ثقافة

الأكبر ”ع” وثقافة الحياة بالموت!

ليلة 9 من محرم 1443 هـ

مقدمة

قول الأكبر (ع): (لا نبالي نموت محقين)، ماذا نفهم منه؟ هل يدعو لثقافة الموت؟ أم الحياة؟

  • الإجابة تعتمد على فهم خصائص نشأة الدنيا وما يليها، خصوصا عالم الموت، وبذلك نميز بين الزيف والحقيقة، فيكون التعامل بعيدا عن الانخداع والغفلة. وهنا وقفتان.

الوقفة الأولى: أهم خصائص عالم الدنيا:

  1. دار لهو ولعب ومتاع. (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَلَهْوٌ)، (إِنَّمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا مَتَاعٌ)، واللعب: الفعل الذي لا يجدي نفعا، ومنه يعلم أن المنافع الدنيوية ليست بشيء قياسا بالنفع الأخروي. واللهو: الانشغال عما يهم ويعني. والمتاع: المنفعة ذات اللذة المعجلة والمنقطعة. (وَفَرِحُوا بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا مَتَاعٌ)، فالمغتر من أخذ بالمنقطع اليسير على حساب الدائم الكثير، (وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ)، الأمير(ع): (وكل شيء من الدنيا سماعه أعظم من عيانه، وكل شيء من الآخرة عيانه أعظم من سماعه)، (وَإِنَّ الدَّارَ الْآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ).

2. الدنيا متصرمة قصيرة. مهما طالت فلا تقاس بعالم لا زمان فيه. النبي (ص): (ما بين الدنيا والآخرة غمضة عين)، (الدنيا ساعة)، الأمير (ع): (الدنيا كيوم مضى، وشهر انقضى)، (الناس نيام، فإذا ماتوا انتبهوا)، السجاد(ع): (الدنيا سِنة، والآخرة يقظة، ونحن بينهما أضغاث أحلام).

3. الدنيا دنيّة بلا قيمة. الأمير (ع): (والله لهي في العاجلة والآجلة أنتن من الجيفة، وأكره من الميتة، غير أن الذي نشأ في دباغ الإهاب لا يجد نتنه).

4. دار نغص. الأمير (ع): (أحذركم الدنيا؛ فإنها محلة تنغيص)، (دار المحن).

النتيجة: أن التعامل الصحيح مع عالم هذا شأنه يكون: 

  1. بجعل الأصالة للآخرة لا له، فهي ممر ومجاز، الأمير (ع): (إنك مخلوق للآخرة فاعمل لها، إنك لم تخلق للدنيا فازهد فيها).

2. بترك الانكباب عليها. الأمير (ع): (من كانت الدنيا همته اشتدت حسرته عند فراقها).

3. بالأخذ منها بحد الكفاية والاعتدال. الصادق (ع) عن لقمان: (وخذ من الدنيا بلاغا، ولا ترفضها فتكون عيالا على الناس، ولا تدخل فيها دخولا يضر بآخرتك).

4. الصبر على الطاعة وعن المعصية. الكاظم (ع): (اصبر على طاعة الله، واصبر على معاصي الله، فإنما الدنيا ساعة، فما مضى منها فليس تجد له سرورا ولا حزنا، وما لم يأت منها فليس تعرفه).

الوقفة الثانية: 5 حقائق عن عالم الموت:

  1. أنه رجوع لمحل الانتماء الحقيقي. (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ). فالمطلوب هو الالتفات إلى حركة الرجوع قبل أن تأتي بغتة فتتسبب بوحشة عظيمة، ومن لم يغفل يصفه النبي(ص): (ما شبهت خروج المؤمن من الدنيا إلا مثل خروج الصبي من بطن أمه من ذلك الغم والظلمة إلى رَوح الدنيا).

2. الموت كاشف لحجب الحقائق الموجودة فعلا، فتكون مشهودة بالبصر الروحي لا بالعين المادية التي لا صلاحية لها أصلا على معاينة هذه البواطن الخطيرة، فبصر ما بعد الموت انفعال حقيقي بالحقيقة الغيبية بالحضور، لا بالانطباعات الذهنية. (لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هَذَا فَكَشَفْنَا عَنْكَ غِطَاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ)، (يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ)، الأمير(ع): (فإنكم لو قد عاينتم ما قد عاين من مات منكم لجزعتم..، وسمعتم، وأطعتم، ولكن محجوب عنكم ما قد عاينوا، وقريب ما يُطرح الحجاب).

3. الموت خطوة مهيئة للقيامة بدرجة أرقى من الحياة بالنسبة للدنيا. النبي (ص): (إذا مات أحدكم فقد قامت قيامته، يرى ما له من خير وشر).

4. الموت قريب محيط بالدنيا متعلق بكل ذرة من ذراتها. الأمير (ع): (إن الموت لمعقود بنواصيكم، والدنيا تُطوى من خلفكم).

5. الموت تجلٍّ لعصارة الدنيا، وعلاج لكلٍّ بحسبه، وذلك يفسر اختلاف الروايات الواصفة للاحتضار.

النتيجة: نفهم مما تقدم أن النظرة حول الموت تعتمد على سعة الرؤية الكونية التحقيقية، فيضيق عند من يجهل حقيقته، ويتسع عند من تدبّر في إخبارات الله ونبيه(ص) وأهل بيته (ع).

  • الموت خلاصة هذه الحياة، فمن قدم لنفسه لم يهرب منه، بل طلبه طلبا للراحة والحيوان، وفي إطار التكليف، ومن لم يقدم لنفسه بأن تعلق بالدنيا، فإنه لا يريد أن ينتقل إلى خراب بعد أن عمر دنياه بزينتها الكاذبة.
  • الموت ثقافة عالية لا يدركها من تعلق بالدنيا، فالحياة الحقيقية هناك، وثقافة الحياة البائدة هي الموت الحقيقي.
  • ليست هذه دعوة للانزواء عن الدنيا، بل إلى التعامل معها بما تستحق، فثقافة الموت ثقافة حياة، لا ثقافة تنغيص وتثبيط إلا لمن غرته زينة الدنيا، وأخذته زخارفها الخاوية.

– السؤال حول قول الأكبر (ع) “هل يدعو لثقافة الموت أم الحياة؟” يستبطن الإذعان بالمغايرة بين الموت والحياة، والحال أن الموت هو عين الحياة، وتجلٍّ لها، وله أجل، فالسعي يكون لا إلى الموت المعروف، ولا إلى حياة الدنيا، بل إلى الحياة الحقيقية الأخروية، فلا حساب للموت والحياة حينها إلا بمقدار ما يوصل إلى تلك الحياة، فهي ثقافة حياة بحياة الدنيا المستقيمة وبخلاصتها المتمثلة في الموت!

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى