ثقافة

المحّنة … ومصائب الأمم

المحنّة

ومصائب الأمم

مِنَ الْحُسَيْنِ بْنِ عَلِيٍّ إِلَى سُلَيْمَانَ بْنِ صُرَدَ وَالْـمُسَيَّبِ بْنِ نَجَبَةَ وَرِفَاعَةَ بْنِ شَدَّادٍ وَعَبْدِ اللهِ بْنِ وَالٍ وَجَمَاعَةِ الْـمُؤْمِنِينَ‏: «أَمَّا بَعْدُ فَقَدْ عَلِمْتُمْ أَنَّ رَسُولَ اللهِ  قَدْ قَالَ فِي حَيَاتِهِ مَنْ رَأَى سُلْطَاناً جَائِراً مُسْتَحِلّاً لِحُرُمِ اللهِ نَاكِثاً لِعَهْدِ اللهِ مُخَالِفاً لِسُنَّةِ رَسُولِ اللهِ يَعْمَلُ فِي عِبَادِ اللهِ بِالْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ ثُمَّ لَمْ يُغَيِّرْ بِقَوْلٍ وَلَا فِعْلٍ كَانَ حَقِيقاً عَلَى اللهِ أَنْ يُدْخِلَهُ مَدْخَلَه». ([1])

أن عالم التكوين .. وعالم التشريع بيد الله تعالى؛ فالذي أوجد خاصيّة الموت بسبب أكل السم، هو نفسه الناهي عن المحرمات التي هي سبب لهلاك الأفراد والمجتمعات.

تمهيد …

إنّ القران والأحاديث الشريفة تؤكّدان على أن الانسان الممتحن والأمة الممتحنة تتحمل مسؤلية هذه المحنة ووقوعها وابتلاء الناس بها يقول الله تعالى ﴿وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُمْ﴾([1]) وكذا قوله تعالى ﴿ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذيقَهُمْ بَعْضَ الَّذي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُون‏﴾([2])!

فالمحنُ والابتلاءاتُ والمصائبُ هي تجسيدٌ للأعمالِ التي قدَّمها النّاسُ أنفسهم، إن خيراً فخير، وإن شراً فشر!!

 

  • عوامل وأسباب الابتلاءات «الذنوب»

إنّ «الفساد» والاختلاف في هذا الكون، أمرٌ لا ينسجم ولا يتناسب مع هذا الكون والوجود المبني على «الحق»، وأنّ سببه هو النّاس وظلمهم وتعدّيهم وعدم تقيّدهم بالنُّظم الربانية، سواءً على صعيد التكوين أم التشريع.

 أمّا على صعيد التكوين: فان السمَّ مثلاً قاتلٌ، وإذا غفل الإنسان عن هذه الحقيقة وتحدّى هذه المعادلة وشربه فإنه يموت حتماً بسب ذلك!

وأمّا على صعيد التشريع: فإنّ القرآن الكريم وكذا الروايات يثبتان الارتباط الــوثـــيق بين الـطــاعات والــبركات، قال تـعـالى: ﴿وَأَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّريقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً﴾([3]) وقوله تعالى: ﴿وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالْأَرْضِ﴾.([4])

وبين الذنوب والبلاءات قوله تعالى: ﴿وَما أَصابَكُمْ مِنْ مُصيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْديكُم‏﴾([5]) وكما في يستفاد من الحديث «ما استحدث الناس نوعاً من الذنوب، إلا استحدث الله نوعاً من البلاء»!

والحاصل: «أن عالم التكوين وعالم التشريع بيد الله تعالى؛ فالذي أوجد خاصيّة الموت بسبب أكل السم، هو نفسه الناهي عن المحرمات التي هي سبب لهلاك الأفراد والمجتمعات».

إذا وقعت المحنة والابتلاءات فلا ينبغي الاستسلام لها، بل لا بد من الصمود أمام المحن وعدم الانهزام تجاهها، ولابد من تحمّل المسؤلية

 

  • هموم الأمة وبلاء المستضعفين في الأرض

على وجه الأرض أناسٌ ما عرفوا معنى الهناء والرفاه منذ فتحوا أعينهم على الدنيا! فهم لم يروا ولا يرون إلا البؤس والفقر والموت جوعاً وعطشاً والأمراض الفتاكة وظلم الطغاة و………إلخ!!

وأن من الواجب على المؤمن المتربي في مدرسة الإسلام والإيمان أن تكون همومه أوسع من المحيط الذي يعيشه، فعليه أن يفكر بهؤلاء المستضعفين المظلومين في مشارق الارض ومغاربها، حيث تجمعنا وإياهم لحمة واحدة، فكلنا أخوة وأبناءٌ لآدام، وأنّ عدم الاهتمام بهؤلاء المستضعفبن الذين لا يملكون حيلة ولا وسيلة قد يكون سبباً للبلاء العام الذي يحلّ بكل البشرية كما هو الحال في هذا الزمان!!

 

  • مشاعرنا تجاه المحنة والابتلاءات.

عندما نواجه «المحنة» والمصائب، فإنه لابد لنا أن نوجّه مشاعرنا تجاهها بالشكل الصحيح والاتجاه السليم، ولا يتحقق ذلك إلاّ بأن نجعل مشاعرنا «مشاعراً إسلاميةً وإيمانيةً» فوجداننا ينبض غيرةً على الإسلام ومبادئه وقيمه، ويتحرك بمنهجه وينشد غايته وأهدافه فلا ينحرف عن ذلك وتكون المشاعر والأحاسيس متوجهة لـ «المصالح الشخصية» والفئوية والحزبية!!

فبالرغم من «وحدة المحنّة» إلاّ أنّ المشاعر تختلف تجاهها كمّاً وكيفاً ودرجةً وتفاعلاً، وهذا ناتج من اختلاف «الفكر» في تصور المحنة وعلاجها، ومن اختلاف «الروحية» كذلك، واختلاف الشعور والمشاعر تجاه المحنة يؤدي إلى اختلاف طبيعة «الموقف» الذي سوف يتخذ.

فمثلاً: عندما تقع «ثورة» فيتم اعتقال اخيك أو إبنك؛ فتارةً تفكر في خلاصه من السجن فقط، فهذا تفكيرٌ ضيق هابط! وتارةً تفكّر في خلاص البلد من المشكلة السياسية، وذلك بإعطاء المواطنين حقوقهم من المال والعمل والسكن والمأكل وغيرها من الامور المادية الدنيوية!! وتارةً تفكر في علاج المشكلة الكبرى وهي عدم تطبيق مبادئ الإسلام، وشريعة السماء والتي بها قوام المعاش والمعاد، وهذا نوعٌ سامٍ وراقٍ من المشاعر تجاه المحنة!! 

 

  • علاج المحنة والابتلاءات

 إذا وقعت المحنة والابتلاءات فلا ينبغي الاستسلام لها، بل لا بد من الصمود أمام المحن وعدم الانهزام تجاهها، ولابد من تحمّل المسؤلية:

 فلا بد أن نُشخّص «العوامل الخارجية» لحصول المحنة، ومنها: الظَلَمَةُ والطُغاة الذين يُعتَبَرون سبباً للابتلاءات والمحن، وبعد التشخيص لابد من المواجهة وعدم الرضوخ لهم .

ولا بد ان نعالج «العوامل الداخلية» لحصول المحنة، فعلينا بإصلاح أنفسنا وترك الذنوب والمعاصي؛ حيث أن فساد الارواح والقلوب سبب من أسباب وقوع المحن والابتلاءات .

 

  • تغيير الداخل وتغيير الخارج

 قد لا نستطيع أن نُغيّر «الخارج» وملامحه وعلائِمه بسرعة، ولكن ما هو في متناول اليد وما هو مقدورٌ عليه هو تغيير «الداخل» بأن نعيش مع الله تعالى ونمتثل لما يُريده الله تعالى وما يشاء فلا نعصيه ولا نخالفه، فمثل هذا «الإيمان» إن استقر في الوجدان فإنّه لا يستطيع أحدٌ على انتزاعه منا، وحتى الطُغاة يعجزون عن ذلك؛ فإنّ أكثر ما يقدرون عليه هو هذا الجسد، من تعذيبٍ وتكبيلٍ وزجٍّ في السجون، فلهم أن يفعلوا في «الأجساد» ما يشاؤون! وأمّا «الأرواح» وما تحمل فهي ليست في متناول أيديهم!!

ولا بُدّ من التفكير في «تغير الخارج» وتقويةِ العزائم والإرادة في ذلك، وعدم الإحساس بالضعف والهوان؛ فإنّ الذي يتصل بمنبع القوة والقدرة، ومن بيده مقاليد السماوات والأرض، هو قادرٌ على التغيير، ولو بعد حين ﴿وَأَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَمِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللهِ وَعَدُوَّكُم‏﴾.([7])

 

  • الأرضية النفسية للعمل

وقبل أن نتحدث عن العمل، نتحدث عن العامل، أيّ عن القاعدة لهذا العمل، فـ «نفسية العامل» لها الدور الأساسي والمحوري لكل عملٍ وللأثار المترتبة عليه: فإن صلحت النفسيّة صلح العمل، وإن فسدت النفسيّة فسد العمل! سواء على الصعيد الفردي أو الاجتماعي أو السياسي!

فالجانب الروحي وتقويةُ الارتباطِ بالله تعالى أمرٌ لازمٌ وضروري ولابد من تنميته في كلِ يومٍ، وأنّ أي غفلةٍ عنه قد تُسبب الهلاك والفساد، وكُلما كان الارتباطُ قوياً ووثيقاً، كلّما انعكس ذلك على الارتباط في الخارج.

ومن الأمور المهمة لـ «نفسيّة العامل» أن يكون صاحب روح تضحويّة وإيثار، فمتى ما تعرضت «المصلحة العامة «للخطر فإنّه يُقدِّم «المصلحة الفردية» فداءً لـ «المصلحة العامة» فمثلُ هذا العامل عنده استعداد لتقديم المصالح الصغيرة في سبيل المصالح الكبيرة، وهذا الفداء والإثيار يحتاج إلى ترويضٍ كبيرٍ للنفس.

ولا بدّ «للعامل» أن يكون حاملاً لـ «العقلية» الاجتماعية والسياسية، فلا بد له من العمل على تحصيل «الحس الاجتماعي» بملاحظة التجارب والظروف العالمية ومتغيراته واستشارة الرجال من ذوي الخبرة والدراية والتجربة.

__________

المصادر

  • [1].  بحار الأنوار (ط – بيروت)، ج‏44، ص: 381.
  • [2].  الشورى: 30.
  • [3].  الروم: 41.
  • [4].  الجن: 16.
  • [5].  الأعراف: 96.
  • [6].  الشورى : 30.
  • [7].  الأنفال: 60.

سلسلة محاضرات "التغيير في سبيل الله"

محاضرة القاها سماحة الشيخ زهير عاشور في سجن جو المركزي (9 محرم 1436 هـ)

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى