ثقافة

عاشوراء موقف شجاع وإرادة حرة

كم هي عظيمة هذه المدرسة التي لم تستغرق الكثير من مساحة الزمن، لكنها ألقت بوشاحها السماوي على الزمن كله، والوجود كله! لو أردنا تلخيص كل رسالات الأنبياء، وقيمهم النبيلة في حدث معبر يستجمع ما لا يستمع غيره لقلنا: إنها عاشوراء!

ولأن كربلاء عَبرة وعِبرة؛ فلنتوقف في هذه الحلقة عند موقف الشهيد العظيم الحر بن يزيد الرياحي (رض)؛ لنستلهم منه بعض الدروس العظيمة التي تعيننا على قطع مسيرة الحياة باتجاه الله(تعالى) وفي طريق قافلة صنّاع الحياة.

 

الدرس الأول: بين الخيار الخاطئ والخيار الرشيد:

أول الدروس التي يلقيها علينا موقف الحر(رض) هو أننا لابد أن ندقق كثيراً في المواقف الكبيرة، كقضية الدخول في أجهزة الأنظمة الظالمة – خصوصاً إذا كان الموقع حسّاساً خطيراً – فقد يكون الدخول غوصاً في الوحل يزداد الإنسان معه ارتكاساً كلما تحرّك، وقد لا يوفق للخروج منه بعد الدخول فيه، كما تحدثنا عبر التاريخ والحياة.

كان على الحر(رض) منذ البدء أن لا ينخرط في هذا الموقع الخطير(قيادة في جيش سلطة ظالمة)، ولا ينبغي أبداً أن يُحسن الإنسان النية في نظام ظالم فاجر بظن أنه لن يقدم على خيارات خطيرة مجرمة كقتال الإمام الحسين(عليه السلام).

لما رأى الحر بن يزيد أن القوم قد صمّموا على قتال الحسين (عليه السلام) قال لعمر بن سعد: أي عمر، أمقاتل أنت هذا الرجل؟ قال: إي والله قتالا أيسره أن تسقط الرؤوس وتطيح الأيدي، قال: أفما لكم فيما عرضه عليكم رضا؟ قال عمر: أما لو كان الأمر إلي لفعلت، ولكن أميرك قد أبى“. الإرشاد، الشيخ المفيد: 2/ 98.

هنا وجدنا أن الحر لم يكن ليتوقع أبداً من أولئك المجرمين أن يقاتلوا فلذة كبد النبي(صلى الله عليه وآله)، وهو رجل المسلمين الأول من حيث مكانته الإلهية والقدسية، وحين علم بذلك دخل في تأمل حسم معه الموقف فاختار الجنة على النار كما قال(رض).

 

الدرس الثاني: قبستان من أخلاق الحر(رض):

بالرغم من الموقف السلبي المؤسف للحر(رض) قبل توبته، إلا أنه تحلّى ببعض الأخلاقيات التي ربما كانت – مع أمور أخرى – سبباً في عودته إلى جادة الصواب، منها:

1- موقفه من الإمام المظلوم(عليه السلام) حين التقى به وحان وقت الصلاة، حيث قال الإمام(عليه السلام) للمؤذن: “أقم”، فأقام الصلاة فقال للحر: “أتريد أن تصلي بأصحابك”؟

قال: لا، بل تصلي أنت ونصلّي بصلاتك. فصلى بهم الحسين بن علي (عليهما السلام) “. الإرشاد، الشيخ المفيد: 2/ 78.

وبغض النظر عن أصل الموقف السلبي – قبل التوبة – إلا أن هذا الموقف يسجل لصالح الحر(رض)، وفيه من الأخلاق والاعتراف بفضل الإمام(عليه السلام) ما هو واضح. وهكذا يجب أن يكون المؤمن مصداقاً لقوله (تعالى): {.. وَلاَ تَنسَوْا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ} البقرة/237. وقوله (تعالى) أيضاً: {.. وَلاَ تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْيَاءَهُمْ} الأعراف/85. فلا يجحد فضل الآخرين، ويعترف بمكانتهم، وما لهم من إيجابيات حتى لو كان في قمة اختلافه معهم (بغض النظر عن خطأ الموقف الأصل من الكون مع السلطة الظالمة كما تقدم).

2- عندما فرغ الإمام(عليه السلام) من الصلاة، ودار بينه وبين كلام… أمر الإمام (عليه السلام) أصحابه بالإنصراف ومواصلة المسير “فلما ذهبوا لينصرفوا حال القوم بينهم وبين الانصراف، فقال الحسين (عليه السلام) للحر: “ثكلتك أمك، ما تريد“؟

فقال له الحر: أما لو غيرك من العرب يقولها لي وهو على مثل الحال التي أنت عليها، ما تركت ذكر أمه بالثكل كائنا مَن كان، ولكن والله ما لي إلى ذكر أمك من سبيل إلا بأحسن ما يقدر عليه”. الإرشاد، الشيخ المفيد: 2/ 78.

فعدم الرد على الإمام (عليه السلام)، وذكر والدته الطاهرة بالثكل واجب امتثله الحر(رض) – برغم موقفه السلبي – وهو يعكس عن شهامة وأخلاق، وأرضية للعودة إلى الله (تعالى)، والالتحاق بركب الهداية.

 

الدرس الثالث: الحر وموقفٌ حر:

إنَّ الخطأ والاشتباه في تحديد الموقف المطلوب هي من طبيعة غير المعصوم، ولكن العودة عن الخطأ، والتزام الحق – بعد تبينه – هي من سمات الأحرار فقط، وخصائص أولئك الذين لا يقدِّمون على الآخرة والقيم النبيلة أي متاع رخيص. وإذا أردنا أن نلخِّص كربلاء بكلمة فيمكننا أن نقول بأنها: موقف حر.

عندما تبين للحر(رض) أن القوم عازمون على قتال الإمام الحسين (عليه السلام)، “أخذ يدنو من الحسين قليلا قليلا، فقال له المهاجر بن أوس: ما تريد يا ابن يزيد، أتريد أن تحمل؟ فلم يجبه وأخذه مثل الأفكل – وهي الرعدة – فقال له المهاجر: إن أمرك لمريب، والله ما رأيتُ منك في موقف قط مثل هذا، ولو قيل لي: مَن أشجع أهل الكوفة ما عدوتك، فما هذا الذي أرى منك؟!

فقال له الحر: إني والله أخير نفسي بين الجنة والنار، فوالله لا أختار على الجنة شيئاً، ولو قُطّعت وحرقت. ثم ضرب فرسه فلحق بالحسين (عليه السلام) فقال له: جعلت فداك – يا ابن رسول الله – أنا صاحبك الذي حبستك عن الرجوع، وسايرتك في الطريق، وجعجعت بك في هذا المكان، وما ظننت أن القوم يردون عليك ما عرضته عليهم، ولا يبلغون منك هذه المنزلة، والله لو علمت أنهم ينتهون بك إلى ما أرى ما ركبت منك الذي ركبت، وإني تائب إلى الله تعالى مما صنعت، فترى لي من ذلك توبة؟ فقال له الحسين (عليه السلام): “نعم ، يتوب الله عليك فأنزلالإرشاد، الشيخ المفيد: 2/99-100.

إنه لموقف عظيم، في لحظة مصيرية عظيمة! ليس من السهل على الإنسان أن يتحوّل إلى جبهة الحق، التي يعلم يقيناً أن التحوّل إليها سيكلفه حياته وكل ما لديه.

كثيرون هم الذين يتساقطون على قارعة طريق الحياة في مثل هذه المواقف، فيخذلون الحق، وكثيرون هم – أيضاً – من لا يكتفون بخذلان الحق، وإنما ينضمون إلى جبهة الباطل ومحاربة الحق برغم علمهم بالحق والباطل! إن شبث بن ربعي كان ممن كاتب الحسين (عليه السلام)، ولكنه انضم إلى الجيش الذي قاتل الحسين (عليه السلام)!

يقول السيد القائد الخامنائي(دام ظله): “إذا أصبح الخواص المناصرون للحق في مجتمع ما – كلهم أو أكثرهم – يخافون على حياتهم وعلى فقدان الأموال والمناصب والجاه والمكانة الاجتماعية ويخشون العزلة بسبب تعلقهم بالدنيا. حينذاك لا يناصرون الحق ولا يضحّون بأنفسهم. وحينما تصير الأمور إلى هذا الحال, حينئذ يقع في طليعة الأمور استشهاد الإمام الحسين بتلك الصورة المأساوية, ويكون آخرها تسلط بني أمية والعصابة المروانية ومن بعهدهم بنو العباس. ثم سلسلة السلاطين الذين حكموا العالم الإسلامي إلى يومنا هذا“. الثورة الحسينية، خصائص ومرتكزات، السيد علي الخامنائي، ص41.

وكم هو الفارق القيمي والأخلاقي بين موقف الحر (رض) وموقف شريح القاضي الذي كذب على قبيلة هاني وأنقذ ابن زياد من ورطته، وغير وجه التاريخ! “لعلّ شريح لو كان فعل ذلك لتغيّر التاريخ, لو قال للناس أن هاني حي ولكنه في السجن, وابن زياد يريد قتله, ولم يكن ابن زياد قد استولى على الأمور بعد, لهجموا وأنقذوا هاني وأصبحوا أكثر قوة وشكيمة ولقبضوا على ابن زياد وقتلوه أو أخرجوه من هناك, ولاستتب أمر الكوفة للحسين(عليه السلام)، ولما وقعت حادثة كربلاء ولو لم تقع حادثة كربلاء لانتهى الأمر إلى استلام الإمام الحسين لزمام الحكم ولو أن هذا الحكم استمر تسعة أشهر – وربما كان يمتد لفترة أطول – لكانت له بركة كبيرة في التاريخ.

قد تؤدي حركة ما أحيانا إلى تبديل وجه التاريخ, وقد تقود حركة أخرى مغلوطة وناتجة عن الخوف والضعف وحب الدنيا والحرص على الحياة, إلى جعل التاريخ يتمرغ في مهاوي الضياع”. الثورة الحسينية، خصائص ومرتكزات، السيد علي الخامنائي، ص53.

وهكذا وفي كل زمان ومكان، يوجد من يعرف الحق وأهله، ويعرف الخيارات الصحيحة من غيرها، ولكنه لا يجرؤ على اتخاذ الموقف القيمي لأنه قد يكلفه جاهه، أو وظيفته، أو منصبه، أو حياته.

 

الدرس الرابع: العودة إلى الله صلاح وإصلاح:

لقد كانت توبة الحر(رض) توبة مستجمعة لكل الشرائط، التي يمكن إجمالها كما يلي:

1- حين تبين له الحق، بادر سريعاً بالندم والتوبة، ولم يؤجلها، خصوصاً في مثل تلك اللحظات الحاسمة السريعة، امتثالاً للواجب الإلهي بفورية التوبة.

2- اعتزل أهل السوء الذين لا يمكن للتائب أن يتخلّص من تأثيرهم إلا باعتزالهم.

3- جاء إلى الإمام(عليه السلام) منكساً رأسه – كما في بعض الروايات – واضعاً يديه على رأسه، مخاطباً ربه (تعالى): “اللهم إني إليك أنيب فتب عليّ” وأقرَّ أمام إمامه (عليه السلام) بخطئه طالباً العفو، والتوبة.

4- طلب من الإمام أن يكون أول شهيد بين يديه (عليه السلام)، تكفيراً عن ذنبه.

5- خطب في الجيش، ووعظ أهل الكوفة، نصرة للحق وجهراً بالموقف الحق؛ ولكي يبرأ ذمته من احتمال تأثر أي أحد بموقفه من جنوده حين كان على رأس الألف فارس من ذلك الجيش.

6- قاتل قتال الأبطال، وقدم نفسه رخيصة في سبيل الحق، ولم يبخل أبداً.

وهكذا يجب أن تكون التوبة دائماً، ندم مرٌّ على الخطأ، مبادرة فورية عاجلة للتوبة إلى الله(تعالى) والرجوع عن الخطأ والذنب، طلب العفو ممن تم ارتكاب الخطأ بحقه، إصلاح ما تم إفساده.

فمن ترك الصلاة، فعليه أن يتوب ويستدرك ويصلح ويقضي ما فاته، ومن ترك الخمس والحقوق المالية فكذلك عليه التوبة وأداء تلك الحقوق، ومن اغتاب الناس أو بهتهم فتجب عليه التوبة الصادقة من ذلك، وأخذ براءة الذمة منهم، وإصلاح ما أفسده من أمرهم، وهكذا..

 

الدرس الخامس: احتضان التائبين

وهو درس يلقه إمامنا(عليه السلام) بكل روعة وبهاء، وحنو وسعة صدر؛ فقد قبل توبه ذلك الذي خرج عليه، وجعجع به وبنسائه، ولم يسمح لهم بالرجوع، واتخاذ طريق آخر. وربما لو فعل لكان وجه المعركة قد تغيّر. مع ذلك وجدنا الإمام(عليه السلام) استقبل توبة الحر(رض)، وأثنى عليه، وأذن له بالقتال والفوز بين يديه.

وفي هذا درس لنا جميعاً إذا أردنا الإقتداء بالإمام الحسين(عليه السلام) وسرنا على هديه، بأن نحتضن التائبين ونفتح إليهم صدرونا، ولا نقطع الطريق – كما الشياطين – على مَن يريد أن يصحِّح علاقته بربه(تعالى).

إن الإحياء الحقيقي لعاشوراء هو أن نتلزم هديها، ونحيي قيمها، ونشيع فينا هداياتها، ونجسّد أخلاقها، ولا قيمة لإحياء لا يتجسد في السلوك، ولا يغير الواقع، فينقله من السلب إلى الإيجاب.

إن مدرسة الحسين(عليه السلام) بحاجة لكل نفس – مهما شطت وابتعدت – تعلن توبتها وعودتها إلى هذا الطريق، ومن الخروج على الحكم الشرعي أن نطرد من يريد تصحيح علاقته بربه، ومجتمعه، أو ننغِّص عليه عودته، أو نلاحقه بماضيه الذي قد يعود لما قبل تكليفه الشرعي، أو ربما دفعته إليه ظروف خاصة، والعصمة لأهلها!

فعن رسول الله(صلى الله عليه وآله): “من عيّر أخاه بذنب قد تاب منه لم يمت حتى يعمله“.

وعن الإمام علي(عليه السلام): “يا عبد الله لا تعجل في عيب أحد [عبد] بذنبه فلعله مغفور له، ولا تأمن على نفسك صغير معصية فلعلك مُعذَّب عليه، فليكفف من علم منكم عيب غيره لما يعلم من عيب نفسه، وليكن الشكر شاغلا له على معافاته مما ابتلي به غيره“.

وهذه دعوة لكل أولئك الذين تورّطوا فعصوا ربهم (تعالى)، وخانوا مجتمعهم فعملوا في أجهزة النظام الفاسد التي تلاحق المستضعفين، وأوقعوا بالأبرياء والمظلومين المطالبين بحقوقهم، بأن يتوبوا إلى الله(تعالى) ويصلحوا ما أفسدوه، قبل أن يباغتهم الموت، أو تطالهم أيدي الثوار فإن نصر الله(تعالى) لعباده المؤمنين حقيقة قرآنية ثابتة.

هي دعوة – من وحي مدرسة كربلاء – لكل مَن ارتكب ذنباً أن يعود إلى الله(تعالى) ويجدد التوبة، ودعوة لكل مَن اتخذ خياراً خاطئاً بأن لا يهاب المخلوق، ولا يخشى على النفس، أو الجاه والمنصب، وأن لا يخجل من التراجع؛ فيعودَ عنه عند تبيّن خطئه، فما قيمة إحراج تعقبه راحة ضمير، قبالة إحراجِ وفضيحة الأبد، وشقائه بين يدي الله(تعالى)، وأمام جميع الأنبياء والرسل والأولياء والمؤمنين والملائكة في يوم الحشر!

السلام على الحسين، وعلى علي بن الحسين، وعلى أولاد الحسين، وعلى أصحاب الحسين(عليهم السلام).

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى