ثقافة

السيادة الشعبية الدينية في نظام الجمهورية الإسلامية

على الرغم من الاهتمام الكبير في نصوص القرآن الكريم وتعاليم هذا الدين بضرورة مراعاة رأي الناس من قِبل الحكّام وتجلّي ذلك بالحثّ على أخذ البيعة منهم، نجد أنّ دائرة هذا الأمر تتقيّد بحدود ما لا يخالف الأحكام الإلهيّة. الحاكميّة في كلّ الأحوال هي لله، دون تجاهل لدور الشعب أيضًا في هذا الإطار، ومن ناحية أخرى، الحاكميّة الإلهيّة ليست موكولة لرضا الشعب، ولا تُتقاسم مع الشعب. والأهمّ من ذلك أنّ رأي الأكثريّة وإرادتها التي هي أساس نظريّة حاكميّة الشعب والديمقراطيّات الغربيّة، هي من المذمومات في القرآن الكريم. توجد في هذا المجال آيات متعدّدة، نشير إلى بعضها فقط:
﴿فمنهم مهتدٍ وكثير منهم فاسقون﴾[1]﴿وكثيرًا من الناس عن آياتنا لغافلون﴾[2]﴿وإن تطع أكثر من في الأرض يضلّوك عن سبيل الله﴾[3]﴿ولكنّ أكثر الناس لا يعلمون” “ولكنّ أكثر الناس لا يؤمنون” “ولكنّ أكثر الناس لا يشكرون﴾.

 وكما قال الإمام عليّ عليه السلام في نهج البلاغة في باب كثرة أنصار الباطل وقلّة أنصار الحقّ: “حقّ وباطل ولكلٍّ أهل، فلئن أمر الباطل لقديمًا فعل، ولئن قلّ الحقّ فلربّما ولعلّ […]”[4].

لا تشير التجربة الديمقراطيّة في الغرب على أساس آراء الأكثريّة إلى أنّ إرادتهم هي دومًا للحفاظ على الحريّات المطروحة من المذهب الليبراليّ والدفاع عنها، ولربّما أدّى انعدام شكل من أشكال السيطرة على الرأي العامّ إلى الحكومات الفاشيّة، والنازيّة أو الشيوعيّة، وإلى وجود شكل من أشكال حكومة التوتاليتاريا. لهذا السبب، يُدافع اليوم عن الديمقراطيّة النخبويّة بدلًا من ديمقراطيّة الأكثريّة، بنحوٍ تستطيع فيه الأحزاب السياسيّة القادرة على التأثير على قرار الأكثريّة، الحؤول دون انحرافاتهم المحتمَلة. هذا هو في الواقع الأسلوب المتّبَع في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة، وقد حُدّد تدخّل الشعب في أمر الحاكميّة من خلال إيجاد آليّات الرقابة، لكي لا يخرجوا عن الموازين والحدود الإلهيّة. كما تمّت الإشارة في بداية هذه المقالة إلى دور الشعب العظيم غير القابل للإنكار والملايين من أفراد الشعب الإيرانيّ في انتصار الثورة الإسلاميّة. وقد تمّ، بلا شكّ، الالتفات الكافي والوافي أيضًا إلى دور ذلك الركن الأساسيّ، في إيجاد بنية النظام المنبعث من الثورة، بحيث أُلقي أساس تشكيل هذا النظام الحديث العهد وقوّته على عاتق الشعب.

وعلى الرغم من النفوذ الاستثنائيّ لقائد الثورة نفسه، فإنّ جميع قراراته تُواجَه برضًى شعبيّ بسبب تحلّيها بثقة عموم أفراد الشعب، ولذا التفت إلى المسألة المهمّة السالفة، ففي كلّ خطوة كان يخطوها في وضع أسس النظام، كان يُدخل مشاركة الشعب، ولهذا السبب، أرجع نوع النظام إلى رأي الشعب، حيث أيّد أكثر من 98% من أفراد الشعب تشكيل نظام الجمهوريّة الإسلاميّة، ومهروا الدستور بمهر موافقتهم من خلال انتخاب ممثّلين عنهم في مجلس أمناء الدستور، والموافقة على هذا القانون في النهاية من خلال تصويتهم المباشر. وقد وضع القانون الذي هو أساس حاكميّة الله والقائم على أساس الدين الإسلاميّ على رأس لائحة أمور المجتمع.

كما اهتمّ دستور الجمهوريّة الإسلاميّة، في عين توجّهه اللازم إلى منشأ الحاكميّة الإلهيّة للنظام، اهتمامًا فائقًا بدور الشعب في تعيين القادة والنوّاب ومسؤولي هذا النظام، بحيث يُنتخب جميع مسؤولي النظام من القائد إلى المجالس الإسلاميّة للمدن والقرى، من خلال تصويت الشعب المباشر أو غير المباشر. وفي الواقع، يمكن القول إنّ الجمهوريّة الإسلاميّة من هذه الناحية هي النظام الأكثر شعبيّة وديمقراطيّة من بين الأنظمة المعاصرة. فعلى امتداد اثنين وعشرين عامًا من انتصار الثورة، يشارك الشعب الإيرانيّ بشكلٍ متوسّط مرّة واحدةً كلّ عام في انتخاب مجلس خبراء القيادة، ورئاسة الجمهوريّة، ونوّاب مجلس الشورى الإسلاميّ، وأعضاء المجالس الإسلاميّة في المدن والقرى وغيرها، وهذا يشير إلى دور الشعب الذي لا يقبل الإنكار في تقرير مصيره.

في الوقت نفسه، دُوّن الدستور وأُعدّ بنحوٍ لا تظهر فيه مشاركة الشعب وتدخّله في تقرير مصيره بمعنى حاكميّة الشعب بالمعايير الأنسيّة والتعاقدات الاجتماعيّة، بل كانت الحاكميّة الإلهيّة ملحوظةً سواءً في التقنين أو في تعيين قادة النظام. فمثلًا، لو استُعمل على سبيل المسامحة مصطلح الانتخاب في تعيين القائد، لكنّه في الواقع بمعنى الكشف عن الوليّ الفقيه المنصوب من قبل الله، أو أنّه طالما لم تُمنح الثقة لرئيس الجمهوريّة، من قِبل الوليّ الفقيه، لا يحصل على القانونيّة الشرعيّة بانتخاب الشعب.

وفي مقارنة إجماليّة لهذا النظام بالديمقراطيّات الغربيّة، يمكن القول إنّ الديمقراطيّات القائمة على أساس القيم الليبراليّة والأنسيّة، مرفوضة بالمطلق من وجهة نظر الجمهوريّة الإسلاميّة. وفي الوقت عينه، قُبلت الديمقراطيّة بقيودها الخاصّة، في دستور الجمهوريّة الإسلاميّة كأسلوب في انتخاب المؤهّلين والنُّخب.

من خلال الالتفات إلى المطالب الآنفة، وفي مقام تحديد منزلة جمهوريّة النظام وإسلاميّته، يمكن الادّعاء بأنّ مشروعيّة النظام ناشئة صرفًا من الإسلاميّة وحاكميّة الله، وفي الوقت عينه تكون مقبوليّة النظام وقوّته ناشئة من الشعب. وبهذا يتّضح معنى السيادة الشعبيّة الدينيّة ويصبح لها معنًى بيّنًا.

السيادة الشعبيّة الدينيّة، الجمهوريّة الإسلاميّة، الدكتور منوجهر محمّدي

المصادر

[1] سورة الحديد، الآية 26.
[2] سورة يونس، الآية 92.
[3] سورة الأنعام، الآية 116.
[4] خطب الإمام علي (ع)، نهج البلاغة (قم: دار الذخائر، الطبعة1، 1412ه/1370ه. ش) ، الجزء 1، الصفحة 49.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى