ثقافة

جوانب من حياة الإمام العسكري

البطاقة الشخصية للإمام

الاسم: الحسن بن علي الهادي بن محمد الجواد بن علي الرضا بن موسى الكاظم بن جعفر الصادق بن محمد الباقر بن علي السجاد بن الحسين الشهيد بن علي بن أبي طالب.

كنيته: أبو محمد، ولقبه: العسكري نسبةً إلى مكان سكناه سامراء حيث كانت تسمى العسكر، وكان قد انتقل إليها مع أبيه الإمام علي الهادي (ع) باستدعاء من الخليفة العباسي المتوكل سنة (234هـ)، وعمره الشريف سنتان وبضعة شهور.

مكان وتاريخ الولادة: ولد الإمام الحسن العسكري (ع) بالمدينة المنورة بتاريخ: 10 وقيل (14/ربيع الثاني/232هـ).

مكان وتاريخ استشهاده: قضى الإمام الحسن العسكري (ع) شهيدا بعد مرض رافقه لمدة ثمانية أيام نتيجة عمل عدواني قام به الخليفة العباسي المعتمد، حيث شعر بخطره الرسالي على سلطته غير الشرعية، فكلف من يضع له السم في طعامه، وذلك في سامراء بتاريخ: (8/ربيع الأول/260هـ).

وكان عمره الشريف (28 سنة)، ودفن إلى جانب أبيه الإمام علي الهادي (ع) في سامراء، حيث مشهدهما الشريف قبلة للزوار وملاذ للمحبين. وقد تعرض هذا المشهد الشريف إلى اعتداء آثم على يد التكفيريين بتاريخ: (23/محرم/1427هـ).

إمامته: عاش الإمام الحسن العسكري مع أبيه علي الهادي (ع) عشرين سنة، وتولى الإمامة بعد وفاته سنة (245هـ) وعمره الشريف (22 سنة)، واستمرت إمامته لمدة (6 سنوات) فقط، تعرض خلالها للرقابة والملاحقة، وسُجن مرات عديدة في ظل إرهاب الدولة الذي مارسه الخلفاء الثلاثة الذين عاصرهم في عهد إمامته، وهم: المعتز، والمهتدي، والمعتمد.

الدرس المهم المستفاد من الوقوف على عمره الشريف، وهو: العلم بأن قيمة عمر الإنسان ليس في عدد السنوات التي يقضيها في هذه الحياة، وإنما بنوعية العمل الذي يقوم به. فالزهراء: وهي سيدة نساء العالمين لم يتجاوز عمرها الشريف العشرين سنة، والإمامان: الجواد والعسكري (ع) لم يصلا إلى الثلاثين سنة من العمر.. وهكذا، بينما يزيد عمر الكثير من عامة الناس على المائة سنة. ففضل الزهراء وهذين الإمامين العظيمين (ع) ليس بعدد السنوات وكم العمل، وإنما بنوعية العمل الصالح الذي يقومون به. فليكن حرصنا على تجويد عملنا وتحسينه، مثل: تجويد صلاتنا وتحسينها، وتجويد صيامنا وتحسينه، وتجويد حجنا وعمرتنا وتحسينهما، وتجويد صدقاتنا وتحسينها، أكثر من حرصنا على إطالة العمر، وزيادة كمية هذه الأعمال العبادية، فالعبرة والفضل بنوعية العمل / الكيف وليس بالعدد.

أخلاقه: لن أتعرض لأخلاقه العامة فهي بالتأكيد ـ بحسب معرفة المحبين والمؤمنين بإمامته ـ أخلاق ربانية في غاية السمو والشموخ والرفعة في سماء العارفين بالله والعاشقين الوالهين بجماله، وإنما أرغب في الإشارة إلى أخلاقه في بعدها السياسي. فقد نجح الإمام الحسن العسكري (ع)، من خلال أخلاقه العالية وسياسته الحكيمة وحسن تصرفه وما يتمتع به من الهيبة والوقار، التي هي انعكاس ملكوتي لروحه الإيمانية العالية ووثيق صلته بالله عز وجل، من فرض احترامه على أشد الناس عداوة وحقدا على أهل البيت (ع)، والتأثير على بعض رجال السلطة وكسبهم إلى صفه.

مثال (1) الوزير عبد الله بن يحيى بن خاقان: كان معروفا بشدة العداوة والبغض لأهل البيت (ع) ويحاول الوقيعة بهم، ولكن أخلاق الإمام الحسن العسكري (ع) وحسن سياسته وتصرفه الحكيم، اضطرته لاحترامه، والقول فيه: «ما رأيت ولا عرفت بسر من رأى من العلوية مثل الحسن بن علي بن محمد بن الرضا، ولا سمعت بمثله في هديه وسكونه وعفافه ونبله وكرمه عند أهل بيته والسلطان وجميع بني هاشم، وتقديمهم إياه على ذوي السن منهم والخطر، وكذلك القواد والوزراء والكتاب وعوام الناس، وما سألت عنه أحدا من بني هاشم والقواد والكتاب والقضاة والفقهاء وسائر الناس إلا وجدته عندهم في غاية الإجلال والإعظام والمحل الرفيع والقول الجميل والتقديم له على أهل بيته ومشائخه وغيرهم، ولم أرَ له وليا ولا عدوا إلا ويحسن القول فيه والثناء عليه. وقال: لو زالت الخلافة عن بني العباس ما استحقها أحد من بني هاشم غيره، لفضله وعفافه وهديه وصيانة نفسه وزهده وعبادته وجميل أخلاقه وصلاحه».

مثال (2): حبسه الخليفة المعتمد لدى السجان صالح بن وصيف، وطلب رجال السلطة منه التضييق عليه، فوكل به رجلين شرسين من أشر ما يكون عليه الناس، فصارا من الصلاة والصيام والعبادة على جانب عظيم، فأحضرهما صالح بن وصيف أمام رجال السلطة وسألهما: ما شأنكما في أمر هذا الرجل؟ قالا: ما نقول في رجل يصوم نهاره ويقوم ليله ولا يتكلم ولا يتشاغل بغير العبادة، فإذا نظر إلينا ارتعدت فرائصنا ودخلنا ما لا نملكه من أنفسنا.

مثال (3): الوزير النصراني أبو العلاء صاعد بن مخلد الذي أسلم على يدي الإمام الحسن العسكري (ع)، وأصبح من خيرة الموالين له. والسجان علي بن اوتامش الذي كان شديد العداوة والبغض لأهل البيت (ع) والغلظة عليهم، ثم انتهى به الأمر إلى أن يضع خديه للإمام الحسن العسكري (ع)، وكان لا يرفع بصره إليه إجلالا وإعظاما، وأصبح من أحسن الناس بصيرة به وأجودهم قولا فيه.

والخلاصة: هكذا ينبغي أن تكون الرموز والقيادات الإسلامية في هديها وأخلاقها وحسن تصرفها، نوراً ورحمة للعالمين.

أوضاع الدولة العباسية على عهده

تميزت أوضاع الدولة العباسية على عهد بالميزات التالية:

الميزة (1) الضعف وسوء الإدارة: وذلك بسبب تدخلات الأتراك في شؤون الدولة، وتسلمهم المناصب الحساسة والمهمة فيها، مثل: الولاة والجباة وقادة الجيش، حتى وصل الحال إلى إهانتهم الخلفاء، وسلب إرادتهم، وعزلهم، وقتلهم، والتلاعب بالثروة وبيت المال.

الميزة (2) الظلم والاستبداد والتدهور الأمني: لقد شاع الظلم والجور والقهر والاستبداد في الدولة العباسية على عهد الإمام الحسن العسكري (ع)، مما أدى إلى ظهور الفوضى والشغب والاضطراب وقيام الثورات المسلحة متنوعة الأطياف ضد السلطة العباسية، مثل: ثورة الزنج (255 ـ 270هـ)، وثورة الخوارج (248هـ)، والعديد من ثورات الطالبيين. وكان نصيب الشيعة والطالبيين هو الأوفر من الظلم والاضطهاد والكبت، حيث كانوا عرضة للمطاردة والحصار والسجن والقتل لمجرد الاعتقاد بإمامة أهل البيت (ع)، وقد قتل في ربيع الأول سنة (254هـ) الكثير من الشيعة في مدينة قم المقدسة التي كانت تمثل آنذاك قاعدة لشيعة أهل البيت (ع)، ومعقل العلماء والمحدثين منهم، مما دفع بعض الطالبيين للتفرق في نواحي بعيدة عن مكان سكناهم، والاختفاء فيها وإخفاء أسمائهم وهويتهم، وشجع آخرين – كسلوك طبيعي – على الثورة لمواجهة الظلم والاضطهاد والطغيان والحصار والقهر والاستبداد الذي كانت تمارسه السلطة ضدهم بغير حق. وقد أحصت كتب التاريخ أسماء حوالي (18 ثائرا من الطالبيين) في أقل من ثلاثين سنة (232 ـ 260هـ)، مما يعكس مدى الحيف والظلم الذي لحق بهم آنذاك.

الميزة (3) الترف والاستئثار بالثروة: لقد غلب على الخلفاء العباسيين والقائمين على السلطة في عهد الإمام الحسن العسكري (ع) البذخ والترف والإسراف، والاستئثار بالثروة وبيت المال، وتسخير مقدرات الدولة لخدمة مصالحهم الخاصة، وحرمان الأغلبية الساحقة من أبناء الشعب من حقهم في الثروة، وظهر الغلاء الفاحش جدا في الأسعار، فعاشت الأغلبية الساحقة من الناس الجوع والكفاف، وتدهورت الأوضاع الأمنية والاقتصادية والاجتماعية، وظهر الفساد في الأرض بما كسبت أيدي الحكام الظالمين وأعوانهم الفسقة المجرمين.

موقف الإمام من الثورات المخالفة لخطه: لقد كان موقف الإمام من الثورات المخالفة لخطه، مثل: ثورة الزنج، وثورة الخوارج التي اندلعت كنتيجة لظلم السلطة وطغيانها واستبدادها وانغماسها في البذخ والترف ونهب الثروة، ولما تعيشه الطبقات المستضعفة التي تمثل غالبية الشعب من الظلم والضيق والكبت والحرمان والكفاف، في غاية العدل والحكمة والدقة والتوازن، حيث كان ينطلق من الالتزام الصارم برؤية فكرية وسياسية وأخلاقية واضحة وعالية جدا، وليس من شعور غريزي حيواني والسعي لحماية نفسه على حساب الآخرين. فرفض ما ارتكبته تلك الثورات من جرائم القتل للأبرياء، والسبي للنساء، والسلب والحرق، وغيره من الجرائم. وفي الوقت نفسه تفهّم دوافع تلك الثورات وظروفها، فلم يساند السلطة ضدها، ولم يوفر الغطاء الشرعي للسلطة لضربها.

وقوف الإمام إلى صف قواعده: أما بالنسبة إلى قواعده الشعبية وجماهيره، فكان يتتبع أخبارهم بدقة، ويتحسس أحوالهم، ويتواصل معهم، ويدعو الله عز وجل لهم، ويواسيهم في الأحزان والأفراح، ويمدهم بالمال اللازم لحل مشاكلهم، ويزوّدهم بالإرشادات والتوجيهات اللازمة من أجل تربيتهم الفكرية والروحية والأخلاقية ونشر الوعي الديني والسياسي والتنظيمي بينهم، ويمدهم بمقومات السمو والصمود والثبات، وكان يشجع العلماء منهم على الكتابة والتأليف، ويقوم بمراجعة وتصحيح الكثير مما يكتبون، مما أدى إلى تماسكهم، والتفافهم الصادق بوعي وإرادة فولاذية حول منهج أهل البيت (ع)، واستعدادهم لدفع الأثمان الضخمة لولائهم الطاهر لأهل البيت (ع).

وهذا نموذج لدعائه لبعض شيعته يحمل الكثير من الدروس والعبر: الدعاء الذي رواه عبد الله بن جعفر الحميري، قال: كنت عند مولاي أبي محمد الحسن بن علي العسكري (ع)، إذ وردت إليه رقعة من الحبس من بعض مواليه، يذكر فيها ثقل الحديد وسوء الحال وتحامل السلطان، فكتب إليه: «يا أبا عبد الله، إن الله عز وجل يمتحن عباده ليختبر صبرهم، فيثيبهم علي ذلك ثواب الصالحين، فعليك بالصبر، واكتب إلى الله عز وجل رقعة وأنفذها إلى مشهد الحسين بن علي (ع)، وارفعها عنده إلى الله عز وجل، وادفعها حيث لا يراك أحد، واكتب في الرقعة… »، وأورد دعاء طويلا كان منه قوله: «اللهم إني قصدت بابك، ونزلت بفنائك، واعتصمت بحبلك، واستغثت بك، واستجرت بك، يا غياث المستغيثين أغثني، يا جار المستجيرين أجرني، يا إله العاملين خذ بيدي، إنه قد علا الجبارة في أرضك، وظهروا في بلادك، واتخذوا أهل دينك خولا، واستأثروا بفيء المسلمين، ومنعوا ذوي الحقوق حقوقهم التي جعلتها لهم، وصرفوها في الملاهي والمعازف، واستصغروا آلاءك، وكذبوا أولياءك، وتسلطوا بجبروتهم ليعزوا من أذللت، ويذلوا من أعززت، واحتجبوا عمن يسألهم حاجة، أومن ينتجع منهم فائدة…».

وفي هذا الدعاء يشير الإمام العسكري (ع) إلى مظاهر الفوضى والفساد والظلم التي طبعت الحياة السياسية آنذاك، كأسلوب من أساليب التوعية السياسية الممزوجة بالتربية الروحية وترسيخ الولاء العميق لأهل البيت (ع) في تلك الظروف القاسية.

موقف السلطة من الإمام: في ظل تدهور الأوضاع العامة في الدولة، واستياء الناس الشديد من السلطة، وظهور الثورات ضدها، وفي المقابل: بزوغ نجم الإمام الحسن العسكري (ع)، واشتهار صلاحه وهديه بين الناس، وظهور التأثر به لدى العامة والنخبة والخاصة حتى المقربين جدا من السلطة، اشتد خوف السلطة إلى درجة الرعب من الانقلاب على السلطة لصالح خط الإمامة والولاية، فقامت بالتضييق على الإمام وحصاره وفرض الرقابة الدائمة والإقامة الجبرية عليه. وقد فرض الخليفة عليه: الحضور الإلزامي إلى قصر الخلافة كل يوم إثنين وخميس ـ كما فعلت السلطة من قبل مع أبيه ـ بهدف صهره في بوتقة الجهاز الحاكم. إلا أن الإمام (ع) لم يستسلم لضغوط السلطة، وواصل رغم كل ذلك التضييق والحصار، دوره الرسالي في الدعوة إلى الله عز وجل وهداية الناس إلى الصراط المستقيم، وقد نجح بصموده وحسن تخطيطه وإدارته في اختراق الحصار المفروض عليه، من خلال مجموعة إجراءات كانت في غاية الحيطة والدقة والكتمان. فقد شكل لنفسه شبكة من الوكلاء الثقاة الذين يمثلون خط الإمامة الأصيل، ونشرهم على امتداد الساحة الإسلامية، فكان له وكيل في كل بقعة له فيها شيعة وأتباع، وكانوا يشكلون حلقة الاتصال بينه وبين قواعده الشعبية وجماهيره، وكان يعتمد أسلوب المكاتبة والتوقيع المحدد المعروف، ومن خلاله كان يجيب على الأسئلة، ويمارس الإرشاد والتوجيه على كافة الأصعدة، بهدف المحافظة على الإسلام الأصيل والمفاهيم الصحيحة والقيم الإسلامية الرفيعة، وخلق جيل مؤمن يتحلى بالوعي والسمو والصمود والثبات، وكل ذلك في غاية الحيطة والحذر والكتمان.

مثال: كان محمد بن علي السمري يحمل الرسائل والأسئلة والأموال في جرة السمن ويدخل بها على الإمام بصفته بائعا، ليرجع منه بالإجابة على الأسئلة، ويحمل منه الإرشادات والتوجيهات إلى شيعته وأتباعه.

وهذه قائمة بأسماء بعض الوكلاء:

1 ـ إبراهيم بن عبدة النيسابوري.

2 ـ أيوب بن نوح بن دراج النخعي.

3 ـ جعفر بن سهيل الصيقل.

4 ـ حفص بن عمرو العمري المعروف بالجمّال.

5 ـ علي بن جعفر البرمكي.

6 ـ القاسم بن العلاء الهمداني.

7 ـ عثمان بن سعيد العمري.

8 ـ محمد بن عثمان بن سعيد العمري.

9 ـ محمد بن أحمد بن جعفر القمي.

10 ـ محمد بن صالح بن محمد الهمداني.. وغيرهم الكثير.

والخلاصة: لقد كان الإمام الحسن العسكري (ع) مقاوما وممانعا من الطراز الأول، ومن سيرته العطرة نتعلم دروس الإرادة والثبات والصمود وحسن الإدارة والتخطيط. إن التخطيط وحسن الإدارة من أهم السمات البارزة في حياة الإمام الحسن العسكري (ع)، وسببا لنجاحه في اختراق الحصار المفروض عليه ليؤدي دوره في التكليف الإلهي الواجب عليه وعلى شيعته وأتباعه، ولم يبحث لنفسه ولشيعته وأتباعه عن الذرائع والمبررات للقبول بالأمر الواقع، والتعايش مع الظلم والظالمين، والتخلي عن التكليف بالمقاومة والعمل على الهداية للناس والإصلاح في أمة الإسلام.

ينبغي أن نعلم: بأن للتخطيط وحسن الإدارة أهمية كبيرة في النجاح وتحقيق الأهداف، فمع توفر التخطيط وحسن الإدارة ينجح الأفراد والجماعات في تحقيق أهدافهم مهما كانت الظروف صعبة وقاسية، ومع غياب التخطيط وحسن الإدارة يفشل الأفراد والجماعات في تحقيق أهدافهم مهما كانت الظروف سهلة ومؤاتية، وهذا من أهم الدروس التي ينبغي أن نتعلمها من سيرة الإمام الحسن العسكري (ع) حيث كان التخطيط وحسن الإدارة يتجليان في عمله في أبهى صورهما وأعظمها.

التمهيد لغيبة ولده المهدي: تميز العباسيون عن الأمويين بأن لهم بصيرة بأمور مهمة من أمور الأئمة من أهل البيت (ع) بسبب قربهم منهم ومعرفتهم بهم. ولم يستخدم العباسيون هذه البصيرة لأداء حق أهل البيت (ع) إليهم، وإنما استخدموها لحصارهم والتضييق عليهم بدافع غريزة الحكم والسلطة، وهي الحقيقة التي أظهرها هارون الرشيد إلى ولده المأمون بكل واقعية ووضوح، بقوله: الملك عقيم، ولو نازعتني فيه لأخذت الذي فيه عيناك. ومن الأمور التي كان العباسيون على بصيرة بها من أمور أهل البيت (ع) قضية الإمام المهدي المنتظر (عج)، وكانوا يعلمون أو يتوقعون بدرجة كبيرة، أنه من ولد الإمام الحسن العسكري (ع)، وأنه يملأ الأرض قسطا وعدلا كما ملأت ظلما وجورا، فهو يمثل تهديدا جديا إلى سلطتهم. ولهذا قاموا بمداهمات عديدة لمنزل الإمام الحسن العسكري (ع) بحثا عنه من أجل القضاء عليه!! يريدون بجهلهم حيث أعمت شهوة الحكم والسلطة بصيرتهم، محاربة الله جبار السماوات والأرض وكسر إرادته، وأنّى لهم، فكانوا كما قال الله تعالى: (يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُوا نُورَ اللهِ بِأَفْوَاهِهِمْ وَاللهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَلَوْ كَرِهَ الْكَافِرُونَ)[1].

والدرس المستفاد من ذلك: ضرورة فرض الرقابة والمحاسبة المنظمة على السلطة والقيادة؛ لأن تعطيل هذا الدور يؤدي ـ كنتيجة طبيعية ـ إلى ظهور الفساد حتى لو كان القائد أو الحاكم مؤمنا. وقد أثبتت التجارب: أن غياب الرقابة والمحاسبة للحاكم أو القائد مع وجود شهوة الحكم والرئاسة التي هي آخر ما يخرج من قلوب الصديقين، مما يغريه بالخطأ، لاسيما مع وجود المتملقين الذي يزيّنون له الخطأ، والجهّال الذين يبررونه له.

فمن حق القائد والحاكم على الأتباع والرعية: فرض المراقبة والمحاسبة المنظمة عليه، من أجل حمايته من الخطأ والفساد لكي لا يكون من الهالكين.

وأعتقد: أن القيادة والرئاسة أخطر وأصعب ما تكون بالنسبة إلى المخلصين الشرفاء من الناس مع غياب الرقابة والمحاسبة المنظمة عليهم، مما يدفعهم إلى الابتعاد عنها.

وقد نجح الإمام الحسن العسكري (ع) في التعاطي الدقيق والحكيم مع قضية ولده الحجة (عج)، بعد أن تكفل الله عز وجل بإخفاء حمله إلى اللحظة الأخيرة لولادته، ثم تولى الإمام الحسن العسكري (ع) مسؤولية المحافظة عليه وإثبات وجوده لشيعته، فأخفاه عن عيون الناس، وأظهره لخاصة شيعته وأوليائه، وعرّفهم آداب التعامل معه، مثل: عدم التصريح باسمه والدعاء له، وأن الاتصال به في غيبته الصغرى سوف يكون من خلال وكلائه بواسطة المكاتبات والتوقيعات، وقد لجأ هو وأبوه الإمام علي الهادي (ع) لهذا الأسلوب، تعويدا للشيعة عليه وتمهيدا للغيبة، حيث ابتعدا عن المجالس العامة، وكان الاتصال مع جماهيرهما وقواعدهما الشعبية يتم غالبا من خلال القنوات الخاصة المتمثلة في الوكلاء الخاصين بواسطة المكاتبات والتوقيعات، وكان السفيران: الأول عثمان بن سعيد، والثاني (ابنه) محمد بن عثمان بن سعيد، من وكلاء الإمامين: علي الهادي والحسن العسكري (ع)، وكانت مكاتباتهما وتوقيعاتهما ومكاتبات وتوقيعات الإمام الحجة (عج) تخرج بنفس الخط من أجل زيادة الاطمئنان إلى صحتها.

أيها الأحبة الأعزاء، أكتفي بهذا المقدار، وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم، وأعتذر إليكم عن كل خطأ أو تقصير، وأستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء. والسلام عليكم ورحمة الله تعالى وبركاته

المراجع والمصادر

  • [1]. سورة الصف، الآية: 8.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى