ثقافة

الأمّة ومحاذير الانصهار الحضاري

لا ينظر الباحثون إلى عملية الاقتباس الحضاري نظرة سطحية وعابرة. فهي عملية حساسة وخطيرة، ومن الممكن أن تؤدي إلى نتائج كارثية فيما لو لم يحسن مجتمع من المجتمعات التعاطي مع هذا التحدّي في ظروف عالمية تقف العولمة وتقنيات الاتصال كعوامل يمكن أن تعطي نتائج سلبية فيما لو لم يتم التعامل معها بشكل صحيح.

يرى (توينبى) أن عملية الاقتباس الحضارى والمدنى يجب ان تتم بصورة شاملة أو لا تتم، وأى أمة عندما تتعرض لبعض الأجزاء والعناصر المقومة لحضارة أخرى تستطيع هذه الأجزاء والعناصر الحضارية الغربية والمتناثرة أن تخترق جسم هذه الأمّة، لتتحول هذه الأجزاء والعناصر، وهى تعمل فى جسم آخر غير جسمها، وفى وسط آخر غير وسطها، الى أجزاء مدمرة وضارة.

وننقل، في ما يلى، كلام توينبى بصورة دقيقة، فهو يقول:
»حين يتم تحليل شعاع حضارى متحرك إلى العناصر التى يتألف منها تكنولوجياً وسياسياً ودينياً وفنياً… الخ، وذلك بفعل المقاومة التى يبذلها كيان اجتماعى أجنبى تعرض لفاعلية، فإن التكنولوجيا تكون أسرع وأعمق تغلغلاً من الدين. ومن الممكن أن نعبر عن هذا القانون بصيغ أدق من هذه، فبإمكاننا أن نذهب الى أن قوة اختراق عنصر من عناصر الإشعاع الثقافى تتناسب تناسباً عكسياً مع قيمة العنصر من الناحية الثقافية، إذ يثير العنصر التافة فى الجسم المتعرض للهجوم مقاومة أقل مما يثيره العنصر الهام، ومن الواضح أن هذا الاختيار الثقافى لأتفه العناصر فى ثقافة مشعة لنشرها على مدى أوسع فى الخارج يشكل قاعدة سيئة الحظ للعبة الاتصال الثقافى، إلا أن هذا الاتجاه التافه ليس إلا أسوأ ما فى اللعبة، فإن نفس عملية التحليل التى هى جوهر اللعبة تنذر بتسميم حياة المجتمع الذى يتغلغل فى كيانه الاجتماعى عناصر متعددة من شعاع حضارى متفكك.

ويشبه العنصر المنفلت من عناصر الاشعاع الحضارى إلكترونا منفلتاً أو مرضاً معدياً منفلتاً، من حيث إنه قد تثبت فاعليته المدمرة حين ينفصل عن النظام الذى كان يحكمه ذلك الوقت، ويصبح حراً في أن ينظم نفسه فى جو مخالف. فهذا العنصر الثقافى، أو الميكروب، أو الالكترون كان لا يتجه فى نظامه الأصلى إلى التدمير حين كان يحد من فعاليته ارتباطه بجزئيات أخرى داخلة فى نطاق نمط تتوازن أجزاوه، ولا تتغير طبيعة الجزى‏ء، أو الميكروب المنفلت أو الوحدة الحضارية المنفلتة حين يتحرر كل منها من نمطه الأصلى، إلا أن نفس هذه الطبيعة تكون أميل إلى التدمير بعد أن ينفصل عن ارتباطاته الأصلية التى كان فى ظلها عديم الضرر، وفى ظل مثل هذه الأحوال يكون لحم رجل ما ساماً لرجل آخر«.

والنتيجة التى يقصدها توينبى من هذا الكلام أن الأمّة عندما تتعرض لضرورة الاقتباس والأخذ من أمة أخرى، يجب أن تفكر فى التخلص الكامل من شخصيتها وأصالتها وقيمها وحضارتها وتنصهر بصورة كاملة فى الأمّة التى تعيش فيها ثقافة وخلقاً وحضارة وعلماً وصناعة، ولا يمكن الفصل بين هذه الأجزاء والعناصر لتختار من هذه الحضارة ما تشاء وتترك ما تشاء.

نقد النظرية:
وهذه النظرية تخضع لكثير من المناقشة والنقد. فإن الاقتباس، وعلاقة الأخذ والعطاء، والتبادل بين أمتين وحضارتين يتم فى مجالين هما: المجال العلمى، والمجال الثقافى.

والأول يخضع للثانى، ويتكيف بموجب أوضاعه وظروفه. كما أن الثانى يحكم الأول ويصبغه بصبغته الخاصة، فالمسائل العلمية، كالجراحة والصيدلة والطب والرياضيات والهندسة والكهرباء والذرة والميكانيك تخضع لمسائل من نوع آخر فى الأخلاق والمعرفة والعقيدة والفلسفة والأدب، وهى المسائل الثقافية فى حياة الانسان.

كما أن مسائل القسم الأول تتكيف بموجب المسائل التى ذكرناها فى القسم الثانى (المسائل الثقافية). فالكيمياء والصيدلة يمكن أن تستخدم فى خدمة الانسان وخدمة الأغراض الطبية والزراعية والغذائية، فى حالة وجود وعي وثقافة إنسانية، وفى حالة اكتمال النضج الثقافي للانسان، كما أنهما يمكن أن يخدما أغراضاً لا إنسانية ويستخدما فى تصنيع الغازات السامة وإعدادها للاستعمالات العسكرية، وتصنيع القنابل الكيماوية فى حالة فقدان الوعي والثقافة الانسانية، وفقدان المعايير الأخلاقية.

وكذلك الذَّرّة يختلف استخدامها والاستفادة منها باختلاف الوعى والثقافة عند الانسان. وهذا يعنى أن ظروف الاحتكاك العلمى تختلف وتتنوع بين أمينة وغير أمينة.

أ- الظروف الأمينة للاحتكاك العلمي:
ونخلص، من هذا القول، إلى النتيجة التالية: أن الأمّة إذا كانت تحتفظ بأصالتها الثقافية والأخلاقية والعقيدية لا يضرها الاحتكاك العلمى وحالة الأخذ والعطاء مع الحضارات الأخرى فى المسائل العلمية، وذلك لأن المسائل العلمية عندما تنفصل عن حضارة، وتخترق جسم حضارة أخرى لا تحمل معها الشحنة الحضارية التى كانت تحملها فى الحضارة الأولى، وإنما تتقبل منها الأمّة الجانب العلمى مجردة عن أى تأثيرات ثقافية أخرى. وتكون الحضارة بمثابة مصفاة تقوم بتصفية كل ما يعلق بهذه المسائل العلمية من ظروف أخلاقية وحضارية غريبة على كيان الأمّة، وتمنع عن الأمّة ما يعلق بها من سموم لا تناسب جسم الأمّة.

ب- الظروف غير الأمينة للاحتكاك العلمي:

أما إذا كانت الأمّة المقتبسة ضعيفة حضارياً، ولا تملك المقومات الأخلاقية والفكرية والمناعة الكافية التى تحميها من الثقافة الأجنبية، فإنها إذا تعرضت فى حياتها إلى الاقتباس من الأمم الاجنبية الأخرى والاحتكاك بها فسوف تنتقل إليها المسائل العلمية مقرونة بكل ظروف وملابسات الأمّة الناقلة سياسياً وأخلاقياً وفكرياً، وليس من الممكن عزل المسائل العلمية عن المسائل الثقافية عند ذلك، ولا يمكن حماية الأمّة المستوردة من ثقافة الأمّة المصدرة وأخلاقها، والتجارب التاريخية تثبت ذلك.


  • الشيخ محمد مهدى الاصفى – بتصرّف

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى