ثقافة

التكليف الشرعي في مدرسة عاشوراء

التكليف الشرعي يلزم برفض البيعة

ما هو السبب الذي دعا الإمام الحسين(عليه السلام) أن يرفض بيعة يزيد (لع)، ويقدم في سبيل ذلك أعظم التضحيات، وأغلاها، وهو دمه الزاكي ودماء أبنائه، وإخوته والخيرة من أصحابه في واقعة انعدم مثيلها في التاريخ؟

إن من أسباب قيام الإمام الحسين(عليه السلام) ضد يزيد (لعنه الله) هو ما يلي:

1- الحفاظ على الإسلام:

مَن يستقرأ التاريخ جيداً فسيجد أن بقاء الطاغية يزيد الفاجر المعلن بالفسق والفجور في سدة الحكم، وقبول الإمام ببيعته سيؤدي إلى القضاء على الإسلام، وطمس وجوده.

قال الإمام الحسين(عليه السلام): “وعلى الإسلام السلام إذ قد بُليتْ الأمةُ براعٍ مثل يزيد“([1]). فلا يمكن أن يبقى للإسلام أثر من وجود طاغية لا يراعي حرمات الله(تعالى)، ويجاهر بالفسق والفجور والطغيان.

قال الإمام الخميني(قده): “لقد أوشكت حكومة يزيد وجلاوزته الجائرة أن تمحو الإسلام وتضيع جهود النبي (صلى الله عليه وآله) المضنية، وجهود مسلمي صدر الإسلام، ودماء الشهداء، وتلقي بها في زاوية النسيان، وتعمل ما من شأنه أن يضيع كل ذلك سدى“. ([2]). فالحفاظ على الإسلام يتطلب من الإمام(عليه السلام) أن يقوم ضد يزيد مهما كلّفه الأمر.

2- حماية المجتمع وإقامة العدل:

الإنسان المسلم لا يعيش لذاته فقط، ولا ينغلق على مصالحه الشخصية، فتلك أنانية يرفضها الإسلام بكل شدة. إن الإسلام ليريد لأتباعه أن يعيشوا هم الإسلام، وهموم الناس، ولا يجيز لهم التفرج على المآسي التي يعيشها المسلمون مطلقاً؛ فمن “لم يهتم بأمور المسلمين فليس منهم”. يقول سماحة السيد القائد الخامنائي(حفظه الله): “أما أن تجلس فئة من الناس يتفرجون فقط على حوادث العالم، بل يتفرجون حتى على القضايا الداخلية في مجتمعهم فلا يتطابق هذا مع الإسلام“. ([3]).

وإذا كان هذا غير جائز للإنسان العادي فكيف بإمام المسلمين الذي عليه مسؤولية حماية الإسلام والمسلمين والعمل على رفع ظلامتهم بكل ما يستطيع.

يقول الإمام الخميني(قده): “لقد بُعِثَ الأنبياء لإصلاح المجتمع، وكلهم كانوا يؤكدون أنه ينبغي التضحية بالفرد من أجل المجتمع مهما كان الفرد عظيماً، وحتى لو كان الفرد أعظم من في الأرض، فإذا اقتضت مصلحة المجتمع التضحية بهذا الفرد، فعليه أن يضحي. وعلى هذا الأساس نهض سيد الشهداء (عليه السلام) وضحى بنفسه وأصحابه وأنصاره“([4]).

ومهما هنا أمور تفصيلية سنأتي على ذكرها في الحلقة المقبلة إن شاء الله(تعالى).

أعذار القاعدين والمخذّلين عن القيام ضد الظالمين، لقد واجه الإمام(عليه السلام) الكثير من الإعتراضات، أو النصائح التي تدعوه إلى عدم الثورة على يزيد، وبغض النظر عن دوافع تلك النصائح وأصحابها فيمكن إجمالها فيما يلي:

1-  التهويل بالقتل والمصاعب الأمنية:

وهي من الأمور التي أثيرت في وجه الإمام(عليه السلام) وتثار كثيراً في وجه الثائرين في كل زمان ومكان. يقول السيد القائد الخامنائي(دام ظله) في صدد حديثه عن هذه الأمور: “أحد الأمور المهمة التي تعترض سبيل المرء في المواقف الكبرى هي الأعذار الشرعية. فالمفروض أو التكاليف توجب على الإنسان أن يؤديها، ولكن حينما يستلزم مثل هذا العمل وقوع إشكال كبير – كأن يقتل فيه على سبيل المثال أشخاص كثيرون – هنا يشعر المرء أنه لم يعد مكلفاً.

أنتم على معرفة بالأعذار الشرعية التي تلاحقت بوجه الإمام الحسين (عليه السلام) وكانت كفيلة بصرف أي إنسان سطحي الرؤية عن هذا السبيل، فهو قد واجه أولاً نكول أهل الكوفة ومقتل مسلم بن عقيل. ومن هنا كان بإمكان الإمام الحسين(عليه السلام) القول بأن العذر بات شرعياً وقد سقط التكليف، فأنا كنت عازماً على عدم البيعة، ولكن تبين لي أن موقفاً كهذا لا يمكن الاستمرار عليه في مثل هذه الأوضاع والظروف، والناس لا طاقة لهم على التحمل. إذن التكليف ساقط وأنا أبايع مكرها”. ([5]).

2- التهويل بشق العصا وتمزيق الوحدة:

لقد قيل للإمام (عليه السلام) بأن قيامه سيؤدي إلى شق عصا المسلمين وتمزيق وحدتهم، لقد قيل له – على ما ينقل التاريخ:- “يا حسين ألا تتقي الله تخرج من الجماعة وتفرق بين هذه الأمة!… قال له ابن عمر: اتق الله ولا تفرق جماعة المسلمين. في هذا الظرف قال الإمام الحسين (ع): والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى لما بايعت يزيد بن معاوية أبدا“([6]). وتتكرر هذه المقولة في كل زمان ومكان، ويزج بها في وجه الأحرار الذين يرفضون الخضوع لأنظمة الظلم والجور.

لقد قالوا للإمام الخميني(رض) بأنك: “إذا واصلت هذا الطريق فإنهم سيثيرون ضدك كبار العلماء والمراجع، ومعنى هذا إيجاد الاختلاف في العالم الإسلامي“. ([7]).

وهكذا تتكرر نفس المقولة، ويقال للثوار بأنكم لماذا يغلبكم الحماس، وتصرّون على إسقاط الظالمين وتشقون عصا المجتمع، وكأن المدار على الاجتماع والوحدة حتى لو خالف ذلك التكليف الشرعي بالعمل على إسقاط حكم الطاغوت!!

3- التهويل بتعقيد الواقع وعدم توفر شروط النصر:

وهذا عذر طالما طُرح، وطالما زُج به في وجوه الأحرار، وكأن المطلوب عند البعض أن تؤمَّن شروط النصر والنجاح بنسبة قطعية حتى تجوز الحركة أو تقوم، وهذا منطق لا يستند إلى مبرر شرعي ولا عذر منطقي أبداً، مهما زُين وألبس ثوب العقلانية ودعوى الإنطلاق من الحرص على مصلحة الأمة. يقول سماحة آية الحائري(دام ظله): “… مجرد احتمال عدم النجاح لا يشكّل طبعاً إشكالاً في المقام؛ إذ الجهاد في زمان الحضور أيضاً لم يكن مشروطاً بالقطع بالنجاح..”([8]).

إن “الوضع السياسي عادة ما يكون معقداً، حيث يشتبك الوضع المحلي بالإقليمي بالدولي، وعادة ما تتحرك أطراف أخرى لتلقي بثقلها في الصراع غير الخصم المباشر، لذلك رجل السياسة لا يذرع ويبرر فشله بتعقيد الوضع، ولو أن الفعل السياسي – في حالات الصراع – يتم وفق ظروف مثالية لما احتاج الأمر إلى قيادات قوية واعية لديها رؤية، فدور القيادة هي أن تحسن المرور والتحرك بأهدافها عبر هذا التعقيد، والتعقيد ليس مفاجأة بالنسبة لها، بل أن تسير الأمور بدون أي تعقيد هو الأمر الذي يبدو معجزة لا تحدث… إن القادة لا يطالبون الواقع أن يتغير، بل يطورون استراتيجيات كفيلة بتغييره رغم تعقيده البالغ.

فمن المسلم به أن الواقع معقد، وحين يضع الفاعل السياسي أهدافه؛ يبدو من المنطقي أنه أخذ في حسبانه هذا المعطى وبالتالي لا مجال من الشكوى من الواقع، بل يجب إعادة قراءته وترتيب الأوراقالمتعلقة به حتى تتحسن فرص النجاح فيه”. ([9]).

فالتذرع بعدم القيام ضد الظالمين بحجة تعقيد الوضع والإستسلام للأمر الواقع إنما يكشف عن نظرة سقيمة أو يائسة، أو هروب من التكليف الشرعي الذي يفرض تهيئة الواقع للحركة لا الاستسلام لتعقيداتها.

يقول الإمام الخميني(قده) في كتاب الحكومة الإسلامية: “لا تستسلموا للظُّلم. فالاستسلام للظلم أسوأ من الظلم“.

3- تفسير النصر بالمعنى المادي:

ينطلق بعض من يعارض التغيير، أو القيام ضد الظالمين من مفهوم خاطئ لحقيقة النصر، حيث يتم حصر النصر في شقه المادي والغلبة العسكرية، وهذا مفهوم خاطئ كل الخطأ خصوصاً على رأي الإمام الخميني(قده) في مسألة التكليف الشرعي.

“قسم من الأمور والأعمال التي يقوم بها الإنسان هو من النوع الواجب على الإنسان أن يفكر بتحقق النتائج المطلوبة منه وهل يصل إلى غايته أو لا؟ فإذا اطمئن من تحقيق الهدف قام بها، وإلا أعرض عنها. وقسم آخر من الأعمال فرض الله (تبارك وتعالى) على الإنسان القيام بها، والأصل فيها التكليف الإلهي بغض النظر عن النتائج، فقد تتحقق، أو لا تتحقق. وفي هذه الأمور التي يُكلّف الإنسان أداءها شرعاً لسنا ملزمين أن نعلم بحتمية تحقق الأهداف التي نرجوها منها، فالمطلوب أداؤها لا النتائج المرجوّة منها…

والإمام سيد الشهداء ثار على يزيد، ولعله كان مطمئناً أنه لن ينجح في إسقاطه من الحكم، بل هذا هو الواقع فعلًا، فهناك أخبار أنه كان عالماً بعدم نجاحه في هذا، ومع ذلك، وعملًا بواجب الثورة على النظام الظالم حتى لو كان مصيره القتل ثار على يزيد، وقدّم الضحايا، وقاتل حتى أستشهد”. ([10]). فالنصر الحقيقي في أداء التكليف الشرعي، والهزيمة ليست إلا في التخلف عنه. قال الإمام الخميني(قده): “إن شهادة الإمام الحسين (عليه السلام) لم تكن هزيمة، فثورة سيد الشهداء (سلام الله عليه) كانت قياماً لله، وليس في القيام من أجل الله أية هزيمة“.([11]).

ولو سَلّم “حزب الله” بهذه المفهوم وانطلق من هذا المنطلق لاستعظم قوة العدو، واستسلم له، ولكنه انطلق من فهم عميق للنصر، ومن تربية جماهيره وكوادره على ثقافة التكليف الشرعي، وعشق الإستشهاد. وفي هذا الصدد يقول سماحة الشيخ نعيم قاسم(حفظه الله): “عندما يتربى الناس على النصر فقط ويكون الهدف من تحركهم، فهذا يعني توقف سعيهم عن مواجهة العدو إذا ما بدت علامات النصر بعيدة أو غامضة. لكن عندما يتربصون على الشهادة فإن بذلهم سيكون في أقصى مستويات العطاء، وتكون حركتهم فعالة، فإذا استشهدوا فقد نالوا ما تمنوا، وإذا انتصروا فهي نعمة دنيوية لهم كثمرة لجهادهم.

فالتربية على النصر لا تضمن تحقق النصر وتُسقط أوراق القوة الكامنة في الأمة، أما التربية على الشهادة فتستثمر كل الطاقات وتحقق النصر أو الشهادة أو كليهما معاً، فهي تفتح الآفاق على كل الاحتمالات وتحمل آمال النصر. إن التربية على لنصر تستلزم الاعتماد على الإمكانات المادية، أما التربية على الشهادة فتحرك المعنويات وتربط بالله تعالى، وعندها يكفي القليل من الإمكانات”. ([12]).

عندما ثار المرجع العظيم السيد الشهيد الصدر(قده) على الطاغية صدام، ورفض لاحقاً أن يستجيب لبعض مطالبه كإدانة الجمهورية الإسلامية، أو “حزب الدعوة” واستشهد في سبيل ذلك؛ فإنه لم يُهزم، بل انتصر لأنه عمل بتكليفه الشرعي، وزرع موقفُه البطولي الأحرارَ في العراق وغيرها.

وهكذا عندما تقدم شهدينا الكبير عبد الرضا بوحميد(رحمه الله) بصدره العاري باتجاه دوار الكرامة فإنه ربما لم يكن في حسبانه أن دمه سيفتح الدوار ولكنه تقدم وضحى استجابة لتكليفه الشرعي بالحركة.

5- الإعتذار بقلة العدد وكثرة العدو وعدته:

وهي حجة يستعملها بعض من يريد الدِعة أو الفرار من ضريبة الجهاد والأمر بالمعروف. وهي حالة توقف عندها القرآن الكريم تحذيراً من دورها السلبي على الأمة. قال تعالى: {.. فَلَمَّا جَاوَزَهُ هُوَ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قَالُوا لاَ طَاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجَالُوتَ وَجُنُودِهِ قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاَقُو اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَاللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ} البقرة/249. فالعبرة ليست بالقلة والكثرة، وإنما على حكمة صناعة الواقع بالتوكل على الله(تعالى)، والاستفادة من السنن الكونية التي أوجدها في الحياة.

يقول الإمام الخميني(قده) في صدد رده على أولئك الذين يحتجون بقلة العدد في عدم النهوض وأداء مسؤولياتهم الشرعية: “ولكن إذا لجأنا إلى إسقاط التكليف الشرعي عنا جميعاً، وكل واحد لسبب ما، فيا للمصيبة حينها! إن وجود المعممين على هذا النحو يعد مصيبة على الإسلام، أجل معمم مثلي أليس مصيبة؟

إنني أحذركم، فمستقبلكم سيكون أشد ظلمة من حاضركم، انتبهوا ولا تقعدوا هنا تحددون لأنفسكم تكليفاً شرعياً خاصاً بكم. إن لديكم القدرة، ولديكم النفوذ بين الناس، بل إن القدرة التي توفرت لديكم تفوق ما توفر للإمام الحسين (عليه السلام) من قوة. فلم يكن لديه (عليه السلام) قوة يعتد بها، إلا أنه نهض رغم ذلك، ولو أنه (عليه السلام) كان متقاعساً- نعوذ بالله- لاستطاع القعود متعللاً بالقول: ليس تكليفي أن أثور. ولكان القصر الأموي سيُسر بقعوده (عليه السلام) وعدم تعرضه لهم بكلمة، ولكان تحقق بذلك مرادهم“([13]).

أيها الأحبة الثوار إن دائرة التكليف الشرعي لتشمل الحياة كلها، فنحن مكلفون إزاء أنفسنا وبنائها على طريق الله(تعالى). وإننا لمكلفون إزاء مجتمعنا وضرورة تطهيره من المعاصي ومظاهر الفساد الأخلاقي عبر الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.

مسؤولون عن لزوم إدامة ثوريتنا(ثورة 14فبراير) وحمايتها، ورفض المساومات التي تضيع دماء الشهداء، ولا يمكن تحقيق ذلك إلا بالإقتداء بثورة الإمام الحسين(عليه السلام) وتفعيل مبدأ تقديم التضحيات في سبيل الله(تعالى).

_________________

المصادر:

  • ([1])اللهوف، السيد ابن طاووس، ص18.
  • ([2])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني(قده)، ص37.
  • ([3])الإسلام المحمدي، الإمام الخامنائي، ص613.
  • ([4])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني(قده)، ص46.
  • ([5])الثورة، مظهر لتحرك الدين بوجه الطواغيت، الإمام الخامنائي، ص250.
  • ([6])معالم المدرستين، السيد مرتضى العسكري: 3 / 302.
  • ([7])الثورة، مظهر لتحرك الدين بوجه الطواغيت، الإمام الخامنائي، ص253.
  • ([8])الكفاح المسلح، السيد الحائري، ص109.
  • ([9])قواعد في الممارسة السياسية، د. جاسم السطان، ص82.
  • ([10])صحيفة نور، الإمام الخميني، : ‏5/18.
  • ([11])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني(قده)، ص42.
  • ([12])حزب الله، الشيخ نعيم قاسم، تحت عنوان: تعبئة الشباب وقدوة الحسين(عليه السلام).
  • ([13])صحيفة نور، الإمام الخميني: ‏2/ 346.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى