ثقافة

العلم والضوابط والأخلاقية

قليلة هي الكتابات حول مسألة أخلاقيّات العلم في المكتبات ودور النشر العربيّة، ونادرة هي الكتب التي تتطرّق إلى أزمة العلم الحديث والتجاوزات التي ترتكب باسمه، ذلك أنّ ملف البحث العلميّ غير مطروح كما ينبغي في الأمّة عمومًا وفي ساحاتنا خصوصًا، وقضيّة الأخلاق المهنيّة والمؤسّساتيّة لا تحتلّ الأولويّة المطلوبة في بلادنا حيث تعاني الأمّة من الأعراض الجانبيّة للعولمة وانفتاح الأمم بعضها على بعض وسيطرة القيم الغربيّة عليها، مقرونًا بتردّدها وبقصورها عن إطلاق منظومة النهوض العلميّ والصناعيّ والإداريّ في بلدانها، ويساعد في كلّ ذلك اغترار أهل الحلّ والربط فيها بالأسلوب الملتوي والخطاب المنمّق الذي يجير به الغرب لأفكاره وأعرافه كمثال الدعوة لإطلاق الحريّات في بلداننا والمطالبة بتعميم النموذج الليبراليّ اقتصاديًّا واجتماعيًّا، وحيث يحترف الغرب إرسال رسائل الترغيب للموالين له ورسائل التهديد وصولًا إلى المواجهة الانتقائيّة للأنظمة المخالفة. ومع الأسف، لا تحتلّ الجامعات العربيّة والإسلاميّة مراكز متقدّمة في الترتيب العالميّ للجامعات وكذلك لا وجود لمراكز الأبحاث العربيّة والإسلاميّة في مصاف ترتيب الأوائل عالميًّا في إنتاج البحث العلميّ.

إزاء كلّ ذلك، لا نجد صخبًا في الحديث عن التبعات والنتائج السلبيّة للعمل العلميّ المتفلت من الضوابط القيميّة والأخلاقيّة، ولم تعطِ الحكومات ولا منظّمات المجتمع المدنيّ آذانًا صاغية لكلام مخيف ومطروح بقوّة في الغرب، كلام يصل إلى حدّ المعضلة:

إلى أين يتّجه بنا العلم؟ وهل مسموح لنا إطلاق العلم من عقاله؟ وتزداد خطورة الأسئلة وتتنوّع عندما تخوض الدول الامبرياليّة المعركة في جرّ العلم إلى حيث تريد: أداة طيّعة في يد الإعلام وكارتيلات السلاح والنفط والإنتاج الصناعيّ المفتوح، وتدير هذه المعركة بالوساطة وتجيّش عددًا من الأقلام والعلماء لمواجهة الدعوات إلى عقلنة العلم بعناوين احترام حريّة البحث العلميّ كجزء من منظومة الحريّات التي لا تمسّ وبعناوين قدسيّة العلم وعدم جواز الوقوف في مسار تقدّمه انطلاقًا من مفهومها القائم على حاكميّة العلم على ما عداه.

الوجه الآخر لإعاقة مشروع انطلاقة الأمّة إبقاؤها أسيرة تحدّيات الوجود عبر استثمار ثورات الشعوب على الأنظمة التي فرضتها أمريكا وحلفاؤها الغربيّون وإبقاء إنسان اليوم في العالم الثالث أسير البحث عن لقمته، عالقًا في التهديد الدائم لأمنه وأمانه الاجتماعيّ وأنّه يعاني من تعسّف وقهر أنظمة ملكيّة زالت من على خارطة الكرة الأرضيّة ولم تبقَ إلّا في بلادنا، ولا تنتج إلّا إنسانًا محدود الأفق والتطلّعات ومحدود الخيال والإبداع، بحيث تستنسخ المشكلة يومًا بعد يوم وحكومة بعد حكومة وجيلًا إثر جيل.

مصلحة الفرد مسألة محوريّة في الغرب الذي يحترم كلّ القيم الداعمة لحركة الإنسان ولنهوض المجتمع وسلامته مثل الانضباط واحترام الوقت وإتقان العمل، لكن يخفق في احترام المنظومة الكاملة للقيم الإنسانيّة العليا، فالقيم فاعلة ومحترمة لصالح الإنسان الأبيض فقط فيما هي نسبيّة تجاه سائر الأمم، وهو مستعدّ لأن يسحقها لتنحدر كرامة الإنسان باسم الآلة المنتجة، خدمة لغرائز البطش والأنانيّة والمنفعة، على أسس الإلحاد العمليّ والعلمنة بأن ليس ما بعد الحياة شيء والمهمّ هو الانتفاع بها بغضّ النظر عن الأساليب، وهو وصف أكّده علماء الغرب ومنهم برتراند رسل الذي قال إنّ الحضارة الغربيّة أخذت بعناصر الغريزة والعقل وأهملت الروح مطلقًا، مصدر المشاعر الإنسانيّة وسبب الإحساس بالآخرين، ويعتبر رسل أنّ شرط الحضارة الحقيقيّة هو انسجام العناصر الثلاثة نحو حياة إنسانيّة أرقى.

لقد انتصر الإنسان على المادّة وتسيّد الكرة الأرضيّة لكنّه احتاج ويحتاج إلى نصرٍ آخر أسمى وأشدّ أهميّة وهو نصره على غرائزه، نصر على نفسه الأمّارة وهذا النصر ليس مسألة نظريّة سهلة فهو الحقبة الأصعب وهو ما عرفه الحديث الشريف بالجهاد الأكبر، فيما تعاني الأمّة الإسلاميّة من صورة أخرى للأزمة وهي عدم انعكاس القيم الدينيّة إيجابًا على حركة المجتمع عن التطبيق العملانيّ والارتباط اليوميّ بها، حيث يحترم الإسلام الحياة ويقدّس قيمتها وهي دار ممرّ إلى وجود أخرويّ أسمى وأطول، فيما لا تزال الأمّة تعاني الأمّة من بون شاسع بين القيم الجماعيّة الفاعلة والمحرّكة وبين الروح الفرديّة والمنغلقة في إطار الذات دون الجماعة.

في المفهوم الإسلاميّ، الرقيّ المادّيّ والروحيّ هما وجهان للحياة الإنسانيّة يكمل أحدهما الآخر وهدف البعثة النبويّة وفق الحديث الشريف: “إنّما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق” ، والمراد في أصل الوجود الإنسانيّ على الأرض أن يكون ابن آدم خليفة الله على الأرض، والمفارقة أنّ الإسلام يحثّ وبقوّة شديدة المسلم على طلب العلم ويعتبر أنّ العلم سبيل النهوض فلماذا لا تبدأ عجلة النهوض الحقيقيّ بالدوران؟ الحقيقة أنّ للمشكلة وجهين: لا قيم وتطلّعات جماعيّة للإنسان المسلم كافية لاستنهاضه والذهاب بآفاقه نحو الأرقى والأسمى له وللأمّة، والوجه الآخر غياب القيادة الحقيقيّة ثمّ الرؤية والمشروع، حيث نجزم بأن لا رؤية ولا مشروع حقيقيًّا لدى معظم الدول القائمة اليوم تجاه تحدّيات ومستلزمات النهوض وتحديدًا تجاه موقع العلم في مشروع النهوض، باستثناء إيران حيث حدّدت الأمّة ما تريد، وشخّصت الهدف التي عليها الوصول إليه وحدّدت مفهومها للتقدّم، وأنتجت رؤية علميّة بلورها الإمام الخامنئي القائد من خلال خطب وكلمات قدمها تدريجًا على امتداد عشرين عامًا وكنّا قد شاركنا في تظهيرها من خلال كتاب الرؤية العلميّة لدى الإمام الخامنئي( )، والمسألة التي يجدر التوقّف عندها أيضًا فرادة شخصيّة الإمام الخامنئي، حيث لم يحدث سابقًا أن يجمع قائد بين موقعه السياسيّ والمرجعيّ وحمله لرؤية علميّة ثاقبة وقّادة تستشرف منها الأمّة مشروعها النهضويّ لتتبوّأ الموقع العلميّ الرياديّ بين سائر الأمم ولتحقّق من خلال مشروعها للنهوض والاقتدار على قاعدة كلام الإمام علي (ع): “استغن عمن شئت تكن نظيره واحتج إلى من شئت تكن أسيره” .


د. عبد الله زيعور

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى