ثقافة

واخفض لهما جناح الذلّ

الإنسان بطبعه يخاف السطوة والقوة، ويستغلّ الضعف… لدرجة أنّه قد يستغل ضعف أكثر الناس إكراماً له..”الأم والأب”.

فعندما يشتدّ عود الإنسان، وتظهر قوته التي استقاها من قوتهما وشبابهما، يخال نفسه أعلى منهما..

ولذلك، أصبحنا نشهد صراخ الشاب في وجه أمه، ونعته إياها بالجاهلة و… وبتنا نسمع رأيه بأبيه بأنه خُلق في عصر الجاهلية…                                                        

من هنا صار لزاماً طرح السؤال التالي: في عصر الحداثة والثقافة المادية الوافدة وما تحمله من قيم بعيدة عن روح الأخلاق الرحيمة: أين صار برّ الوالدين؟!

لآلئ قرآنية:
﴿وَقَضَى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُواْ إِلاَّ إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاَهُمَا فَلاَ تَقُل لَّهُمَا أُفٍّ وَلاَ تَنْهَرْهُمَا وَقُل لَّهُمَا قَوْلاً كَرِيماً وَاخْفِضْ لَهُمَا جَنَاحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَقُل رَّبِّ ارْحَمْهُمَا كَمَا رَبَّيَانِي صَغِير﴾/ سورة الإسراء، الآيتان 23-24.

تحضر هذه الآيات في ذهن المسلم مباشرة عندما يسمع بموضوع برّ الوالدين، وتجدر الإشارة إلى لآلئ خبّأتها هذه الآيات:

أولاً: ما هو الإحسان إلى الوالدين؟
قرن الله سبحانه وتعالى عبادته بالإحسان إلى الوالدين والبرّ بهما، وأردف تعالى الإحسان إليهما بعد ذكر عبادته. فكما إنّ عبادته واجبة، كذلك الإحسان إليهما واجب. وكما إنّ عبادته سبحانه وتوحيده من أعظم الأمور، والشرك به من أكبر الكبائر، كذلك الإحسان إلى الوالدين عظيم، وعقوقهما من أكبر الكبائر التي توعّد عليها بالنار بعد الشرك. مضافاً إلى الإحسان، قرن الله شكره بشكر الوالدين في قوله تعالى:﴿أَنِ اشْكُرْ لِي وَلِوَالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ﴾/ سورة لقمان، الآية14؛ لأنّ شكرهما عبادة له تعالى على نعمة التربية، وعبادته شكر له على نعمة الإيمان.

والمراد من الإحسان حسن الصحبة في كافة شؤون حياتهما، والامتثال لأمرهما، إلى درجة استغنائهما عن الطلب. فعن الإمام الصادق(عليه السلام) عندما سُئل ما هو الإحسان، في تفسير الآية أجاب: “الإحسان أن تحسن صحبتهما وأن لا تكلّفهما أن يسألاك شيئاً مما يحتاجان إليه، وإن كانا مستغنيين”1.

ثانياً: هل يجب أن يكونا مسلمَين لنحسن إليهما؟
قال الله تعالى: ﴿وبالوالدين إحسان﴾، حيث ذكر كلمة الوالدين مطلقة، وهذا يدلّ على أنّ البر بهما والإحسان إليهما واجب، سواء أكانا مسلمين أم كافرين؛ فالإيمان والإسلام ليسا شرطين في ذلك. وبرّ الوالدين من الأحكام العامة الواجبة في الإسلام وفي جميع الأديان، لقوله تعالى: ﴿وَوَصَّيْنَا الْإِنسَانَ بِوَالِدَيْهِ حُسْناً وَإِن جَاهَدَاكَ لِتُشْرِكَ بِي مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلَا تُطِعْهُمَ﴾/ سورة العنكبوت، الآية8. فإنّ طاعة الوالدين واجبة في جميع الموارد، باستثناء مورد واحد وهو الشرك بالله.

ثالثاً: إظهار المودة
 الإحسان إلى الوالدين لا يكون ببذل المال والإنفاق عليهما فقط؛ بل يكون بالمحبّة الخالصة لهما، والأدب في التعامل معهما، والاهتمام بهما، وإظهار العطف والحنان عليهما.

رابعاً: تخصيص الرعاية بحالة الكبر
 أمرنا الله عزّ وجلّ بالبرّ بهما عند الكِبر بصورة خاصة، وأكّد على ذلك باستخدام نون التوكيد في الفعل المضارع “يبلغنّ”. والبلوغ هو وصول الأمر إلى تمامه. ففي هذه المرحلة يتغيّر حالهما من القوة إلى الضعف، وهي أشقّ الحالات التي يمرّ بها الإنسان فيشعر بالنقص، وعدم القدرة على القيام بشؤون نفسه.

خامساً: ما المقصود بـ﴿إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِندَكَ الْكِبَرَ﴾؟
على الولد أن يخدم والديه بنفسه، بإظهار حبّه وعطفه وحنانه عليهما، ورعايتهما في منزله وفي كنفه وكفالته2، وعدم إيوائهما في المستشفيات ودار العجزة بل يقوم بخدمتهما في بيته، وتحت إشرافه؛ فـ “عندك” مكان تستخدم في اللغة للدلالة على المكان.

سادساً: عدم التمييز بين الأب وبين الأم ﴿أحدهما أو كلاهم﴾
تكون حالة الوالدين النفسية في حالة الكبر واحدة؛ فالأم منبع العطف والود والحنان، تحتاج إلى الرحمة في حالة الكبر، وكذلك الأب الذي كان ربّ البيت ومعيله الأول في أيام نشاطه، يحتاج الآن إلى الاهتمام والرعاية والحنان، كما يحتاجان إلى تفهّم ولدهما لهذه الحاجات.

سابعاً: حرمة عقوق الوالدين في أبسط صورها: ﴿فلا تقل لهما أفٍ﴾
الأفّ كلمة تبرّم تدل على السخط، وهي: “اسم فعل يدلّ على التكرّه والحزن والتضجّر”3.  ﴿ولا تنهرهم﴾ وهي صورة أشدّ، فالنَّهَر هو الزجر، والغلظة، والطرد، ورفع الصوت4، بحيث يكثر الولد الضجر فيُظهر غضبه على أبويه. لهذا نهانا الله عزّ وجلّ عن قول الأفّ، ولو كان هناك كلمة أدنى منها لذكرها سبحانه5.

ومن نماذج عقوق الوالدين في القرآن الكريم ما ورد في قصة إخوة يوسف(عليه السلام)، عندما قالوا لأبيهم يعقوب(عليه السلام): ﴿قَالُواْ تَالله تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهَالِكِينَ﴾/سورة يوسف، الآية 85.

والحرض الإشراف على الهلاك6. في المقابل نجد نموذجاً مختلفاً، يبيّن برّ الوالدين بأجمل صوره، وهو قول إسماعيل(عليه السلام) لأبيه عندما أبلغه بأمر الله سبحانه: ﴿ قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِن شَاء اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ﴾/سورة الصافات، الآية 112، حيث أجاب  مستسلماً لأمر الله تعالى، ومطيعاً لأمر أبيه إبراهيم(عليه السلام).

ثامناً: القول الحسن
 الإحسان إلى الوالدين لا يكفي دون القول الحسن؛ الذي يعزّز الروابط العاطفية؛ فالكلام الحسن والجميل يستدر رحمة الوالدين ورضاهما في أشدّ حالات الاختلاف والنزاع. ومن القول الكريم عذوبة الصوت ورقّته، وحلاوة المنطق في الحوار. بل قد يتحقّق بالابتسامة اللطيفة، والنظرة الرحيمة التي تُنسي الوالدين آلامهما، وتخفّف من أحزانهما، وتشعرهما بالفرح والسعادة. ومن القول الحسن أيضاً احترامهما بعدم مناداتهما بأسمائهما. وهنا لا بدّ من الإشارة إلى أنّ احترام الوالدين واجب في جميع الأحوال، حتى لو تعرّض الولد للإساءة أو الضرب من جانبهما. وهذا ما أشار إليه الإمام الصادق(عليه السلام) في الحديث حيث قال: “إن ضرباك فقل لهما، غفر الله لكما”7.

تاسعاً: التواضع للأبوين
وقد عبّرت عنه الآية بـ “خفض الجناح”، وهو  كناية عن المبالغة في التواضع والخضوع لهما قولاً وفعلاً. فلا يتعالى عليهما، ولا يرى أنّه فوقهما، ولا ينعتهما بقول غير مرضي، ولا يتصرف أي تصرف يسيء إليهما.

عاشراً: إظهار الرحمة في التواضع
فلا يرفع صوته فوق صوتيهما، ولا يده فوق يديهما، وأن ينظر إليهما برحمة ومودّة، كما كانا يتصرّفان معه في مرحلة الطفولة. فاليوم في عمر الهرم، يحتاجان إلى العطف المصحوب بالخُلق الحسن، ولين الجانب في المعاملة، ورعاية الجانب الإنساني في القول والسلوك، بحيث يشعران بمتعة الراحة النفسية، وبأنهما يقطفان ثمار جهدهما.

وأخيراً: وجوب الدعاء لهما ﴿وقل ربّ ارحمهما كما ربياني صغير﴾ الدعاء إلى الله أن يجزيهما أحسن الجزاء، لقاء ما قاما به في تربية الأبناء في صغرهم.

يقول الإمام زين العابدين(عليه السلام) في رسالة الحقوق: “فحقّ أمك أن تعلم أنها حملتك حيث لا يحمل أحدٌ أحداً، وأطعمتك من ثمرة قلبها ما لا يطعم أحدٌ أحداً، وأنه وَقَتك بسمعها وبصرها ويدها، ورجلها وشعرها وجميع جوارحها، مستبشرة فرحة… فتشكرها على قدر ذلك، ولا تقدر عليه إلا بعون الله وتوفيقه…”8

“وحق أبيك فتعلم أنه أصلك، وأنه لولاه لم تكن، فمهما رأيت في نفسك مّا يعجبك فاعلم أنّ أباك أصل النعمة عليك فيه فاحمد الله واذكره على قدر ذلك ولا قوة إلا بالله”9.

مجلة نجاة – بتصرّف

المصادر و المراجع

1- الكليني، محمد بن يعقوب: أصول الكافي. ط1، دار الأسوة، قم، 1376هـ-ش، 1418هـ-ق.
2- الفيض الكاشاني، المولى محسن: تفسير الصافي. ط1، مؤسسة الأعلمي، بيروت، 1429هـ ، 2008م.
3- مسعود، جبران: الرائد معجم ألفبائي في اللغة والأعلام. ط3، دار العلم للملايين، بيروت، 2005م.
4- الإمام زين العابدين(ع): رسالة الحقوق. شرح: حسن السيد علي القبانجي. ط3، دار الأضواء، بيروت، 1991.


5 أصول الكافي، ج2، باب برّ الوالدين، ح1، ص185.
6 يراجع: تفسير الصافي، ج2، ص349.
7 الرائد (معجم ألفبائي في اللغة والأعلام)، مادة أفٍّ، ص 118.
8 يراجع: م.ن، مادة نَهَرَ، ص912.
9 عن الإمام الصادق(ع): “لو علم الله شيئاً أدنى من أفٍّ لنهى عنه وهو من أدنى العقوق”،
  تفسير الصافي، (م.س)، ج2، ص 350.
10 يراجع: الرائد،(م.س)، مادة حَرَضَ، ص 341.
11 الكافي، (م.س)، ج2، ص 186.
12 رسالة الحقوق، حق الأم، ص 475.
13 م.ن، حق الأب، ص 489.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى