ثقافة

تجذر النزعة الدينيّة عند الإنسان

لماذا يعتنق الإنسان الدين ـ أي دين كان؟ وما هو سبب تجذّر النزعة الدينية في النفس البشرية؟ وهل يمكن للإنسان أن يعيش يوماً من الأيام من دون دين؟

   ان هذه الأسئلة خاطَرَتْ الكثير من العقول المفكرة، وأصحاب النظريات الفلسفية والاجتماعية، فأدلى كلٌ منهم بدلوه، وظهرت نتيجة ذلك نظريات واتجاهات متعددة، في تفسير الظاهرة الدينية عند الإنسان، وسوف نعرض قسماً من هذه النظريات محاولين مناقشتها بموضوعية وبشكل مختصر بما يتلائم وطبيعة البحث متجنبين الإسهاب ما استطعنا إلى ذلك سبيلاً.

أوّلاً: نظرية الجهل
وهي النظرية القائلة: بأنّ (الدين كان وليد الجهل بالمظاهر الطبيعية)، لأن الإنسان القديم كان يتألم من تلك المظاهر الطبيعية، كالزلازل، والصواعق والفيضانات والسيول… إلى آخره. وهو لا يعلم مصدرها وعلّتها وكيفية تكونها.

وحينما لم يستطع أنّ يعلل تلك الظواهر الطبيعية، ويحللها ويصل إلى أسبابها الحقيقية كان يظنّ أنّ لكل ظاهرة طبيعية روحاً، وكان يتخذ من هذه الروح إلهاً.

وعليه فإذا كان منبع الدين هو الجهل بحقيقة هذه الظواهر، فإنّه يزول قطعاً عند معرفة الأسباب الحقيقية لها، (ولما كان العلم الحديث القائم على أُسس التجربة العينية قد أزال النقاب عن كثير من ألغاز الطبيعة ومجهولاتها، وعرّف الإنسان الأسباب الطبيعية لهذه الظواهر… فلم يعد هناك ما يبرّر الإيمان بهذا المبدأ الغيبي، واستطاع العلم أن يحلّ بكفاءة محلّ التفسيرات الغيبية الميتافيزيقية.

 لقد أثبت «نيوتن» أنه لا وجود لاِله يحكم النجوم، وأكد «لابلاس» بفكرته الشهيرة أنّ النظام الفلكي لا يحتاج إلى اُسطورة لاهوتية، وقام بهذا الدور العالمان «دارون» و«باستور» في ميدان البيولوجيا)[1].

والذين يطرحون هذه النظرية عديدون على رأسهم « تايلر »، و«سبنسر»، و «راسل»[2].

مناقشة النظرية:
إن هذه النظرية ـ كما هو واضح ـ تجعل جهل الإنسان بالسبب الطبيعي للظواهر الكونية أو الطبيعية، علة لنشوء واعز الدين في نفسه، فالجهل هو الذي يشده إلى العالم الغيبي، طلباً للمعونة، وخوفاً من الأخطار، فهو يتصوّر أن في تلك الظواهر روحاً لا بد أنّ يتقرب إليها، ويتملّق لها كسباً لرضاها، ودفعاً لغضبها، وعلى هذا لا بدّ أن يزول الدين بمجرد معرفة الأسباب الطبيعية لتلك الظواهر.

لكنّ هذا التفسير لا يصمد أمام النقد، كما أنّ هؤلاء لا يستطيعون أن يقدّموا البرهان الواقعي لفكرتهم؛ لاَننا نرى أن الناس يزدادون تديناً كلما ازدادوا علماً، بل إن العلماء أكثر تديناً من الجهلاء، وما ذلك إلاّ لكون العلم لا يؤدّي إلى الالحاد، في أيّ عصرٍ من العصور، فالعالم المنقّب عن الحقائق يجد في هذا الوجود عالماً لا حدود له، يسوده نظام محكم دقيق، بلا فوضى ولا اختلاف أو تخلف، فلا يلبث بعد النظر والتأمّل أن يقع ساجداً لله، الّذي أوجد هذا الكون العظيم وما يحمل من أسرار وحقائق، وصدق الله إذ يقول: (إِنَّمَا يَخْشَى اللهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ)[3].

(نشر الدكتور « ديزت » الألماني بحثاً حلل فيه الآراء الفلسفية لأكابر العلماء، الذين أناروا العقول في القرون الأربعة الأخيرة، وتوخّى أن يدقّق في معرفة عقائدهم، فتبين له من دراسة [290] منهم ما يلي:
1 ـ «28» منهم لم يصلوا إلى عقيدة ما.
2 ـ «242» منهم أعلنوا على رؤوس الأشهاد الإيمان بالله.
3 ـ «20» فقط تبين أنهم غير مبالين بالوجهة الدينية، أو ملاحدة)[4].

وبعد هذا، فهل تصح هذه النظرية الّتي توعز علة نشوء الدين إلى الجهل بالظواهر الطبيعية؟!

وتأكيداً على خطأ هذه النظرية، ننقل هذه الطائفة المختارة من أقوال أكابر العلماء الغربيين، والتي تؤكّد بأنّ الإيمان بالله لا يتعارض مع العلم مطلقاً:
1 ـ يقول العالم الكبير «باستور».ـ والذي جعل أصحاب هذه النظرية اكتشافاته البيولوجية تقوم مقام الإيمان بالله تعالى ـ: (الإيمان لا يمنع أي ارتقاء كان ؛ لأنّ كلّ ترق يبين ويسجل الاتساق البادي في مخلوقات الله، ولو كنت علمتُ أكثر مما أعلم اليوم، لكان إيماني أشد وأعمق مما هو عليه الآن،… إنّ العلم لا يمكن أن يكون مادياً، ولكنه على خلاف ذلك يؤدي إلى زيادة العلم بالله؛ لأنّه يدلّ بواسطة تحليل الكون على مهارة وتبصّر وكمال عقل الحكمة الّتي خلقت النواميس المدبّرة للوجود).
2 ـ يقول العالم الكيمياوي «وتز»: ـ (إذا أحسست في حين من الأحيان أنّ عقيدتي بالله قد تزعزعت، وجهت وجهي إلى أكاديمية العلوم لتثبيتها).
3 ـ يقول الفلكي الكبير «فاني»: (من الخطأ القول بأن العلم يُفضي بصاحبه إلى نكران وجود الله).
4 ـ يقول الجيولوجي الكبير «امون هدبرت»: (العلم لا يمكن أن يؤدّي إلى الكفر، ولا إلى المادية، ولا يفضي إلى التشكيك).
5 ـ قال العلاّمة والمؤرخ الطبيعي «فاير»: (كل عهد له أهواء جنونية، فإنّي أعتبر الكفر بالله من الأهواء الجنونية، وهو مرض العهد الحالي، وأيسر عندي أن ينزعوا جلدي، من أن ينتزعوا مني العقيدة بالله)[5].

وقد سئل الدكتور « اندرو كوانواي إيفي» من قبل أحد رجال الأعمال هذا السؤال: سمعت أنّ معظم المشتغلين بالعلم ملحدون، فهل هذا صحيح؟!

فأجاب الدكتور قائلاً: (إنني لا أعتقد أنّ هذا القول صحيح، بل إنني على نقيض ذلك، وجدت في قراءتي ومناقشتي أنّ معظم من اشتغلوا في ميدان العلوم من العباقرة لم يكونوا ملحدين، ولكن الناس أساءوا نقل أحاديثهم، أو أساءوا فهمهم)[6].

ولو أردنا إحصاء التصريحات التي أدلى بها العلماء في إثبات وجود الله تعالى، وضرورة وجود الدين، لتطلّب ذلك مئات الصفحات.

وبعد هذه الأقوال الّتي صدرت من أساطين العلم وعباقرته، هل يسع أصحاب نظرية الجهل أن يتحفونا بتعليل لهذه الأقوال، أو يأتونا بدليل أقوى من أدعائهم السابق؟

قال تعالى، وقوله الحقّ: (ذَٰلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَٰكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ)[7]. و (وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَىٰ قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَّن نَّشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ)[8].

التوجه الديني في نظر الاسلام: أما لو رجعنا إلى الدين الإسلامي لرأينا أنه يؤكد على أن التوجّه الديني لا بد أن ينساق مع فكر الإنسان وعلمه لا عن جهله وتقليده، ومن هنا وردت عشرات النصوص التي تدعو الإنسان إلى التفكّر في ملكوت السموات والأرض، وهو ما يعبر عنه في علم العقيدة ببرهان النظم الذي يقوم على أساس أن الاهتداء إلى وجود الله سبحانه إنما يكون عن طريق مشاهدة النظام الدقيق البديع السائد في عالم الكون، حيث نرى أن القرآن الكريم يلفت نظر الانسان إلى السير في الآفاق والأنفس ويقول: (سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنفُسِهِمْ حَتَّىٰ يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الحَقُّ)[9]. ويقول: (إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَالْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِمَا يَنفَعُ النَّاسَ وَمَا أَنزَلَ اللهُ مِنَ السَّمَاءِ مِن مَّاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا وَبَثَّ فِيهَا مِن كُلِّ دَابَّةٍ وَتَصْرِيفِ الرِّيَاحِ وَالسَّحَابِ المُسَخَّرِ بَيْنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِّقَوْمٍ يَعْقِلُونَ)[10].

ويقول أمير المؤمنين: «ألا ينظرون الى صغير ما خلق؟ كيف أحكم خلقه وأتقن تركيبه، وخلق له السمع والبصر، وسوّى له العظم والبشر، انظروا الى النملة في صغر جثتها، ولطافة هيئتها، لا تكاد تُنال بلحظ البصر، ولا بمستدرك الفكر، كيف دبت على أرضها، وصبت على رزقها، تنقل الحبة الى جحرها، وتعدها في مستقرها، تجمع في حرها لبردها، وفي وردها لصَدْرها… فالويل لمن أنكر المقدِّر وجحد المدبِّر »[11].

وعن الإمام جعفر الصادق (عليه السلام) قال: «أول العبر والادلة على الباري جل قدسه، تهيئة هذا العالم، وتأليف أجزائه ونظمها على ما هي عليه، فإنك إذا تأملت العالم بفكرك، وميزته بعقلك، وجدته كالبيت المبني المعد فيه جميع ما يحتاج إليه عباده، فالسماء مرفوعة كالسقف، والأرض ممدودة كالبساط، والنجوم منضودة كالمصابيح، والجواهر مخزونة كالذخائر، وكل شيء فيه لشأنه معد، والإنسان كالمملّك ذلك البيت، والمخوَّل جميع ما فيه، وضروب النبات مهيئة لمآربه، وصنوف الحيوان مصروفة في مصالحه ومنافعه، ففي هذا دلالة واضحة على ان العالم مخلوق بتقدير وحكمة ونظام وملائمة، وان الخالق له واحد، وهو الذي ألّفه ونظّمه بعضاً إلى بعض جل قدسه وتعالى جده»[12].

  • النزعة الدينية بين الإلهيين والماديين – بتصرّف يسير

المصادر والمراجع

[1] دور الدين في حياة الإنسان / الآصفي: 61.
[2] الفطرة / المطهري 138.
[3] سورة فاطر: 35 / 28.
[4] روح الدين الإسلامي: 84.
[5] روح الدين الإسلامي / عفيف طبارة: 84 عن مجلة الأزهر ـ المجلد 19.
[6] الله يتجلى في عصر العلم / مجموعة من العلماء: 152.
[7] سورة الروم: 30 / 30.
[8] سورة الانعام: 6 / 83.
[9] سورة فصلت: 53.
[10] سورة البقرة: 2 / 164.
[11] نهج البلاغة الخطبة 185.
[12] بحار الأنوار 3: 61.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى