ثقافة

أخلاق الله في القرآن

المقدمة

بسم الله الرحمن الرحيم، الحمد لله رب العالمين وصلى الله على محمد وآله الطاهرين، واللعن الدائم على أعدائهم إلى قيام يوم الدين.

من الأهمية بمكان أن يتعرف الإنسان على خالقه، إذ التعرف عليه والعلم به سبب من أسباب السعي للوصول إليه، فلا وصول إلا بالعلم.. وكـثيرة هي جنـبات التعـرف عليه (سبحانه وتعالى) فتارة يبحث عن أصل وجوده، وأخرى يبحث عن أفعاله وبدائع صنعه، وثالثة يبحث عن صفاته، ونحن في بحثنـا هذا نتطرق إلى قسم من أقسـام  الجنبة الثالثة؛ فنبحث عن صفات خاصة من صفاته -إن صح التعبير- وهي الصفات المعبر عنها بالأخلاق، والغرض من ذلك هو أن يكون للإنسان قدوته الأولى في السعي نحو الكمال واقتفاء أثره، فلا أخلاق كأخلاق الله (سبحانه وتعالى) يمكن أن تكون نموذجا يتأسى بها طالب الكمال، وبالطبع فإن حديث التأسي والتشبه هو في حدود الوسع الإنساني من جانب، ومن جانب آخر فهو لا يتعدى الحدود المضروبة عقلا بين الواجب والممكن، وإنما يتوسل الممكن إلى كل كمال في الله بحسب طاقته ووسعه، وبعبارة أدق فإنه يصقل من نفسه ما يتمكن عليه ليكون مرآة لجلال الله، وليكون ظلا لعظمة الله، وليكون مظهرا من مظاهر أخلاق الله في العلم والحلم والكرم.. وإن من وظائف الإنسان أن يكون آية لله ناطقة عن الله.

المحور الأول: حديث التخلق بأخلاق الله

وردت المقولة: (تخلقوا بأخلاق الله) في كلمات عدة من العلماء بعنوان: «كما قيل» وما ماثلها، ولم أجد مصدرا روائيا ينقلها على أنها رواية، إلا ما في كلمات بعض العلماء:

 كصاحب البحار في بحاره: “إلا أنه قال (عليه السلام): «تخلقوا بأخلاق الله»”(1).

 والملا هادي السبزواري في شرح الأسماء الحسنى: “وأرباب القلوب قد أمروا بقوله (صلّى الله عليه وآله): «تخلقوا بأخلاق الله»”(2).

 والرازي في تفسيره: (ومداد هذا المعنى على قوله (صلّى الله عليه وآله) صلى الله عليه [وآله] وسلم: «تخلقوا بأخلاق الله»”(3).

ألفاظ مشابهة للحديث المذكور:

جاء في بعض كتب الرسول (صلّى الله عليه وآله): «وحدهم [وخذهم] بأخلاق الله واحملهم عليها، فإن الله تعالى يحب معالي الأخلاق، [و] يبغض مدامها [مذامها]»(4).

مصباح الشريعة: قال الصادق(ع): «العفو عند القدرة من سنن المرسلين… لأن العفو والغفران صفتان من صفات الله تعالى أودعهما في أسرار أصفيائه، ليتخلقوا مع الخلق بأخلاق خالقهم وجاعلهم، لذلك قال الله  (عزَّ وجلَّ): {وليعفوا وليصفحوا ألا تحبون أن يغفر الله لكم والله غفور رحيم} ومن لا يعفو عن بشر مثله كيف يرجو عفو ملك جبار»(5).

المحور الثاني: معنى التخلق بأخلاق الله تعالى

تعرض جملة من العلماء إلى المعنى المراد من التخلق بأخلاق الله سبحانه وتعالى، ونكتفي هنا بعرض مجموعة من كلماتهم لتوضيح الفكرة:

ذكر صدر المتألهين أن المقصود من (تخلقوا بأخلاق الله) هو التحلي بالحكمة بقسميها؛ الحكمة النظرية، والحكمة العملية، حيث وصف الله تعالى نفسه بالحكيم في أكثر من موضع.

والحكمة النظرية (الفلسفة) هي استكمال النفس الإنسانية بمعرفة حقائق الموجودات على ما هي عليه، والحكم بوجودها تحقيقا بالبراهين، لا أخذا بالظن والتقليد، بقدر الوسع الإنساني.

واستشهد لذلك بأن هذا الفن من الحكمة هو المطلوب لسيد الرسل (صلّى الله عليه وآله) المسؤول في دعائه (صلّى الله عليه وآله) حيث قال: «رب أرني الأشياء كما هي»، وللخليل (عليه السلام) أيضا حين سأل: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً} والحكم هو التصديق بوجود الأشياء المستلزم لتصورها أيضا.

وأما الحكمة العملية فثمرتها مباشرة عمل الخير لتحصيل الهيأة الاستعلائية للنفس على البدن، والهيأة الانقيادية الانقهارية للبدن من النفس، وإلى هذا أشار بقوله (عليه السلام): «تخلقوا بأخلاق الله» واستدعى الخليل (عليه السلام) في قوله: {وَأَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ}(6). والغاية من الحكمة النظرية هو الإيمان، كما في قوله تعالى: {لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا}(7).

والغاية من الحكمة العملية هو العمل الصالح كما في قوله تعالى: {وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ}(8) وهو تمام الحكمة العملية.

فالمعتبر من كمال القوة العملية ما به نظام المعاش ونجاة المعاد. ومن النظرية العلم بأحوال المبدأ والمعاد والتدبر فيما بينهما من حق النظر والاعتبار. قال أمير المؤمنين (عليه السلام): «رحم الله امرأ أعد لنفسه واستعد لرمسه وعلم من أين وفي أين وإلى أين».

ولذلك قال الفلاسفة أن الفلسفة هي التشبه بالإله كما وقع في الحديث النبوي: «تخلقوا بأخلاق الله» يعني في الإحاطة بالمعلومات والتجرد عن الجسمانيات(9).

وأما العلامة المجلسي فقال في البحار: “والفلاسفة قالوا: (الفلسفة عبارة عن التشبه بالإله بقدر الطاقة البشرية) فيجب عليه أن يعرف تفسير هذا التخلق وهذا التشبه، ومعلوم أنه لا معنى لهما إلا تقليل الحاجات وإضافة الخيرات والحسنات، لا بالاستكثار من الملذات والشهوات”(10).

يقول الشيخ الصافي في بعض رسائله: “والكمال الإنساني يكون في معرفة الله سبحانه وتعالى، وهو كذلك منتهى كل معرفة، ومنتهى كافة الكمالات، ولا كمال فوق كمال، ولا كمال للإنسان فوق أن يكون عارفا بالله بمعرفة أسمائه الحسنى وصفاته العليا”(11).

وأما المازندراني فيقول في شرحه لأصول الكافي: “كما أن الحيوان لا يعرف ما في نفس الإنسان من العلوم الكثيرة، ولا يعلم أنه أقرب إلى الله تعالى منه، كذا زيد لا يعرف رتبة عمرو وكونه أقرب إلى الله فمثله عنده كمثل جماد عند إنسان… وليس التقرب إلى الله بالزمان ولا بالمكان، بل بالتشبه في الكمال كما قيل: تخلقوا بأخلاق الله تعالى، وكلما حصل في الإنسان من صفاته تعالى كالعلم والحلم والرحمة والبر وما هو أكمل بالرياضة والزهد كان أقرب وأشد. وروي عن عيسى بن مريم (عليه السلام) خطابا للحواريين: «كونوا كاملين كما أن الله ربكم في السماء كامل»(12).

ويتعرض الفخر الرازي إلى معنى التخلق والحكمة: “وأما الحكمة بمعنى فعل الصواب فقيل في حدها: إنها التخلق بأخلاق الله بقدر الطاقة البشرية، ومداد هذا المعنى على قوله صلى الله عليه [وآله] وسلم: (تخلقوا بأخلاق الله تعالى) واعلم أن الحكمة لا يمكن خروجها عن هذين المعنيين، وذلك لأن كمال الإنسان في شيئين: أن يعرف الحق لذاته، والخير لأجل العمل به، فالمرجع بالأول: إلى العلم والإدراك المطابق، وبالثاني: إلى فعل العدل والصواب، فحكي عن إبراهيم صلى الله عليه وسلم قوله: {رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً}“(13)(14).

المحور الثالث: أخلاق الله في القرآن الكريم

الرحمة والرأفة والحب لعباده:

ووردت في هذا الخلق عدة آيات قرآنية، كقوله تعالى: {الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}(15)، وقال سبحانه: {وَمِنَ النَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغَاء مَرْضَاتِ اللّهِ وَاللّهُ رَؤُوفٌ بِالْعِبَادِ}(16).

ومن روائع آيات هذه الرحمة عند الله جل وعلا ما يتجلى في الآيات الشريفة في قصة موسى (عليه السلام)، فكيف كانت هذه الرعاية؟ وكيف كانت هذه الرحمة؟ تقول الآية الشريفة: {قَالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يَا مُوسَى، وَلَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرَى، إِذْ أَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّكَ مَا يُوحَى، أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِّي وَعَدُوٌّ لَّهُ} في هذا المقطع من الآيات الشريفة يبين القرآن رعاية الله ومحبته بعبده، وكيف أنه يجيب سؤل أحبته، ثم لا يكتفي بذلك دون أن يبتدئ هو بالتفضل لخلاص هذا المحبوب، وليمسح برحمته قلب تلك الأم الوالهة، ويأخذ بيدها في كل خطوة تخطوها لتطمئن أن رعاية الله وعطفه لن يسلمها ساعة حاجتها، ثم يقول (سبحانه وتعالى): {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي، إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى مَن يَكْفُلُهُ فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ وَقَتَلْتَ نَفْسًا فَنَجَّيْنَاكَ مِنَ الْغَمِّ وَفَتَنَّاكَ فُتُونًا فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى، وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي}(17)، ويكفي المتأمل أن يجيل بصره في مفردات هذه الآية المفعمة بالود والمحبة: {وَأَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِّنِّي} ثم {وَلِتُصْنَعَ عَلَى عَيْنِي} وفي الذيل: {وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي} وما بين الصدر والذيل تبقى عين الأم في عين الله: {فَرَجَعْنَاكَ إِلَى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُهَا وَلَا تَحْزَنَ}، فسبحانك يا من رحمته سابقة.

الحكمة:

وصف الله سبحانه وتعالى نفسه بالحكمة في مواضع متعددة من كتابه الكريم، فقال فيما قال: {يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ}(18)، وقال: {فَإِن زَلَلْتُمْ مِّن بَعْدِ مَا جَاءتْكُمُ الْبَيِّنَاتُ فَاعْلَمُواْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}(19)، ولا شك أنه تعالى هو العليم الحكيم، فجدير بنا أن نقفو آثار الحكمة ونطلبها، فإنه (سبحانه وتعالى): {يُؤتِي الْحِكْمَةَ مَن يَشَاءُ وَمَن يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُوْلُواْ الأَلْبَابِ}(20).

الوفاء بالعهود والعقود:

اتخذ القرآن في التربية الإلهية أسلوب الدعوة إلى الخير، وقد دعا إلى أخلاق الوفاء بالعهد، وأخذ على عاتقه تعليم الناس هذه المبادئ الكريمة، وهذا ما يتجلى في دعوته لبني إسرائيل إلى التحلي بهذه الفضائل النبيلة: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَوْفُواْ بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ}(21)، ومن جانب آخر وعد الله (سبحانه وتعالى) عباده بالجنة على القتال في سبيل الله وثنَّى هذا الوعد والعهد ببيان أنه (سبحانه وتعالى) أصدق الصادقين، وأن لا محل لخيانة العهد في القاموس الإلهي: {إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقّاً فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ}(22)، ثم راح (سبحانه وتعالى) يبين محاسن أخلاق المؤمنين ويحضهم على الخير فوصفهم في سورة (المؤمنون) بمجموعة من الصفات الخلقية الراقية فمنها قوله (سبحانه وتعالى): {وَالَّذِينَ هُمْ لِأَمَانَاتِهِمْ وَعَهْدِهِمْ رَاعُونَ}(23).

النصيحة والموعظة:

وأما النصيحة فلم تنفك الآيات القرآنية عن بيانها، ولا سيما مع اليهود الذين عاندوا أنبياءهم وحاربوا ربهم، يقول الله (سبحانه وتعالى) في نصحهم: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُواْ نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ وَاتَّقُواْ يَوْماً لاَّ تَجْزِي نَفْسٌ عَن نَّفْسٍ شَيْئاً وَلاَ يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلاَ يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ}(24)، ويقول (عزَّ وجلَّ) في بيان عواقب الأعمال عسى أن يتعظ من يتعظ: {وَلَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَواْ مِنكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنَا لَهُمْ كُونُواْ قِرَدَةً خَاسِئِينَ فَجَعَلْنَاهَا نَكَالاً لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهَا وَمَا خَلْفَهَا وَمَوْعِظَةً لِّلْمُتَّقِينَ}(25).

العفو والغفران:

{قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللّهُ غَفُورٌ رَّحِيمٌ}(26)، ويقول (سبحانه وتعالى): {وَاسْتَغْفِرِ اللّهَ إِنَّ اللّهَ كَانَ غَفُوراً رَّحِيماً}(27)، ويدعو (سبحانه وتعالى) أنبياءه أيضا إلى تطبيق هذا الخلق السمح: {فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَشَاوِرْهُمْ فِي الأَمْرِ}(28).

وقد ورد في دعاء كميل بن زياد النخعي هذا المعنى من اللجوء إلى الأمل، والتوسل بهذا الخلق لديه (سبحانه وتعالى): «يا سريع الرضا اغفر لمن لا يملك إلا الدعاء».

زيادة الأجر ومضاعفته:

{وَإِذْ قُلْنَا ادْخُلُواْ هَـذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُواْ مِنْهَا حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَادْخُلُواْ الْبَابَ سُجَّداً وَقُولُواْ حِطَّةٌ نَّغْفِرْ لَكُمْ خَطَايَاكُمْ وَسَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ}(29)، وقد وعد (عزَّ وجلَّ) -وهو الصادق- بمضاعفة الحسنات وإجزال الثواب كرما وتلطفا بعباده، أفلا يكون عباده كرماء متأسين بكرمه! يقول (سبحانه وتعالى): {مَن جَاء بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَن جَاء بِالسَّيِّئَةِ فَلاَ يُجْزَى إِلاَّ مِثْلَهَا وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ}(30).

الحلم:

وأما مسألة الحلم فهي ذات طعم خاص في سلوكه وأخلاقه (عزَّ وجلَّ)، ولا بد أن نعي أن كل هذه الصفات والأخلاق مجردة عن الانفعال، إذ أن تلك الذات المقدسة ليست محلا للحوادث ولا معرضا للانفعال.. في قصة نبي الله موسى (عليه السلام) مع اليهود نجد ذروة الحلم، فكيف يمكن أن نتصور الحلم؟ وأنى لنا أن نربي أنفسنا عليه إلا من خلال هذه الآيات الرفيعة القدر الجليلة المنزلة!

ولا بد أن نستحضر في هذا الخلق ما تقدم عليه من أخلاق أخرى كالموعظة والنصيحة، حيث إن القصة ذات أبعاد متعددة، وفصول تاريخها مترابطة، فبعد وعظ الله لليهود، وإرساله الأنبياء، وتفضيله إياهم، ومنّه عليهم، بعد كل ذلك حينما يطلب منهم (سبحانه وتعالى) أن يمتثلوا أمرا من أوامره ليرفع بذلك درجاتهم، كيف كانوا يتعاملون مع هذه الأوامر؟! تقول الآيات الشريفة: {وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُواْ بَقَرَةً قَالُواْ أَتَتَّخِذُنَا هُزُواً قَالَ أَعُوذُ بِاللّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجَاهِلِينَ، قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لّنَا مَا هِيَ قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ فَارِضٌ وَلاَ بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ فَافْعَلُواْ مَا تُؤْمَرونَ، قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا لَوْنُهَا قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنّهَا بَقَرَةٌ صَفْرَاء فَاقِعٌ لَّوْنُهَا تَسُرُّ النَّاظِرِينَ، قَالُواْ ادْعُ لَنَا رَبَّكَ يُبَيِّن لَّنَا مَا هِيَ إِنَّ البَقَرَ تَشَابَهَ عَلَيْنَا وَإِنَّآ إِن شَاء اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ، قَالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّهَا بَقَرَةٌ لاَّ ذَلُولٌ تُثِيرُ الأَرْضَ وَلاَ تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لاَّ شِيَةَ فِيهَا قَالُواْ الآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوهَا وَمَا كَادُواْ يَفْعَلُونَ}(31)، ألم يكونوا يستحقون العقاب منذ المخالفة الأولى؟ وهل يجب على مالكهم وخالقهم أن يحلم بهم كل هذا الحلم؟ نعم هذا هو خلقه الرفيع! وقد تجلى في سلوك نبيهم موسى (عليه السلام) إذ تنقل عنه مواقف يغضب فيها فتسبق رحمته غضبه، وبذلك نتوسل في دعائنا فنقول: يا من سبقت رحمته غضبه..

عدم الغفلة:

إذا كنا نعتقد في أنبيائنا وأئمتنا (عليهم السلام) عدم الغفلة والسهو فمن الطبيعي أن يستحيل ذلك على الله (سبحانه وتعالى)، ومن آثار معرفتنا بذلك أن ننتهي عما نهانا عنه مستذكرين أنه معنا يرانا ويسمعنا: {وَمَا اللّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(32)، ويقول (عزَّ وجلَّ): {وَلِلّهِ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَتَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَمَا رَبُّكَ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ}(33)، ويقول: {وَلَقَدْ خَلَقْنَا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرَائِقَ وَمَا كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غَافِلِينَ}(34).

ولعله يمكن القول بأن من آثار عدم الغفلة -لا أقل عند المخلوقات فهذا أسلم من أن نقع في محذور التشبيه أو ما ماثل- أن يكون الحضور قويا فعالا، إذ الغافل غائب عن مواضع غفلته، وبعبارة أخرى هو مشغول في مكان يحجبه عن هذا المكان، أو في زمان يمنعه من هذا الزمان، أو في جهة تحول بينه وبين هذه الجهة، ولما لم تكن ذات الله (عزَّ وجلَّ) محلا للحوادث ولا معرضا للانفعال استوى كل شيء بالنسبة إليه، ولم يتفاوت عليه شيء، ولم يكن حضوره في شيء أقوى من حضوره في آخر، ولذلك نقول في دعائنا: «يا من لا يشغله سمع عن سمع، يا من لا يمنعه فعل من فعل، يا من لا يلهيه قول عن قول، يا من لا يغلطه سؤال عن سؤال، يا من لا يحجبه شيء عن شيء»(35).

الحث على هذا الخلق:

ختاما نجد القرآن يدعو الإنسان إلى التذكر والتضرع والخشية وما ماثلها من قيم أخلاقية ومن أهمها عدم الغفلة: {وَاذْكُر رَّبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَخِيفَةً وَدُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَالآصَالِ وَلاَ تَكُن مِّنَ الْغَافِلِينَ}(36).

الخلاصة

يتلخص من هذا البحث أن الدين العظيم، والقرآن الكريم على الخصوص ذكر من أخلاق الله (سبحانه وتعالى) الشيء الكثير مما يستحق الوقوف عنده والتأمل فيه، وأن احتذاء أخلاق الله (سبحانه وتعالى) خير طريق للإنسان الطالب للكمال، وبطبيعة الحال فإن كل كمال في الإنسان لا بد وأن يكون له منشؤه عند واهب الكمالات (سبحانه وتعالى)، وليس هذا من التشبيه وجعل الواجب في حد الممكنات، فهو (سبحانه وتعالى) مع كل شيء لا بمقارنة، وغير كل شيء لا بمزايلة.

نعم يبقى هذا البحث نواة لاستقصاء ما يمكن من أخلاق الله (سبحانه وتعالى) في القرآن الكريم، نسأل الله أن نوفق لذلك. والحمد لله رب العالمين.

المصادر والهوامش

  • (1) محمد باقر، المجلسي، بحار الأنوار ج58، 129.
  • (2)  السبزواري، ملا هادي، شرح الأسماء الحسنى ج2، 41.
  • (3)  الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير ج7، 72.
  • (4)  الميانجي، علي الأحمدي، مكاتيب الرسول ج2، 615.
  • (5)  الإمام الصادق (عليه السلام)، أبو عبد الله (عليه السلام)، مصباح الشريعة (المنسوب للإمام الصادق -عليه السلام-)، 158-159.
  • (6) الشعراء: 83.
  • (7) التين: 4-6.
  • (8) التين: 6.
  • (9)  صدر الدين الشيرازي، محمد، الحكمة المتعالية في الأسفار العقلية الأربعة ج2،ص20-22.
  • (10)  محمد باقر، المجلسي، بحار الأنوار ج58، ص129.
  • (11)  الصافي، لطف الله، مجموعة الرسائل ج2، ص453.
  • (12)  المازندراني، محمد صالح، شرح أصول الكافي ج9، ص372 الهامش.
  • (13)  الشعراء: 83.
  • (14)  الرازي، محمد بن عمر، التفسير الكبير ج7، ص72.
  • (15) الفاتحة: 1.
  • (16) البقرة: 207.
  • (17) طه: 36- 41.
  • (18) الجمعة: 1.
  • (19) البقرة: 209.
  • (20) البقرة: 269.
  • (21) البقرة: 40.
  • (22) التوبة: 111.
  • (23) المؤمنون: 8.
  • (24) البقرة: 47-48.
  • (25) البقرة: 65-66.
  • (26) آل عمران: 31.
  • (27) النساء: 106.
  • (28) آل عمران: 159.
  • (29) البقرة: 58.
  • (30) الأنعام: 160.
  • (31) البقرة: 67- 71.
  • (32) البقرة: 74.
  • (33) هود: 123.
  • (34) المؤمنون: 17.
  • (35)  دعاء الجوشن الكبير (90).
  • (36) الأعراف: 205.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى