ثقافة

التربية بالحبّ: أهميّةٌ وضرورةٌ اجتماعيّةٌ

إنّ الهدف من تربية الطفل بالحبّ هو إعداد شخصيّته وفقاً لتعاليم الدين الإسلامي الحنيف؛ فيكون إنساناً راشداً، وفرداً ناضجاً، وعضواً فاعلاً في المجتمع، يمتلك الأفكار الصائبة، والمفاهيم المناسبة، ويكتسب المهارات اللاّزمة، يعبّر عن آماله وأهدافه، ويحقّق بعضاً من طموحاته، يقدّر والديه ويبرّهم، ويثمّن جهود مربّيه ويحترمهم، يتعاون مع أصدقائه ويجلّهم، ويوقّر الكبار ويحبّهم.

ويُعتبر هذا الأمر من أهمّ المسؤوليّات الملقاة على عاتق الوالدين والمربّين، وهو حقٌّ للطفل أوجبه الإسلام على الوالدين، فالطفل بحاجةٍ إلى تربيةٍ مكثّفةٍ وجهدٍ إضافيٍّ، خصوصاً في المرحلة التي تسبق بلوغ سنّ الرشد، لأنّ فطرته لا تزال سليمةً ونقيّةً، تتقبّل ما يُلقى إليها من توجيهاتٍ وإرشاداتٍ ونصائح قبل أن يستحكم التلوّث فيها، لذا على الوالدين والمربّين استثمار الفرصة لأداء هذه المسؤوليّة التربويّة.

إنّ المنهج المراد تحكيمه في تربية الطفل على الحبّ هو المنهج الإسلاميّ الذي يدور حول العبوديّة والحبّ والطاعة لله تعالى في كلّ جوانب الحياة الفرديّة والاجتماعيّة، العاطفيّة والروحيّة، وتزداد مسؤوليّة الوالدين والمربّين في التربية والتأديب كلما كثر التأثير السلبيّ لوسائل الإعلام المختلفة، وإذا أبدى هؤلاء عنايةً فائقةً في العمل على ضوء هذا المنهج فإنّ الطفل سيكون عضواً صالحاً في المجتمع، قال الإمام الصادق (ع): “اعملوا الخير وذكّروا به أهليكم وأدّبوهم على طاعة الله”[1].

أوّلاً: الحبّ حاجةٌ فطريّةٌ ضروريّةٌ:
الحبّ عاطفةٌ إنسانيّةٌ، وأجمل ما في الحبّ هو التضحية، يقول الإمام الصادق (ع): “دليل الحبّ إيثار المحبوب على ما سواه”[2]، والحبّ حاجةٌ نفسيّةٌ تحتاج إلى إشباع باستمرارٍ، ووجود هذه العاطفة عند الوالدين تشبع الحاجة للحبّ عند الطفل.

فالطفل يحتاج إلى المحبّة والتقدير، والاعتراف بمكانته في الأسرة والمجتمع، من قبل والديه ومحيطه، قال النبيّ (ص): “أكرموا أولادكم وأحسنوا آدابهم”[3]، ومن مصاديق الإشعار بالحبّ هو التشجيع له ومدحه على ما ينجزه من أعمالٍ وإن كانت يسيرةً، والتجاوز عن بعض هفواته، وإشعاره بأنّه محبوبٌ، في كلّ الأوضاع والأحوال حتّى وإن أخطأ، فيجب أن نجعل الطفل يميّز بين كراهية والديه لسلوكه وبين كراهيتهما له. ومن خلال التدريب وتكرار العمل نستطيع إقناعه بأنّ العمل الخاطئ الذي يرتكبه مبغوضٌ من قبل والديه، لكنّ حبّهما له باقٍ ومستمر.

وعلينا أن نعمّق إيمانه بالله، وهو من أهمّ القيم التي يجب غرسها في الطفل إلى جانب الحبّ … ممّا سيعطيه الأمل في الحياة، والارتباط بالخالق، ويُوجِد عنده الوازع الدينيّ، وهنا تكمن أهمّية إيمان الوالدين بالله؛ لأنّ الطفل في هذه المرحلة يكون مقلّداً لأبويه في كلّ شيءٍ، بما فيه الإيمان بالله عزّ وجلّ.

ثانيًا: الحبّ أساس التأديب:
قد تصدر من الطفل بعض التصرّفات الخاطئة، على الوالدين حينئذٍ أن يُشعرا الطفل بأضرار هذه المخالفة وإقناعه بالإقلاع عنها، وإلفات نظره إلى قبح هذا التصرّف، وإذا لم ينفع الإقناع واللين يأتي دور التأنيب أو العقاب المعنويّ؛ لأنّ العقوبة العاطفيّة خيرٌ من العقوبة البدنيّة، فمن المناسب هنا إظهار الاستنكار بمثل العبوس وإدارة الوجه، أو الكلام المتدرّج في شدّته، الذي قد يترافق مع حركة اليد والتهويل بها، أو عدم إعطائه مالاً في الوقت المعتاد، أو تهديده بعدم أخذه في نزهةٍ، قال بعضهم: “شكوت إلى الإمام الكاظم (ع) ابناً لي، فقال: “لا تضربه واهجره ولا تطل”[4].

وإذا لم ينفع العقاب المعنويّ، فيجوز تأديبه بالضرب إذا استدعى ذلك، لكنّ تأديب الطفل هو مجرّد إجراءٍ احترازيٍّ تمليه ضرورةٌ استثنائيّةٌ أكثر منه أسلوباً تربويّاً معتمداً، وإنّما يجوز التأديب بالضرب بشروطٍ منها أن يكون برفقٍ ولا يستلزم الاحمرار ونحوه، وإلا وجبت الديّة.

وعلى الوالدين أن يجعلا التأنيب خالصاً من أجل تربية الأطفال، وأن لا يعكسا أوضاعهم النفسيّة في التربية، كمن يواجه مشكلةً فيصبّ غضبه على الطفل دون أيّ مبررٍ، وفي هذا الصدد “نهى رسول الله عن الأدب عند الغضب”[5].

والأهمّ من ذلك أنّه يجب مراعاة وحدة الأسلوب التربويّ من قبل الوالدين، والاتّفاق على منهجٍ واحدٍ من أجل أن يتعرّف الطفل على الصواب والخطأ في سلوكه، فلو استخدم الأب التأنيب مع الطفل لخطأ معيّنٍ، فعلى الأمّ أن لا تخالف الأب في ذلك، وكذا الحال في المدح.

ثالثًا: الحب مصدر الأمن والعدالة والثقة بالنفس:
إنّ تربية الطفل بالحبّ يمنحه الأمن، فيغدو في الحياة إنساناً واثقاً بنفسه. وهنا ينبغي على الأهل أن يحقّقوا العدالة في التعامل مع الطفل فيشبعوا حاجاته المادّية والمعنويّة؛ لأنّ العدالة والمساواة بين الأبناء أفضل وسيلةٍ وعلاجٍ للغيرة والكراهية والعداء، وتتأكّد أهميّتهما كلّما تقدّم الأطفال في العمر، فعن رسول الله (ص): “اعدلوا بين أولادكم كما تحبّون أن يعدلوا بينكم في البرّ واللطف”[6].

والعدالة لا تعني عدم التفضيل بين الأبناء، فبعضهم يكون أكثر جاذبيّة من الآخرين، حينئذٍ يجب أن يكون التفضيل مستوراً ويحتفظ به الأهل في مشاعرهم القلبيّة، والأهمّ من ذلك عدم المقارنة بين الأطفال في صفاتهم الجسميّة والمعنويّة والنفسيّة، وعدم التمييز بين الذكر والأنثى، قال النبيّ (ص): “من دخل السوق فاشترى تحفةً فحملها إلى عياله كان كحامل صدقةٍ إلى قوم محاويج، وليبدأ بالإناث قبل الذكور”[7].

والعدالة بين الأبناء لا تعني عدم إعطاء مكافأة كأسلوبٍ للتشجيع، بأن تخصّص هديّةٌ إضافيّةٌ لمن يعمل عملاً صالحاً، فإنّ ذلك ضروريٌّ لتشجيع الطفل على السلوك الصالح، وهنا على الوالدين التعامل بحذرٍ، وابتكار الأساليب الناجحة المنسجمة مع قدرات كلّ طفلٍ وحالته النفسيّة.

لكن في هذه الحالة على المربّي أن يكون حريصاً على التوازن في عواطفه، فلا يفرّط فيها حبّاً ولا قسوةً، بل لا بدّ من تقدير ذلك حسب الظروف والمناسبات، فتكريم الطفل والإحسان إليه وإشعاره بالحبّ والحنان وبمكانته الاجتماعيّة يجب أن لا يتعدّى الحدود إلى درجة الإفراط، فلا بدّ من الاعتدال في اللين والشدّة؛ ليجتاز الولد مرحلة الطفولة بسلامٍ واطمئنانٍ؛ لأنّ الإفراط أو التفريط يؤدّي إلى تأثيراتٍ سلبيّةٍ على الطفل من جميع الجوانب العقليّة والعاطفيّة والخلقيّة.

إنّ التوازن مطلوبٌ؛ فالمدح الزائد كالتأنيب الزائد يؤثّر على التوازن الانفعاليّ للطفل، ويجعله مضطرباً قلقاً، ويتأخّر النضوج العاطفيّ عند الطفل المدلّل وتطول فترة الطفولة لديه، ويبقى محتاجاً لوالديه في كلّ المواقف التي تواجهه، وتستمرّ معه حتّى في كبره، قال الإمام علي (ع): “الإفراط في الملامة يشبّ نيران اللجاج”[8].

رابعًا: الحبّ مصدر لتنمية علاقة الطفل مع الآخرين:
إنّ إعطاء الطفل جرعات من الحبّ خصوصاً في مرحلة الصبا ينمّي لديه الإمكانيّات العقلية التي تجعله قادراً على التخيّل المجرّد واستيعاب المفاهيم المعنويّة، ويدخل في علاقاتٍ اجتماعيّةٍ أوسع من قبل، فيختار أصدقاءه بنفسه، وينظر إلى ذاته ككائنٍ موجودٍ مستقلٍّ، له إرادةٌ غير إرادة الكبار، ويختار كلّ ما يخصّه أو يتعلّق به بأسلوبه الخاص وبالطريقة التي يفهمها، ويرغب في اكتساب المهارات العقليّة والعلميّة بمفرده، ويكوّن ذوقاً خاصاً فيختار ملابسه بنفسه.

يشعر الطفل في مرحلة الصبا بالحاجة إلى القبول به من قبل مجتمعه ومحيطه والاهتمام به واحترامه وتقدير مكانته، وإشعاره بالسلامة النفسيّة والعاطفيّة والتحرّر من القلق، وتعليمه المهارات اللازمة للنجاح في حياته، وتزويده بأفكار ومفاهيم تتلائم مع مستواه العقليّ.

لكن هناك بعض الأمور التي تؤثّر في بناء شخصيّة الطفل، وهي: علاقته مع والديه وباقي أفراد أسرته، ومستوى المدرسة ومدى اهتمامها بالبعد التربوي والأخلاقي والروحي، والأصدقاء والرفاق وما يمتلكون من ملكات علمية وفضائل أخلاقية، والتربية الدينية، وتعزيز الوازع الداخلي، والمحافظة على نقاء الفطرة، والأفكار والمفاهيم التي تعلّمها؛ لذا علينا أن لا نغفل كلّ هذه العوامل في التربية.

ولكي تنجح العملية التربوية ينبغي للوالدين مراقبة الطفل سلوكياً وإرشاده إلى الاستقامة والصلاح، وكذلك مراقبة أفكاره وعواطفه من خلال الأسلوب الهادئ غير المثير، والتعامل معه كصديق لمساعدته. وليكن معلوماً أنّ مراقبة سلوكه في المجتمع أكثر ضرورة منه في البيت، فيختار له الوالدان الأصدقاء الصالحين. كذلك يجب تمرينه على محاسبة نفسه وتقبّل المحاسبة من الآخرين، وترسيخ مفهوم الرقابة الإلهية في أعماقه لتكون رادعاً له من الانحراف في حالة غياب رقابة الأهل.

ومن الضروريّ أن يشعر الطفل بأنّه غير متروك من قبل والديه، وأنهما يحرصان عليه ويراقبان سلوكه. ومراقبة الوالدة للطفل أكثر ضرورة؛ لانشغال الوالد غالباً بأعماله خارج المنزل، ويمكن للأهل الاستعانة بغيرهما في المراقبة، والتعاون في هذا المجال مثمرٌ جداً في تربية الطفل تربية صالحة، وإنقاذه من الانحراف الذي يمكن أن يطرأ عليه في حال الغفلة والإهمال. والمراقبة من حيث الأساليب والوسائل متروكة للوالدين، كلٌ حسب وعيه وتجربته في الحياة، مع التشديد على التعاون بينهما.

خامسًا: الحبّ سبب برّ الوالدين:
إنّ تعليم الطفل كيف يبرّ بوالديه أمرٌ ضروريٌّ، فقد جعله رسول الله (ص) باباً من أبواب الرحمة الإلهيّة للوالدين فقال (ص): “رحم الله عبداً أعان ولده على برّه بالإحسان إليه، والتآلف له وتعليمه وتأديبه”[9]، وهذا التعليم حقٌّ للطفل على والديه، قال الإمام السجّاد (ع): “وأمّا حقّ الصغير فرحمته وتثقيفه وتعليمه…” [10].

إنّ تعليم الطفل برّ الوالدين يفرض التعاون بين المدرسة والأهل، لكنّ الأبوين يلعبان الدور الأكبر في تربية الطفل، فهما اللّذان يحدّدان شخصيته المستقبلية، أمّا المدرسة والمحيط الاجتماعيّ فلهما دورٌ ثانويٌّ في التربيّة، والطفل إذا لم يتمرّن على طاعة والديه فإنّه لن يتقبّل ما يصدر عنهما من نصائح وإرشاداتٍ وأوامر إصلاحيّةٍ وتربويّةٍ، فيكون متمرّداً على جميع القيم والقوانين والعادات والتقاليد، قال الإمام الحسن العسكريّ (ع): “جرأة الولد على والده في صغره تدعو إلى العقوق في كبره”[11].

وإذا أراد الوالدان إصدار الأوامر للطفل، يجب أن يكون ذلك برفق ولين، وبصورة نصح وإرشاد، فإنّ الطفل سيستجيب لهما. أما استخدام التأنيب والتعنيف فإنّه سيؤدّي إلى نتائج عكسيّة؛ ولأنّ كثرة العقاب تهوّن عليه سماع الملامة وتخفّف وقع الكلام في نفسه، قال النبي (ص): “رحم الله من أعان ولده على بره … يقبل ميسوره، ويتجاوز عن معسوره، ولا يرهقه”[12].

وأفضل الوسائل في التمرين على طاعة الوالدين هو إشعاره بالحبّ والحنان الذي يشعر به الطفل من كلّ أفراد الأسرة، وإشباع حاجاته الأساسية مثل: الأمن والمحبّة والتقدير والحريّة والاستقلال والمكانة الاجتماعيّة، فإذا شعر الطفل بذلك فإنّه يحاول المحافظة على برّ والديه، قال النبيّ (ص): “رحم الله من أعان ولده على برّه، وهو أن يعفو عن سيّئته، ويدعو له فيما بينه وبين الله”[13].

  • الشيخ صلاح العسّ

المصادر والمراجع

[1] النوري، حسين: مستدرك الوسائل. ط1، مؤسسة آل البيت، قم، 1408هـ.ق، ج 12،  ص201.
[2] (م.ن)،  ص 168.
[3] (م.ن)، ج 15،  ص168
[4] المجلسي، محمد باقر: بحار الأنوار. ط4، مؤسسة الوفاء، بيروت، 1404هـ.ق، ج 101،  ص 99
[5] الكليني، محمد بن يعقوب: الكافي. ط4، دار الكتب الإسلاميّة، طهران، 1365هـ.ش، ج7،  ص260
[6] المجلسي، (م.س)، ج 101،  ص93
[7] العاملي، محمد بن الحسن: وسائل الشيعة. ط1، مؤسسة آل البيت، قم، 1409هـ.ق،  ج 21،  ص514
[8] المجلسي، (م.س)، ج 74،  ص213
[9] النوري، (م.س)، ج 15،  ص169
[10] (م.ن)، ج 11،  ص166
[11] المجلسي، (م.س)، ج 75،  ص  374
[12] الكليني، (م.س)، ج 6،  ص50
[13] المجلسي، (م.س)، ج101،  ص98

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى