ثقافة

الشباب الحسيني وصناعة التغيير

الشباب هم عماد الأمة، وعمود خيمة نهضتها، هم مخزونها الضخم، وطاقتها الهائلة. ولقد اعتمد الإسلام العظيم على الشباب، ودفع بهم إلى المواقع المتقدمة في ساحة صناعة الحياة، والجهاد، وأوكل إليهم المسؤوليات الكبيرة ثقة بهم، وبقدراتهم الخلاّقة.

ولقد أوصى النبي(صلى الله عليه وآله) بالشباب، وكان يحبهم، ويثق في قدراتهم، ولذلك أوكل مسؤولية قيادة الجيش إلى شاب في الثامنة عشرة من العمر، وهو أسامة بن زيد، مع وجود كبار الصحابة وأصحاب الخبرة والتجربة. وفي هذا الصدد يقول السيد الخامنائي(دام ظله): ” إن لدينا اليوم في بلادنا الكثيرين من أمثال أسامة بن زيد، وعندنا جموع كبيرة من الفتيان والشبان ذوي الكفاءة في الميادين المختلفة من درس وسياسة ونشاطات اجتماعية ومكافحة الفقر وإنجاز مشاريع الإعمار والبناء وفي كل ما يكلّفون به من تنفيذ المشاريع المختلفة، فهم دائماً على أهبة الإستعداد بما يتمتعون به من نشاط… إن قائد الحرس الثوري الذي أدار دفّة القتال خلال أعوام طويلة كان في حوالي السادسة والعشرين من عمره عندما نصبّه الإمام(رض) قائداً في ذلك الوقت! لقد استفادت الثورة من هذه التجربة مرة أخرى واستطاعت إثبات دور الشباب العظيم والبناء”. الإسلام المحمدي، الإمام الخامنائي، ص82-83.

وفي كل نهضة تغييرية – سواء أكانت إلهية أم أرضية – كان الشباب هم العنصر الأهم فيها، والأكثر حضوراً وتأثيراً. وقد تجلى ذلك في صدر الإسلام، وفي ثورة عاشوراء العظيمة بشكل خاص، وكذلك في هذه الأيام التي تشهد فيها الأمة قياماً ضد ثقافة الخنوع واليأس من التغيير. ومن هنا؛ فيجب على الأمة التي تنشد الوقوف تحت ضوء الشمس، وتريد صناعة حاضرها، ومستقبلها أن تهتم بشريحة الشباب، وتعتمد عليهم، وتثق في قدراتهم، وعلى الشباب – قبل ذلك – أن يثق بقدراته، ويفرض وجوده.

 

الشباب بين البصيرة والعمل:

يحتاج الإنسان في أن يعبر جسر هذه الحياة بسلام ويفوز إلى أمرين:

1- البصيرة: وهي التي يعلم بها أمور دينه وآخرته، والخير والشر، وما يجب وما لا يجب، والحق وأهله.

2- العمل على وفق العلم بخلوص نية. ولو تخلف العمل طبق معطيات العلم لكان ذلك إما غفلة مقيتة يجب رفعها بسرعة؛ لئلا تترسخ، أو انفصاماً مذموماً وذلك في حالة الالتفات إلى المخالفة والسير فيها عن عمد.

وحين نقف على موقف شهيدنا العظيم علي الأكبر(عليه السلام)، والذي سأل والده الإمام الحسين(عليه السلام) عن سبب استرجاعه المفاجئ، فقال(عليه السلام) في جوابه:قد رأيتُ هاتفاً يقول: القوم يسيرون والمنايا تسير إليهم، فعلمت أنها أنفسنا نُعيت إلينا. فقال له علي الأكبر: يا أبه، لا أراك الله سوءً ألسنا على الحق؟ قال: بلى، والذي إليه مرجع العباد.

قال: إذن لا نبالي أن نموت محقين. فقال له الإمام الحسين(عليه السلام): جزاك الله من ولد خير ما جزا ولداً عن والده.

فقول علي الأكبر: “أفلسنا على الحق” يمثل جانب البصيرة والإيمان بالشيء، فهو سؤال يراد به التقرير والإثبات، وأنهم على الحق فعلاً.

وقوله “إذن لا نبالي أن نموت محقين” هو جانب العمل على وفق العلم وما يؤمن به الإنسان. ولا يكمل الإيمان إلا بهذا الثنائي (الإيمان والعمل)، ولذلك نجد القرآن دائماً ما يقرن الإيمان والعمل{ آمنوا وعملوا الصالحات}.

وحين نرجع إلى أهداف قيام الإمام الحسين(عليه السلام)، نجد أن أحد أهم أهدافه هو علاج الحالة المَرَضية الفظيعة التي كانت تعيشها الأمة حينذاك وهي حالة “انعدام الإرادة مع وضوح الطريق” كما يعبر السيد الشهيد الصدر(قده)، المفارقة بين ما يؤمن به الإنسان وتخلّفه عن العمل بمقتضى ذلك الإيمان، فالأمة كانت تعرف يزيد (لع) جيداً، وتعرف بغيه وفجوره، وتعرف أحقية الإمام الحسين (عليه السلام)، ولكنها كانت تعيش حالة من موت الإرادة.

فموقف علي الأكبر(عليه السلام) هو موقف قدوة في الجمع بين العلم والعمل، وبين البصيرة والإرادة الإيمانية الفاعلة. وهذا هو الدرس الذي يلقيه موقف “ألسنا على الحق؟ إذن لا نبالي بالموت“. ولن تُستعاد كرامة الأمة، ولن يستعيد أي شعب حقه، ويتخلص من جلاديه إلا بإحياء هذا المبدأ القيمي، وتفعيله عملياً، وأن لا نبالي بالموت إذا كنا على الحق.

هذه الحالة هي التي جعلت عاشوراء مشعلاً للبشرية، وشمساً تستعصي على الغروب والنسيان، وهي التي جعلتها مرجلاً يؤجج الثورات في وجوه الطغاة في كل زمان ومكان. هي التي أسقطت الطاغية الكبير “شرطي الخليج”، فبعد أن كان الشرطي الواحد يأتي ويلقي الأوامر؛ فتنصاع له جموع الناس، لم تعد الدبابات ولا الرشاشات تخيف الناس بعد أن تخلصت من ذلك المرض.

يقول الإمام الخميني(قده): “كان إلى الأمس يخاف [ أي الشعب] من شرطي واحد يدخل السوق، ويأمر برفع الأعلام بمناسبة هذا اليوم من شهر آبان فلا يتخلف أحد عن الاستجابة له. أما اليوم، فلو دخل “صاحب الجلالة” نفسه إلى السوق، لهشموا عظامه بقبضاتهم، وهو أيضاً لن يتجرأ على الخروج“.

فما لم تردم الأمة هذه الهوّة بين الإيمان والعمل، وتخرج من حالة الخشية من الموت لن تستطيع أن تغيّر واقعها؛ لأن النصر لا يأتي بلا ثمن، والتغيير الحقيقي لن يكون بدون تضحيات تتناسب وحجم ذلك التغيير.

 

الشباب بين الإهتمامات الشخصية وقضايا الإسلام الكبرى:

من الدروس التي سطرتها عاشوراء، هي ذلك الحضور الشبابي الفاعل، الذي يكشف عن إيمان عميق بالله (تعالى)، ونضج كبير، وروح مسؤولة تجاه الإسلام، وقضايا الأمة الكبرى. وهكذا يجب أن يكون الشاب المؤمن دائماً، خصوصاً ذلك الذي ينتمي إلى مدرسة عاشوراء.

فرق بين أن يسخِّر الإنسان وجوده كله لبناء دنياه؛ فينشغل بها عن المشاركة في صناعة مصير أمته، وأداء المسؤوليات الرسالية التي فرضها الله(تعالى) عليه، كالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأداء الواجبات الاجتماعية، وبناء عناصر القوة في الأمة، وبين أن يبني ذاته في اتجاه صناعة واقع أمته، والنهوض به، ومعالجة نقاط ضعفه.

لقد كان بإمكان أنصار الإمام الحسين(عليه السلام) أن ينشغلوا بأمورهم الشخصية، وجمع الثروة وزخرف الدنيا، عن المشاركة الفاعلة في أداء المسؤوليات الرسالية، وكان الكثير منهم يمتلك القوة، والشجاعة، والمكانة الاجتماعية، بما يمكنهم – لو أرادوا – أن تفتح لهم الدنيا أوسع أبوابها، ولكن ذلك لم يؤدِ بهم إلى التخلّي عن هذه الواجبات العظيمة، وقاموا بها بأروع قيام!

فقد روى أبو حمزة الثمالي عن مولانا زين العابدين(عليه السلام) أن الإمام الحسين(عليه السلام) جمع أصحابه وأهل بيته في ليلة العاشر، فخاطبهم بأن يتخذوا الليل جملاً لهم، وينجو بأنفسهم، فليس المطلوب غيره، وأنهم في حل من بيعته (عليه السلام)، ومن عهدهم الذي عاهدوه عليه، فأبوا تركه.

“فقال لهم (عليه السلام): يا قوم إني في غد اقتل وتقتلون كلكم معي، ولا يبقى منكم واحد. فقالوا: الحمد لله الذي أكرمنا بنصرك، وشرفنا بالقتل معك، أو لا نرضى أن نكون معك في درجتك يا بن رسول الله؟ فقال جزاكم الله خيراً، ودعا لهم بخير فأصبح وقتل وقتلوا معه أجمعون.

فقال له القاسم بن الحسن: وأنا فيمن يقتل؟

فأشفق عليه، فقال له: يا بني كيف الموت عندك؟!

قال: يا عم أحلى من العسل.

فقال: أي والله، فداك عمك إنك لأحد من يقتل من الرجال معي ، بعد أن تبلو ببلاء عظيم.” مدينة المعاجز، السيد هاشم البحراني: 4 /214- 215.

هناك مَن يكون الزواج، أو الأكل والشرب، أو اللعب، أو التسلي بالأجهزة الحديثة عندهم أحلى من العسل، وهناك مَن يكون عنده الموت وتقطيع الأشلاء في سبيل الله(تعالى) أحلى من العسل!!

حين خوت الذات، وضمر الوعي، صارت الدنيا وما فيها هي الأحلى من العسل، وحين عظمت الذات، وطهرت الغايات والتوجهات، صار الموت في سبيل الله(تعالى) أحلى من العسل! ما أعظمها من منزلة يبلغها صغار السن ويحرم منها آلاف الرجال والنساء من كبار السن!

ومن روائع عاشوراء ما روي عن أنه كان “برير يضاحك عبد الرحمن فقال له عبد الرحمن: يا برير أتضحك؟! ما هذه ساعة ضحك ولا باطل!

فقال برير: لقد علم قومي أنني ما أحببتُ الباطل كهلاً ولا شاباً، وإنما أفعل ذلك استبشاراً بما نصير إليه، فوالله ما هو إلا أن نلقى هؤلاء القوم بأسيافنا، نعالجهم بها ساعة ثم نعانق الحور العين”. اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص58.

إن النفس التي تستشعر المصيبة، وهول الموت لا يمكنها أن تلاطف الآخرين في مثل تلك الحالة، أما إذا رأى الإنسان في ذلك بشارة، وقدوماً على الفوز العظيم فعندها فقط ستستبشر النفس وتلاطف.

وهذا هو وهب الذي كان حديث عهد بالزواج، لم يمنعه زواجه من الإلتحاق بركب الحسين (عليه السلام)، وحين حاولت زوجته – بادئ الأمر – أن تمنعه لم يستجب لعواطفه ورغباته على حساب مسؤولياته الإلهية الكبرى، وتقدم للموت برجليه راضياً مستبشراً. ويحدثنا التاريخ – كذلك – أن حنظلة بن أبي عامر(غسيل الملائكة)، والذي كانت ليلة زواجه الأولى هي ليلة غزوة أحد، وأنه لبّى نداء الجهاد، واستعجل الخروج دون أن يغتسل ففاز بالشهادة بين يدي رسول الله(صلى الله عليه وآله) وقد قال النبي في حقه – على ما ينقل الشيخ الصدوق- : “رأيت الملائكة بين السماء والأرض تغسل حنظلة بماء المزن في صحاف من فضة”. فهنا أيضاً، لم يمنع الزواج حنظله، ولم يقعد به عن أداء مسؤولياته الشرعية الكبرى.

كذلك، لقد وجدنا هذه الحالة عند الشعب الإيراني المسلم، الذي أسقط الطاغوت الجاثم على صدره. يقول الإمام(قده): “منذ بداية النهضة تقريباً – كنتُ حينها في النجف – والى الآن، تأتي النساء والرجال والشباب ويطلبون مني أن أدعو لهم بالشهادة، وأنا أدعو لهم أن ينالوا ثواب الشهداء. في مجلس عقد قران أقيم قبل مدة في طهران، المرأة والرجل اللذان تزوجا، أعطتني المرأة ورقة قرأتها فوجدت أنها تطلب مني أن أدعو لها بالشهادة. المرأة التي تزوجت تواً، تقول أدعو لي أن أنال الشهادة!!“. ويقول (ره) أيضاً: “كان بعض الشباب يطلبون مني، ويقسمون عليّ أن أدعو لهم بالشهادة، والنساء اللاتي قدمن أبنائهن كن يفتخرن بأنهن قدمن شهداء، وبعضهن ممن بقي لها ولد واحد كانت تقول أرغب في تقديم هذا أيضا!“!

وكان (ره) يقول: “إن أمةً يصلي شبابها صلاة الليل في الجبهات، ويجاهدون في سبيل اللَّه، ويرون هذا الجهاد فخراً لهم، لم يشغلهم طلب فرص الحياة والاسترخاء، يمضون ليلهم ونهارهم في المتراس في ذاك الطقس الحار ومع انعدام الماء، وفي تلك الشدّة، ويتقدمون إلى الإمام… من يريد أن يقف في مقابل هذه الأمة؟!”

ولقد كان بإمكان شهيدنا العزيز علي المؤمن (رض) أن تشغله “شهادة الهندسة” ببناء دنياه عن صناعة مستقبل أمته، وأداء مسؤولياته الرسالية والاجتماعية، ولكنه أبى أن يخلد إلى الأرض؛ فكان مشعلاً من مشاعل التغيير في مجتمعه، وأحد أعمدة العمل فيه، وفارساً من فرسان العمل الإسلامي، ترجّل في ميدان الشهداء؛ ليعانق عروس الشهادة دفاعاً عن العرض، والشرف، والكرامة.

أيها الأحبة في الله: هذا هو نداء عاشوراء ما زال يتردد، وهاهي صرخات “هل من ناصر ينصرني” تتعالى، فهل نلبي نداء الحسين (عليه السلام)، حتى لو أدّى بنا ذلك إلى الشهادة، أم نختلق التبريرات – وما أكثرها وأكثر مَن يجيدها – ونترك الساح لهذا النظام الفاجر، ليتحكّم في مصيرنا، وينتهك حرمة ديننا ومقدساتنا، ويهدر كرامتنا، وينتهك أعراضنا؟!

هنا الإحياء العملي الحقيقي لذكرى عاشوراء، وهنا الإخلاص الأكبر لمبادئ ثورة “هيهات منا الذلة”.

السلام على الحسين وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين(عليه السلام).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى