ثقافة

المكانة المعنوية للزهراء

قال الله تعالى: (فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللّهَ رَمَى وَلِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاء حَسَناً إِنَّ اللّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ[1]).

تمهيد

وهنا أرغب في الإشارة إلى نقطتين أرى أهميتهما، وهما:

النقطة الأولى: إن هذه الأحاديث الشريفة المباركة تفسّر لنا ما يوصف به أهل البيت في بعض أحاديثهم وأدعيتهم وزياراتهم بأنهم وجه الله (سبحانه وتعالى) ويده ولسانه.

فهم لسانه ويده؛ لأن قولهم من قوله (جل جلاله)، وفعلهم من فعله.

وأما وجهه فذلك لأن في وجوههم وأقوالهم وأفعالهم يُعرف رضا الله (جل جلاله) وغضبه وسخطه، كما يعرف الرضا والسخط في وجه الإنسان.

وعلى هذا الأساس المتين نفهم قول الله (تبارك وتعالى) في الحديث القدسي: «من عادى لي وليا فقد آذنته بحرب مني، وما تقرب لي عبدي بشيء أحب إليّ مما افترضته عليه، وما زال عبدي يتقرب إليّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببتُه كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ويده التي يبطش بها، وقدمه التي يمشي بها. وإذا سألني لأعطينه، وإذا استغفرني لأغفرنَّ له، وإذا استعاذني أعذته» (رواه البخاري وأحمد).

النقطة الثانية: إن هذه الأحاديث الشريفة المباركة تدلنا على أن الزهراء قد بلغت مرتبة العبودية الكاملة لله (جل جلاله) والعصمة الكاملة أيضا، وأنها بحق – كما قال عنها أبوها المصطفى (ص) -سيدة نساء العالمين، وسيدة نساء المؤمنين، وسيد نساء أهل الجنة. فلم توجد امرأة على وجه الأرض، ولن توجد إلى يوم القيامة امرأة أفضل وأكمل منها. وقد فهم البعض (عقلا ونقلا): أن لا أحد من الأنبياء يتقدم عليها في الفضل والكمال، سوى أبيها خاتم الأنبياء والرسل (ع).

القرآن الكريم… ونساء كاملات في التاريخ

أيها الأحبة الأعزاء، لقد أشار القرآن الكريم بإكبار إلى نساء كاملات في التاريخ الطويل للرسالات السماوية العظيمة، منها على سبيل المثال:

أولا ـ هاجر زوجة خليل الرحمن إبراهيم أم إسماعيل: وقد أشاد القرآن الكريم بإيمانها وصلاحها، وزهدها وقناعتها، وصبرها وشجاعتها، وطاعتها لله (سبحانه وتعالى) ولرسوله خليل الرحمن إبراهيم (ع)، وحسن تبعلها وعنايتها بولدها، ورفقها به ورعايتها الحسنة له. فقد خرج بها زوجها إبراهيم الخليل ومعها ابنها الوحيد إسماعيل متوجها إلى حرم الله في مكة، ولم يكن في مكة يوم ذاك عشب ولا شجر ولا ماء ولا حيوان ولا بشر، فلما وصلها وأراد أن يتركها فيها مع ولدها إسماعيل ويذهب عنهما سألته: يا سيدي!! أتتركنا بهذا الوادي وليس فيه بشر ولا ماء ولا طعام؟!

هل أمرك الله (جل جلاله) بهذا؟

فقال لها خليل الرحمن: نعم!!

فقالت: إذا لا يضيعنا!!

فقد رضيت بقضاء الله وقدره، واستسلمت إلى أمره (جل جلاله) بكل ثقة واطمئنان، ولم تعترض. فكان بئر زمزم، وكانت الكعبة الشريفة، وكان الحج ومناسكه قياما للناس، ونزل الخير الكثير من عند الله (تبارك وتعالى)، ببركة ذلك الموقف، عليها وعلى ولدها إسماعيل وزوجها إبراهيم الخليل والبشرية قاطبة إلى يوم القيامة!!

قال الله تعالى على لسان خليل الرحمن إبراهيم (ع) مخاطبا الرب الجليل ومخلدا لهذه المناسبة: (رَّبَّنَا إِنِّي أَسْكَنتُ مِن ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِندَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُواْ الصَّلاَةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِّنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُم مِّنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ . رَبَّنَا إِنَّكَ تَعْلَمُ مَا نُخْفِي وَمَا نُعْلِنُ وَمَا يَخْفَى عَلَى اللّهِ مِن شَيْءٍ فَي الأَرْضِ وَلاَ فِي السَّمَاء[2]).

ثانيا ـ سارة زوجة خليل الرحمن إبراهيم أم إسحاق: وقد أشاد القرآن الكريم بفضلها وأثبت أنها من خيرة النساء ومباركة ومحدثة، والظاهر أنها تفوق بالفضل هاجر أم إسماعيل، حيث وردت الكثير من الآيات القرآنية الشريفة المباركة التي تثبت حديث الملائكة معها بصورة مباشرة، مما يدل على كمالها وعظيم فضلها، ولم يرد مثل ذلك (بحسب ما يحضرني الآن) بالنسبة إلى هاجر.

قال الله تعالى: (وَلَقَدْ جَاءتْ رُسُلُنَا إِبْرَاهِيمَ بِالْبُشْرَى قَالُواْ سَلاَمًا قَالَ سَلاَمٌ فَمَا لَبِثَ أَن جَاء بِعِجْلٍ حَنِيذٍ . فَلَمَّا رَأَى أَيْدِيَهُمْ لاَ تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قَالُواْ لاَ تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنَا إِلَى قَوْمِ لُوطٍ . وَامْرَأَتُهُ قَآئِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْنَاهَا بِإِسْحَقَ وَمِن وَرَاء إِسْحَقَ يَعْقُوبَ . قَالَتْ يَا وَيْلَتَى أَأَلِدُ وَأَنَاْ عَجُوزٌ وَهَذَا بَعْلِي شَيْخًا إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ عَجِيبٌ . قَالُواْ أَتَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللّهِ رَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَّجِيدٌ[3]).

ثالثا ـ أم موسى: لقد كان فرعون جبارا عنيدا، وكان يعامل بني إسرائيل معاملة سيئة. وقد تنبأ كاهن قبطي لفرعون بأن مولودا في بني إسرائيل يذهب ملكه على يديه. فجنّ جنونه وأصدر أمره إلى الجلاوزة بذبح كل مولود يولد في بني إسرائيل ظلما وعدوانا!! فذبحوا آلاف الأطفال أمام آبائهم وأمهاتهم من دون رحمة ولا شفقة ولا خوف من عقاب. كل ذلك الظلم من أجل أن يسلم الملك لفرعون، وأن يبقى في جبروته متربعا على عرش الحكم، ليفسد في الأرض، ويحكم في الناس بغير الحق وبالظلم والعدوان!!

قال الله تعالى: (إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلَا فِي الْأَرْضِ وَجَعَلَ أَهْلَهَا شِيَعًا يَسْتَضْعِفُ طَائِفَةً مِّنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْنَاءهُمْ وَيَسْتَحْيِي نِسَاءهُمْ إِنَّهُ كَانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ[4]).

وفي هذه الظروف القاسية ولد موسى بن عمران، وعاش في حجر أمه الطاهرة الزكية ثلاثة شهور رغم رقابة الشرطة والجلاوزة الشديدة على نساء بني إسرائيل المستضعفات. إلا أن أمه الحنون خافت عليه من بطش الطاغية فرعون، فأوحى الله (تبارك وتعالى) إليها أن تضعه في صندوق وتلقيه في اليم، فتوكلت على الله (جل جلاله) وسلمت الأمر إليه، وصنعت ما أُمرت به. فالتقط آل فرعون الطفل، ولكنه عاد بفضل الله وبركاته إلى أمه كي تقر عينها ولتعلم أن وعد الله حق وصدق.

قال الله تعالى: (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَلَا تَخَافِي وَلَا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَجَاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ . فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَحَزَنًا إِنَّ فِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَجُنُودَهُمَا كَانُوا خَاطِئِينَ . وَقَالَتِ امْرَأَةُ فِرْعَوْنَ قُرَّةُ عَيْنٍ لِّي وَلَكَ لَا تَقْتُلُوهُ عَسَى أَن يَنفَعَنَا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَدًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَى فَارِغًا إِن كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَن رَّبَطْنَا عَلَى قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ . وَقَالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَن جُنُبٍ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ . وَحَرَّمْنَا عَلَيْهِ الْمَرَاضِعَ مِن قَبْلُ فَقَالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَهُمْ لَهُ نَاصِحُونَ . فَرَدَدْنَاهُ إِلَى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَلِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ الله حَقٌّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ[5]).

وتوالت فصول القصة مشهدا بعد مشهد، حتى انتهت بهلاك فرعون وانتهاء ملكه الغاشم على يد نبي الله موسى (ع)، والآيات الشريفة المباركة تكشف لنا بوضوح بعضا من صفات هذه المرأة الجليلة وفضلها وكمالها وأنها محدثة.

رابعا ـ آسية بنت مزاحم (زوجة فرعون): وهي من المؤمنات الصالحات من بني إسرائيل، وكانت تكتم إيمانها، فلما غلب موسى (ع) على السحرة في يوم الزينة، اتخذت من ذلك مناسبة لتعلن تمردها على فرعون ودينه وملكه وجبروته وسلطانه. فأظهرت إيمانها منتصرة بذلك لفطرتها وعقلها ودينها الحنيف وإنسانيتها الكريمة. وقد نهاها فرعون عن ذلك فلم تنتهِ، فأخذ في تعذيبها حتى لقيت ربّها شهيدة في سبيله. فكانت مثالا للمرأة المؤمنة الزاهدة الصابرة المجاهدة الشهيدة الخالصة بحق وحقيقة. وقد ضرب الله (جل جلاله) بها مثلا للمؤمنين إلى يوم القيامة.

قال الله تعالى: (وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ[6]).

يقول العلامة الطباطبائي: «فقد اختارت جوار ربها والقرب منه على أن تكون أنيسة فرعون وعشيقته وهي ملكة مصر، وآثرت بيتا يبنيه لها ربها على بيت فرعون الذي فيه مما تشتهيه الأنفس وتتمناه القلوب ما تقف دونه الآمال، فقد كانت عزفت نفسها عما هي فيه من زينة الحياة الدنيا وهي لها خاضعة، وتعلقت بما عند ربها من الكرامة والزلفى، فآمنت بالغيب واستقامت على إيمانها حتى قضت»[7].

خامسا ـ بلقيس ملكة سبأ: كانت مملكة سبأ في اليمن مركزا تجاريا، وذات ثروة كبيرة في مقدمتها الذهب والأحجار الكريمة، وكان على رأسها في عهد نبي الله سليمان (ع) ملكة تسمى (بلقيس) من بنات التبابعة، وقد أوتيت كل ما تريد من أسباب القوة وألوان النعم، وكانت تحكم قومها بالعدل والشورى، وكانت في غاية العقل والحكمة والاتزان والسيرة الحسنة، إلا أنها وقومها كانوا يعبدون الشمس من دون الله (سبحانه وتعالى)، وبسبب عقلها وحكمتها ورويتها، فقد أحسنت التصرف مع كتاب نبي الله سليمان إليها، وخضعت للحق لما رأته على يد نبي الله سليمان، وقادت قومها إلى الإيمان وحسن العاقبة (ولله الحمد)، ولم يُغرِها الحكم والقوة عن الحق، كما لم تُغرِها من قبل السلطة والقوة عن العدل والشورى. وأسألكم أيها الأحبة: كم مثلها من الحكام الرجال قديما وحديثا؟! وأرى أنكم تملكون الجواب الصحيح على هذا السؤال بالتجربة وبمقدار المعرفة المتاحة لكم بالتاريخ القديم والحديث!!

قال الله تعالى: (اذْهَب بِّكِتَابِي هَذَا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانظُرْ مَاذَا يَرْجِعُونَ . قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتَابٌ كَرِيمٌ . إِنَّهُ مِن سُلَيْمَانَ وَإِنَّهُ بِسْمِ الله الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ . أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَّ وَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَتْ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي مَا كُنتُ قَاطِعَةً أَمْرًا حَتَّى تَشْهَدُون  .قَالُوا نَحْنُ أُوْلُوا قُوَّةٍ وَأُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَالْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانظُرِي مَاذَا تَأْمُرِينَ . قَالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَلِكَ يَفْعَلُونَ . وَإِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِم بِهَدِيَّةٍ فَنَاظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ . فَلَمَّا جَاء سُلَيْمَانَ قَالَ أَتُمِدُّونَنِ بِمَالٍ فَمَا آتَانِيَ الله خَيْرٌ مِّمَّا آتَاكُم بَلْ أَنتُم بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ . ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لَّا قِبَلَ لَهُم بِهَا وَلَنُخْرِجَنَّهُم مِّنْهَا أَذِلَّةً وَهُمْ صَاغِرُونَ . قَالَ يَا أَيُّهَا المَلَأُ أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِهَا قَبْلَ أَن يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ . قَالَ عِفْريتٌ مِّنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن تَقُومَ مِن مَّقَامِكَ وَإِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ.  قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِندَهُ قَالَ هَذَا مِن فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَأَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَمَن شَكَرَ فَإِنَّمَا يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَمَن كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ . قَالَ نَكِّرُوا لَهَا عَرْشَهَا نَنظُرْ أَتَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ . فَلَمَّا جَاءتْ قِيلَ أَهَكَذَا عَرْشُكِ قَالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَأُوتِينَا الْعِلْمَ مِن قَبْلِهَا وَكُنَّا مُسْلِمِينَ . وَصَدَّهَا مَا كَانَت تَّعْبُدُ مِن دُونِ الله إِنَّهَا كَانَتْ مِن قَوْمٍ كَافِرِينَ . قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَكَشَفَتْ عَن سَاقَيْهَا قَالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُّمَرَّدٌ مِّن قَوَارِيرَ قَالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ[8]).

سادسا ـ العذراء البتول مريم بنت عمران: وقد أشاد القرآن الكريم بعلمها، وإيمانها، وعبادتها، وعفتها، وصلاحها، وشكرها، وإخلاصها في طاعتها لله (جل جلاله)، وانقطاعها إليه. وضرب بها مثلا للمؤمنين إلى يوم القيامة.

قال الله تعالى: (وَضَرَبَ الله مَثَلًا لِّلَّذِينَ آمَنُوا اِمْرَأَةَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِندَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ وَنَجِّنِي مِن فِرْعَوْنَ وَعَمَلِهِ وَنَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ . وَمَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرَانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَهَا فَنَفَخْنَا فِيهِ مِن رُّوحِنَا وَصَدَّقَتْ بِكَلِمَاتِ رَبِّهَا وَكُتُبِهِ وَكَانَتْ مِنَ الْقَانِتِينَ[9]).

وكان أبوها عمران رجلا صالحا من أشراف بني إسرائيل ومن أعاظم علمائهم. وقد أوحى الله تعالى إليه: أني واهب لك ولدا ذكرا سويا مباركا، يبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذني، وجاعله رسولا إلى بني إسرائيل. فبشّر زوجته بتلك البشارة الربانية العظيمة. فلما حملت نذرت ما في بطنها إلى بيت المقدس، فكانت مريم أم عيسى، وقد تقبلها ربها بقبول حسن، وأنبتها نباتا حسنا، وكفلها زكريا، وكان كلما دخل عليها المحراب وجد عندها رزقا، فيسألها: من أين لك هذا يا مريم؟!

فتقول: (هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ)!!

ولما ولدت ابنها المبارك عيسى بن مريم انكشفت الحقيقة، وعرف الناس أنه الولد الذي بشر الله (تبارك وتعالى) به جده عمران.

قال الله تعالى: (إِذْ قَالَتِ امْرَأَةُ عِمْرَانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ مَا فِي بَطْنِي مُحَرَّرًا فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ . فَلَمَّا وَضَعَتْهَا قَالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُهَا أُنثَى وَاللّهُ أَعْلَمُ بِمَا وَضَعَتْ وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنثَى وَإِنِّي سَمَّيْتُهَا مَرْيَمَ وِإِنِّي أُعِيذُهَا بِكَ وَذُرِّيَّتَهَا مِنَ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ . فَتَقَبَّلَهَا رَبُّهَا بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَأَنْبَتَهَا نَبَاتًا حَسَنًا وَكَفَّلَهَا زَكَرِيَّا كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِندَهَا رِزْقاً قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هَذَا قَالَتْ هُوَ مِنْ عِندِ اللّهِ إنَّ اللّهَ يَرْزُقُ مَن يَشَاء بِغَيْرِ حِسَابٍ[10]).

وكانت الملائكة تحدثها وتخبرها باصطفاء الله (تبارك وتعالى) إياها وتطهيرها من الرجس والأدناس، وتحثها على الجد والاجتهاد في الطاعة والعبادة والخشوع لله (جل جلاله) والإخلاص وحسن العبادة، فانقطعت البتول الخالصة مريم بنت عمران إلى عبادة ربها بصدق وإخلاص نية، وقد أغناها ربها الكريم برزق الجنة (كما مر) عن الكسب. وكانت بحق سيدة نساء زمانها.

كما بشرت الملائكة مريم بأن الله الجليل سيهبها بقدرته على كل شيء ولدا يخلقه بكلمة (كن) من غير أب، وأن اسمه المسيح عيسى بن مريم، وأنه سوف يكون من الصفوة الصالحين المقربين من الله (ذي الجلال والإكرام)، ونبيا ذا مكانة عالية، وشرفا عظيما في الدنيا والآخرة، وأنه يكلم الناس في المهد وكهلا، ويبرئ الأكمه والأبرص، ويحيي الموتى بإذن الله (جل جلاله)، وغير ذلك مما له من الفضائل والكرامات. وقد ثبت بالدليل: أنها معصومة ومحدثة.

قال الله تعالى: )وَإِذْ قَالَتِ الْمَلاَئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ اصْطَفَاكِ وَطَهَّرَكِ وَاصْطَفَاكِ عَلَى نِسَاء الْعَالَمِينَ . يَا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَاسْجُدِي وَارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ . ذَلِكَ مِنْ أَنبَاء الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيكَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُون أَقْلاَمَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَمَا كُنتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ . إِذْ قَالَتِ الْمَلآئِكَةُ يَا مَرْيَمُ إِنَّ اللّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِّنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهًا فِي الدُّنْيَا وَالآخِرَةِ وَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ . وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ . قَالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَلَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قَالَ كَذَلِكِ اللّهُ يَخْلُقُ مَا يَشَاء إِذَا قَضَى أَمْرًا فَإِنَّمَا يَقُولُ لَهُ كُن فَيَكُونُ . وَيُعَلِّمُهُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَالتَّوْرَاةَ وَالإِنجِيلَ . وَرَسُولاً إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُم مِّنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللّهِ وَأُبْرِىءُ الأكْمَهَ والأَبْرَصَ وَأُحْيِي الْمَوْتَى بِإِذْنِ اللّهِ وَأُنَبِّئُكُم بِمَا تَأْكُلُونَ وَمَا تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَةً لَّكُمْ إِن كُنتُم مُّؤْمِنِينَ . وَمُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَلِأُحِلَّ لَكُم بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَجِئْتُكُم بِآيَةٍ مِّن رَّبِّكُمْ فَاتَّقُواْ اللّهَ وَأَطِيعُونِ . إِنَّ اللّهَ رَبِّي وَرَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هَذَا صِرَاطٌ مُّسْتَقِيمٌ[11]).

كل ما ثبت للسيدات الكاملات فهو ثابت للزهراء

أيها الأحبة الأعزاء، إن كل ما ثبت في القرآن الكريم لتلك السيدات الكاملات من الفضل والكرامات وصفات الكمال الإنساني، مثل: العقل، والحكمة، وكمال الإيمان، وصدق الطاعة، والإخلاص، والصبر، والزهد، والعفة، والطهارة، وحسن العبادة والانقطاع إلى الله (جل جلاله)، وحسن التبعل والتواضع للزوج وطاعته، وحسن الرعاية للأولاد والحنو عليهم، والجهاد والتضحية في سبيل الله (عز وجل)، والثقة بوعده ونصره وثوابه، والرضا بقضائه وقدره، والتسليم لأمره.. فهو ثابت بالعقل والتجربة (أعني السيرة الثابتة) والنقل (القرآن الكريم والسنة الشريفة) للسيدة الصادقة الطاهرة الخالصة فاطمة الزهراء. فهي سيدتهن جميعا وسيدة نساء العالمين، وسيدة نساء أهل الجنة، وهي محدّثة، ومن أهل بيت العصمة الكاملة الذين أذهب الله عنهم الرجس وطهرهم تطهيرا.

وهنا أرغب في التنبيه إلى نقطة مهمة ذات فائدة علمية وعملية، وهي:

إن المكانة العالية التي حظيت بها فاطمة الزهرا، والنساء الكاملات التي ذكرت أسماءهن وبعض سيرتهن في البحث قبل قليل، لتبدد ما يحاوله البعض من تقليل قيمة المرأة ومكانتها ودورها ومسؤوليتها العامة في الحياة، ويقصر دورها على البيت والفراش. وتثبت الرؤية القرآنية السامية للمرأة، حيث تتساوى المرأة والرجل في القيمة الإنسانية والمسؤولية العامة في الحياة والجزاء، وإن اختلفت بينهما بعض الوظائف والمسؤوليات الخاصة؛ نظرا لاختلاف طبيعة الذكورة والأنوثة، لتثبت بأن المرأة تفضل الرجل في خصائص الأنوثة، والرجل يفضل المرأة في خصائص الذكورة، من دون أن يقلل ذلك من القيمة الإنسانية والمسؤولية المشتركة بينهما في الحياة.

قال الله تعالى في إثبات القيمة الإنسانية المشتركة: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُواْ رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُم مِّن نَّفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيرًا وَنِسَاء وَاتَّقُواْ اللّهَ الَّذِي تَسَاءلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا[12]).

وعليه فإنه لا فضل لأحدهما على الآخر إلا بالتقوى.

قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن ذَكَرٍ وَأُنثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِندَ الله أَتْقَاكُمْ إِنَّ الله عَلِيمٌ خَبِيرٌ[13]).

قال العلامة الطباطبائي: «فالمرأة المؤمنة بدرجات الإيمان، أو المليئة علما، أو الرزينة عقلا، أو الحسنة خلقا، أكرم ذاتا وأسمى درجة ممن لا يعادلها في ذلك من الرجال في الإسلام، كان من كان، فلا كرامة إلا بالتقوى والفضيلة»[14].

وقال الله تعالى لإثبات المسؤولية المشتركة والجزاء: )وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ . وَعَدَ اللّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَمَسَاكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَرِضْوَانٌ مِّنَ اللّهِ أَكْبَرُ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ[15]).

وقال الله تعالى في إثبات الفضل في الأنوثة والذكورة: (وَلاَ تَتَمَنَّوْاْ مَا فَضَّلَ اللّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِّلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبُواْ وَلِلنِّسَاء نَصِيبٌ مِّمَّا اكْتَسَبْنَ وَاسْأَلُواْ اللّهَ مِن فَضْلِهِ إِنَّ اللّهَ كَانَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمًا[16]).

أيها الأحبة الأعزاء، أكتفي بهذا المقدار، وأستغفر الله الكريم الرحيم لي ولكم، وأستودعكم الله الحافظ القادر من كل سوء.

المراجع والمصادر

  • [1]. سورة الأنفال، الآية: 17.
  • [2]. سورة إبراهيم، الآية: 37 ـ 38.
  • [3]. سورة هود، الآية: 69 ـ 73.
  • [4]. سورة القصص، الآية: 4.
  • [5]. سورة القصص، الآية: 7 ـ 13.
  • [6]. سورة التحريم، الآية: 11.
  • [7]. الميزان: ج28 ص344.
  • [8]. سورة النمل، الآية: 28 ـ 44.
  • [9]. سورة التحريم، الآية: 11 ـ 12.
  • [10]. سورة آل عمران، الآية: 35 ـ 37.
  • [11]. سورة آل عمران، الآية: 42 ـ 51.
  • [12]. سورة النساء، الآية: 1.
  • [13]. سورة الحجرات، الآية: 13.
  • [14]. الميزان: ج2 ص270.
  • [15]. سورة التوبة، الآية: 71 ـ 72.
  • [16]. سورة النساء، الآية: 32.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى