ثقافة

مفهوم التبليغ وفضله وأهدافه

تمهيد
حيث إنّ الشرّ والفساد والانحراف الّذي يهدِّد الإنسان موجود على مرِّ العصور، فإنّ “الُمنذِرين” كانوا دائماً موجودين، وإلى ذلك يُشير قولُه تعالى:  ﴿وَإِن مِّنْ أُمَّةٍ إِلَّا خلَا فِيهَا نَذِيرٌ﴾1. وأوّل حجّة على الخلقِ آدم عليه السلام، كان “مبلِّغاً”، وكذلك آخرُ الحجج عجل الله تعالى فرجه الشريف.
وأوائل السُّور القرآنيّة نزولاً تدعو الرسول صلى الله عليه وآله وسلم إلى الإنذار: ﴿قُمْ فَأَنذِرْ﴾1.

1- التبليغ في اللغة والاصطلاح
لغة: التبليغ لغةً بمعنى الإيصال، والاسم منه البلوغ، إذ يُقال: بلغ الصبي أي وصل إلى سنّ الرشد. وهو يشمل كلّ رسالة سماوية أو أيّ نداء من الله تعالى إلى الناس.
والبلوغ، والإبلاغ، والتبليغ بمعنى: الانتهاء، والوصول، والإيصال، والتوصيل إلى غاية مقصودة أو حدٍّ مراد، سواء كان هذا الحدُّ أو تلك الغاية مكاناً أو زماناً أو أمراً من الأمور المقدّرة معنويّاً 3.
ومن هذا المعنى أُخذ معنى المبالغة في البيان الّتي هي الوصول باللفظ إلى أبعد من الحدّ للمعنى الواقعيّ.
وما ورد في القرآن الكريم من لفظ “بلغ” ومشتقاته يعود في أصله لهذا المعنى. نحو قوله تعالى: ﴿وَلاَ تَحْلِقُواْ رُؤُوسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ﴾4 . أي حتّى يصل الهدي المكان المخصَّص له، والغاية أو الهدف هنا مكانيّ.

ونحو قوله تعالى: ﴿حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ﴾5.
حتّى إذا وصل إلى الزمن الّذي يكون فيه متكاملاً عقلاً وجسداً، وهو الزمن الّذي يكون فيه قد مضى من عمره أربعون سنة. والغاية كما هو واضح زمانيّة.
ونحو قوله تعالى: ﴿قَالَ إِن سَأَلْتُكَ عَن شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلَا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِن لَّدُنِّي عُذْرًا ﴾6 ، أي إنّني قد وصلت إلى الحدّ الّذي لا يُقبل عنده عذري. وهو أمر معنويّ.
ومن ثمّ فإنّ معنى التبليغ المراد بيانه هو إيصال شيء إلى شيء آخر، وغالباً ما يُستعمل معنى التبليغ في الأمور المعنويّة ويقلّ في الأمور المحسوسة نحو قولنا: أبلَغت أو بلّغت زيداً رسالة، أو فلاناً إنذاراً.
قال تبارك وتعالى: ﴿أُبَلِّغُكُمْ رِسَالاَتِ رَبِّي وَأَنصَحُ لَكُمْ ﴾7 ، بمعنى أنّني مكلّف بأنْ أوصل لكم رسالات الله وهي تعاليمه وإرشاداته.

المعنى الاصطلاحي للتبليغ:
ويُمكن أن نستوحي من المعنى اللغوي والاستعمال القرآني أنّ التبليغ في الإسلام هو عرض وإيصال التعاليم والإرشادات السماويّة الإسلاميّة إلى الناس، قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ﴾8 .

وعليه فإنّ إطلاع الناس على الأحكام الإسلاميّة والمعارف الإلهية وتبشير المؤمنين بالجنّة والنعيم الإلهيّ وإنذار المخالفين بالعذاب وتحذيرهم من مغبّة الانحراف وراء الشهوات وملذّات الدنيا ونسيان الآخرة هو المقصود من التبليغ الإسلاميّ. وقد استخدم القرآن الكريم مصطلحات مختلفة إلّا أنّها جميعاً تصبّ في معنى واحد من قبيل:
الدعوة، مثل قوله تعالى: ﴿قَالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلًا وَنَهَارًا﴾9 .
الإرشاد، مثل قوله تعالى: ﴿يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ﴾10.
التبليغ، مثل قوله تعالى: ﴿الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسَالَاتِ اللَّهِ وَيَخْشَوْنَهُ وَلَا يَخْشَوْنَ أَحَدًا إِلَّا اللَّهَ﴾11 .
التبشير، مثل قوله تعالى:﴿وَمَا أَرْسَلْنَاكَ إِلاَّ مُبَشِّرًا وَنَذِيرًا﴾12.

فالتبليغ في اصطلاحنا هو التبليغ القرآنيّ، أي إيصال الحقيقة إلى أذهان الناس، وإخراجهم من ظلمات الجهل، فنحن لدينا حقيقة وضّاءة اسمها التوحيد والإسلام، وقد حجبتها سحب الجهل والعداء، والتبليغ يعني إيصال تلك الحقيقة إلى أذهان الناس وعقولهم13.
ويُمكن القول أيضاً: إنّ التبليغ هو تعليم الناس أحكام الدِّين الإسلاميّ والمعارف الإلهيّة، وتبشير الناس بالجنان ونِعَم الله سبحانه وترغيبهم بالعمل للحصول على رضا الله تعالى، وتحذيرهم من مخالفة أوامر الخالق جلّ وعلا، ودعوتهم إلى الاعتقاد بأصول الدِّين، والعمل بالفروع…

2 – أهميّة التبليغ وفضله

لقد كثرت الآيات والروايات الّتي تتحدّث عن مكانة التبليغ والدعوة وأهمّيتهما في حياة الأمم والشعوب على طول التاريخ، وذلك نظراً لارتباطهما بمختلف مفاصل المجتمع البشريّ ومستوياته ومتطلّباته الأخروية والدنيوية، وكونهما يُمثّلان الواسطة المباشرة بين السماء والأرض، والوسيلة الّتي اختارها الله تعالى لهداية خلقه وتعليمهم وتزكيتهم. وما الحديث المفصّل الّذي ورد في الدعوة والتبليغ والإرشاد والهداية والأمر بالمعروف ونحوها من المصطلحات- في موارد عدّة في الكتاب والسنّة – إلا خير دليل على الحرص الإلهيّ على إيصال الشرائع السماوية، ولا سيّما الشريعة الإسلاميّة، وتعليم أحكامها للناس، وهو ما نطلق عليه “عملية التبليغ والدعوة إلى الله تعالى”.

وتبلغ قيمة عمل المبلِّغ درجة عالية، بحيث يستحقّ أن يكون من خلفاء رسول الله الّذين يستحقّون الرحمة، وقد بيّن ذلك رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بقوله: “رحم الله خلفائي فقيل يا رسول الله، من خلفاؤك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الذين يُحيونَ سنّتي ويُعلّمونها عباد الله”14. ويغبطه أصحاب الدرجات الرفيعة عند الله تعالى كالأنبياء عليهم السلام والشهداء، روي عن رسول الله أنّه قال صلى الله عليه وآله وسلم: “ألا أحدّثكم عن أقوام ليسوا بأنبياء ولا شهداء يغبطهم يوم القيامة الأنبياء والشهداء بمنازلهم من الله على منابر من نور؟ فقيل “من هم يا رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: “هم الذين يُحبّبون عباد الله إلى الله، ويُحبّبون عباد الله إليَّ، فإذا أطاعوهم أحبّهم الله”15.

“ولهذا فإنّ مسألة التبليغ قضيّة هامّة، ويُمكن القول – في دنيا اليوم – إنّها تقع على رأس كلّ الأمور، لأنّ العالم اليوم يتّكىء على مسند التبليغ والإعلام، ولذا فإنّ التبليغ والإعلام هما أرقى شيء يُمكنه تثمير الثورة في الداخل وتصديرها للخارج”16.

ولا يخفى أنّ التبليغ والإعلام أحد أهمّ الوسائل الّتي يستعملها أعداء الدِّين، وبأساليب حديثة، فيحوِّلون غير الممكنٍ ممكناً، ويُسقطون الحكومات، ويُحاربون الثورات فيُغيِّرون مسارها، ويُسمِّمون الأفكار بالثقافة المنحرفة، والأفكار المغلوطة، فيدسُّونها في روحيَّات الناس وبشكل واسع جدّاً. فيلزم علينا والحال هذه أن نهتمّ بالتبليغ، بل علينا أن نوليَه اهتماماً خاصّاً، فنفوِّت على الأعداء فرصة الوصول إلى أهدافهم المشؤومة ومخطّطاتهم الخبيثة.

وإلى مثل هذا أشار الإمام الخميني قدس سره بقوله: “إنّ التبليغ والإعلام مسألة هامّة جدّاً وحسَّاسة للغاية. والدنيا تُدير أمورها اليوم بوسيلة التبليغ والإعلام، ويستفيد أعداؤنا ضدّنا من حرية التبليغ والإعلام بشكل لا يستفيدونه من غيرها، فينبغي لنا أن نوليَ تلك المسألة الهامّة اهتماماً خاصّاً ونتوجّه إليها أكثر من توجّهنا إلى مسألة أخرى”17.

ولا بُدّ من الالتفات إلى أنّ عدم الاهتمام بأمر التبليغ، يعني عدم الاهتمام بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ما يعني في أحد نتائجه تدمير المجتمع، فالناس الذين يفعلون المنكر، ولا يردعهم العلماء عن فعلهم، فيبيِّنون لهم المعروف ويدْعونهم إلى العمل به، لن يكون مصيرهم سوى الدمار والهلاك!!

وقد تضافرت الروايات عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم وآله الأطهار عليهم السلام الّتي تحثّ على تبليغ الدِّين وتعليم أحكامه، وإيصال تعاليمه وقيمه إلى عموم الناس، وبيّنت
المنزلة الرفيعة والمقام الخاصّ للّذين يتصدّون لهذا الواجب، واعتبرت أنّ هذه الوظيفة هي وظيفة الأنبياء عبر التاريخ.

ورد عن الإمام الصادق عليه السلام أنّه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “يجيء الرجل يوم القيامة وله من الحسنات كالسحاب الركام أو كالجبال الرواسي فيقول: يا ربّ أنّى لي هذا ولم أعملها؟ فيقول: هذا علمك الّذي علّمته الناس يُعمل به من بعدك”18.

وقال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “ما تصدّق الناس بصدقة مثل علم يُنشر”19.
وورد عن الإمام عليّ عليه السلام أنّه قال: “لمّا كلّم الله عزَّ وجلّ موسى بن عمران عليه السلام، قال موسى: إلهي ما جزاء من دعا نفساً كافرة إلى الإسلام؟ قال: يا موسى آذن له في الشفاعة يوم القيامة لمن يُريد”20.

وورد عن الإمام الرضاعليه السلام أنّه قال: “أفضل ما يقدّمه العالِم من محبّينا وموالينا أمامه ليوم فقره وفاقته وذلّه ومسكنته أن يُغيث في الدنيا مسكيناً من محبّينا من يد ناصبٍ عدوٍّ لله ولرسوله، يقوم من قبره والملائكة صفوف من شفير قبره إلى موضع محلّه من جنان الله فيحملونه على أجنحتهم ويقولون: طوباك طوباك يا دافع الكلاب عن الأبرار، ويا أيُّها المتعصِّب للأئمّة الأخيار”21.
وورد عن الإمام الحسن العسكريّ عليه السلام أنّه قال: “ألا فمن كان من شيعتنا عالِماً بعلومنا وهذا الجاهل بشريعتنا المنقطع عن مشاهدتنا يتيم في حجره، ألا فمن هداه وأرشده وعلّمه شريعتنا كان معنا في الرفيق الأعلى”22.

3 – فضل العلم مشروط بالتبليغ

لقد بلغت النصوص الشريفة في فضل العلم والعالم حدّاً لم يبق خفيّاً على أحد، وجرت عادة طلّاب العِلم على الاستشهاد بتلك النصوص لبيان فضيلة عملهم، وصحّة منهجهم. وربما اتّخذ بعضهم من تلك النصوص ذريعة لترك العمل التبليغيّ عاكفاً على طلب العِلم دونما تفكير بالهدف المطلوب وراء ذلك. إلّا أنّ دراسة بسيطة للنصوص الشريفة كافية للدلالة على أنّ فضل العِلم والعالِم وثواب طلب العِلم مشروط باستخدامه في هداية الناس، ونشره لهم، وبدون ذلك يفقد قيمته وفضله وثوابه.

فقد ورد عن السيدة الزهراء عليها السلام عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم:
سمعت أبي يقول: “إنّ علماء شيعتنا يُحشرون فيُخلع عليهم من خلع الكرامات على قدر كثرة علومهم وجدّهم في إرشاد عباد الله”23. إنّ الفقرة الأخيرة في هذا النصّ واضحة الدلالة على اعتبار عملية الهداية والإرشاد هي المقياس في فضل العِلم والعالِم.

وعن الإمام الباقرعليه السلام أنّه قال: “العالِم كمن معه شمعة تُضيء للناس، فكلّ من أبصر شمعته دعا له بخير…”24.
فأنت ترى أنّ قضية الإضاءة للآخرين وتنوير طريقهم هي شأن العالم ومهمّته وقضيّته، فإذا ابتعد عنها كان مثل الشمعة بلا نور ولا نار.
ومثل ذلك ما ورد عن الإمام الصادق عليه السلام حيث قال: “علماء شيعتنا مرابطون بالثغر الّذي يلي إبليس وعفاريته يمنعونهم عن الخروج على ضعفاء شيعتنا”25.
ومعنى ذلك أنّ المرابطة في الثغور والمواضع الثقافيّة والعقائدية، ثمّ منع الناس عن الضلال والوقوع في شباك الانحراف، هي مهمّة العالِم، ومنشأ فضله وكرامته وثوابه.

وهكذا النصّ الشريف الوارد عن الإمام الكاظم عليه السلام، حيث يقول فيه عن فضل الفقيه على العابد: “العابد همّه ذات نفسه فقط، وهذا (أي الفقيه) همّه مع ذات نفسه ذات عباد الله وإمائه لينقذهم من يد إبليس ومردته، فذلك هو أفضل عند الله من ألف ألف عابد وألف ألف عابدة”26.

فإنَّ هذا النصّ واضح في أنّ أفضليّة العالِم على العابد ناشئة من حركته في هداية الناس ونفعهم وتبليغهم أمور دينهم، أمّا إذا عكف على ذات نفسه وصار همّه علمه فقط فسوف لا يفضل العابد.
وقد ورد عن الإمام الرضا عليه السلام قوله: “ألا إنّ الفقيه من أفاض على الناس خيره، وأنقذهم من أعدائهم، ووفّر عليهم نعم جنان الله، وحصّل لهم رضوان الله تعالى”27.
فقد حصر الإمام عليه السلام الفقيه بالعالِم النافع للناس بعلمه الساعي في إنقاذهم من الضلال.

كما جاء عن الإمام الصادق عليه السلام، قوله: “إذا كان يوم القيامة بعث الله عزّ وجلّ العالِم والعابد فإذا وقفا بين يدي الله عزّ وجلّ قيل للعابد: انطلق إلى الجنّة، وقيل للعالِم: قف اشفع للناس بحسن تأديبك لهم”28.
إنّ هذه الفقرة الأخيرة توكّد أنّ فضل العالِم وثوابه منوط ومشروط بحركته التبليغيّة وسعيه في هداية الناس وتأديبهم.


4- الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر

وقد ورد الحثّ على الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر- وهو نوع من التبليغ – في الكتاب والسنّة، قال تعالى: ﴿التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾29. وقال تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾30.

وروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال: “ألا وإنّي أُجدّد القول: ألا فأقيموا الصلاة، وآتوا الزكاة، وأمروا بالمعروف، وانهوا عن المنكر. ألا وإنّ رأس الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أن تنتهوا إلى قولي، وتُبلّغوه من لم يحضر، وتأمروه بقبوله، وتنهوه عن مخالفته، فإنّه أمرٌ من الله عزّ وجل ومنّي”31.

وروي عن الإمام عليّعليه السلام أنّه قال: “لمّا وجّهني رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم إلى اليمن قال: يا عليّ، لا تُقاتل أحداً حتّى تدعوه إلى الإسلام؛ وأيمُ الله، لأن يهدي الله على يديك رجلاً خيرٌ لك مما طلعت عليه الشمس وغربت، ولك ولاؤُه يا عليّ”32.

وقد بيّن الفقهاء أنّ فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى الفرائض وأشرفها، وبها تُقام الفرائض، ووجوبها من ضروريّات الدِّين، ومنكرها مع الالتفات يعدُّ كافراً.33
واتفقوا على أنّ الأمر والنهي واجبان إجماعاً على نحو الوجوب الكفائي، فإذا تصدّى للأمر أو النهي من به الكفاية لإنجاز المهمّة وتحقيق الواجب سقط التكليف عن الباقين، غير أنّ وجوبه مستمرّ في عموم حالات المنكر ما دام المنكر موجوداً والمعروف متروكاً.

أ – معنى المعروف والمنكر: المراد بالمعروف كلّ فعل حسن أوجبَتْه الشريعة المقدّسة أو ندبت إليه، فإن كان واجباً كان الأمر به واجباً، وإن كان مستحبّاً كان الأمر به مستحبّاً. والمراد بالمنكر كلّ فعل كرهته الشريعة فحرّمت فعله أو حثّت على التنزّه عنه وتركه، فإن كان المنكر حراماً كان النهي عنه واجباً، وإن كان مكروهاً كان النهي عنه مستحبّاً وراجحاً.

والمراد بالأمر بالمعروف والنهي عن المنكر هو قيام المكلَّف بواجب التصدّي لتارك المعروف أو لفاعل المنكر، لحثّه على فعل المعروف وترك المنكر، بواحد من الأساليب الّتي وضعتها الشريعة لذلك، قال الله تعالى: ﴿ كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللّهِ﴾34. والظاهر أنّ الخطاب للمسلمين. والمراد بالناس جميع الناس من المسلمين وغيرهم، فيكون المراد – والله العالم – أنّ المسلمين بما هم مسلمون خير أمّة خُلقت وأُخرجت لنفع المجتمعات البشرية، وملاك خيريّتهم بسطهم للمعروف وردعهم عن المنكرات وإصلاح المجتمعات35. فيجب الأمر والنهي على كلّ من تتوفَّر فيه الشرائط من العلماء وغيرهم من الرجال والنساء وحتّى الفسّاق، قال الله تعالى: ﴿وَلْتَكُن مِّنكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾36.

ب – فلسفة تشريعهما: واعتُبر الأمرُ والنهي طريقاً إلى حفظ النظام، وأماناً من الفرقة والنزاع، فروي عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم قوله: “لا تزال أمّتي بخير ما أمروا بالمعروف ونهوا عن المنكر وتعاونوا على البرّ، فإذا لم يفعلوا ذلك نُزعت منهم البركات، وسُلِّط بعضهم على بعض، ولم يكن لهم ناصر في الأرض ولا في السماء”37.

وروي عن الإمام الرضا عليه السلام أنّه قال: “كان رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يقول: إذا أمّتي تواكلت الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فليأذنوا بوقاع من الله”38.
وعندما نتأمّل في معنى المعروف والمنكر وكيفيّتهما نجد أنّ فلسفة تشريعهما تدور بين الحرص على هداية البشر إلى طاعة الله تعالى، ودعوتهم إلى الخير؛ واحترام أفراد المجتمع وحفظ حقوقه، وردع الناس عن ارتكاب المخالفات والتعدّي على الآخرين مادّياً أو معنويّاً.

ولأنّ الأمر بالمعروف فريضة إصلاحية تهدف إلى التربية والإصلاح فالأصل أن يكون الأمر والنهي برفق ولين وهدوء، وينبغي عدم الإفراط في الأمر والنهي ما يستلزم الإثقال على المأمور وتزهيده في الدِّين وتنفيره منه وانقلاب الأمر إلى ضده. فقد روي عن النبيّ صلى الله عليه وآله وسلم قوله لعلي عليه السلام: “يا عليّ إنّ هذا الدِّين متين فأوغل فيه برفق”39.
وقال الله تعالى: ﴿ ادْعُ إِلِى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ﴾.
و﴿اذْهَبَا إِلَى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغَى* فَقُولَا لَهُ قَوْلًا لَّيِّنًا لَّعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشَى﴾40.

وروي عن الإمام الصادق عليه السلام: “يا عمر لا تحملوا على شيعتنا وارفقوا بهم فإنّ الناس لا يحتملون ما تحتملون”41. وعن الإمام الرضا عليه السلام “لا تبذل لإخوانك من نفسك ما ضرّه عليك أكثر من نفعه لهم”42.
وهذا لا يعني عدم إمكانية الانتقال إلى مراتب أخرى، تُستعمل فيها الشدّة والقسوة لاقتلاع المنكر، وفق شروط وضوابط فُصّلت في الكتب الفقهية.

ج – الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نظام لتبليغ الدِّين:

يمكن للمتأمّل في ما ورد حول الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الكتاب والسنّة، أن يدرك بسهولة أنّهما نظام لجهة مكلّفة بتبليغ الدِّين الإسلاميّ وتطبيق أحكامه، وحفظ مقدّساته، وتعزيز الإيمان بالله، واحترام القيم والمقدّسات الدِّينيّة، وحماية المجتمع الإسلاميّ من الانحرافات الأخلاقية، والاجتماعية، ومنع ثقافة الابتذال والخواء واللغو.

ولهذا فإنّ الدعوة والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر عمل إنسانيّ يهدف إلى إصلاح الآخرين، فلا عجب أن يختلف باختلاف الأشخاص وأنواع الانحراف فيمكن للمكلّف مع توّفر الشرائط، مهما كان موقعه في المجتمع، أن يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر، ويواجه العصاة والمنحرفين والمتمرّدين، بأساليب ثلاثة على نحو الترتيب ابتداءاً من القيام بعمل يظهر منه الانزجار القلبيّ عن المنكر، إلى الأمر والنهي باللسان، وصولاً إلى الإنكار باليد، بمعنى إعمال القدرة مراعياً للأيسر فالأيسر، وفق شروط وتراتبية خاصّة في كلّ مرتبة 43، بمعنى أنّه لا يجوز التعدّي عن مرتبة إلى الأخرى مع إمكانيّة حصول المطلوب من المرتبة الدانية، عن الإمام الباقر عليه السلام: “فأنكروا بقلوبكم والفظوا بألسنتكم وصكّوا بها جباههم ولا تخافوا في الله لومة لائم”44.

الخلاصة
التبليغ موجود على مرّ العصور، وهو لغةً يعني الإيصال، واصطلاحاً يعني إيصال تعاليم الإسلام إلى الناس. وقد استخدم القرآن مصطلحات مختلفة تصبّ في معنى التبليغ مثل: الدعوة والإرشاد والتبشير.

لقد استفاضت الآيات والروايات في أهميّة وفضل التبليغ والمبلِّغين، منها ما ورد عن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “رحم الله خلفائي، فقيل: يا رسول الله، من خلفاؤك؟ قال صلى الله عليه وآله وسلم: الذين يحيون سنّتي ويعلّمونها عباد الله”.

إنّ فضل العلم والعلماء مشروط بالحركة التبليغيّة.
الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر من أسمى الفرائض. والأصل أن يكون الأمر والنهي برفق ولين، وينبغي الحكمة في اختيار الأسلوب الأمثل فيهما.

  •  التبليغ الديني، سلسلة المعارف الإسلامية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

المصادر والمراجع

1- سورة فاطر، الآية: 24.
2- سورة المدثر، الآية: 2.
3- انظر: مفردات الراغب الأصفهاني، مادة بلغ.
4- سورة البقرة، الآية: 196.
5- سورة الأحقاف، الآية: 15.
6- سورة الكهف، الآية: 76.
7- سورة الأعراف، الآية: 62.
8- سورة المائدة، الآية: 67.
9- سورة نوح، الآية: 5.
10- سورة الجن، الآية: 2.
11- سورة الأحزاب، الآية: 39.
12- سورة الإسراء، الآية: 105.
13- الإمام الخامنئي، من خطاب له في قم،بتصرف.
14- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج2، ص25.
15- م. ن، ج 2، ص 24.
16- صحيفة النور، ج14، ص41و 44.
17- م. ن، ج7، ص157.
18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 2، ص 18.
19- م. ن، ج 2، ص 25.
20- الأمالي، الشيخ الصدوق، ص 277.
21- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 12.
22- م. ن.
23- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 2، ص 3.
24- م. ن، ج 2، ص 5.
25- م. ن.
26- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 2، ص 6.
27- م. ن.
28- م. ن، ج 2، ص 16.
29- سورة التوبة، الآية: 112.
30- سورة آل عمران، الآية: 104.
31- الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج 1، ص 157.
32- الكافي، الشيخ الكليني،ج 5، ص 36.
33- انظر: تحرير الوسيلة، الإمام الخميني، ج 1، ص 434.
34- سورة آل عمران، الآية: 110.
35- ولاية الفقيه وفقه الدولة الإسلاميّة، المنتظري، ج2، ص226.
36- سورة آل عمران، الآية: 104.
37- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16،ص123،باب وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وتحريم تركهما.
38- وسائل الشيعة،الحرّ العاملي، ص 118.
39- الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص 87 .
40- سورة طه، الآية: 43.
41- الكافي، الشيخ الكليني، ج5، ص156، باب تأديب النساء.
42- م.ن. ج4، ص23، باب في آداب المعروف.
43- انظر: تحرير الوسيلة، كتاب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
44- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج16، ص131، باب وجوب الأمر والنهي بالقلب.

تعليق واحد

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى