ثقافة

التدرج المعنوي من كظم الغيظ إلى الإحسان

يقول تعالى: (… والكاظمين الغيظ والعافين عن الناس والله يحب المحسنين)[1]

من صفات المتقين الأساسية، والتي من دونها منَ الممكن أن يضيّع الإنسان كل ما يعمله من ثواب وعمل صالح، أن تكون له القدرة على كظم الغيظ، والسيطرة على الغضب.

 لفظة “الكظم” تعني في اللغة شد رأس القربة عند ملئها، فيقول كظمت القربة إذا ملأتها ماء ثم شددت رأسها، وقد استعملت كناية عمن يمتلئ غضبا ولكنه لا ينتقم. وأما لفظة ” الغيظ ” فتكون بمعنى شدة الغضب والتوتر والهيجان الروحي الشديد الحاصل للإنسان عندما يرى ما يكره. وحالات الغيظ والغضب من أخطر الحالات التي تعتري الإنسان، ولو تركت وشأنها دون كبح لتحولت إلى نوع من الجنون الذي يفقد الإنسان معه السيطرة على أعصابه وتصرفاته وردود فعله. ولهذا فإن أكثر ما يقترفه الإنسان من جرائم وأخطاء وأخطرها على حياته هي التي تحصل في هذه الحالة، ولهذا تجعل الآية “كظم الغيظ” و “كبح جماح الغضب” الصفة البارزة الثانية من صفات المتقين. قال النبي الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) “من كظم غيظا وهو قادر على إنفاذه ملأه الله أمنا وإيمانا”. وهذا الحديث يفيد أن كظم الغيظ له أثر كبير في تكامل الإنسان معنويا، وفي تقوية روح الإيمان لديه.

 وهناك صفة تعلو كظم الغيظ، تجعل من يتصف بها أعلى بدرجات ممن يكتفي بالصفة السابقة، وهي الصفح عن الظالمين. فمن المتقين من يصفحون عمن ظلمهم ويعفون عن الناس. إن كظم الغيظ أمر حسن جدا، إلا أنه غير كاف لوحده، إذ من الممكن أن لا يقلع ذلك جذور العداء من قلب المرء، فلابد للتخلص من هذه الجذور والرواسب أن يقرن “كظم الغيظ” بخطوة أخرى وهي “العفو والصفح” ولهذا أردفت صفة “الكظم للغيظ” التي هي بدورها من أنبل الصفات بمسألة العفو. ثم إن المراد هو العفو والصفح عن من يستحقون العفو، لا الأعداء المجرمون الذين يحملهم العفو والصفح على مزيد من الإجرام، وينتهي بهم إلى الجرأة أكثر.

 أما المحسنون في قوله تعالى “والله يحب المحسنين”، فهي إشارة إلى مرحلة أعلى من “العفو والصفح”، وبهذا يرتقي المتقون من درجة إلى أعلى في سلم التكامل المعنوي. وهذه السلسلة التكاملية هي أن لا يكتفي الإنسان تجاه الإساءة إليه بكظم الغيظ بل يعفو ويصفح عن المسئ ليغسل بذلك آثار العداء عن قلبه، بل يعمد إلى القضاء على جذور العداء في فؤاد خصمه المسئ إليه أيضا، وذلك بالإحسان إليه، وبذلك يكسب وده وحبه، ويمنع من تكرار الإساءة إليه في مستقبل الزمان. وخلاصة القول أن القرآن يأمر المسلم بأن يكظم غيظه أولا ثم يطهر قلبه بالعفو عنه، ثم يطهر فؤاد خصمه من كل رواسب الضغينة وبقايا العداء بالإحسان إليه. إنه تدرج عظيم من صفة إنسانية خيرة إلى صفة إنسانية أعلى هي قمة الخلق وذروة الكمال المعنوي. ولقد روي في المصادر الشيعية والسنية في ذيل هذه الآية أن جارية لعلي بن الحسين جعلت تسكب عليه الماء ليتهيأ للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجه، فرفع رأسه إليها فقالت له الجارية:  إن الله تعالى يقول:  والكاظمين الغيظ فقال لها:  قد كظمت غيظي. قالت:  والعافين عن الناس قال:  “قد عفوت وقد عفى الله عنك” قالت:  والله يحب المحسنين قال:  اذهبي فأنت حرة لوجه الله[2]. إن هذا الحديث شاهد حي بأن كل مرحلة متأخرة من تلك المراحل أفضل من المرحلة المتقدمة.

  • الشيخ ناصر مكارم الشيرازي – بتصرّف

المصادر والمراجع

[1]  سورة آل عمران، الآية 134.
[2]  راجع تفسير الدر المنثور، ونور الثقلين في ذيل هذه الآية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى