6]، وهو حديث متواتر بمعناه في مصادر الحديث لدى مدرسة الصحابة.

الجدير بالذكر أن المرجعية في التبليغ والمرجعية في الولاية لا تنفصلان، فمن ثبتت له المرجعية في التبليغ، تثبت له المرجعية في الولاية والحكم، وقد جمع الرسول الأعظم الأكرم (ص) لنفسه بين المرجعيتين، فهذا هو الأصل في الرؤية القرآنية، ويدل عليه قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ أَطِيعُواْ اللهَ وَأَطِيعُواْ الرَّسُولَ وَأُولِي الأَمْرِ مِنكُمْ فَإِن تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللهِ وَالرَّسُولِ إِن كُنتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ ذَلِكَ خَيْرٌ وَأَحْسَنُ تَأْوِيلاً)[7]، بخلاف ما ذهبت إليه بعض الفرق الصوفية من التفريق بين الولاية على القلوب التي هي ولاية نعمة العلم والحكمة ويسمونها بالولاية الباطنية، والولاية على الأجسام التي هي ولاية الحكم ويسمونها بالولاية الظاهرية، واعتبروا أن الولاية الباطنية هي الولاية الحقيقية والأهم والأعظم، وقد فرضها الله سبحانه وتعالى لأهل البيت (ع) ولم يفرض لهم الولاية الظاهرية، واعتبروا هذا التفريق بين الولايتين: (الباطنية والظاهرية) هو الصراط المستقيم والسبيل للجمع بين النصوص وبين ما جرى به القلم على أرض الواقع[8].

البعد (3) الأسوة الحسنة: فهم الأسوة الحسنة للناس بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص)، والاقتداء بهم في السلوك والعمل هو الطريق إلى تهذيب النفس وتكميلها والوصول إلى الكمال الإنساني وتحصيل السعادة الحقيقية، كما كان الرسول الأعظم الأكرم (ص) قدوة حسنة للناس في حياته، قول الله تعالى: (لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللهَ وَالْيَوْمَ الآخِرَ وَذَكَرَ اللهَ كَثِيرًا)[9].

البعد (4) إقامة القسط والعدل بين الناس: حيث إن الغاية العظمى المجتمعية من بعث الأنبياء والرسل (ع) وإنزال الكتب السماوية، هو إقامة القسط والعدل بين الناس، قول الله تعالى: (لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنزَلْنَا مَعَهُمُ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَأَنزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَمَنَافِعُ لِلنَّاسِ وَلِيَعْلَمَ اللهُ مَن يَنصُرُهُ وَرُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ)[10]، وإن السبيل لتحقيق هذه الغاية بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص) هو الرجوع إلى الأئمة من أهل البيت (ع)، وإن كمال تحقق هذه الغاية سوف يكون على يد الحجة القائم المهدي (عج) حيث يقيم دولة العدل الإلهي العالمية في آخر الزمان، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «لتملأن الأرض ظلما وعدوانا، ثم ليخرجن رجل من أهل بيتي يملؤها قسطا وعدلا، كما ملئت ظلما وعدوانا»[11].

وهذه الأبعاد الأربعة يدل عليها مفهوم الإمامة، فالإمام..

يبلغ عن الله سبحانه وتعالى.

ويتولى أمر المسلمين.

ويكون القدوة الحسنة إليهم في العمل والسلوك وتهذيب النفس وتكميلها.

وهو السبيل إلى إقامة القسط والعدل بين الناس، وتحقيق الأمن والرخاء والتقدم والازدهار في المجتمع والدولة.

ويجب التمييز بين المرجعية والقيام بالمهام، فالمرجعية العليا الوحيدة للمسلمين في جميع الأبعاد بعد الرسول الأعظم الأكرم (ص) هم الأئمة المعصومون من أهل البيت (ع)، ولكن الآخرين يشاركونهم في القيام بالمهام المختلفة في جميع الأبعاد.

فالعلماء يشاركون في التبليغ وإعطاء القدوة الحسنة من أنفسهم.

والوزراء والقادة يشاركون في الحكم والإدارة.

والناس جميعا يشاركون في القيام بالقسط والعدل بين الناس.

استشراف مرجعية أهل البيت (عليهم السلام)

وإذا حاولنا أن نستشرف مرجعية أهل البيت (ع) فيما يعود علينا في ساحة السلوك والعمل والمواقف في الحياة، نجد بأن الشيعي الموالي لأهل البيت (ع) الذي يقول بمرجعيتهم العليا له في الحياة والسير إلى الله ذي الجلال والإكرام، يجب أن يقوم بأربع مهام رئيسية، وهي:

(1): الاجتهاد في البحث عن الحقيقة وتحصيل الإسلام الصحيح وانتهاج الصراط المستقيم في الحياة والتبليغ به، قول الله تعالى: (اهدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ)[12].

(2): البحث والتحري لمعرفة القيادة الإسلامية الشرعية وطاعتها المطلقة وعدم مخالفتها في شيء، قول الرسول الأعظم الأكرم (ص): «من مات وهو لا يعرف إمامه مات ميتة جاهلية»[13]، وفي نص آخر: «من مات بغير إمام مات ميتة جاهلية»[14]. وتتمثل القيادة الشرعية في الأئمة الأطهار (ع)، ثم في الفقهاء العدول ولاسيما الولي الفقيه، قول الإمام الحجة (عج): «وأما الحوادث الواقعة فارجعوا فيها إلى رواة حديثنا، فإنهم حجتي عليكم، وأنا حجة الله عليهم»[15].

(3): الاجتهاد في تربية النفس وتهذيبها وتكميلها، وهو المعني الدقيق للتشيع الذي حرص أهل البيت (ع) على بيانه، قول الإمام الصادق (ع): «شيعتنا أهل الورع والاجتهاد، وأهل الوفاء والأمانة، وأهل الزهد والعبادة»[16].

(4): الاجتهاد في رفض الظلم ومقاومته، ودعم العدل ومساندته، والمبالغة في العمل به والسعي لإقامته بين الناس وتثبيته بينهم، قول الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ كُونُواْ قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَدَاء لِلَّهِ)[17].

قوامين: تعني المبالغة في القيام، والشهادة: تعني الحضور، فالمؤمنون مطالبون:

بالحضور الفاعل في كل ساحات العمل والجهاد من أجل الله سبحانه وتعالى.

وأن يبالغوا في رفض الظلم ومقاومة الظالمين، قول الله تعالى: (وَلاَ تَرْكَنُواْ إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُواْ فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُم مِّن دُونِ اللهِ مِنْ أَوْلِيَاء ثُمَّ لاَ تُنصَرُونَ)[18].

والعمل بالعدل والسعي من أجل إقامته بين الناس.

وقضية الحضور الفاعل للمؤمنين في كل ساحات العمل والجهاد من أجل الله سبحانه وتعالى، والعمل بالعدل والسعي لإقامته، قضيتان لا تنفصلان، فليس هناك حضور للمؤمنين في الساحات لا يرتبط بالعدل والسعي لإقامته بين الناس، وكل حضور لا يرتبط بالسعي لإقامة العدل، فهو حضور ليس لله عز وجل، ولا يعبّر عن الرؤية الإسلامية القرآنية.

أيها الأحبة الأعزاء، أكتفي بهذا المقدار، وأستغفر الله الغفور الرحيم لي ولكم ، وأعتذر لكم عن كل خطأ وتقصير، وأستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته.

المراجع والمصادر

  • [1]. كنز العمال: ج1 ح373.
  • [2]. الكافي: ج2 ص25.
  • [3]. صحيح الترمذي: ج2 ص308.
  • [4]. سورة الكهف، الآية: 65.
  • [5]. سورة النساء، الآية: 165.
  • [6]. الغدير: ج1 ص11.
  • [7]. سورة النساء، الآية: 59.
  • [8]. كتاب علي بن أبي طالب إمام العارفين، أحمد بن محمد بن الصديق الحسني: ص66 ـ 68.
  • [9]. سورة الأحزاب، الآية: 21.
  • [10]. سورة الحديد، الآية: 25.
  • [11]. عقد الدرر: ص76 ح17.
  • [12]. سورة الفاتحة، الآية: 6 ـ 7.
  • [13]. البحار: ج23 ص76.
  • [14]. كنز العمال: ج1 ص103 ح463.
  • [15]. المرجعية والقيادة، الحائري: ص148 ـ 149.
  • [16]. البحار: ج68 ص167.
  • [17]. سورة النساء، الآية: 135.
  • [18]. سورة هود، الآية: 113.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى