ثقافة

مؤمن آل فرعون والدعوة الموسوية في مصر

يتحدث سبحانه وتعالى عن مؤمن آل فرعون بقوله: (وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ * يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَا قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ) سورة غافر

اللغة:
مسرف كذّاب: مسرف على نفسه متجاوز عن الحد في المعصية كذاب على ربه.
ظاهرين: عالين في الأرض غالبين عليها قاهرين لأهلها.
اهديكم: ارشدكم

التّفسير:

أتقتلون رجلا أن يقول ربّي الله!
مع هذه الآيات تبدأ مرحلة جديدة من تأريخ موسى (عليه السلام) وفرعون، لم تطرح في أي مكان آخر من القرآن الكريم. المرحلة التي نقصدها هنا تتمثل بقصة «مؤمن آل فرعون» الذي كان من المقربين إلى فرعون، ولكنّه اعتنق دعوة موسى التوحيدية من دون أن يفصح عن إيمانه الجديد هذا، وإنّما تكتم عليه واعتبر نفسه من موقعه في بلاط فرعون مكلفاً بحماية موسى (عليه السلام) من أي خطر يمكن أن يتهدد من فرعون أو من جلاوزته.

فعندما شاهد أنّ حياة موسى في خطر بسبب غضب فرعون، بادر بأسلوبه المؤثر للقضاء على هذا المخطط.

يقول تعالى: ﴿وَقَالَ رَجُلٌ مُّؤْمِنٌ مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمَانَهُ أَتَقْتُلُونَ رَجُلاً أَن يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ﴾.

أتقتلوه في حين أنّه: ﴿وَقَدْ جَاءكُم بِالْبَيِّنَاتِ مِن رَّبِّكُمْ﴾.

هل فيكم من يستطيع أن ينكر معاجزه، مثل معجزة العصا واليد البيضاء؟ ألم تشاهدوا بأعينكم انتصاره على السحرة، بحيث أن جميعهم استسلموا له وأذعنوا لعقيدته عن قناعة تامة، ولم يرضخوا لا لتهديدات فرعون ووعيده، ولا لإغراءاته وأمنياته، بل استرخصوا الأرواح في سبيل الحق; في سبيل دعوة موسى، وإله موسى… هل يمكن أن نسمّي مثل هذا الشخص بالساحر؟

فكروا جيداً، لا تقوموا بعمل عجول، تحسّبوا لعواقب الأُمور وإلاّ فالندم حليفكم.
ثم إنّ للقضية بعد ذلك جانبين: ﴿وَإِن يَكُ كَاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَإِن يَكُ صَادِقاً يُصِبْكُم بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ﴾.
إنّ حبل الكذب قصير كما يقولون وسينفضح أمره في النهاية إذا كان كاذباً، وينال جزاء الكاذبين، وإذا كان صادقاً ومأُموراً من قبل السماء فإنّ توعده لكم بالعذاب حاصل شئتم أم أبيتم، لذا فإنّ قتله في كلا الحالين أمر بعيد عن المنطق والصواب.

ثم تضيف الآيات: ﴿إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ﴾.

فإذا كان موسى سائراً في طريق الكذب والتجاوز فسوف لن تشمله الهداية الإلهية، وإذا كنتم أنتم كذلك فستحرمون من هدايته.

ولنا أن نلاحظ أنّ العبارة الأخيرة برغم أنّها تحمل معنيين إلاّ أن «مؤمن آل فرعون» يهدف من خلالها إلى توضيح حال الفراعنة.

والتعبير الذي يليه يفيد أنّ فرعون، أو بعض الفراعنة -على الأقل -كانوا يؤمنون بالله، وإلاّ فإن تعبير «مؤمن آل فرعون» في خلاف هذا التأويل سيكون دليلا على إيمانه بإله موسى (عليه السلام) وتعاونه مع بني إسرائيل، وهذا ما لا يتطابق مع دوره في تكتمه على إيمانه، ولا يناسب أيضاً مع أسلوب «التقية» التي كان يعمل بها.

وبالنسبة للتعبير الآنف الذكر (وإن يك كاذباً…) فقد طرح المفسّرون سؤالين:
الأوّل: إذا كان موسى (عليه السلام) كاذباً، فإنّ عاقبة كذبه سوف لن تقتصر عليه وحسب، وإنّما سوف تنعكس العواقب السيئة على المجتمع برمته.
الثّاني: أما لو كان صادقاً، فستتحقق كلّ تهديداته ووعيده لا بعض منها، كما في تعبير «مؤمن آل فرعون»؟

بالنسبة للسؤال الأول، نقول: إنّ المراد هو معاقبة جريمة الكذب التي تشمل شخص الكذّاب فقط ويكفينا العذاب الالهي لدفع شرّه. وإلاّ فكيف يمكن لشخص أن يكذب على الله، ويتركه سبحانه لشأنه كي يكون سبباً لإضلال الناس وإغوائهم؟

وبالنسبة للسؤال الثّاني، من الطبيعي أن يكون قصد موسى (عليه السلام) من التهديد بالعذاب، هو العذاب الدنيوي والأخروي، والتعبير بـ «بعض» إنّما يشير إلى العذاب الدنيوي، وهو الحد الأدنى المتيقّن حصوله في حالة تكذيبكم إيّاه.

وفي كلّ الأحوال تبدو جهود «مؤمن آل فرعون» واضحة في النفود بشتى الوسائل والطرق إلى أعماق فرعون وجماعته لتثنيهم عن قتل موسى (عليه السلام).

ونستطيع هنا أن نلخص الوسائل التي اتبعها بما يلي:

أوضح لهم أولا أنّ عمل موسى (عليه السلام) لا يحتاج إلى ردّة فعل شديدة كهذه.

ثم عليكم أن لا تنسوا أنّ الرجل يملك «بعض» الأدلة، ويظهر أنّها أدلة معتبرة، لذا فإنّ محاربة مثل هذا الرجل تعتبر خطراً واضحاً.

والموضوع برمته لا يحتاج إلى موقف منكم، فإذا كان كاذباً فسينال جزاءه من قبل الله، ولكن يحتمل أن يكون صادقاً، وعندها لن يتركنا الله لحالنا.

ولم يكتف «مؤمن آل فرعون» بهذا القدر، وإنّما استمرّ يحاول معهم بلين وحكمة، حيث قال لهم كما يحكي ذلك القرآن من أنّه قال لهم أن بيدكم حكومة مصر الواسعة مع خيراتها ونعيمها فلا تكفروا بهذه النعم فيصيبكم العذاب الالهي. ﴿يَا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظَاهِرِينَ فِي الأَرْضِ فَمَن يَنصُرُنَا مِن بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جَاءنَ﴾.

ويحتمل أن يكون غرضه: إنكم اليوم تملكون كلّ أنواع القوّة، وتستطيعون اتخاذ أي تصميم تريدونه اتجاه موسى (عليه السلام)، ولكن لا تغرنكم هذه القوّة، ولا تنسوا النتائج المحتملة وعواقب الأُمور.

ويظهر أنّ هذا الكلام أثر في حاشية فرعون وبطانته، فقلّل من غضبهم وغيظهم، لكن فرعون لم يسكت ولم يقتنع، فقطع الكلام بالقول: ﴿قَالَ فِرْعَوْنُ مَا أُرِيكُمْ إِلاَّ مَا أَرَى﴾ وهو إنّي ارى من المصلحة قتل موسى ولا حلّ لهذه المشكلة سوى هذا الحل.
ثمّ إنني: ﴿وَمَا أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشَادِ﴾.

و هذه هو حال كافة الطواغيت والجبّارين على طول التأريخ، فهم يعتبرون كلامهم الحق دون غيره، ولا يسمحون لأحد في إبداء وجهة نظر مخالفة لما يقولون، فهم يظنون أن عقلهم كامل، وأن الآخرين لا يملكون علماً ولا عقلا… وهذا هو منتهى الجهل والحماقة.

فوائد

أوّلا: من هو مؤمن آل فرعون؟
نستفيد من الآيات القرآنية أنّ «مؤمن آل فرعون» هو رجل من قوم فرعون آمن بموسى (عليه السلام)، وظلّ يتكتم على إيمانه، ويعتبر نفسه مكلفاً بالدفاع عنه (عليه السلام).

لقد كان الرجل – كما يدل عليه السياق – ذكياً ولبقاً، يقدّر قيمة الوقت، ذا منطق قوي، حيث قام في اللحظات الحسّاسة بالدّفاع عن موسى (عليه السلام) وإنقاذه من مؤامرة كانت تستهدف حياته.

تتضمن الرّوايات الإسلامية وتفاسير المفسّرين أوصافاً اُخرى لهذا الرجل سنتعرض لها بالتدريج.

البعض مثلا يعتقد أنّه كان ابن عم – أو ابن خالة – فرعون، ويستدل هذا الفريق على رأيه بعبارة (آل فرعون) إذ يرى أنّها تطلق على الأقرباء، بالرغم من أنّها تستخدم أيضاً للأصدقاء والمقربين.

والبعض قال: إنّه أحد أنبياء بني إسرائيل كان يعرف اسم «حزبيل» أو «حزقيل».(1)

فيما قال البعض الآخر: إنّه خازن خزائن فرعون، والمسؤول عن الشؤون المالية.(2)

وينقل عن ابن عباس أنّه قال: إنّ هناك ثلاثة رجال من بين الفراعنة آمنوا بموسى (عليه السلام)، وهم آل فرعون، وزوجة فرعون، والرجل الذي أخبر موسى قبل نبوته بتصميم الفراعنة على قتله، حينما أقدم موسى على قتل القبطي، ونصحه بالخروج من مصر بأسرع وقت: ﴿وَجَاء رَجُلٌ مِّنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعَى قَالَ يَا مُوسَى إِنَّ الْمَلأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ﴾.(3)

لكن القرائن تفيد أن ثمّة مجموعة قد آمنت بموسى (عليه السلام) بعد مواجهة موسى مع السحرة، ويظهر من السياق أنّ قصة مؤمن آل فرعون كانت بعد حادثة السحرة.

والبعض يحتمل أنّ الرجل كان من بني إسرائيل، لكنّه كان يعيش بين الفراعنة ويعتمدون عليه، إلاّ أنّ هذا الإحتمال ضعيف جداً، ولا يتلاءم مع عبارة «آل فرعون» وأيضاً نداء «يا قوم».

ولكن يبقى دوره مؤثراً في تأريخ موسى (عليه السلام) وبني إسرائيل حتى مع عدم وضوح كلّ خصوصيات حياته بالنسبة لنا.

  • المصدر: صفات المؤمنين في القرآن الكريم

المصادر والمراجع

(1) رواية أمالي الصدوق كما نقل نور الثقلين ج 4 / ص519 (ضعيفة السند).
(2) تفسير علي بن ابراهيم كما نقل نور الثقلين ج4 / ص518.
(3) سورة القصص / 20.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى