ثقافة

مراجعة منهجية لطرح المضامين الغريبة

ليلة 13 من محرم 1443 هـ

ورد عن النبي الأعظم (ص): (إنَّا مَعَاشِرَ الانْبِيآء أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ‌).

عالمية الخطاب الحسيني:

الخطاب الحسيني في العصر الحالي أصبح خطاباً عالمياً يصل لمختلف الثقافات والمجتمعات سواء كانت مسلمة أو غيرها، وهذا يجعل أصحاب الخطاب أمام مسؤولية كبيرة جداً في حمل ما جاء به الحسين عليه السلام كمسألة لا تعتبر من امتدادات الفكر البشري فحسب، بل إنها مسألة تعبر عن منظومة دينية متكاملة فإذا تكلمنا عن الحسين عليه السلام فإننا نتكلم عن القرآن والإسلام والوحي وعن رسول الله وعن الله، وما أعظم التكليف وأشد المسؤولية أمام حملة هذا الخطاب الحسيني.

إشكالية تلقي المضامين الغريبة في الخطاب الحسيني

هناك جملة من عناصر الخطاب تتعلق ببعض المضامين التي قد تبدو غريبة بالنسبة لبعض الثقافات التي لا تنتمي لحملة هذا الخطاب، ما يشكل مفارقة من جهة طريقة التبليغ، فكيف نوفق بين مسؤولية إيصال ما وقع من أحداث الواقعة بكل مجرياتها من غيبيات ومعاجز وكرامات، ومن جهة أخرى إقناع الأطراف المتباينة المختلفة بإيصال الفكرة مشتملة على هذه المضامين كما هي دون نقصان أو زيادة، فنحن أمام أمرين إما التخلي عن هذه المضامين التي قد تبدو غريبة أو غير واضحة وإما أن يتم الإصرار على ذكر الأمور كما وردت في الروايات وكما تشكله من ضروريات الفكر الحسيني، فالإنسان في حيرة بين الأمرين، ويكون الأمر أكثر صعوبة عند استغلال بعض المغرضين في إثارة الاستهزاء والسخرية لهذه المضامين ومحاولة استسخاف العقول الحسينية المؤمنة بهذه الشعائر عبر إبراز بعض المضامين الغريبة بنحو ساخر لضرب المذهب ككل. 

عوامل نشوء السخرية تجاه هذه المضامين:

العامل الأول: ذهنية المتلقي للخطاب: قد تكون ذهنية المتلقي للخطاب غير مؤمنة بالغيبيات، منغمسة في الماديات، ولديها مشاكل عقائدية، وطرحها لهذه الإشكالات بدعاوى ثقافية ونقدية، وبعضهم يجد نفسه في هذه الإشكالات والتشويشات، وبعضهم لا ينتمى للإسلام أو التشيع، فالكلام عن تباين فكري وخلفيات متضاربة جداً تدعو المتلقي لهذا الخطاب أن يتعامل بأنماط مختلفة.

العامل الثاني: ذات مضامين الخطاب: بعض المضامين غير مألوف وقد يبدو غريبا للعقول وصادما للقلوب (رأس الحسين (ع) مقطوعا على رأس القنا وهو يقرأ القرآن، إمطار السماء دما بكاءً على الحسين) وغيرها من المضامين التي قد تبدو غريبة عند من لا يؤمن بالحسين (ع)، وقد يرونها مبالغات وأكاذيب وخرافات وأساطير ويجب تنقيتها، ويتجه البعض لإنكارها وتكذيبها والسخرية منها، هذه المضامين لها تفسيراتها لدى المؤمنين بها ومذكورة في كتب الفريقين، ولكن بعض العقليات قد لا تستوعب هذه الظواهر لارتباطها بالغيبيات والأمور غير المألوفة فيتم استنكارها وتكذيبها والسخرية من أصحابها.

العامل الثالث: أسلوب بعض حملة الخطاب الحسيني: بعض الأحيان الأسلوب غير مناسب عند فتح السعة لدى المتلقي، فإذا كان المتلقي من نفس المدرسة فهو سيتلقاها على نحو التسليم ومنسجمة مع المنظومة المعرفية تجاه أهل البيت عليهم السلام والجانب الغيبي المذكور في القرآن، فلا غرابة أن تصدر هذه الأمور من الحسين (ع)، ولكن عندما يتم الكلام عبر وسائل التواصل الاجتماعي والبث المباشر لمختلف الثقافات،  فبعض حملة الخطاب قد يغفل هذه الحيثيات فيتكلم على سجيته وبدون تهيئة مقدمات لهذه الأمور الصادمة التي قد تستثير بعض العقول التي لا تنتمي لهذه المدرسة أو لديه أغراض لضرب المذهب.

السؤال: أمام الانفتاح الموجود والواقع المفروض، كيف نعالج مشكلة هذه المفارقة؟ فهل يتم ترك هذا المضامين والتخلي عنها؟ أو يتم ذكرها بدون مبالاة أو مراعاة حتى لو تسببت بصدمة لدى العقول بشكل منفر. هناك أربعة مناهج لعلاج الإشكالية:

المنهج الأول: منهج التكتم على هذه المضامين: بعض الروايات تدعو إلى التكتم على أسرار آل محمد (ص)، حيث أن هناك من يصعب عليه تلقي هذه المعارف الغريبة وقد تتسبب له بردة فعل غير صحيحة، ولذلك فنحن في غنى عن ذكرها، وقد يتعدى الأمر إلى حد النهي التحريمي في بعض الروايات كما يفهم منها، وفي حديث للصادق (ع) (الْمُذِيعُ حَدِيثَنَا كَالْجَاحِدِ لَهُ)، فالرواية تؤكد على الترشيد في ذكر الأسرار لتجنب تسبب وقوع الناس في الرفض والاستنكار.

إيضاح وتبيين: الروايات تتكلم عن أسرار معينة وليس إيرادا لحقائق تاريخية مذكورة حتى في كتب العامة، وهذه المعاجز والكرامات فيها إمكان عقلي له حالات مشابهة حتى في القرآن الكريم، وأما بالنسبة لروايات الأسرار فهي تتكلم عن بعض المقامات والمعارف الخاصة التي قد تبدو غير مفهومة لدى بعض العقول وإذاعة هذه الأسرار قد يسبب تشويشا للعقول بما فيهم بعض الشيعة الذين قد ينزع بعضهم إلى الغلو والربوبية وهذا منهي عنه، فالواجب مخاطبة الناس بحسب عقلهم وعدم التخلي عن الحق وإبرازه. 

المنهج الثاني: منهج التشكيك لأجل التشكيك: يذهب أصحاب هذا المنهج إلى أنه لغرض حماية الخطاب الحسيني فعلينا أن نعمد إلى مذهب التشكيك والتحريض على عدم القبول أمام ضروريات ومسلمات؟ واعتماد التشكيك كمنهج وأصحاب الرؤية يرون أن هناك روايات صحيحة وغير صحيحة، وتراثنا مليء بالإسرائيليات والخرافات والأساطير وهي بحاجة إلى تنقية ويجب رفع اليد والتنازل عنها والتشكيك فيها واحترام العقول لكون العقل لا يستوعبها، فالعقل والاستذواق هو المقياس، أما التأويلات والصناعة العلمية فلا حاجة له.

هذا المنهج خطير جدا وفي جوانب كثيرة منه يقوم بالتشكيك لأجل التشكيك مجاملة لبعض العقول غير المؤمنة، أو أن العقل ابتعد عن الإيمان بالغيبيات فالعقل لديه فكرة مسبقة بالرفض ولا حاجة لالتماس الوجه في الصحة. وهذا النهج منهي عنه، وأدب الفقهاء في التعامل مع الروايات الضعيفة بأن يردون علمها لأهلها تجنبا لتكذيب أهل البيت، وهذا مقتضى الصناعة العلمية والفقاهة.

فالتشكيك في حد ذاته للتشكيك والهدم والتفكيك المنظومة للرفض والرد والهوس به، هذا منهج غير عقلائي وغير صحيح، أما التشكيك لأجل الوصول إلى اليقين هو الصحيح فالعاقل يريد التثبت وأن يحصل يقينا وطريق اليقين هو الشك بمعنى التساؤل والاستفهام والتعلم وهو مطلوب من الجميع. طريق التساؤل الاستفهام التثبت الشك من أجل اليقين هذا المنهج مطلوب من الجميع.

المنهج الثالث منهج التصادم: المنهج يقول بأنه في مقام (النقض والحل)، فهناك من يستسخف شعائر الحج من غير المسلمين لوجود بعض الشعائر مثل (الطواف حول حجارة، رمي الحجارة بالحجارة)، فهل يتم التخلي عن شعيرة الحج رغم أن هذه المضامين متفق عليها ومتواترة لدى جميع المسلمين؟، ومن جهة أخرى فنحن مأمورين بعدم كتمان الحق وإشهاره بصوت عالي ولا بد من إذاعته وإعلانه وعدم التكتم عليه (وَلاَ تَلْبِسُواْ الْحَقَّ بِالْبَاطِلِ وَتَكْتُمُواْ الْحَقَّ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ)، فالواجب إذاعة الحق، ومن لا يريد فليضرب رأسه بالجدار.

الرد على هذا المنهج: هذا المنهج لا يعير أهمية للأسلوب بغض النظر عن السخرية والرفض، وهذا الأسلوب عليه ملاحظة في الروايات أن يتم مراعاة العقل المقابل، فليس هناك غرض تصادمي، والروايات تطلب الحق من اجل إيصاله للناس وتفاعلهم واستنقاذهم من الضلالة والنار، فليكن التبليغ عن رحمة وشفقة والغرض الأول هو إيصال رسالة الحسين عليهم السلام، وليس بأسلوب تصادمي.

المنهج الرابع: المنهج الوسط والاعتدالي: في الحديث عن النبي (ص): (إنَّا مَعَاشِرَ الأنبياء أُمِرْنَا أَنْ نُكَلِّمَ النَّاسَ عَلَى قَدْرِ عُقُولِهِمْ‌)، وهذا يوحي بمراعاة تفاوت العقول والتماشي مع اختلافاتها، فلا تنازل عن أصل التحديث والكلام وتبيان الحقائق الثابتة المؤثرة المطلوب إيصالها، فحتى لو كانت غريبة فهي مذكورة في القرآن، وبعض الآيات في القرآن الكريم تتكلم عن قصص قد لا يصدقها غير المسلم (عصا موسى، قصة النبي سليمان، معاجز الأنبياء، الغيبيات)

من يؤمن بالغيب لديه عنصر هام للوصول إلى حقيقة الإيمان، فالعقل ليس المقياس الأساس في كل شيء، وفي العديد من المواطن إذا تجرد العاقل عن الرؤى المسبقة يجعل ما سمعه في خانة الإمكان وينظر إلى الموضوع بشكل صحيح ويدرسه من حيث الإمكان وعدمه.

فالمنهج أساسه هو طريق الاعتدال لا التخلي عن الحقائق لمجرد إقفال الناس لعقولهم واستسخافهم للمواضيع، ومن جهة أخرى فالمطلوب تهيئة القلوب والعقول لتقبل هذه الحقائق باللين والمنطقية والمنهجية العلمية الواضحة العقلائية وفقا للصناعة العلمية، فكل موقف له ظرف يسهل طريقة تلقي الحقائق.

إيصال الحقائق من وظيفة أصحاب الخطاب الحسيني المقدس، وهذا هو المطلوب في هذه الأيام والليالي، أن يتم تبيان وذكر الحقائق المعبرة عن مظلومية الحسين عليه السلام.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى