ثقافة

القضية الفلسطينية – مواقف ونتائج

أعوذ بالله السميع العليم، من شر نفسي الأمارة بالسوء، ومن شر الشيطان الرجيم.

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين.

اللهم صل على محمد وآل محمد، وارحمنا بمحمد وآل محمد، واهدي قلوبنا بمحمد وآل محمد، وعرف بيننا وبين محمد وآل محمد، واجمع بيننا وبين محمد وآل محمد، ولا تفرق بيننا وبين محمد وآل محمد طرفة عين أبدا في الدنيا والآخرة يا كريم.

اللهم معهم.. معهم لا مع أعدائهم.

السلام عليكم أيها الأحبة: أيها الأخوة والأخوات في الله ورحمة الله تعالى وبركاته. 

مدخل تاريخي للقضية الفلسطينية

أيها الأحبة الأعزاء: فلسطين بلد عربي مسلم فتحها المسلمون في معركة اليرموك، وأصبحت جزءا من العالم الإسلامي على عهد الخليفة الثاني عمر بن الخطاب في عام: 636 م. وقد اغتصبها الصهاينة بالقوة والحديد والنار، بعد أن قتلوا مئات الآلاف من أهل فلسطين، وشردوا آخرين، وأذلوا الباقين، ولا زالوا يمارسون القتل والإذلال والتدمير اليومي للبنية التحتية وفرض الحصار الشامل على الفلسطينيين. وقد نشأ باحتلال الصهاينة لفلسطين العزيزة تكليف شرعي في رقاب كافة المسلمين من مشارق الأرض إلى مغاربها ومن شمالها إلى جنوبها بتحرير فلسطين، ولا يجوز لهم ـ بحسب أقوال الفقهاء ـ التنازل عن شبر واحد منها للصهاينة أو لغيرهم من المحتلين. 

أيها الأحبة الأعزاء: لقد بدأت القضية الفلسطينية كقضية على الساحة الدولية مع ما عرف بوعد بلفور، نسبة إلى وزير الخارجية البريطاني آنذاك جيمس آرثر بلفور، الذي ينتمي إلى التيار المحافظ المعروف بالمسيحية الصهيونية، في رسالـة بعـث بهـا إلى اللورد روتشيلد (المليونير الصهيوني المعروف) بتاريخ: (2 / نوفمبر ـ تشرين الثاني / 1917م) أعلن فيها عن تعاطف بريطانيا مع الأماني الصهيونية في إقامة وطن قومي لليهود في فلسطين.. وهذا نص الرسالة: «عزيزي اللورد روتشيلد. يسعدني كثيراً أن أنهي إليكم نيابة عن حكومة جلالة الملك التصريح التالي: تعاطفاً مع أماني اليهود الصهاينة التي قدموها ووافق عليها مجلس الوزراء، إن حكومة جلالة الملك تنظر بعين العطف إلى تأسيس وطن قومي للشعب اليهودي في فلسطين، وستبذل أفضل مساعيها لتسهيل تحقيق هذه الغاية، على أن يفهم جلياً أنه لن يسمح بأي إجراء يلحق الضرر بالحقوق المدنية والدينية التي تتمتع بها الجماعات غير اليهودية القائمة في فلسطين، ولا بالحقوق أو بالمركز السياسي الذي يتمتع به اليهود في البلدان الأخرى».

وبعد هذا الوعد الغادر بدأ الصهاينة يتدفقون على فلسطين العزيزة جماعات.. جماعات، وتركز نشاطهم على شراء الأراضي وبناء المستعمرات. وكانت بريطانيا قد دخلت إلى فلسطين وسيطرت عليها على إثر انتصار الحلفـاء في الحرب العالمية الأولى على دول المحور في (أكتوبر ـ تشرين الأول / 1917م) ثم خضعت فلسطين رسميا للانتداب البريطاني في عام 1920م.

وقد سعت بريطانيا منذ البداية لتنفيذ وعد بلفور المشؤوم، وتحويله إلى واقع على الأرض، مما أدى إلى مواجهات عنيفة بين الفلسطينيين من جهة، والصهاينة والبريطانيين من جهة ثانية.. وفي ظل ذلك وبمؤامرة دولية خبيثة: أصدرت الأمم المتحدة بتاريخ: (29 / نوفمبر ـ تشرين الثاني / 1947م) قراراً بتقسيم فلسطين بين العرب والصهاينة رفضه العرب.

وبتاريخ: (14 / مايو ـ آيار / 1948م) أعلنت بريطانيا إنهاء الانتداب وبدأ الجلاء عن فلسطين، بعد أن أنهت مهمتها القذرة في إعداد وإنشاء الكيان الصهيوني الغاصب وتسليحه، فأعلن الصهاينة في نفس الوقت قيام دولة الشر والعدوان المسماة: إسرائيل، بالتنسيق الكامل مع بريطانيا. فنشبت الحرب بين الدول العربية المجاورة لفلسطين مع القوات الصهيونية. وبسبب المؤامرات الدولية، وتفرق العرب وسوء إدارتهم للحرب وتخاذل بعضهم وخيانة البعض الآخر، انتصر الصهاينة وسيطروا على القسم الأكبر من أرض فلسطين العزيزة، وقتلوا مئات الآلاف من الفلسطينيين، وشردوا آخرين، وأذلوا الباقين.. فيما عرف بنكبـة: 1948م.

ثم في حرب (5 / يوليو ـ حزيران / 1967م) سيطر الصهاينة على ما تبقى من أرض فلسطين: الضفة الغربية وقطاع غزة، بالإضافة إلى هضبة الجولان السورية وشبه جزيرة سيناء المصرية. ثم نشبت حرب أكتوبر (6 / أكتوبر ـ تشرين الأول / 1973م) وفيها عبر الجيش المصري قناة السويس واسترد جزءاً من جزيرة سيناء، واقتحم الجيش السوري هضبة الجولان وأوقع خسائر فادحة بالصهاينة. إلا أن سوء الإدارة السياسة وفساد الأنظمة العربية، والرعب الذي كان يملأ قلوب الساسة العرب، والرغبة الكامنة لديهم في الصلح مع الكيان الصهيوني، قد حول النصر إلى هزيمة سياسية نكراء، انتهت بتوقيع اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة في عام: 1979م خرجت مصر بموجبها من ساحة الصراع العربي الصهيوني.. وبعد الاتفاقية المشؤومة: أقر الكنيست الصهيوني مشروع قانون بإخضاع القدس الشرقية للسيادة الصهيونية، واعتبار القدس الموحدة عاصمة أبدية للكيان الصهيوني، وضم الجولان للكيان الصهيوني.

مفاصل تاريخية للمقاومة الفلسطينية

بقرار من مؤتمر القمة العربي الأول الذي عقد في الإسكندرية بتاريخ: (13 / يناير ـ كانون الثاني / 1964م) أنشأت منظمة التحرير بهدف إيجاد كيان واحد ممثل للشعب الفلسطيني والعمل على تحرير فلسطين، وضمت المنظمة كافة منظمات المقاومة وفصائل الثورة الموجودة آنذاك، وكان أحمد الشقيري هو أول رئيس للمنظمة، ثم أبعد عن الرئاسة في عام: 1968م وحل مكانه ياسر عرفات وبعد وفاة ياسر عرفات في ظروف غامضة تولى محمود عباس رئاسة المنظمة. وفي عام: 1974م اعترفت الأمم المتحدة بمنظمة التحرير ممثلاً شرعياً وحيداً للشعب الفلسطيني.

وكانت المقاومة المسلحة هي محور اهتمام المنظمات والفصائل الفلسطينية منذ مطلع عام: 1965م حيث الإعلان عن حركة فتح حتى عام: 1970م. ثم تكشفت الأمور عن وجود برامج اتصالات سياسية تستهدف الحل السياسي مع الكيان الصهيوني، وبدأت أطروحات التسوية السياسية تطفو على السطح بصورة مبكرة، وتغلغل هذا التوجه في أجهزة منظمة التحرير. وبعد اجتماع المجلس الوطني الثاني عشر في صيف: 1974م، أصبح حديث التسوية حديثاً رسمياً، ثم أصبح يمثل الاتجاه الرئيسي في قيادة منظمة التحرير في عام: 1977م. ثم جاء الاجتياح الصهيوني إلى لبنان في عام: 1982م وكان من نتائجه خروج أهم قيادات منظمة التحرير من لبنان.. ومن المفارقات العجيبة: أن الاجتياح أنجب المقاومة الإسلامية في لبنان من جهة، وكرس دور قيادة منظمة التحرير في عملية التسوية من جهة ثانية. فأخذت المقاومة الفلسطينية المسلحة تتضاءل، بينما تتصاعد وتيرة العمل الدبلوماسي نحو التسوية، حتى أصبح هذا الاتجاه هو الاتجاه الرئيسي لنشاط منظمة التحرير وعملها على صعيد القضية الفلسطينية.

عوامل الانتقال للمقامرة السياسية

وهنا أرغب في تلخيص بعض أهم العوامل التي ساهمت -بحسب رأيي – في الانتقال من المقاومة المسلحة إلى المقامرة السياسية بدون الدخول في التفاصيل، بهدف الاستفادة من العوامل في تجارب حركات التحرير والثورة والإصلاح في الدول العربية والإسلامية..والعوامل هي:

العامل الأول:

ربط مصير حركة التحرير بواقع الأنظمة العربية الفاسدة ومواقفها وبالأجندة الدولية، بدلاً من الحرص على الاستقلال، وفرض الحق على أرض الواقع بالعمل المقاوم الجاد والمؤثر. وسوف تتضح حقيقة وقيمة هذا العامل أكثر في نهاية الحديث، حين أتناول بعض نتائج تجربة المقاومة الإسلامية في لبنان.

العامل الثاني:

تسلل العناصر المخملية الضعيفة والبعيدة عن الميدان إلى المراكز القيادية الحساسة في المنظمة، واحتشاء جسم المنظمة بعناصر غير نضالية. ويوجد في ورقة العبور بعض التفصيل للرؤية الإسلامية لهذا العامل.

العامل الثالث:

سيادة المبادئ البرجماتية التي تسمح بتجاوز القيم والثوابت في تفكير القيادات الرئيسية في دوائر صناعة القرار تحت عناوين براقة وخادعة مثل الحكمة والواقعية وفن الممكن وفصل السياسة عن الدين والأخلاق والقيم. 

العامل الرابع:

استبداد القيادات بالقرار، وعزل الجماهير كلياً عن المساهمة الفعلية في صناعته، وتعطيل دورها في المراقبة والمحاسبة، ومطالبتها بالإتباع الأعمى والتطبيل للرموز والقيادات باسم الوطنية والالتزام الحزبي في العمل التنظيمي، وغير ذلك من قواعد الخداع والتضليل والتسويق للدكتاتورية والاستبداد!!

العامل الخامس:

تقبل بعض الجماهير لقواعد الخداع والتضليل والتسويق للدكتاتورية والاستبداد، وأتباعها للرموز والقيادات كأشخاص، وليس كحملة أفكار وأصحاب منهج وكفاءة، فتميل الجماهير مع ميل الرموز والقيادات، بغض النظر عن الأفكار والمناهج والنتائج التي تفرزها العملية السياسية أو الجهادية على أرض الواقع. وأعتقد بأن هذا هو أخطر العوامل، لأنه يهدم ركيزة الإصلاح والتطوير في العملية السياسية والجهادية للشعوب المستضعفة التي تسعى للتحرير أو الثورة أو الإصلاح، وهو مخالف بالكامل للمنهج الإسلامي ـ وفق النصوص الصريحة في القرآن الكريم والأحاديث الشريفة ـ ولا يتسع المجال للشرح، وقد بينت بعضا من الرؤية الإسلامية لهذا العامل في مناسبات سابقة.

الاستمرار نحو التسوية السياسية

أيها الأحبة الأعزاء: وبينما كان الخط البياني يشير إلى تنازل المقاومة المسلحة والاتجاه نحو التسوية السياسية الخاسرة مع الكيان الصهيوني، أخذ الشعب الفلسطيني زمام المبادرة من جديد، ليعيد الأمور إلى نصابها الصحيح، فانفجرت انتفاضة أطفال الحجارة الغاضبين في فلسطين بتاريخ: (8 / ديسمبر ـ كانون الأول / 1987م) وبرزت حركة حماس، ثم حركة الجهاد الإسلامي كحركتي مقاومة شعبية وقوى استشهادية مسلحة، إلا أن ذلك لم يدفع منظمة التحرير لإعادة النظر والعودة إلى خيار المقاومة المسلحة من جديد، وإنما استمرت بخطى متسارعة نحو التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني العدواني الغاصب لفلسطين.. وذلك لأسباب عديدة منها:

السبب الأول:

اتجاه دول الطوق العربية نحو التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني، مما ولد الخوف لدى منظمة التحرير من التهميش ببقائها خارج إطار عملية السلام، لاسيما بعد مؤتمر مدريد واتفاقية وادي عربة بين الكيان الصهيوني والأردن في عام 1993م، وطرح التسوية السلمية بأنهـا الخيار الاستراتيجي الوحيد لـدى الدول العربية في حل القضية الفلسطينية، سواء الدول التي وقعت اتفاقيات مع الكيان الصهيوني والتي لم توقع. وقد دفع هذا منظمة التحرير للقبول بخيار التسوية كأمر واقع على قاعدة فن الممكن، وسعت لكي يكون لها برنامج سلام خاص بها مع الكيان الصهيوني.

السبب الثاني:

خشية منظمة التحرير من منافسة حركتي حماس والجهاد لها على قيادة الساحة الفلسطينية وتقدمهما وفرض وجودهما عليها، حيث بدأت قاعدتيهما الجماهيرية في الاتساع على الساحة الفلسطينية بوتيرة سريعة على حساب قاعدة منظمة التحرير الجماهيرية، وبروز الحركتين كقوتين فاعلتين ومنافستين لمنظمة التحرير، بعد أن كانت المنظمة متربعة على كرسي القيادة للشعب الفلسطيني بدون منافس لأربعة عقود من الزمن تقريباً. وهذا ربما يكون قد ولد لديها شعوراً بأنها صاحبة الاستحقاق الأول والأولى بالقيادة للشعب الفلسطيني، ويكون دخولها في مشروع التسوية السياسية بمثابة قطع الطريق على منافسيها الذين يتطلعون إلى قيادة الشعب الفلسطيني، وفرض قيادتها كأمر واقع على الساحة الفلسطينية، في ظل الدعم الدولي والعربي لمشروع التسوية وموافقة الهوى الصهيوني لذلك.. ولفهم أفضل لهذا الموضوع: ينبغي أن تأخذ بعض عوامل التحول التي ذكرت قبل قليل بعين الاعتبار.

وعلى مستوى التأثير ميدانياً على واقع الانتفاضة وحركة المقاومة المسلحة: فقد وضع اتجاه منظمة التحرير نحو التسوية السياسية مع الكيان الصهيوني الانتفاضة الشعبية وحركة المقاومة المسلحة للشعب الفلسطيني.. بين مربع الضغط التالي:

الضلع الأول:

الضغوط الصهيونية الشرسة التي تستهدف البنية التحتية للشعب الفلسطيني بالتدمير وعناصر المقاومة بالاغتيال.

الضلع الثاني:

المؤامرات الدولية بقيادة الشيطان الدموي أمريكا وحلفائها الدوليين وتوظيف مجلس الأمن كأداة لتحقيق أهدافهم الشيطانية وأجندتهم الخبيثة ضد الشعب الفلسطيني بوجه عام ومقاومته بوجه خاص.

الضلع الثالث:

تخاذل الأنظمة العربية بسبب توجهاتها نحو التسوية السلمية مع الكيان الصهيوني القائمة على تبعيتها لأمريكا والغرب وعزلتها عن الشعوب، وممارستها الضغوط المتنوعة على المقاومة لحملها على التخلي عن خيار المقاومة، ومن الضغوط منع المساعدات المادية والإنسانية عن الشعب الفلسطيني.

الضلع الرابع:

الشرطة الفلسطينية التي استخدمت لمواجهة المقاومة، وبروز شبح المواجهات البينية بين الفلسطينيين.

المقاومة الإسلامية في لبنان

في سبيل اكتمال الصورة عن المقاومة في فلسطين، لابد من الانتقال إلى الحديث عن المقاومة الإسلامية في لبنان. فالحديث عن القضية الفلسطينية ومقاومة الشعب الفلسطيني البطل ضد الكيان الصهيوني الغاصب، يبقى ناقصاً ما لم يتم التعرض إلى التوأم الآخر للمقاومة.. وهو المقاومة الإسلامية الباسلة في لبنان: فبين المقاومتين تكامل ووحدة هدف ووحدة استهداف استكباري ووحدة مصير.

أيها الأحبة الأعزاء: ولدت المقاومة الإسلامية اللبنانية بالاجتياح الصهيوني إلى لبنان في عام: 1982م، وقد نجحت في شق طريقها بين الصعوبات وحقول الألغام الدولية والإقليمية والمحلية، وحققت انتصارها الأول ضد الكيان الصهيوني في عام: 2000م، وذلك بإجباره على الانسحاب بالقوة من الجنوب اللبناني، ويعد ذلك من المفاصل التاريخية المهمة والحيوية جداً في تاريخ القضية الفلسطينية وقضية الصراع مع الكيان الصهيوني وقوى الاستكبار العالمي، لأنها المرة الأولى التي ينجح فيها شعب عربي بتجربة غنية بالدروس والعبر في تحرير أرضه بالقوة من الكيان الصهيوني الغاصب، ليعيد الاعتبار والثقة لدى الشعوب العربية بنفسها.. ويعود الانتصار لتوفر أسباب عديدة في التجربة المتكاملة منها:

توفر الإرادة الشعبية الفولاذية المخلصة في الجهاد والمقاومة.

توفر القيادة الحكيمة المخلصة والقوية التي تمتلك إرادة المقاومة والتحرير.

اعتماد العمل المؤسسي عالي القدرة، حيث يعتمد على النظام والدقة والسرية والتنوع، وبناء الكوادر المؤهلة التي تغطي كافة احتياجات المقاومة، ومنحها الصلاحيات الكاملة وغير المنقوصة.. بعيداً عن الاستبداد والفردية في اتخاذ القرارات.

الاعتماد على الأسلوب العلمي في التخطيط والتحضير للمعركة وإدارتها.

الاعتماد على الامتداد الشعبي والتكامل معه في العمل المقاوم.

الاهتمام بكافة الجوانب: العسكرية والسياسية والثقافية والاقتصادية والاجتماعية والإعلامية وغيرها المطلوبة في المعركة وفي بناء الكوادر وتأهيلها وفي بناء القاعدة الجماهيرية وتحصينها -المواجهة الشاملة – ولا ينسى دور البعد الديني والالتزام بخط الولي الفقيه.

ومن بركات الله الرحمن الرحيم، أنه في شهر سبتمبر من نفس العام: 2000م، انفجرت الانتفاضة الثانية للشعب الفلسطيني، إثر زيارة الإرهابي شارون الاستفزازية إلى باحة الحرم القدسي، لتقيم الانتفاضة الدليل القطعي على أن خيار المقاومة هو خيار الشعب الفلسطيني بامتياز. ثم تجلي الله بجلال وجهه الكريم على قلوب عباده المؤمنين، فحققت المقاومة الإسلامية اللبنانية انتصارها الثاني على الكيان الصهيوني الغاصب في حرب (12 / يوليو ـ تموز / 2006م) لتقدم بذلك أعظم هدية للقضية الفلسطينية وللشعب الفلسطيني المقاوم وللعرب والمسلمين، وأعظم إنجاز وأخطر منحنى في تاريخ الصراع مع الكيان الصهيوني الغاصب وقوى الاستكبار العالمي. فقد هدم الانتصار أسطورة الجيش الصهيوني الذي لا يقهر.. وكتب مكانها بقلم الصبر وحبر الدم: المقاومة الإسلامية الشعبية التي لا تقهر، وأعاد للشعوب العربية والإسلامية الاعتبار والثقة بالنفس.

وهنا أرغب في الوقوف على بعض الحقائق المهمة التي أكدها هذا الانتصار العظيم للمقاومة الإسلامية على الكيان الصهيوني الغاصب، وسوف أختار منها بعض الحقائق التي تحمل دروساً وعبراً يمكن الاستفادة منها في إغناء تجربة المقاومة والصراع مع الكيان الصهيوني وقوى الاستكبار العالمي، وتجارب حركات التحرير والثورة والإصلاح في الدول العربية والإسلامية.. والحقائق هي:

الحقيقة الأولى:

أن إرهاب الدولة مهما ألحق من أضرار بالشعوب، فإنه لا يقضي على المقاومة فيها، وإنما يولدها وينميها ويقوي عودها وينتهي بها إلى النصر، إذا امتلكت الشعوب الصبر وواصلت طريق الكفاح وأخذت بالأسباب اللازمة ووفرت الشروط المطلوبة للنصر، وليست الكثرة والتفوق في العتاد من الشروط المطلوبة لتحقيق النصر ـ بحسب التجربة في معارك الرسول الأعظم الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) ومعركة حزب الله مع الكيان الصهيوني ـ وفي ذلك رسالة واضحة لقوى الاستكبار العالمي وللحكومات المستبدة التي تمارس القمع والإرهاب ضد شعوبها.

الحقيقة الثانية:

أن القرارات الدولية الباغية، ومساعي الدول العظمى الخبيثة، والقوانين الجائرة التي تصدرها الحكومات الدكتاتورية المستبدة لتقييد حريات شعوبها وشل حركتهم من أجل الإصلاح والثورة، لا قيمة لها على أرض الواقع، إذا قررت الشعوب رفضها ومقاومتها وأصرت على تغييرها بإرادة الجهاد والمقاومة المشروعة. فإن الشرعية هي للحق المؤكد، ولا شرعية للقوانين الجائرة والقرارات الباغية، وأن الذي سيفرض في النهاية على أرض الواقع، هو فقط ما تريده الشعوب المكافحة وتصر عليه.

الحقيقة الثالثة:

لم يعد مستقبل القضية الفلسطينية ومصير المنطقة رهينة بيد الأنظمة العربية الفاسدة، وإنما أصبح للإرادة الشعبية دورها الفاعل والأساسي في ذلك، وأن الشعوب العربية والإسلامية أصبحت تتطلع إلى نوعية جديدة من القيادات على مستوى الحكومة والمعارضة.. مما يجعل مستقبل الأنظمة يتوقف على مدى استجابتها لإرادة شعوبها. 

الحقيقة الرابعة:

إذا أخذنا بعين الاعتبار التجربة عالية القدرة والقيمة لحزب الله في التعمير وتقديم المساعدات للمتضررين، التي بدأها منذ اليوم الأول بعد توقف العدوان الصهيوني على لبنان الإباء والعزة والكرامة، وحول من خلالها الشارع اللبناني بأكمله إلى ضفة المقاومة كقوة إضافية في مشروع المقاومة تعتمد على التكامل الشعبي، متجاوزاً في ذلك البعد الطائفي: الديني والمذهبي، في حالة فريدة من نوعها لم يسبق لها مثيل في عالمنا العربي والإسلامي، ليقدم مشروعاً شعبياً متكاملاً: عسكرياً وسياسياً واقتصادياً وفكرياً واجتماعياً وإعلامياً بديلاً عن مشاريع الأنظمة الفاسدة والمتخاذلة والعميلة، فإن هذا يثبت بما لا يدع مجالا للشك واقعية الدعوة للمشروع الشعبي المتوفر على كافة الشروط اللازمة للانتصار والتقدم، وأنه الأساس لأية عملية تحرير أو لأية عملية ثورية أو إصلاحية جادة في العالمين: العربي والإسلامي، وأنه مصدر الأمل الحقيقي الوحيد لتأمين مستقبل مشرق للأمتين: العربية والإسلامية، يتناسب مع حجمهما وتاريخهما والرسالة السماوية العظيمة التي أؤوتمنتا عليها.

تنبيه على مشروع الشرق الأوسط الجديد

وفي الختام: أرغب في التنبيه إلى أن القائمين على مشروع الشرق الأوسط الكبير أو الجديد وحلفائهم من الدول والقوى والمؤسسات والرموز السياسية والدينية والإعلامية على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي في لبنان وفلسطين، سوف يسعون لوضع المقاومة في لبنان وفلسطين بين خيارين: القبول بالتسوية أو التصفية.

وها نحن نشهد اليوم المساعي الدولية الوقحة على الصعيد الفلسطيني ليس من أجل الحل العادل للقضية الفلسطينية والتقليل من معاناة الشعب الفلسطيني المظلوم، وإنما من أجل القضاء على المقاومة الفلسطينية الباسلة وفرض التسوية على الشعب الفلسطيني البطل لصالح الكيان الصهيوني الغاصب.. وعلى الصعيد اللبناني: نشهد المساعي من خلال القوات الدولية بالتعاون مع حلفاء المشروع الصهيوأمريكي في الداخل، ليس لمنع العدوان الصهيوني على لبنان، وإنما لمحاصرة حزب الله ونزع سلاحه، وضرب القدرات الدفاعية لدى المقاومة الإسلامية في لبنان، ليبقى لبنان ساحة مفتوحة للعربدة الصهيونية، وتبقى الكلمة العليا فيه لأمريكا والكيان الصهيوني الغاصب، ثم جر لبنان الأبي والعزيز والشريف، نحو الحلف الصهيوأمريكي ضمن مشروع الشرق الأوسط الجديد.

وسوف تشهدون أيها الأحبة الأعزاء في الأيام القادمة أوضاعاً وأحداثاً صعبة جداً وقذرة تفوق حدود التصور والمعقول، ليس في لبنان وفلسطين فحسب، وإنما في المنطقة بأكملها، من خلال ما يسمونه «بالفوضى الخلاقة» التي تعني: تفتيت الكيانات المستهدفة من خلال الفوضى، ثم فرض الشروط اللازمة للوصاية عليها بواسطة الأدوات السياسية، وفي مقدمتها مجلس الأمن الذي أصبح أداة بيد أمريكا وحلفائها المجرمين.. وسوف تشارك في اللعبة القذرة دولا وقوى ومؤسسات ورموزاً وشخصيات دينية وسياسية وفنية وإعلامية وغيرها، على المستوى الدولي والإقليمي والمحلي، لجر الكيانات للحلف الصهيوأمريكي، بهدف تحقيق مشروع الشرق الأوسط الجديد والأجندة الأمريكية والغربية القذرة في المنطقة والعالم. وتعتبر تصريحات البابا الأخيرة عن الإسلام خطوة على هذا الطريق، وسوف نشهد مزيداً من التوتير الطائفي: الديني والمذهبي، والتوتير العرقي في المنطقة والعالم بأسره.

أيها الأحبة الأعزاء: انظروا إلى تجربة لبنان بعين فاحصة لتأخذوا منها الدروس والعبر في حياتكم الدينية والأخلاقية والسياسية.. فسوف تجدون: بأنه رغم الانتصار الذي حققه حزب الله المظفر، فإن أطرافاً دولية وإقليمية ولبنانية: دينية وسياسية وغيرها، تحيك المؤامرات القذرة التي تخرج بجدارة عن حدود الذوق والمعقول، من أجل محاصرة المقاومة الإسلامية ونـزع سلاح حزب الله، وفرض الوصايـة على لبنان وجره للحلف الصهيوأمريكي المجرم، معتمدين على التفسير الخاطئ المتعمد وبصلافة ملؤها الوقاحة للقرار: 1701 الصادر عن مجلس الأمن، والسعي لتطبيقه الفج على هذا الأساس، ضاربين بالقيم والمواثيق الدولية عرض الحائط، فالغاية تبرر الوسيلة، وكل شيء يهون لديهم في سبيل تحقيق أهدافهم الشيطانية وأجندتهم الخبيثة!!

والخلاصة: فإن المطلوب منا ـ كشعوب عربية وإسلامية ـ في ظل ذلك كله، هو الالتزام بالخيار الشعبي المتكامل البعيد عن الطائفية، والتمسك بالإصلاح الوطني الشامل بجدية وصدق، ومقاومة الحلف الصهيوأمريكي الجديد الذي بدأت بوادره في المنطقة بالظهور بحس إسلامي وقومي ووطني عميق وصادق، وأن نعرف بدقة متناهية أعداءنا وأصدقاءنا في المنطقة والعالم، وأن نصطف ـ بهدف توحيد المعركة ـ مع كافة الدول والقوى والمؤسسات والرموز التي تناصرنا في قضايانا العادلة، وتنحاز إلى خياراتنا الصائبة فيها بقوة وفاعلية وإخلاص.. وعلينا: أن نحذر من الضعفاء والمنافقين واللصوص والذين ينصبون لنا الكمائن في الطريق ومن الفتنة الطائفية العمياء ومن التضليل الإعلامي الخبيث الذي يخدم أجندة الشيطان والاستبداد وقوى الاستكبار العالمي، وأن نتسلح بالوعي والإيمان والصبر، وأن نثق بالوعد الإلهي لنا بالنصر على الأعداء.


[1]–  محاضرته في مهرجان القدس السادس بتاريخ 4 / رمضان / 1427هـ الموافق: 28 / سبتمبر ـ أيلول / 2006م.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى