ثقافة

الإلحاد والإنسان المبتور

أدرك الإلحاد المعاصر أنّ العقبة الأساس هي في اللغة التي ترتبط بالدين، فعمل على طرائق عديدة من أجل إفراغ لغة الدين من محتواها، وتحويلها إلى لغة هامشية، فصاغ خطابه من خلال لغة، تتميز بالخصائص التالية:

1- اللغة الإعلامية:
استخدام لغة بسيطة، تعتمد المشهدية، واستعراض الوقائع، كما يفعل أصحاب التقارير الصحفية، وفي هذه المشهدية عادةً ما تكون الصور مبالغاً فيها، لتستطيع أن توصل الرسالة بشكل واضح، مما يجعل القارئ قادراً على تخيّل المقاربة التي تقدَّم له، وتصديقها، والغاية من هذا الأمر:

أ – التركيز على الجانب السلطوي للدين،
 حيث يقوم المتدين بترهيب الآخرين، كقول دوكنز: “من المسلمات والتي يقبل بها الجميع تقريباً في مجتمعنا الإنساني، حتى غير المتدينين، بأن الإيمان الديني هو فكرة هشّة وضعيفة أمام النقد ويجب إحاطتها بجدار سميك من الإحترام، وهذا النوع من الإحترام يختلف كلياً عن الذي من المفترض أننا نعامل به بعضنا (…) عندما يصوت أحدهم لحزب، لا تتفق أنت مع أفكاره فبإمكانك مناقشة ذلك قدر ما تشاء، كلّ لديه فكرة يطرحها بدون أن يسبب الحزن لأحد (…) وعندما يقول أحد ما “أنا لن أشعل مصباح الكهرباء يوم السبت، يجب عليك أن تقول وأنا أحترم ذلك”[1] ، فالديانات تتمتع بامتيازات نتيجة خوف المجتمعات من ردات فعلهم.

ب- إظهار الملحد نفسه باعتباره ضحية: “يروي دافيد مايلز في كتبه عالم الملحدين، قصة تبدو كوميدية غير واقعية عن تعصب الشرطة أشبه بالخيال. أحد دعاة المسيحية المتعصبين للشفاء بالإيمان، بدأ حملة “أعاجيب صليبية”، وهذه الحملة تزور مدينة مايلز مرةً كل عام. ومن الأمور التي تدعو لها هذه الحملة أن يترك مرضى السكري حقن الأنسولين، ويترك مرضى السرطان الجرع الكيميائية، ويستبدلوها بالصلاة. وبكل رواية، أراد مايلز أن ينظم ظاهرة سليمة لتحذير الناس، ولكنه أخطأ بذهابه للشرطة لإخبارهم بنيته وطلب الحماية، مما قد يتعرضون له من أتباع ومؤيدي ذلك الداعية للشفاء بالإيمان. الشرطي الأول الذي تكلّم معه سأله: هل مظاهرتك ستكون مؤيدة أو مضادةً؟ أجاب مايلز “مضادة”. الشرطي أجابه بأنه شخصيّاً من أحد المؤيدين وينوي البصق في وجه مايلز، لو مرّ بجانب مظاهرته. مايلز قرر أن يجرب حظّه مع شرطي آخر. ولذلك أجابه بأنه لو أنّ أحد أتباع الداعية مارس العنف ضد مايلز فإنّه سيوقف مايلز لأنّه سيتدخل في إرادة الله. ذهب مايلز لبيته، واتصل بمركز الشرطة يأمل أن يجد تعاطفاً على صعيد الرتب العليا. وبالنتيجة وصل للكلام مع عقيد، والذي قال له: ” لتذهب للجحيم يا هذا. لا يوجد شرطي يريد حماية ملحد ملعون. آمل حقاً بأن يدميك أحدهم”[2]. وما قدمه مايلز هنا – في حال صدق الخبر – عبارةً عن استعراض ينتهي بتقديم الشخصية الملحدة بثوب المتحضّر الملتزم بالقوانين المؤمن بالعلم الساعي إلى تحقيق مصلحة الناس، مقابل المنظومة الإيمانية التي تستغل وظائفها من أجل انتهاك القانون، وخدمة أهداف المؤسسة الدينية التي ينتمون إليها من أجل أهداف سلطوية.

2- إظهار البعد الموضوعي:
فالملحد – بحسب دوكنز- لا يعتبر نفسه ملحداً حتى يتيقن من النتائج التي يتوصل إليها، لذلك هو يلجأ إلى التوقف واللاأدرية، فهو لا يأخذ الأمور كمسلمات، وهذا ما يتناقض مع الإيمان الديني، فكلّ قول لا بد من أن يوضع على مشرحة البحث العلمي طالما له علاقة بالإنسان، والحديث عن الإله هو من هذا الصنف من الكلام، الذي لا يمكن الركون إلى صدقه لأنّه كلام علميّ وهو يحتاج إلى إثبات بسبب ما يحتويه من عناصر احتمالية، ولأنّه كذلك، لا بد أن يخضع لنفس القيم التي يخضع لها العلم.

في هذا الكلام ميل واضح للقول إنّ اللغة الدينية إما أن تقبل أن تتحول إلى لغة علمية، وإما تبقى لغةً “عديمة المعنى” بحاجة للتحقق من صحتها من خلال التجريب. وهذا الإشكال كان قد أثاره “فيتجنشتين” في نقده للغة الميتافيزيقيا حين اعتبر أنّها عديمة المعنى، ليس لافتقادها لمعنى كما يتبادر إلى الذهن، وإنّما لعدم احترامها لمنطق اللغة المرتبط بدلالة يمكن الإشارة إليها والتحقق منها عبر المطابقة بين اللفظ والواقعة. وهذا الكلام كان قد ردّ عليه السيد الشهيد بالقول: “إن كانت الوضعية تلغي كلّ قضيّة ما لم يكن مدلولها معطىً حسيّاً وظرفاً واقعياً يخضع للتجربة فهي بذلك لا تسقط القضايا الفلسفية فحسب، بل تشجب أيضاً أكثر القضايا العلمية التي لا تعبّر عن قانون مستنتج من المعطيات الحسّية كقانون الجاذبية، فنحن نحسّ بسقوط القلم عن الطاولة إلى الأرض، ولا نحس بجاذبية الأرض، فسقوط القلم معطىً حسي مرتبط بالمضمون العلمي لقانون الجاذبية، وليس للقانون عطاء حسّي مباشر”[3].

3- اعتماد الشعارات:

فالملحدون يعمدون إلى الشعارات التي يعملون على تعمميمها تحت لافتة العلمية، يقول دوكنز: “مايكل شيرمر” في “كيف نؤمن: البحث عن الله في عصر العلم”، يصف إحصائيةً عن عينة عشوائية في أميركا أجراها مع زميله فرانك سولواي. ومن النتائج الكثيرة والمثيرة في المسح الإحصائي كان التناسب العكسي الواضح بين التدين ومستوى التعلم “الأفراد الأعلى في مستوى التعليم هم الأقل تديناً”[4] هذا كلام لا يتعدى كونه كلاماً لا يعتد به، وهل بإمكان علماء آخرين أن يقوموا بإحصاء مماثل، ويصلون إلى نتائج متناقضة مع هذه النتائج، كيف يمكن أن تبنى وجهة نظر علمية بهذه النظرة الجزئية، وهذا الكلام إذا كان له مفاعيل، فهي تتعلق بالتلاعب بالجانب الوجداني والعاطفي للإنسان، إذ إنّها تخاطب نزعة الأنا القابعة في لا وعيه، وتعمل على التأثير عليها عبر جعل القارئ يستجيب لنداء الإلحاد حتى يكون متميزاً بالعلم والتفوق.

4- تشويه صورة الله والدين:
إظهار الصور المتعلقة بالدين بشكل يثير الرعب والخوف والنفور عند المتلقي، كالقول: “لا جدال بأن إله العهد القديم، هو من أسوأ الشخصيات الأدبية: غيور وفخور بذلك ويدقق بالتوافه وظالم وغير عادل ومتسلط قاسي ومنتقم ومتعطش للدماء ومميت للأعراق وكاره للنساء والمثليين وعنصري وقاتل للأطفال والشعوب وقاتل للأبناء ومسبب للأمراض ومصاب بجنون العظمة وسادي وماسوشي ونزوي وحقود شرس، يضرب بذات اليمين والشمال دون حساب. العديدون منا والذين تمّ تلقينهم منذ الطفولة عنه اعتادوا على ارهابه”[5]، وهذا الكلام دون شك يوقع النفور في قلب القارئ وهو صيغ بطريقة، تشكل ضغطاً على ذهنية المتلقي بحيث لا تترك المجال أمامه لأي تفكير إيجابي إزاء الله، فما يريد الإلحاد المعاصر تصويره إلى أنّ الدين يشكل قطيعة بين الإنسان والواقع، وهو لا يشكّل شرطاً للحياة، بمقدار ما هو نوع من أنواع التسلط عليها: “بإمكان الدين أن يشكل خطراً على حياة الإنسان النقي. كما على حياة الآخرين. الآلاف عذبوا بسبب ولائهم لدين ما، واضطهدوا من قبل متعصبين ممن ينتمون لإعتقاد مغاير. الدين يلتهم المصادر الإنسانية وغالباً على درجة هائلة”[6].
 
5- اعتماد مبدأ التعميم:

لا يتوقف الخطاب الإلحادي من اعتماد مبدأ التعميم، الذي لا يستند إلى وقائع تدعمها، يقول أونفري: “ذلك أنّ الإسلام عتيق بنيوياً: فهو يناقض نقطةً بنقطة كل ما وصلت إليه فلسفة الأنوار منذ القرن الثامن عشر بأوروبا والتي تقتضي إدانة الشعوذة ورفض التعصب، وإلغاء الرقابة وردّ الطغيان، ومعارضة الإستبداد السياسي، ونهاية دين الدولة، وإبعاد الفكر السحري، وتوسيع كل حرية تفكير وتعبير، وإعلان المساواة في الحقوق، واعتبار أن كل قانون ينتمي إلى العلاقات التعاقدية والرغبة بسعادة اجتماعية هنا والآن، والطموح إلى عالمية سيادة العقل، هي موضوعات يرفضها القرآن بشكل واضح وعلى طول سيره”[7].كلام لا يمكن الركون إليه، وهو يأخذ نتائج دون التدقيق بمحتواها، هل صحيح أنّ ما تعيشه المجتمعات نتيجة الإسلام، أم هو نتيجة ظروف تاريخية واقتصادية ساهم الغرب في صنعها.

خاتمة
لم يعتمد الإلحاد المعاصر نمطية الفكر الإلحادي التقليدي، الذي كان يظهر كحركات احتجاجية، تحاول أن تقدم نظرات ورؤى ضمن السياق الإجتماعي والفكري والثقافي الذي تنتمي إليه، فهو أكثر جذريةً، لأنه عمل على مواجهة جذرية مع الدين، وسعى إلى تقويض لغته، وإظهار انفصالها عن الحياة، فهي بالنسبة إليه ليست أصلاً في المواضعة، وهي قادمة من خارجه، وتعمل على تخريب اللغة وجعلها تابعةً للنزعة الأيديولوجية والاعتقادية للإنسان، ولهذا قدمها كلغة سلطوية، تعتمد على الرهبة والتقنين، لا تمتلك مشروعيةً ذاتيةً. والغاية من ذلك جعلها فاقدةً للمعنى، ليقدم بالمقابل مشروعه الذاتي المبني على إعادة صياغة لغة جديدة تنتج عن قيم وأخلاق يسعى لتعميمها، يستطيع من خلالها بناء مجتمع إنسانيّ جديد، يقوم على حداثة كانت قد قُوِضَت عندما أُبقيت لغة الدين فاعلةً في اللغة. وهذه النظرة تشكّل خطراً ليس على اللغة فحسب، بل على الإنسان بكليته ووجوده، لأنّه يؤسس للإنسان المبتور الذي من المفترض أن يهجر تاريخه، ويضعه بمواجهة عالم من الصور يطلق عليها أسماء ومعاني مباشرةً بمعزل عن المداليل التي تحمل المعنى، وهو في هذا يضعه أمام كوجيتو جديد يقوم على قاعدة أنا أرى إذاً أنا موجود – بمعزل عن ما يراه هل هو حقيقي أم لا -.

  • المصدر: مجلة المحجة – بتصرّف

المصادر والمراجع

[1] ريتشارد دوكنز، وهم الغله، ترجمة بسام بغدادي (استوكهولم: دون ناشر، الطبعة الثانية، 2009)، الصفحتان 22 و 23.
[2] المصدر نفسه، الصفحة 46.
[3] محمد باقر الصدر، فلسفتنا(بيروت: دار التعارف، 2009)، الصفحة 140.
[4] وهم الإله، مصدر سابق، الصفحة 104.
[5] المصدر نفسه، الصفحة 31.
[6] المصدر نفسه، مصدر سابق، الصفحة 164.
[7] نفي اللاهوت – فيزياء الميتافيزيقا، مصدر سابق، الصفحة 233.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى