ثقافة

الهمَّة في العمل

قول تعالى: ﴿ الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَالْحَيَاةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ﴾ الملك: 2

أمام الإنسان في مساره إحدى نتيجتين: الربح أو الخسارة، وحتّى لا يصل الإنسان بمساره إلى الخسارة فهو بحاجة إلى عناصر لا بُدَّ من توفِّرها وهي بحسب سورة العصر أربعة:
الإيمان.
العمل الصالح.
التواصي بالحقّ.
التواصي بالصبر.


إذاً لرفع الخسارة، ولجني الأرباح لا بُدّ -إضافة إلى الإيمان -من العمل، لذا قال تعالى: “إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَالْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُه”[1].

فالعمل الصالح هو رافعة الكلم الذي هو العقيدة. وعليه فالإنسان الواعي لهدف حياته لا بدَّ له من أمور:
أولاً: أن يخرج نفسه من حالة الفراغ والخمول إلى العمل والجدّ حتى لا يكون من النادمين يوم القيامة.
فعن الرسول الأكرم (صلى الله عليه وآله): “يُفتح للعبد يوم القيامة على كل يوم من أيام عمره أربعة وعشرون خزانة – عدد ساعات الليل والنهار – فخزانة يجدها مملوءة نوراً وسروراً، فيناله عند مشاهدتها من الفرح والسرور ما لو وزّع على أهل النار لأدهشهم عن الاحساس بألم النار، وهي الساعة التي أطاع فيها ربه، ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها مظلمة منتنة مفزعة، فيناله عند مشاهدتها من الفزع والجزع ما لو قسم على أهل الجنة لنغص عليهم نعيمها، وهي الساعة التي عصى فيها ربه، ثم يفتح له خزانة أخرى، فيراها فارغة ليس فيها ما يسرّه ولا ما يسوؤه وهي الساعة التي نام فيها أو اشتغل فيها بشئ من مباحات الدنيا، فيناله من الغبن والأسف على فواتها حيث كان متمكناً من أن يملاها حسنات ما لا يوصف، ومن هذا قوله تعالى: “ذلك يوم التغابن”[2].

ثانياً: أن يبحث عن العمل الصالح ليعمله.

ثالثاً: أن يختار الأولى بين الأعمال ليقدَّمه على غيره.
كل ذلك لتحقيق الهدف من وجود الإنسان “أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا”
ولتحقيق ذلك بأحسن صورة، فإنَّ الإنسان يحتاج إلى همَّة عالية، فبدون الهمّة لا يحقّق الإنسان غاية وجوده، لذا ربطت الأحاديث الشريفة الكثير من محاسن الأفعال والصفات والقيم النبيلة بالهمَّة العالية. ويتبيّن ذلك من خلال الأمور التالية:

الفعل الجميل
إنَّ من يرى فعلاً يتّسم بالجمال سواء كان من خلال صنعة أو إدارة أو بناء أو كتاب أو لوحة أو أي شيء آخر يعرف أن وراء ذلك العمل همَّة عالية استوجبت مدح أمير المؤمنين (عليه السلام)  بقوله: “الفعل الجميل ينبئ عن علوّ الهمّة”[3].

الشجاعة
وهكذا حال الشجاعة التي هي من أنبل صفات الإنسان، ويربط الإمام علي (عليه السلام)  بينها وبين الهمّة بقوله: “شجاعة الرجل على قدر همّته”[4].

الكرم
والكرم في حديث الإمام (عليه السلام)  هو ناتج عن همَّة الإنسان العالية إذ يقول (عليه السلام): “الكرم نتيجة علوّ الهمّة”[5].

القناعة
إنّ من نتائج الهمّة العالية التي تدفع الإنسان إلى العمل وإتقانه هو قناعته بما وصل إليه بعدما سعى إليه بكلّ وُسعه، لذا ورد عن الإمام علي (عليه السلام): “من شرف الهمّة لزوم القناعة”[6]، وعنه (عليه السلام): “الكفُّ عمّا في أيدي الناس عفّة وكبرُ همّة”[7].

كيف تُصنع الهمّة؟
إن كانت الهمّة هي الدافع لتحقيق هدف الإنسان في الحياة. وإن كانت الهمّة منشأ أساسي في تلك الكمالات، فحريّ للإنسان أن يبحث عمّا يولّد تلك الهمّة ويرفعه من حالة الخمود والخمول إلى الجدّ في العمل.

وفي مقام الجواب عن ذلك المولِّد للهمّة الرافع الإنسان إلى حالة الجدّ تبرز معرفة القيمة والأهمية للعمل في أول مراتب ما يصنع الهمّة.

ففرق شاسع بين شخص طُلب منه أن يسعى نحو جوهرة نفيسة على أن يمتلكها حينما يحوزها، وقد عرف القيمة الغالية جدّاً لهذه الجوهرة، وبين شخص طُلب منه أن يسعى نحو تلك الجوهرة كحال صاحبه، إلا أنّه لا يعرف أنّها جوهرة، بل يظنّها زجاجة، فكم هو الفارق بين همَّة الأول نحو العمل، وهمّة الآخر.

قيمة العمل الصالح
من هنا جاء الدين ليبيِّن أهمية ومكانة وقيمة العمل الصالح في هذه الدنيا، ليبذل الإنسان همّته ليحقّقه في أعلى مراتبه المستطاعة، فالعمل الصالح هو رافعة العقيدة كما تقدّم، والعمل الصالح الأحسن هو غاية خلق الموت والحياة كما تقدّم.

 من أهمّ مكوّنات العمل الصالح
الأول: أن يكون لله تعالى، فكلّ عمل لم يبدأ ببسم الله فهو أبتر، أي منقطع الآخر، أي لا يستفيد الإنسان منه في حياة الآخرة التي فيها ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر. ومعنى كونه لله تعالى أي في طريقه عزّ وجل الذي يعني طريق الكمال المطلق، ويعني ذلك أن يكون العمل في مسار تكامل الإنسان ورقيّه وتكامله.

وفي هذا المسار قد لا يُحسن التواضع في الغاية الأخروية التي يرجوها من الله تعالى؛ بهدف الحصول على أعلى المراتب، وهذا ما حصل مع امرأة عجوزة في عصر كليم الله موسى (عليه السلام).

الثاني: أن يساهم في المشروع الإنساني على الأرض المحقّق لخلافة الله تعالى فيها، وهذا ما يكون من خلال العمل على محورين أساسيين: تزكيّة النفس، وخدمة المجتمع.

وسورة العصر ببيانها أركان النجاة الأربعة تدور حول هذين المحورين وإليهما أرشد الإمام الصادق (عليه السلام)  في حديثه: خصلتان من كانتا فيه وإلا فأعزب ثم أعزب ثم أعزب:
– الصلاة في مواقيتها، والمحافظة عليها.
– والمواساة[8] .

فبتزكيّة النفس يسير الإنسان في درب خلافة الله تعالى، وكذا بخدمة المجتمع يسير فيه، من هنا فإنَّ العمل النافع للمجتمع الذي ينطلق من النيّة المخلصة له ثواب عظيم وأجر جزيل، ويكفي في المعبِّر عن ذلك ما ورد عن النبي (صلى الله عليه وآله): “الخلق كلّهم عيال الله فأحبُّهم إلى الله عزّ وجلّ أنفعهم لعياله[9]”.

ومن خلال هذا نفهم سرّ تقبيل رسول الله (صلى الله عليه وآله) ليد العامل الذي بعمله كان يحيى الأرض، ويكدّ على عياله، وينفع مجتمعه.

إنّ من يعرف قيمة سلوك طريق خدمة المجتمع تعلو همّته ويشتد اندفاعه.

فالطالب في المدرسة والجامعة حين يقصد من درسه عيش الكرامة ونفع المجتمع، ويعرف أنّ في ذلك مرضاة الله تعلو همّته نحو الدرس.

والأستاذ حينما يقصد من تدريسه ذلك، ويتعرّف على حبّ الله تعالى للمعلّمين العلم النافع الذين تصلي عليهم النملة في جحرها، تعلو همّته في تربية الجيل نفعاً وصلاحاً.

والموظّف حينما يقصد بعمله ذلك، ويعرف أن فيه رضا الله تعلو همّته في أداء وظيفته على أحسن حال.

والتاجر حينما يقصد بتجارته ذلك، ويعرف أنّ من خلالها الرضا الإلهي والبركة الربّانية تعلو همّته في تجارته.

والأبوان اللذان حينما يقصدان وجه الله من جهدهما في تربيّة الأولاد، ويعرفان مدى حبِّ الله تعالى لعملهما، تعلو همّتهما في ذلك.

والمجاهد في سبيل الله حينما يقصد بجهاده وجه الله، ويعرف مكانة المجاهد عنده تعلو همّته في عمله الجهادي.

والسالك في عبادة الله حينما يتعرّف على لذّة القرب من عبادته تعلو همّته، وحينما سيشعر بعظيم اللذّة حينما يدعو بدعاء الإمام زين العابدين: “يا من آنس العارفين بطول مناجاته، وألبس الخائفين ثوب موالاته. متى فرح من قصدت سواك همته؟! ومتى استراح من أرادت غيرك عزيمته[10]”.

سماحة الشيخ أكرم بركات

المصادر و المراجع

1]  وسائل الشيعة (آل البيت) – الحر العاملي – ج 5 ص 201
[1]  سورة فاطر: 10
[2]  بحار الأنوار – العلامة المجلسي – ج ٧ – الصفحة ٢٦٢
[3]  موسوعة أحاديث أهل البيت (ع) – الشيخ هادي النجفي – ج ١٢ – الصفحة ٧٢
[4]  ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٢ – الصفحة ١٤١٢
[5]  ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – الصفحة ٢٦٨٤
[6]  ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٣ – الصفحة ٢٦٣٧
[7]  ميزان الحكمة – محمد الريشهري – ج ٤ – الصفحة ٣٤٧٠
[8]  الخصال – الشيخ الصدوق – الصفحة ٤٧
[9]  جامع أحاديث الشيعة – السيد البروجردي – ج ١٦ – الصفحة ١٧٧
[10]  الصحيفة السجادية، الإمام زين العابدين (ع) – الصفحة ٤٤١

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى