ثقافة

فهم القرآن والشبهات الجديدة

إنّ معارف القرآن الكريم هي الرزق المعنويّ للناس، والرزق المعنويّ كالرزق المادّي تدريجي. وقد شبَّه القرآن الكريم في مقام التمثيل تدريجيّة الرزق بنطق الإنسان، فقال تعالىٰ: ﴿وَفِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَمَا تُوعَدُونَ  ٭ فَوَرَبِّ السَّماءِ وَالأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنطِقُون﴾[.[1] والمقصود من التمثيل بالنطق في هذه الآية الكريمة ليس هو التمثيل بالأمر البديهي، وإلاّ لذكر أمراً أشدّ بديهيّة من النطق، بل انّ المقصود هو تدريجيّة النطق، ففي النطق تظهر الكلمات والجمل من خزانة العقل ومكمن غيب الإنسان بنحو تدريجيّ. ومعارف الدين أيضاً بهذا النحو سواء كانت في عصر واحد أو عصور متعدّدة؛ فالرزق المشترك لجميع الناس هو الإسلام الّذي هو روح جميع الأديان التوحيديّة والإلٰهيّة: ﴿إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللهِ الإِسْلاَم﴾[[2]، وأمّا الرزق الخاصّ في كلّ عصر فهو الشريعة والمنهاج: ﴿لِكُلٍّ جَعَلْنَا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَمِنْهَاج﴾[.[3] والمعرفة الدينيّة في كلّ عصر أيضاً تُفاض علىٰ الناس بالتدريج بتوفير مقدّماتها والأسباب الممهّدة لنزولها، ومن المقدّمات الممهّدة لتلقّي المعرفة الدينيّة هي الأسئلة والشبهات الجديدة.

وانّ مهمّة علماء الدين في الوقت الحاضر هو ان يطّلعوا تماماً علىٰ مايجري في الأوساط العلميّة في عالم اليوم حتّىٰ لايقعوا في الإلتباس أو المغالطة عند استظهارهم من آيات القرآن وكذلك أثناء استنباطهم من روايات العترة الطاهرين: «العالم بزمانه لا تهجم عليه اللوابس»[4].

وأسئلة الناس في العصور السابقة مهّدت لنزول رزق المعرفة في تلك العصور، ونحن ايضاً يجب علينا أن نقدّر الجهد العلميّ للماضين وان ننظر إليهم بعين الإحترام، وعلىٰ الرغم من انّ ما ذكروه من بحوث يمكن أن لايكون من قضايانا المعاصرة أو لا يكون مقبولاً عندنا؛ ولكنّ هذا لايعني انّ جميع تلك المعارف كانت باطلةً في وقتها، فكما انّ الإنسان الكبير لايميل الىٰ لبن الاُمّ ويعافه، في حين انّه كان في دور الرضاعة والطفولة يتغذّىٰ علىٰ هذا اللبن بعينه ولولاه لما نما وترعرع وبلغ هذا المبلغ من العمر. وعلىٰ هذا الأساس فانّه يمكن ان تكون المعارف العميقة في عصرنا الحاضر بالنسبة الىٰ الأجيال القادمة مثل لبن الاُمّ بالنسبة الىٰ الكبار غير مستساغة لديهم، ولكن هذا اللبن نفسه كان ذات يوم ضروريّاً ولذيذاً.

والأسئلة والشبهات الجديدة في عصرنا الحاضر تستدعي عودة ثانية الىٰ القرآن من أجل تفسيره بنحو يتضمّن الجواب علىٰ الأسئلة والإشكالات المعاصرة، لانّ التفاسير السابقة قد كتبت في فضاء خال من هذه الأسئلة، مثلاً إحدىٰ الشبهات الّتي يثيرها في هذا العصر أصحاب مذهب (السكولاريسم أو العلمانيّين الّذين يقولون بفصل الدين عن السياسة) في ميدان المعرفة الدينيّة هي انّ فعل الأنبياء (عليهم السلام) في مجال السياسة والاُمور المعيشيّة والإجتماعيّة للبشر ليس بحجّة، لانّ الدين مسؤول فقط عن تبيين المعارف العقائديّة والاخلاق الإلٰهيّة والفقه وتنظيم أمر آخرة الناس، وأمّا شؤون دنيا الناس كالحكومة والاُمور المعيشيّة فهي خارجة عن دائرة التشريع الدينيّ. وانّما تدخّل الأنبياء (عليهم السلام) في مثل هذه الاُمور لانّهم أفراد يخالفون الظلم ويحبّون الحريّة والعدالة، لا من حيث انّهم رسل الله وحاملون للوحي الإلٰهيّ. وعليه فانّ سيرة وسُنَّة الأنبياء (عليهم السلام) في غير الاُمور العباديّة والأخلاقيّة والاُخرويّة ليست حجّةً للاُمم، ولا يجب اتّباعهم علىٰ الأفراد العقلاء القادرين بأنفسهم علىٰ التفكير والتخطيط.
وهنا اذا بحثنا في القرآن الكريم بهذه النظرة وهي هل أنّ القرآن الكريم قد تحدّث عن سنّة وسيرة الأنبياء (عليهم السلام) في الشؤون الإقتصاديّة والسياسيّة والإجتماعيّة علىٰ نحو السرد التاريخيّ المحض أم أنّه قد ذكرها لبيان السنن الإلٰهيّة لأجل الإتّباع والعمل، فسوف نرىٰ انّ آيات كثيرة في القرآن تدحض زعم العلمانيّين الباطل وتنفيه، كما في الأمر بشدّ وثاق أسرىٰ الحرب: ﴿… فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنَّاً بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّىٰ تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَ﴾[[5] أو في جواب من اقترح أخذ الفدية لأجل تقوية بيت المال حيث نهىٰ عن ذلك وقال بأنّ الأرض يجب أن ترتوي من دماء الأرجاس، وقبل ذلك لايحقّ لكم أخذ الفدية: ﴿مَا كَانَ لِنَبِيٍّ أَن يَكُونَ لَهُ أَسْرَىٰ حَتَّىٰ يُثْخِنَ فِي الأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيَا وَاللهُ يُرِيدُ الآخِرَةَ وَاللهُ عَزِيزٌ حَكِيم﴾[.[6]

كما انّ نزول الكتاب السماويّ مقدّمة لاخراج الناس من الظلمات الىٰ النور، والنبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) يوصف بانّه العامل والواسطة في هذا التغيير الإلٰهيّ: ﴿… كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَىٰ صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيد﴾[[7]، ومن الواضح أنّ إخراج الناس من الظلمات وتنويرهم لايتمّ إلاّ بإزالة شرّ الظالمين وإنقاذ المظلومين؛ كما يذكر جهاد النبيّ موسى(عليه السلام) مع البلاط الفرعونيّ كمثال لتنوير المجتمع وإخراجه من جميع ألوان الظلمة.

وعلىٰ هذا فانّ مخالفة الظلم واجتثاث الحكومات الطاغوتيّة واقامة الحكومة الإلٰهيّة جزء من رسالة أنبياء الله (عليهم السلام)، وليست جزءً من النشاطات التحرريّة الّتي يقوم بها القادة الإصلاحيّون الّذين كانوا يقومون بها بصفة انّهم بشر وليس بصفة أنّهم أنبياء.

آية الله الشيخ جوادي آملي

المصادر و المراجع

[1] . سورة الذاريات، الآيتان 22 و23.
[2] . سورة آل عمران، الآية 19.
[3] . سورة المائدة، الآية 48.
[4] . البحار، ج75، ص269.
[5] . سورة محمّد، الآية 4.
[6] . سورة الأنفال، الآية 67.
[7] . سورة ابراهيم، الآية 1.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى