ثقافة

صلح الإمام الحسن (عليه السلام)

أيها الأحبة الأعزاء، كلما ذكر الإمام الحسن (ع) ذكر معه الصلح مع معاوية بن أبي سفيان، وكلما ذكر الإمام الحسين (ع) ذكرت معه الثورة على يزيد بن معاوية، وقد ربط بعض الكتاب والمفكرين من خارج منهج الإمامة بين مزاج الإمامين وأخلاقهما وبين الموقفين، وفسروا الموقفين على هذا الأساس، فصلح الإمام الحسن (ع) في رأيهم يعكس مزاجه المسالم وأخلاقه، وثورة الإمام الحسين (ع) في رأيهم تعكس مزاجه الثوري وأخلاقه، وقد تمادى البعض في هذا الطرح، حتى قال بعضهم: إن الإمام الحسن (ع) كان عثماني الهوى، وإنه كان على خلاف مع أبيه، وكارها لحروبه، وأنه حضرها ولم يشارك فيها، وهذا ما ذهب إليه عميد الأدب العربي السيد طه حسين. وقد وجد لهذا الطرح بعض الصدى في كتابات وأطروحات بعض الكتاب والمفكرين المرتبطين بمنهج الإمامة النيّر، بسبب الغفلة عن منهج الإمامة النوراني في التفكير.

وأعتقد أن هذا الرأي بعيد كل البعد عن الحقيقة والواقع ومجانب لهما، ولا ينسجم مع حقيقة الإمامة ونورانيتها وواقعيتها، وحتى لو تخلينا فرضاً عن القول بإمامة الحسن والحسين، فإن هذا الرأي لا ينسجم مع التحليل العلمي المنهجي والموضوعي لمقومات وواقع شخصية الإمامين الحسن والحسين، ولا يدل على تشخيص علمي موضوعي دقيق للواقع أو الساحة اللذين جرى فيهما الحدثان: الصلح والثورة.

وأنا أعتقد بأن القيادة الإسلامية بما هي إسلامية، وبقدر ما تكون واعية بحقيقة الإسلام ومقومات العمل الإسلامي، وبقدر ما تتوفر عليه من الخبرة في التفكير والعمل، وبقدر ما تتوفر عليه من العدالة والأمانة والتقوى والإخلاص لله تعالى في التفكير والعمل والجهاد والقيادة، وبقدر ما تمتلك من أدوات التفكير العلمي المنهجي، ومنهجية العمل والحركة، بقدر ما تبتعد عن المزاجية والذاتية، وتقترب من العلمية الموضوعية ومن الواقعية في التفكير والحركة، وأن من يخلّ بالموضوعية والواقعية في الأطروحات والمواقف، ويتأثر بالذاتية والمزاج، فإن عليه أن يتجنب القيادة في المواقع المتقدمة على الصعيد الإسلامي والقومي والوطني؛ لأن القائد مؤتمن من قبل الله سبحانه وتعالى، ومن قبل الناس على العقيدة والمصالح المشروعة للناس، وأن الذاتية والمزاجية في الأطروحات والمواقف، تؤدي إلى ضياع الحق والحقوق وضياع المصالح العليا العامة للإسلام والمسلمين والوطن والمواطنين، وهو خلاف العدالة والأمانة وشرف القيادة لكل قائدٍ، والقائد الإسلامي بصورة خاصة، الذي ينبغي أن يكون طاهراً من نزق القيادة وشهوتها، وسوف يتضح الموضوع بصورة أفضل بعد قليل.

قول الرسول الأعظم (ص): «الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا».

هذا الحديث الشريف: يُجمع محدّثو مدرسة الخلفاء ومحدّثو مدرسة أهل البيت (ع) على صحته، ولهذا الحديث الشريف فيما يخص موضوع بحثنا دلالتان رئيسيتان، هما:

الدلالة الأولى: شرعية كل أطروحات ومواقف الإمامين الحسن والحسين، ولا يمكن لمسلم سمع هذا القول وفهمه، أن يطعن في شرعية أية أطروحة أو أي موقف لأحد الإمامين الحسن والحسين، بل العدل والإنصاف وطلب الحقيقة يلزم كل مسلم غيور على دينه وأمته، يلزمه بالرجوع إلى أطروحاتهما ومواقفهما وتقديمها على كل أطروحة وموقف لأي أحد، وجعل أطروحاتهما ومواقفهما معيارا لمعرفة الحق والصدق والصواب في أطروحات ومواقف الآخرين مهما كان الآخرون، فالإمامان الحسن والحسين مقدَّمان على الجميع بمن فيهم جميع الصحابة، وهذا ما يدل عليه بصورة واضحة صريحة حديث الثقلين الذي يقول بتواتره محدّثو مدرسة الخلفاء ومدرسة أهل البيت.

يقول المحدث والفقيه ابن حجر في «الصواعق»[1]: “سمّى رسول الله (ص) القرآن وعترته ـ وهي بالمثناة الفوقية: الأهل والنسل والرهط الأدنون ـ ثقلين؛ لأن الثقل كل نفيس خطير مصون، وهذان كذلك، إذ كل منهما معدن للعلوم اللدنية، والأسرار والحكم العلية والأحكام الشرعية، ولذا حث (ص) على الاقتداء والتمسك بهم، والتعلم منهم، وقال: الحمد لله الذي جعل فينا الحكمة أهل البيت. وقيل [وما زال القول لابن حجر]: سُمّيا ثقلين لثقل وجوب رعاية حقوقهما، ثم الذين وقع الحث عليهم منهم إنما هم العارفون بكتاب الله وسنة رسوله (ص)، إذ هم الذين لا يفارقون الكتاب إلى الحوض، ويؤيده الخبر السابق (ولا تعلّموهم فإنهم أعلم منكم)، وتميزوا بذلك عن بقية العلماء؛ لأن الله أذهب عنهم الرجس وطهّرهم تطهيراً، وشرّفهم بالكرامات الباهرة والمزايا المتكاثرة، وقد مرّ بعضها، وسيأتي الخبر الذي في قريش (وتعلّموا منهم فإنهم أعلم منكم)، فإذا ثبت هذا لعموم قريش، فأهل البيت أولى منهم بذلك؛ لأنهم امتازوا عنهم بخصوصيات لا يشاركهم فيها بقية قريش، وفي أحاديث الحثّ على التمسك بأهل البيت إشارة إلى عدم انقطاع متأهل منهم للتمسك به إلى يوم القيامة، كما أن الكتاب العزيز كذلك”.[2]

ومن خلال هذا التوضيح الواضح لكل ذي لب ألقى السمع وهو شهيد، نعرف مدى الشطط ومجانبة الحقيقة والصواب والابتعاد عنهما بُعد المشرق عن المغرب في قول من قال: «إن الحسين خرج عن حده فقتل بسيف جده»، وسوف يقفون بين يدي الله الجبار ويُسألون عن شهادتهم يوم القيامة.

الدلالة الثانية: إن كل أطروحات ومواقف الإمامين الحسن والحسين محسوبة بدقة وفي غاية الواقعية والموضوعية، والبعد كل البعد عن الذاتية والمزاجية والمصالح الخاصة الحزبية أو الفئوية المعزولة عن المصالح العليا العامة للإسلام والمسلمين، فهي تعبّر عن روح الإسلام وحقيقته، وتصب في المصالح العليا للإسلام والمسلمين على المدى القريب والبعيد، بحيث لو كان الإمام الحسن (ع) مكان الإمام الحسين (ع) لثار على يزيد بن معاوية، ولو كان الإمام الحسين (ع) مكان الإمام الحسن (ع) لصالح معاوية بن أبي سفيان، فكلا الموقفين يعبران عن حقيقة الإسلام وروحه وجوهره، وعن تشخيص علمي موضوعي دقيق للواقع، وما يجب أن يقدم من الأطروحات والمواقف، وأنه لا يختلف مزاج الإمامين الحسن والحسين وأخلاقهما في ذلك، وهذا ما يفرضه منهج الإمامة في التفكير، الذي يفرض حجّية أقوال الأئمة وأقوالهم وتقريراتهم، فكما يفرض هذا المنهج وحدة الأقوال، فإنه يفرض وحدة الأفعال من جهة دلالتها على الحكم الشرعي وتعبيرها عن المصالح العليا للإسلام والمسلمين، ولا يمكن لمزاج أي إمام أو لأخلاقه أن يغيّر شيئاً في هذه الحقيقة المتينة النورانية التي يراها كل صاحب بصيرة ودين. أي أن مساحة الاختلاف في المزاج والأخلاق التي يمكن قبولها بين الأئمة لا تأتي على حساب الحقيقة أو تغيّر فيها، ولا تأتي على حساب المصالح العليا للإسلام والمسلمين أو تفرّط فيها.

وحتى على فرض التنازل العلمي الجدلي عن القول بإمامة الإمامين الحسن والحسين، فإن شخصية الإمامين الحسن والحسين، اللذين يحملان حكمة الرسول الأعظم (ص) وسؤدده وهيبته وشجاعته، هذه الحكمة والسؤدد والمتانة والقوة والتماسك والهيبة والشجاعة في شخصيتي الإمامين الحسن والحسين تمنع من القول بذاتية الأطروحات والمواقف للإمامين الحسن والحسين ومزاجيتها، وقد سبق القول بأن القيادة الإسلامية بما هي إسلامية، وبمقدار ما تتحلى به من الوعي والخبرة والتقوى والإخلاص في العمل والجهاد والقيادة، تبتعد عن الذاتية والمزاجية في الأطروحات والمواقف، وتقترب من الموضوعية العلمية والواقعية، فكيف يكون الحال لدى الإمامين الحسن والحسين؟

أسباب صلح الإمام الحسن (ع)

أيها الأحبة الأعزاء، وبخصوص صلح الإمام الحسن (ع)، فإن الإمام الحسن (ع) قد أوضح دوافع وأسباب الصلح لأصحابه وشيعته، بما لا يدع مجالا للشك في حكمته وشجاعته وقوة شخصيته وكفاءته القيادية وأهليته للقيادة، ومن جملة الأسباب التي ذكرها لأصحابه وشيعته الأسباب التالية:

السبب الأول: إن جيش الإمام الحسن (ع) يعاني من ضعف وخلل في تركيبته، وإنه لا يصلح لخوض المعركة، وإنه لو خاض المعركة بهذا الجيش فإنه سيخسرها، وسوف تكون نتائجها السلبية وخيمة جداً على صفوف معسكر الإيمان، وهو معسكر الإمام الحسن (ع) على المدى القريب والبعيد، وإن من نتائج المواجهة القتل الفظيع في معسكره (ع)، وإن القتل سوف يشمل خيرة أصحابه (ع).

ومن جهة ثانية: فإن المواجهة العسكرية مع معاوية، سوف تنتج عنها مكاسب ضخمة شاملة لمعسكر معاوية على المدى القريب والبعيد، وبناءً على ذلك فالمواجهة غير مطلوبة، والصلح هو الأفضل لحفظ المصالح العليا للإسلام والمسلمين.

يقول الإمام الحسن (ع) في جوابه لعدي بن حاتم: «يا عدي، إني رأيت هوى معظم الناس في الصلح، وكرهوا الحرب، فلم أحب أن أحملهم على ما يكرهون، فرأيت دفع هذه الحرب إلى يوم ما، فإن الله كل يوم هو في شأن».

وفي جواب آخر له (ع) قال: «إني خشيت أن يجتث المسلمون عن وجه الأرض، فأردت أن يكون للدين ناعٍ».

السبب الثاني: إنه لا يعمل من أجل الدنيا والمصالح أو المكاسب الدنيوية، وإنما يعمل من أجل الله سبحانه وتعالى وفي سبيله، وإن الحكم الشرعي لا يسمح له بأن يزج الجيش الإسلامي في معركة معروفة نتائجها الفظيعة الخاسرة على المدى القريب والبعيد منذ البداية وقبل أن تبدأ، فهو مسئول مسئولية شرعية عن الدماء والمحافظة على المصالح العليا للإسلام والمسلمين وصيانتها، ولا يجوز له أن يفرّط فيها من أجل مصالح خاصة سياسية أو غير سياسية، ومن أجل المزاج والعصبية، وغير ذلك من الأسباب والدوافع والدواعي الجاهلية.

يقول (ع) لبعض شيعته: «أنتم شيعتنا وأهل مودتنا، فلو كنت بالحرام في أمر الدنيا أعمل، ولسلطانه أركض وأنصب، ما كان معاوية بأبأس مني بأساً، ولا أشد مني شكيمة، ولا أمضى عزيمة، ولكني أرى غير ما رأيتم، وما أردت إلا حقن الدماء، فارضوا بقضاء الله، وسلموا الأمر له، والزموا بيوتكم وأمسكوا».

السبب الثالث: إن الصلح سوف تنتج عنه مكاسب شاملة لمعسكر الإيمان، وخسائر مماثلة لمعسكر معاوية، وإن معاوية لم يكن يبصر بذلك في ساعة عقد الصلح.

يقول الإمام الحسن (ع) في جواب بعض شيعته: «ويحكم ما تدرون ما عملت، والله الذي عملت خير لشيعتي مما طلعت عليه الشمس أو غربت، ألا تعلمون أني إمامكم ومفترض الطاعة عليكم، وأحد سيدي شباب أهل الجنة بنص من رسول الله (ص)؟ قالوا: بلى. قال: أما علمتم أن الخضر لما خرق السفينة وأقام الجدار وقتل الغلام، كان ذلك سخطاً لموسى بن عمران (ع)، إذ خفي عليه وجه الحكمة في ذلك، وكان ذلك عند الله حكمة وصواباً؟ أما علمتم أنه ما منا أحد إلا ويقع في عنقه بيعة لطاغية زمانه إلا القائم الذي يصلي خلفه روح الله عيسى بن مريم (ع)، فإن الله عز وجل يخفي ولادته ويغيّب شخصه لئلا يكون لأحد في عنقه بيعة، إذا خرج ذاك التاسع من ولد أخي الحسين بن سيدة النساء، يطيل الله عمره في غيبته، ثم يظهره بقدرته في صورة شاب دون الأربعين سنة، ذلك ليعلم أن الله على كل شيء قدير».

دروس مستفادة من حياة الإمام الحسن (ع)

أيها الأحبة الأعزاء، كان من بنود الصلح أن يأمن أصحاب أمير المؤمنين (ع) على أنفسهم وأموالهم وأولادهم وأعراضهم، وأن يحفظ لهم حقهم في السفر في بقاع الأرض، ويحفظ لهم حقهم في التعبير عن آرائهم ومعتقداتهم من دون أن يصيبهم أذى من معاوية وأصحابه، وكان أن وظّف أصحاب علي بن أبي طالب (ع) هذا الحق وانتشروا في بقاع الأرض ينشرون فضائل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (ع) في كل مكان، ودخلوا إلى الشام حصن بني أمية، وكانت منطقة مغلقة في وجه أصحاب علي بن أبي طالب (ع) قبل ذلك، وكانت خاضعة لطوق إعلامي شديد، إلى درجة أنهم لم يكونوا يعرفون بأن لرسول الله (ص) أهلاً غير بني أمية، فلما عرف بعضهم الحقيقة تشيّعوا لأهل البيت، وبهذا بدأ الميزان يختل لغير صالح معاوية بن أبي سفيان، فنصحه مستشاروه والمقربون منه، بنقض بنود الصلح؛ لأنه إذا استمر في الالتزام ببنود الصلح، فإن الأمر سوف يخرج عن سيطرته، فقرر نقض بنود الصلح. وفي تقديري فإن ما يذكر فوق المنابر من أن معاوية بن أبي سفيان، قد نقض بنود الصلح بعد التوقيع عليه مباشرة وقبل أن يجف الحبر على حسب تعبيرهم، هو غير دقيق، وهو تصوير سريالي للحدث أقرب إلى الخيال منه إلى الواقع، والصحيح في تقديري: أن معاوية التزم في بادئ الأمر ببنود الصلح، وعمل بها فترة من الزمن، ثم نقضها بعد زمن من العمل بها، بعد أن اكتشف أن ميزان القوى يميل لغير صالحه، ثم واصل المشوار بالتخطيط لاغتيال الإمام الحسن (ع)، وتنصيب ابنه يزيد لولاية العهد.

أيها الأحبة الأعزاء بعد هذه الوقفة القصيرة الميسرة مع الصلح المبارك العظيم، ننتقل لنقتطف من بستان الإمام الحسن (ع) العلمي والسياسي بعض الدروس المفيدة، والعِبر العالية، والبصائر في الحياة، وهي كالتالي:

كما ذكرت في البحث قبل قليل، أن معظم جيش الإمام الحسن (ع)، لم يكونوا راغبين في القتال، بل كانوا يرغبون في الصلح، وكانت هناك ثلة من المؤمنين الصادقين على مستوى النخبة والقاعدة قد تألموا للصلح، حيث كان طموحهم المواجهة مع معاوية دفاعاً عن الحق والعدل ولرد الباطل والظلم، وقد عبّروا بكل صدق وشفافية عن رأيهم وشعورهم لإمامهم (ع)، وقد تضمنت شكوى بعضهم الكلمات القاسية التي تعبّر عن عميق شعورهم بالألم وخيبة الأمل، وقد وجدنا من الإمام الحسن (ع) الكثير من العناية بهم، والحرص على تبصيرهم وإقناعهم بالموقف في صور جماعية وبعضها فردية، ولم يهملهم أو يطالبهم بالتسليم دون حوار، وقد مدحهم وأثنى عليهم وعاملهم بحنان ومحبة ولطف، ولم يَقسُ عليهم بقول أو فعل، وقد كشف لبعضهم الأسباب الحقيقية للموقف وأبعاده، وكشف لبعضهم منهجه في التفكير والحركة، كما اتضح من بعض إجاباته (ع) التي نقلتُ بعضها قبل قليل، مراعياً في ذلك مستوى السائل وقربه من دائرة صناعة القرار، وقد ركز الإمام الحسن (ع) على توضيح موقع الإمامة ومكانتها في الدين والسياسة، وكيفية التعامل مع الإمام (ع) في المواطن التي لا تتضح فيها مواطن الحكمة، وهي الاستثناء وليست القاعدة، ووفّر لهم أرضية القبول والاقتناع بذلك من القرآن الكريم، وسيرة الرسول الأعظم (ص)، وسير الأنبياء العظام، ومن التجربة الشخصية التي لمسوا من خلالها كفاءته وصدقه وإخلاصه (ع)، وأوضح الدوافع والأسباب والمنهج الذي اتبعه في عقد الصلح مع معاوية لسائليه ومحاوريه، حسب مستوى السائل أو المحاور وقربه من مركز صناعة القرار، ولم يبخل على أحد من النخبة من أصحابه بما يستحقه من التوضيح لتفصيل الرؤيا والموقف، لهذا استطاع (ع) بصدقه وحكمته وانفتاحه، أن يقنع أصحابه برأيه وموقفه، وأن يمسك بزمام الأمر ويقود الساحة إلى الأمام، كما اتضح جانب من ذلك في البحث قبل قليل.

الدروس التي نستفيدها من الموضوع

الدرس الأول: ضرورة وضوح الرؤيا الاستراتيجية والمنهج والأهداف والأدوات وأساليب العمل والتكتيك لدى القيادة، وضرورة انفتاح القيادة على جماهيرها والتواصل معهم، وممارسة الشفافية والتبصير بالأطروحات والمواقف، وعدم البخل على النخبة من الأصحاب بما يستحقونه من التوضيح والتواصل والتنسيق، وهذا من شروط النجاح والإمساك بزمام الأمور، والمحافظة على تماسك الجماعة ووحدتها وقوتها ونجاحها في تحقيق أهدافها على المدى القريب والبعيد والمتوسط.

الدرس الثاني: إن الأطروحات والمواقف الإسلامية والوطنية العامة يجب ألا تخضع للأهواء والرغبات والمزاج الشخصي والتقديرات غير العلمية، وإنما يجب أن تخضع للدراسات والتقديرات العلمية، وأن يكون لأهل الاختصاص دور مفصلي فيها.

ومن جهة ثانية: يجب على صناع القرار عدم الجمود على شكل واحد وعلى أدوات بعينها، وألا ينعتوا أنفسهم بنعوت كالثورية والوسطية، ويتشرنقوا فيها، وإنما يجب عليهم أن يتّسموا بالمرونة والدوران مدار المصالح العليا للدين والوطن، استناداً إلى التشخيص العلمي الموضوعي الدقيق، وأن يتّسموا بالشجاعة الكافية لاتخاذ المواقف المطلوبة فعلاً لخدمة المصالح العليا للإسلام والمسلمين، والوطن والمواطنين، وتوظيف الأدوات الفاعلة والقادرة على الإنجاز، وعدم الإفراط بالمبالغة أو التفريط بالقصور، ومن يجد في نفسه الضعف وعدم الشجاعة الكافية لاتخاذ المواقف المطلوبة فعلا لتحقيق الأهداف الشرعية المقررة بموضوعية وواقعية لخدمة المصالح العليا للإسلام والمسلمين والوطن والمواطنين وصيانتها والمحافظة عليها، أو يجد في نفسه الاستهواء والانقياد لرغبات النفس ومشتهياتها في المدح والثناء أو الحصول على مكتسبات شخصية على حساب المصالح العليا للإسلام والمسلمين والوطن والمواطنين وعدم الإمساك بزمام النفس، فإن عليه أن يتجنب القيادة؛ لأنه مؤتمن من قبل الله جل جلاله ومن قبل الناس على مصالح الناس ودينهم، ومسئول عن ذلك يوم القيامة ومحاسب عليه، وأن أداءه الضعيف في القيادة الذي لا يصل إلى حد إنجاز ما هو مطلوب فعلاً بواقعية موضوعية، يترتب عليه ضياع الحق والحقوق، والتخلف في الأوضاع، وعدم الاستقرار في الساحة الإسلامية أو الوطنية، وهو خلاف العدالة والأمانة وشرف القيادة، ولا يليق بمؤمن ووطني شريف أن يفعل ذلك.

الدرس الثالث: يجب العلم بكفاءة وإخلاص القيادة، وأنه لا يصح اتخاذ القيادة قبل ذلك، وأن القيادة المعلوم عصمتها يتحقق العلم بكفاءتها وإخلاصها من العلم بعصمتها، أما القيادة غير المعصومة فإن العلم بكفاءتها وإخلاصها إنما يتحصل من خلال التجربة والامتحان، ويجب إخضاعها لذلك قبل تقليدها منصب القيادة، ومن دون ذلك يحصل التفريط في المصالح الحيوية للإسلام والمسلمين والوطن والمواطنين، وضياع الحقوق وتخلف الأوضاع، وهذا ما يحدث فعلا في بلاد العرب والمسلمين على الصعيد الرسمي والشعبي؛ بسبب المجاملة، وبسبب سيطرة الأسماء والعناوين على الحقائق والكفاءات في اختيار القيادات الرسمية والشعبية، وما لم يتغير هذا الحال السيئ، فإنه لن تتطور أوضاع المسلمين ولن تتحسن، ولن يحصلوا على حقوقهم المسلوبة منهم ظلماً وعدواناً.

ومن جهة ثانية: فإن القيادة لا يمكن النظر إليها بعيداً عن القضية، فبين القيادة والقضية توحّد ولا يمكن الفصل بينهما، فلا يمكن تصور تقييم أداء القيادة بعيداً عن دورها وقدرتها الفعلية في خدمة القضية وتطويرها، فإن في ذلك إجحافاً بحق القضية وتضييعاً لها، وفيه تقليل من قيمة القيادة، وتحويلها إلى قيادة صورية فاقدة للقيمة الحقيقية، أي فيه تفريط في أهم مركز وظيفي في المجتمع والدولة وخدمة القضايا الإسلامية والوطنية، فإذا كان هذا هو حالنا مع القيادة، فكيف سيكون حالنا مع الوظائف الأقل أهمية، سوف يكون بالطبع تفريطنا فيها أكبر.

وهل يوجد أيها الأحبة الأعزاء طريق إلى التخلف وتضييع الحق والحقوق أفضل من هذا الطريق؟ الجواب: طبعاً.. لا.

الدرس الرابع: إن القيادة لا يمكن أن تتخذ مواقفها بعيداً عن القاعدة؛ وذلك لأن القاعدة تمثل ساحة عمل القيادة وموضوع اهتمامها، ومعتمدها وركيزة قوتها، فإذا فقدت القيادة القاعدة أو ضيعتها، فقد فقدت ساحة وموضوع عملها وقوتها، وأصبحت فاقدة للقوة ولساحة وموضوع العمل، وعليها أن تغلق دكاكينها وتغادر ساحة العمل؛ لأن عملها أصبح عبثياً ومن دون موضوع، فإذا فرضنا أن القيادة مقتنعة بموقف معين، والقاعدة غير مقتنعة بالموقف وغير مستوعبة له، فإن الحكمة تقتضي بأن تؤجل القيادة اتخاذ الموقف، حتى يتم إعداد القاعدة له، وهذا لا يعني أن تقود القاعدة القيادة، فتكون العربة أمام الحصان، وإنما يعني أن تتواصل القيادة مع القاعدة، وأن تسعى لخلق توجهاتها عن طريق التواصل والإقناع وتهيئتها للمواقف المطلوبة من القيادة، ولا تتخذ الموقف قبل ذلك، فهذا هو الطريق الوحيد للقيادة الناجحة، ولتماسك الجماعة وقوتها ونجاحها في تحقيق أهدافها وحماية مصالحها ومكتسباتها. وليس القيادة الناجحة هي التي تنعزل عن قواعدها وتترك أمر التوجيه وخلق التوجهات فيها لغيرها، ثم تمارس القيادة الفوقية بإصدار الأوامر للقاعدة، وتتوقع من القاعدة التنفيذ والانصياع لأوامرها، فهذا هو طريق القيادة الفاشلة، وتفكك الجماعة وضعفها، وفشلها في تحقيق أهدافها، وفي الدفاع عن حقوقها المشروعة ومكتسباتها وصيانتها.

الإجابة عن أسئلة الحضور

السؤال (1): كيف يتم التوفيق بين القول بولاية الفقيه وشرط الكفاءة؟

الجواب (1): يشترط في الولي الفقيه أن يكون فقيهاً جامعاً للشرائط، وأن تتوافر فيه شروط القيادة الناجحة، فليس كل فقيه جامع لشروط الفقاهة والمرجعية الدينية يصلح أن يكون الولي الفقيه، وإنما يشترط في الولي الفقيه أن يكون جامعاً لشروط الفقاهة ولشروط القيادة الناجحة معاً، وبهذا نستطيع التوفيق بين القول بولاية الفقيه وشرط الكفاءة.

السؤال (2): تتعذر القيادات في مواقفها الضعيفة بالضرورة، فكيف ترد على ذلك؟

الجواب (2): هناك الضرورة الواقعية كالتي وجدناها في صلح الإمام الحسن (ع)، وفيها يتجلى قوة وكفاءة وإخلاص القائد وإصراره على التقدم ودك حصون الأعداء، ولكن الظروف الموضوعية المحسوبة والمشخصة بدقة تمنعه من التقدم فيضطر للتوقف. وهناك الضرورة الذاتية التي تعكس ضعف القائد وعدم كفاءته، كالضرورة التي نجدها اليوم لدى الحكومات العربية في مواجهة غطرسة أمريكا والكيان الصهيوني، بحجة أن الواقعية تفرض عليهم عدم المواجهة بسبب التفاوت الشديد في ميزان القوى لصالح أمريكا والكيان الصهيوني، والدليل على ذاتية هذه الواقعية، أن السيد المظفر السيد حسن نصر الله) نصره تعالى على أعدائه)، وهو على رأس حركة وليس على رأس دولة، استطاع أن يحقق من الانتصارات السياسية والعسكرية على الكيان الصهيوني وأمريكا، ما عجزت عن تحقيقه كل الحكومات والجيوش العربية، وآخر هذه الانتصارات قضية الأسرى المتداولة حالياً على الساحة اللبنانية والفلسطينية والعربية والدولية؛ وذلك لأنه يمتلك التصميم والإرادة السياسية الفولاذية والشجاعة لتحقيق أهدافه المشروعة، ويمتلك الرؤية الواضحة للأهداف والمنهج، والقدرة على تحريك الأدوات في اللعبة والحركة، ولهذا نجح في تحقيق ما عجزت عن تحقيقه جميع الحكومات والجيوش العربية، وهذه هي الواقعية الموضوعية في مقابل الواقعية الذاتية التي تعبر عن ضعف القيادات وعجزها.

المراجع والمصادر

  • [1]. الصواعق المحرقة: ص90.
  • [2]. نقلا عن فضائل الخمسة: ج2 ص55 ـ 56.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى