مقالات

الشهيد رضا ،، أيقونة حسينية حية في الثورة البحرانية

  • الكاتب: الشيخ جابر عباس الحجازي

بسم الله الرحمن الرحيم

قال تعالى: (( إنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ ۚ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ ۖ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ ۚ وَمَنْ أَوْفَىٰ بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ ۚ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ ۚ وَذَٰلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ))

من يطالع حركة التحرر والمقاومة في الإطار البحراني، يجدها تعتمد في زخمها الثوري للوصول إلى أهدافها العليا، على العلاقة الحية مع معنويات الفداء الإيمانية، التي شكّلتها المدرسة الحسينية ذات العمق التوحيدي والرباني، بحيث تتبلور هذه البنى الروحية الراسخة في ميدان الصراع الوجودي إلى رمز للتعبير عن كرامة الأمة وشموخها وهويتها المعنوية.

في هذا السياق لا يمكن لأي مشروع ثوري مقاوم يهدف إلى التحرر والانعتاق، أن يخلو من هذا العمق الروحي والاستراتيجي في ثقافته ووعيه وبرامجه؛ لأن النهج الحسيني ببعده التوحيدي، هو الضمانة الحقيقية والأساسية لاستمرار الحركة الثورية وسلامتها واستقامتها؛ خصوصا عندما تتضاعف عليها التحديات الصعبة والكبرى التي تراكمها قوى الاستكبار والطغيان، فحينها لا تنفع قواعد اللعبة السياسية، ولا معادلات الفعل الدبلوماسي، بل سيكون المخرج الأساسي والوحيد في هذه الأزمات المستحكمة، هو الروح الحسينية العزيزة، تحت قاعدتي إما: النصر أو الشهادة.

وهذه الروح التوحيدية والحسينية في عالم الوجود، لا تختص بالصراع السياسي، بل تمتد لتشمل كل منعطفات الحياة وتعقيداتها ومجالاتها؛ لأنها تمثل غرض الشريعة وغايتها من بناء الإنسان وإحيائه، قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ))، فإحياء الدين للإنسان: هو بأن تتحول عقيدته الإيمانية وقيمه الروحية من حالة ضامرة محنطة في القلب إلى واقع متحرك ومؤثر في ساحة الحياة، ومن حالة محصورة في الذات ومغمورة في النفس إلى نشاط فاعل مشع بضوئه على حياة الآخرين، ليلهمهم الاندفاع والحيوية والإقدام في سبيل تحرير المجتمع والأمة وتطويرها والرقي بها.

فعزة الروح التوحيدية بمقدار ما تترسخ في العناصر البنّاءة للنفس، والشموخ الحسيني بمقدار ما يتجذر في  تفكير الإنسان ومعنوياته؛ فإنه سيكون عصيًا على الخضوع والانحناء لكل قوى المادة الظلمانية المتجبرة بسجّانيها وجلّاديها وتعذيباتها.

استكمالا للبداية، الثورة البحرانية بمختلف أطوارها ومراحلها، أنجبت من رحمها شخصيات فدائية حية ورائدة، سطّرت أروع الملاحم التوحيدية، والأشكال البطولية المؤمنة، التي استدعت النموذج الحسيني الطاهر من أفقه التاريخي لتحوله إلى واقع حي ملموس، يلهم النفوس والأرواح والقلوب، ويدفعها باتجاه الفعل الثوري والتحرري بكل وعي وإدراك وإيمان ..

واحدٌ من أبرز نماذج الثورة البحرانية الحية، الذي تحول إلى أيقونة أسوة وإبداع في ميادين الجهاد والصراع، هو رضا الغسرة، فهذا الشاب الصغير بعمره، الكبير بقاماته المعنوية الكريمة، تمكّن في معادلة صعبة للثورة، حاصرتها الضغوطات العسكرية والأمنية والسياسية من كل الجهات، أن يكسر بشجاعة وإباء كل حواجز السلطة المحكمة، ويستصغر قواهم، ويسحق استكبارهم، ليحرر نفسه ورفاقه من السجون الظالمة في عملية تاريخية كبيرة، رسمت ملامح جديدة للصراع مع النظام الخليفي، لصالح خط المقاومة والثورة … وصولا إلى شهادته التي كان يترقبها وينتظرها ويتمنها ويتوقعها في كل لحظة، نظرًا إلى مواقفه الحسينية وبطولاته الإيمانية التي أحرجت السلطة، وكشفت عن ضعفها الشديد، وجعلت منه قلقًا عارمًا لها لأدواتها الأمنية والعسكرية.

وهذه القامة الشامخة العريقة، لم تكن طارئة على الثورة البحرانية الحية، بل هي امتداد لعمقها التوحيدي المعطاء، فالشهيد الرضا روحه الحسينية، اختزلت في طياتها وتضاعيفها أبعادًا متعددة، من أبرزها:

الشعور بالمعية الإلهية

فالشهيد رضا لم ينطلق فعله الثوري بهذا المستوى البطولي، لولا شعوره بالمعية الإلهية، فهذه المعية الربانية هي شاملة لكل عوالم الوجود ومدياته وأفراده، قال تعالى: ((وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ ))، لكن الشهيد رضا، أخرجها من حيز التكوين المضمر إلى عالم الروح والشعور والإرادة، لتكون سنده ومصدر قوته، فهو لم يحصرها في إطار الفكر، ولم يقصرها في علاج الضائقة الاقتصادية، بل لمسها حية في نفسه وروحه وحركته، وأدركها بوجدانه أنها من نصيب المستضعفين والمظلومين عندما يثقوا بقدرة الله وقوته وعظمته وهيمنته على قوة المادة، قال تعالى: (( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُم)) ْهذا الشعور بالمعية إذا تمت بلورته إلى إقدام، وعمل، وتضحية، وصدق، فسيكون العطاء الإلهي من نصيب المؤمن.

البصيرة

((قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ ))

هذه البصيرة هي ضرورة استراتيجية مهمة للرسالي في عالم الأرض، فهي ليست علمًا صوريًا، ولا مفهومًا فكريًا، بل كشّافة روحية حية على فهم متطلبات الصراع، واتخاذ الموقف الملائم في اللحظة المناسبة والحساسة بكل وعي وحرية وشجاعة، وقدرة على تحويل التهديدات إلى فرص، وتحويل الفرص إلى تغيير معادلة المعركة، وهذا ما تميّز به الشهيد رضا عندما استطاع أن يحرر نفسه ورفاقه من سجون الظلم الخليفي، ليكشف عن هشاشة السلطة الأمنية والعسكرية، في لحظة حساسة وصعبة، ويثير في نفس الثوّار والأحرار الشعور بانتصار الإرادة والقيم على الآلات والأدوات والمدافع، ويعطيهم زخمًا روحيا بالقدرة على مواجهة قوى الأرض والمادة مهما كانت المعادلة والظروف، لكنها تحتاج إلى اليقين بسنن القرآن الربانية وقوانين الوجود الإلهية، والإيمان بهيمنة الله على مفاصل هذا الكون والحياة.

فالبصيرة اليوم هي ركن أساسي في معركة الوجود والحياة, وبمقدار ما تكون راسخة في نفس الإنسان التوحيدي، سيكون قادرًا على إدارة المعركة والتحكم في حركتها، والتأثير في سيرها، لأن البصيرة حس معنوي بفهم الحقائق والظروف، والقدرة على تحديد خيارات المرحلة ومقتضياتها، ومن يفقدها في المعركة والصراع، فسيكون رهين لمخطط العدو، وخاضع لمؤامرته، ومنهزم أمام إمكاناته؛ لأن سيكون قادرا على انفاذ معضلة اللبس والخلط في كياننا الفكري والروحي … والبصيرة في جذورها الأصيلة هي هداية إلهية يلهمها أحباءه وأولياءه والمجاهدين في سبيله ({وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا وَإِنَّ اللهَ لَمَعَ المُحْسِنِينَ)).

عشق التضحية

من أعظم المبادئ الرسالية التي جسدّها أهل البيت الإمام الحسين(ع)، وأرد أن يزرعوها في قلوب المؤمنين بخطهم الثوري، هي حب التضحية في سبيل الله، فلا يكفي في حركة الرسالة والدين والتغيير، أن تجاهد بالإلزام وتحت ضغط الواقع، بل لابد أن تذهب إلى ناحية الإيمان العميق بضرورة الاستعداد للتضحية، فخصوصية الاستعداد التضحية، إذا تجذرت في نفس الإنسان الحسيني، فإنه سينطلق مندفعًا في معركة الإسلام والكفر، ولن يوقفه إلا الموت والشهادة، وهذا هي منيته وغايته وهدفه، لأن الإنسان التضحوي: هو إنسان تعالى على الحياة المادية الدانية، وتحرر من قيود الذات والانا والذاتية، وذاب بكل كيانه في قيم الإسلام العزيز، واندك بكل وجوده في عشق لقاء الله ومحبته، كل ذلك من أجل أن يهب أمته العزة والكرامة، ويخلق لهم الحياة والإرادة.

لا نحلق كثيرا في آفاق التنظير، ولدينا منارات إيمانية رائدة، هم شهيدنا العزيز رضا ورفاقه الشهداء الأعزاء في ساحتنا البحرانية الحية، هذه النماذج المشرقة التي صنعها الحب الالهي الأصيل للخط الحسيني الأصيل، فهؤلاء القامات السخية المعطاء، التي حرّكت في عروقنا دم العزة والكرامة، أبت إلا يكون موتها مختلفا عن غيره، موتًا شامخًا، متعاليًا على الخوف والوجل والحذر، موتًا رساليا، يصنع الفعل والواقع، موتًا يجسد بدمائه الحمراء الزاهية، وبطولاته الإيمانية الشجاعة، يسجد قيم الحق والفضيلة بكل إخلاص وتفاني، موتًا يجعلنا نستحضر بهذه الدماء الطاهرة النماذج الحسينية التي خلدّها التاريخ في العقل الإنساني والإسلامي.

هؤلاء الشهداء افتتحوا دربًا رساليًا حيًا، تحت تأثير التوحيد المحمدي، والمبدأ العلوي، والنهج الفاطمي، والعشق الحسيني، ورسمت أمهاتهم معالم هذا الدرب بالموقف الزينبي الخالد، وبقي علينا نحن نكمل هذه المسيرة الرسالية الصاعدة بإيمان ووعي وبصيرة.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى