ثقافة

التوحيد الإسلاميّ وفق رؤية الإمام الخامنئي (دام ظله)

ينطلق الإمام الخامنئي في معالجة موضوعة التوحيد من كون “هذا المفهوم يشكّل أعمق أسس محتوى الأديان، ولا يناظره مفهوم آخر في عمق اتّجاهه نحو تحرير الإنسان وإنقاذ البشريّة المعذّبة على مسرح التاريخ”(2). من هنا، فإنّ “الأنبياء كانوا يطرحون كلّ أهدافهم من خلال شعار التوحيد، كما كانوا يحقّقون تلك الأهداف أو يمهّدون لتحقيقها في أعقاب كفاح ينشب تحت راية هذا الشعار”(3). ومن الملاحظ وفق تعريف وتبيان مضمون التوحيد، الصلة الوثيقة للتوحيد بحياة الرسالة وأمّة الإسلام؛ فيما توالي وفيما تعادي. لذا، فإنّ اقتصار تقديم التوحيد على الجانب النظريّ هو تسطيح لهذا المبدأ و“إنّه لمؤسف حقًّا أن يبقى محتوى التوحيد مجهولًا أو محرَّفًا أو سطحيًّا لا يتجاوز الإطار الذهنيّ”(4)، ذلك أنّ “التوحيد لا ينحصر في إطار نظريّة فلسفيّة ذهنيّة – كما هو الشائع – بل هو نظريّة أساسيّة حول الإنسان والعالم، ومنهج اجتماعيّ واقتصاديّ وسياسيّ للحياة”(5).

إلّا أنّ هذا لا يعني إغفال البُعد النظريّ في التوحيد، في الوارد عن أمير المؤمنين، عليه السلام، أنّه “في حرب الجمل قام شخص وسأل الإمام علي، عليه السلام، عن معنى وحدانيّة الله تعالى، ولكنّ سؤاله هذا واجه موجةً من اعتراض أصحاب الإمام علي، عليه السلام، إلّا أنّ الإمام لم يعترض عليه، بل أجابهم أنّنا نقاتل لأجل هذا الأمر، وجوابه هذا كنايةً عن أنّنا نقاتل الناس ونحاربهم لأجل الدفاع عن المعرفة والاعتقاد الصحيحين، ثمّ أجابه على سؤاله بما يلي:

إنّ معنى كونه واحدًا يتصوّر على معانٍ أربعة:
1. الواحد بمعنى أنّه لا شريك له ولا نظير.
2. الواحد بمعنى أنّه ليس مركّبًا ولا قابلًا للتجزئة والتحليل بالعقل.
3. الواحد بمعنى أنّه واحد بالعدد في مقابل سائر الأعداد الأخرى كالاثنين والثلاثة.
4. الواحد بمعنى أنّه واحدٌ بالجنس.

فأمّا المعنيان الأوّلان فهما صحيحان ويمكن نسبتهما إلى الله تعالى بخلاف المعنيين الأخيرين.

يخلص الإمام الخامنئي من هذا العرض النظريّ ليؤكّد أنّ هناك شبهات تُثار اليوم في موضوعات التوحيد وينبغي الردّ والتصدّي لها. ثمّ مباشرةً يعود فيرى فيها المنظار العملانيّ، إذ يقول: إنّ النظام الإسلاميّ مبتني على أساس وقاعدة الفكر والعقيدة، وهو قائم وثابت على هذا الأساس المتين، فإذا تزلزل، والعياذ بالله، هذا الأساس سقط بناء النظام وتهدّم. من هنا، فالواجب على الذين لديهم معرفةً دينيّةً أن يتصدّوا للردّ على تلك الشبهات(6).

لذا، فإنّ المبحث النظريّ بالغ الأهمّيّة في أدبيّاتنا الإسلاميّة وفي نهج الاقتدار الذي يقوده الإمام الخامنئي، وهو بهذا المعنى يوكّد على المعالجة النظريّة.

إلّا أنّ ما هو مرفوض الاقتصار على الجانب النظريّ، فمن الضروريّ رعاية التوحيد العمليّ في عين الاهتمام بالتوحيد النظريّ، إذ لا يخفى أنّ حياة الإنسان مركّبة من الذهن والواقع، من الفكر والعمل. وإذا خضع واحد من هذين الجانبين – بأجمعه أو بقسم منه – لأعداء الله، بحيث يكون الذهن إلهيًّا مثلًا، والواقع غير إلهيّ أو العكس، فإنّ ذلك يحدث اختلال توازن في الهويّة العقائديّة للموحّد. وهو ما عبّر عنه قوله سبحانه وتعالى: ﴿أَفَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتَابِ وَتَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ﴾[(7). وإذا كانت مصادر البحث الكلاميّ ركّزت اهتمامها على الجانب النظريّ لموضوعة التوحيد. فإنّ الإمام الخامنئي في الوقت الذي لم يغفل هذا الجانب إلّا أنّه ركّز اهتمامه على البُعد العمليّ، وذلك لخلق التوازن في المفهوم من جهة، وفي شخصيّة المؤمن صاحب الاعتقاد من جهة أخرى. ومقصودنا بالمؤمن هنا، قد يكون فردًا، أو جماعةً، أو نظامًا ودولةً ومؤسّسة. عليه، راح المبحث عند الإمام الخامنئي باتّجاه الكشف عن مكنونات التوحيد في هذه المنظومة، وهو ما يمكن لنا أن نتوفّر عليه في رسالته المسمّاة روح التوحيد، رفض عبوديّة غير الله، والتي كان قد صاغها قبل انتصار الثورة. ثمّ إنّ أدبيّاته الشفويّة من توجيه ومواعظ وخطب وغيرها امتلأت بالإشارة إلى مفاصل وأسس التوحيد العمليّ. وصولًا لكشف النظام القيميّ لنهج الاقتدار القائم على مبدإ التوحيد، وهو الأمر الذي سمح بالتمييز بين (توحيد الاقتدار) و(توحيد الخمول والعزلة). إذ السمة الثانية للتوحيد هي التي تتعايش مع واقع الظلم والعبوديّة لغير الله دونما أيّ تأثّر أو حميّة في الموقف. وهذا ما يرفضه المنطق الإسلاميّ ومنهج الحياة الرسوليّة للنبيّ، صلّى الله عليه وآله، والأئمّة الأطهار، عليهم السلام، بل ولكلّ السائرين على صراط الإسلام المحمّديّ الأصيل.

إنّ إخراج التوحيد من الحياة العملانيّة والاقتصار فيه على الجانب النظريّ – الذهنيّ يورث الخمول والعزلة عن الحياة الاجتماعيّة، لذا فإنّ “فهم التوحيد على أنّه نظرة لما وراء الطبيعة، أو أنّه على أحسن الأحوال أطروحة أخلاقيّة عرفانيّة؛ هذا الفهم لا يتناسب إطلاقًا مع الأيديولوجيا الإسلاميّة الحيّة التي تنطوي على أطروحةٍ كاملةٍ للحياة الاجتماعيّة”(8).

ليس المقصود هنا نفي الجانب الأخلاقيّ والعرفانيّ من حياة الإنسان، فهما يمثّلان العمق المعنويّ للأطروحة الإسلاميّة التوحيديّة، لكنّ المقصود أنّ ابتسار كلّ الرساليّة التوحيديّة بهذا البُعد هو بمثابة الإنكار لشموليّة الأطروحة الإسلاميّة المتّسعة لكلّ أبعاد الحياة الاقتصاديّة، والاجتماعيّة، والسياسيّة. وهذا ما يودّ أن يؤسّس له الإمام الخامنئي حينما يتحدّث عن التوحيد كأصل بانٍ لكلّ المنظومة، أو الأطروحة الإسلاميّة المحمّديّة. فمنذ اللحظة الأولى لطرح التوحيد على المجتمع الجاهليّ، فهم الجميع ممّن سمع نداء الإسلام أنّه دعوة انقلابيّة في حياة الفرد والمجتمع على مستوى القيم والنظم.

  • المصدر: الرؤية التوحيديّة وقيم الحضارة الإسلاميّة – بتصرّف

المصادر و المراجع

(2) الإمام الخامنئي، روح التوحيد ورفض عبوديّة غير الله
(3) الإمام الخامنئي، روح التوحيد، مصدر سابق.
(4) المصدر نفسه.
(5) المصدر نفسه.
(6) الإمام علي الخامنئي،كلمات مضيئة، الطبعة 1 (دار العصمة، 2005)، الصفحتان 311- 312.
(7) سورة البقرة، الآية 85.
(8) الإمام الخامنئي، رسالة روح التوحيد، مصدر سابق.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى