ثقافة

إن تنصروا الله

قال الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾( 1).

المعركة بين الحقّ والباطل والكفر والإيمان كانت منذ فجر التاريخ ولا تزال مستمرّة. ومن الوعود الإلهيّة لعباده الصالحين أنّ ختام هذه المعركة لن يكون إلاّ بانتصار أهل الحقّ في مواجهتهم للباطل.

وهذه الوعود برزت في آياتٍ متعدّدة من كتاب الله تعالى، التي تحدّثت عن النصر كسنّة وقانون إلهي كتب الله تعالى على نفسه الالتزام به.

ومن الشواهد والقرائن العامّة الدالّة على أنّ النصر سنّة إلهيّة ما ورد عن النصر الذي منحه الله تعالى لبعض رسله والأمم السابقة كقوله تعالى: ﴿وَلَيَنصُرَنَّ اللَّهُ مَن يَنصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾( 2). ﴿كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَرُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ﴾(3 ).

وفي مجال آخر فإنّ هذا النصر المنسوب من العبد إلى ربّه لا يعني على الإطلاق حاجة القادر المتعال إلى نصرة أحد، فإنّه تعالى واجب الوجود غنيٌّ بالذات، والخلق محتاجون إليه كما قال تعالى: ﴿وَاللَّهُ الْغَنِيُّ وَأَنتُمُ الْفُقَرَاء﴾(4 ).

وبناءً على ذلك فإنّ المقصود من قوله تعالى: ﴿تَنصُرُوا اللَّهَ﴾ هو نصرة دينه، ونصرة نبيّه والأئمّة الأطهار (عليهم السلام)، فنصرتهم نصرة الله تعالى.

ويترتّب على نصرة العبد لله تعالى وفقاً للمعنى المتقدّم أن يتولّى الله تعالى نصرة عبده في جميع الحالات التي يحتاج فيها إليه، كما في موارد اليسر والعسر، والسرّاء والضرّاء، ويحفظه ممّا يُبعده عن رحمته من الأشر، والبطر، والطغيان، ونحوها من المهلكات، والموبقات.

النصر الإلهي
من المفاهيم المتداولة على ألسنة المؤمنين عند حلول النصر هو نسبة النصر إلى الله تعالى.

فما هو معنى كون النصر إلهيّاً؟!

والجواب: إنّ عقيدتنا وإيماننا بالله تعالى يقتضي ليس نسبة النصر وحده إلى الله، بل نسبة كل ما في عالم الوجود إليه تعالى، فالرزق والنصر والعلم وغير ذلك من الأمور هي بيد الله تعالى يؤتيها من يشاء من عباده.

ولذلك نراه تعالى ينسب في القرآن الكريم بعض النعم التي ينالها الإنسان إليه سبحانه: ﴿أَلَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُم مَّا فِي السَّمَاوَاتِ وَمَا فِي الْأَرْضِ وَأَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظَاهِرَةً وَبَاطِنَةً﴾(5 ).

والنصر من جملة النعم الإلهيّة التي يُمكن نسبتها إليه تعالى، وذلك حينما يكون تحقيق النصر بمعونته وقدرته، وطلب الإنسان منه ذلك.

﴿وَمَا جَعَلَهُ اللّهُ إِلاَّ بُشْرَى لَكُمْ وَلِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُم بِهِ وَمَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِندِ اللّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ﴾(6 ).

﴿وَأُخْرَى تُحِبُّونَهَا نَصْرٌ مِّنَ اللَّهِ وَفَتْحٌ قَرِيبٌ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ﴾(7 ).

وعندما يطلب الإنسان النصر لأجل الله وإعزاز دينه سيكون النصر نصراً إلهيّاً بكل ما للكلمة من معنى، وكانت كل قطرة بُذلت في سبيل الحصول عليه طاهرة ومقدّسة ليس فوقها برّ.

الإرادة الإلهيّة واختيار الإنسان
هناك سؤال آخر قد يدور في الذهن حول دور الإرادة الإنسانيّة في تحقيق النصر الإلهي، والذي يكون حسب ما تقدّم نتيجة للسنن والقوانين الإلهيّة.

فأين دور الإنسان وأين فاعليّته؟

بكلّ تأكيد نقول بأنه لا يوجد أيّ تعارض وتناقض بين حريّة الإنسان واختياره، وبين إرادة الله تعالى.

فالسنن الإلهيّة وبحسب تعبير الشهيد محمد باقر الصدر لا تجري من فوق رأس الإنسان بل تجري من تحت يد الإنسان، والله تعالى لا يغيّر ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم، وأن لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماءً غدقاً.

والله تعالى وإن كان هو المسبّب للنصر لدى الفئة المؤمنة فإنّه قد قدّر ذلك وفقاً لأسباب وشروط عديدة.

فما هي أسباب النظر من وجهة نظر القرآن الكريم.

أسباب النصر
وفقاً لما ورد في آيات الكتاب يمكن القول بأنّ أسباب النصر تتمحور في أمور ثلاثة:

السبب الأوّل: الماديّ:
وذلك من قبيل إعداد العدّة والاستعداد للحرب ومواجهة العدوّ. وهذا ما ورد في قوله تعالى: ﴿وَأَعِدُّواْ لَهُم مَّا اسْتَطَعْتُم مِّن قُوَّةٍ وَمِن رِّبَاطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدْوَّ اللّهِ وَعَدُوَّكُمْ وَآخَرِينَ مِن دُونِهِمْ لاَ تَعْلَمُونَهُمُ اللّهُ يَعْلَمُهُمْ وَمَا تُنفِقُواْ مِن شَيْءٍ فِي سَبِيلِ اللّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَأَنتُمْ لاَ تُظْلَمُونَ﴾(8 ).

يقول المفسّرون بأنّ هذه الآية نزلت بعد معركة بدر التي خرج إليها المسلمون دون أن يكونوا قد أعدّوا العدّة الكافية لها، فحذّرهم الله تعالى من العودة إلى ذلك ثانية.

ومن الأسباب الماديّة توفير العديد اللازم للحرب لما له من تأثير في توازن القوى بين المسلمين وبين العدوّ.

ومن هنا كان الأمر الإلهيّ بضرورة النفير للقتال ومواجهة المشركين، وذمّ المتخاذلين عن اللحاق بصفوف المسلمين، وهم القاعدون أو الخوالف.

قال تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفِرُواْ فِي سَبِيلِ اللّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَرَضِيتُم بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الآخِرَةِ… انْفِرُواْ خِفَافًا وَثِقَالاً وَجَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ﴾(9 ).

وركّز القرآن الكريم على مفهوم أساسي في العديد وهو الكمّ وليس الكيف. قال تعالى: ﴿قَالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُم مُّلاَقُو اللّهِ كَم مِّن فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللّهِ وَاللّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ﴾(10 ).

السبب الثاني: المعنوي
فالجانب المعنوي له الأثر الكبير في تحقيق النصر، وذلك من قبيل الإيمان، وبه يحصل للمقاتل الاطمئنان والسكون بالله المتعال، وربطت آيات الكتاب العزيز بين النصر والإيمان. قال تعالى: ﴿وَكَانَ حَقًّا عَلَيْنَا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ﴾(11 ).

وقال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنً﴾(12 ).

وصفة الإيمان هي أحد الأسس التي تُسقط العدد من الاعتبار وتعطي المؤمنين ميزة تجعل الواحد منهم يعادل عشرة من غيرهم. يقول تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتَالِ إِن يَكُن مِّنكُمْ عِشْرُونَ صَابِرُونَ يَغْلِبُواْ مِئَتَيْنِ وَإِن يَكُن مِّنكُم مِّئَةٌ يَغْلِبُواْ أَلْفًا مِّنَ الَّذِينَ كَفَرُواْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لاَّ يَفْقَهُونَ﴾(13 ).

وكما أنّ الإيمان يؤثّر في تحقيق النصر كذلك العمل الصالح الذي لا بدّ أن يكون صادراً قبل النصر وبعده.

قال تعالى: ﴿وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُم فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِن قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُم مِّن بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنً﴾(14 ).

وبالإضافة إلى هذه العناصر يحتاج النصر إلى ثبات وتوكّل وثقة بالله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اصْبِرُواْ وَصَابِرُواْ وَرَابِطُواْ وَاتَّقُواْ اللّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ﴾(15 ).

السبب الثالث: المدد الغيبي
وهو المدد الإلهيّ الذي يتحقّق من خلال المساعدة والواسطة الخفيّة من الله تعالى لعباده ليحقّق لهم النصر، وهو السبب الأوّل والأخير في ذلك، ولا بدّ فيه من التوجّه بالقلوب إلى الله والتعلّق به سبحانه بحيث لا ننسى أنه لا مؤثّر في الوجود إلاّ الله.

والمدد الإلهيّ والغيبي له مصاديق وأنواع متعدّدة منها:
1- السكينة: ﴿وَيَنصُرَكَ اللَّهُ نَصْرًا عَزِيزًا * هُوَ الَّذِي أَنزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدَادُوا إِيمَانًا مَّعَ إِيمَانِهِمْ﴾
( 16). ﴿فَأَنزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَأَثَابَهُمْ فَتْحًا قَرِيبً﴾( 17)

2- قذف الرعب في قلوب الأعداء:
 ﴿إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلآئِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُواْ الَّذِينَ آمَنُواْ سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُواْ الرَّعْبَ فَاضْرِبُواْ فَوْقَ الأَعْنَاقِ وَاضْرِبُواْ مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ﴾(18 ).

3- تثبيت الأقدام:
 ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِن تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ﴾(19 ).

4- إنزال الملائكة: ﴿إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُم بِأَلْفٍ مِّنَ الْمَلآئِكَةِ مُرْدِفِينَ﴾
(20 ).

وغير ذلك من أسباب المدد الإلهي للمجاهدين في سبيل الله.

وفي الختام نورد كلاماً لأمير المؤمنين (ع) يتحدّث فيه عن الأسباب الماديّة والمعنويّة للنصر حيث يقول: «تزول الجبال ولا تزُلْ! عَضَّ على ناجذك، أعر الله جُمْجُمَتَك، تِد في الأرض قَدَمك، إرمِ ببصرِك أقصى القوم، وغُضَّ بَصَرَك، واعلم أنَّ النصر من عند الله سبحانه»(21 ).


المصادر والمراجع

1- سورة محمد، الآية: 7.
2- سورة الحج، الآية: 40.
3- سورة المجادلة، الآية: 21.
4- سورة محمد، الآية: 38.
5- سورة لقمان، الآية: 20.
6- سورة آل عمران، الآية: 126.
7- سورة الصف، الآية: 13.
8- سورة الأنفال، الآية: 60.
9- سورة التوبة، الآية: 38 – 41.
10- سورة البقرة، الآية: 249.
11- سورة الروم، الآية: 47.
12- سورة النور، الآية: 55.
13- سورة الأنفال، الآية: 65.
14- سورة النور، الآية: 55.
15- سورة آل عمران، الآية: 200.
16- سورة الفتح، الآية: 3 – 4.
17- سورة الفتح، الآية: 18.
18- سورة الأنفال، الآية: 12.
19- سورة محمد، الآية: 7.
20- سورة الأنفال، الآية: 9.
21- نهج البلاغة، الخطبة: 11.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى