ثقافة

انعكاسات التكليف في درجات التشيع

 مقدمة:

التشيّع كان ولا يزال يعبّر عن جدليّة واسعة بين المسلمين، وذلك في حقيقة تصنيفه، وطريقة فهمه، وعمق إدراك آثاره، ونحن إذ نتشيّع لأهل البيت، لا بدّ لنا من أن نتلّقى مذهب التشيّع على نحو واضح جليّ من الفهم، بعيدٍ عن المشوشات، منفصل عن الدخائل، مصفّىً من الشوائب، متدارَكٍ من النّواقص؛ ذلك أنّ الآثار المترتبة على معرفة حقيقة التشيّع -من ناحية المستوى- هي آثار مختلفة، تتّبع درجة التلقّي هذا المذهب المقدّس، وباعتبار أنّنا حين نتكلم عن التشيّع إنّما نتكلم عن العقيدة، فهذا يعني أنّ المصائر في الدنيا والآخرة كلّها مترتّبة على كيفيّة تلقّي هذا المذهب، ثم على كيفيّة جعلها ذات أثر عمليّ يتضح في انعكاساتها على مختلف المجالات.

ومن أجل تحقيق هذا الهدف، دعوني أتكلّم عن التشيّع استفادةً من حدث عاشوراء الحسين، وذلك في ثلاث نقاط رئيسيّة:

الأولى: تمهيد في معنى التشيّع لغةً، واصطلاحاً.

الثانية: في ذكر بيان موجز لدرجات التشيّع، وسير هذا المفهوم تاريخياً.

الثالثة: في بيان علاقة المحسوبين على الشيعة بالحسين، وما أفرزته طبيعة هذه العلاقة عند الفئات المختلفة.

أوّلاً: معنى التشيع

أمّا معناه لغةً، فقد قال ابن منظور: “وقد غلَب هذا الاسم على من يَتَوالى عَلِيّاً وأَهلَ بيته، رضوان الله عليهم أَجمعين، حتى صار لهم اسماً خاصّاً، فإِذا قيل: فلان من الشِّيعة. عُرِف أنّه منهم. وفي مذهب الشيعة كذا. أَي: عندهم. وأَصل ذلك من المُشايَعةِ، وهي المُتابَعة والمُطاوَعة؛ قال الأَزهريّ: والشِّيعةُ قوم يَهْوَوْنَ هَوى عِتْرةِ النبيّ، ويُوالونهم”([1]).

وأمّا معناه الاصطلاحيّ، فقد اختُلف في تحديده سعةً وضيقاً، مع الاتفاق على جنس التعريف، وهو: من قدّم عليّاً بعد النبيّ بلا فصل. ومع التتبع يظهر أنّ الخلاف في تحديد مفهوم التشيّع يكمن في القيد المضاف إلى هذا الجنس العام للتعريف، فمنهم من لم يقيّده، وجعله مطلقاً، فشمل مفهوم الشيعة بذلك كلّ من والى عليّاً بعد النبيّ مباشرةً، بغضّ النظر عمّن يأتي بعده من أئمّة. هل آمن بهم أجمع، أم بشكل ناقص، أم بشكل زائد، فشمل بذلك التشيّع كل الفرق المنسوبة إلى الشيعة في الملل والنّحل، والتي تلتقي في الجذر السابق.

ومنهم من أضاف قيداً زائداً على هذا الجذر، فيشمل به بعض تلك الفرق دون غيرها، وهكذا تختلف المصاديق الداخلة في التعريف بحسب القيد، ولكنّ فرقة الإماميّة الاثني عشريّة، والمسمّاة بالجعفريّة، لا شكّ في أنّهم الفرقة الوحيدة التي تبقى داخلة في مفهوم التشيّع حتى آخر قيد يُضاف.

قال المقداد السيوري في التنقيح: “للناس في تفسير التشيع أقوال:

1- قال الفخر الرازي: الشيعة جنس تحته أربعة أنواع: الإماميّة، والزيديّة، والغلاة، والإسماعيليّة. وهو بمعزل عن التحقيق؛ لأنّ الغلاة والإسماعيلية خارجون عن الإسلام فضلاً عن التشيع، وكذا الصالحيّة والسليمانيّة من الزيديّة؛ لاعتقادهم خلافة الشيخين، ليس لهم في التشيّع نصيب.

2- أنّه اسم لمن شايع عليّاً في الإمامة بغير فصل، وقد جعلهم ابن نوبخت هم المسلمين، وكمل منهم الفرق الثلاث والسبعين.

3- أنّه اسم للإماميّة والجاروديّة [فرقة من الزيديّة] لا غير، وهو قول الشيخين، وسلّار، والقاضي، وابن حمزة، واختاره المصنّف والعلامة.

4- والذي يظهر أنّ التشيع لا يُطلق في الحقيقة إلّا على الإماميّة”([2]).

وهذا الرأي الأخير هو المنصرف الآن من اصطلاح الشيعة، فهم خصوص الإماميّة، ممّن التزم بالتشيّع كاملاً، أصولاً وفروعاً، أمّا من أخلّ بشيء من أركان أصولها، أو ضروريات فروعها، فليس شيعيّاً.

ثانياً: السير التاريخي للتشيع، ودرجاته

ورغم وضوح اصطلاح التشيّع في هذا العصر، إلّا أنّه -بمتابعة السير التاريخي لهذا المصطلح- يتضح جليّاً أنّ التشيّع في مرحلة التلقّي -لا مرحلة الواقع- لم يكن بهذا الوضوح بلا شكّ، ويمكن لنا أن نختصر درجات التشيّع ببيانها من زاويتين:

الزاوية الأولى: الدرجات المعرفية للتشيع

والمقصود من ذلك: درجات تلقّي مضمون التشيّع كعقيدةٍ بما يترتّب عليها من امتدادات واسعة عقائديّة، وفقهيّة، وأخلاقيّة، وغير ذلك، فتلقّي التشيّع بهذا النّمط الواسع وإن كان حاصلاً في زمن النبيّ من بعض أصحابه، كسلمان، وأبي ذر، وعمار، والمقداد، إلّا أنّه لم يكن ظاهرةً واضحة المعالم تنتشر في صدور جمع معتدٍّ به من الصحابة، نعم، قد انتشر التشيّع لعليّ بنحوٍ واسع منذ رحيل رسول الله على المستوى السياسيّ، والاجتماعيّ، لا العقائديّ، والمعرفيّ، والفقهيّ، فكان هوى الكثيرين مع عليّ بهذا المعنى، وقد عدّهم بعض المحقّقين بما يزيد على المائة اسم، قال مغنية في (الشيعة في الميزان): “ذكر السيّد حيدر الآمليّ في كتاب (الكشكول فيما جرى على آل الرسول) أكثر من مائة صحابيّ كانوا يتشيّعون لعليّ بن أبي طالب، ويحفظون الأحاديث التي سمعوها من النبيّ في الولاية، وينشرونها في الأمصار الإسلاميّة”([3])، بل عدّهم الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء في كتابه: (أصل الشيعة وأصولها) إلى قرابة ثلاثمائة صحابيّ للنبيّ، فقال: “ولكن يخطر على بالي أنّي جمعت ما وجدته في كتب تراجم الصحابة -(كالإصابة)، و(أسد الغابة)، و(الاستيعاب)، ونظائرها- من الصحابة الشيعة زهاء ثلاثمائة رجل من عظماء أصحاب النبيّ، كلّهم من شيعة عليّ، ولعلّ المتتبّع يعثر على أكثر من ذلك”([4]).

قال مغنية: “قال الدكتور طه حسين في كتاب (عليّ وبنوه): عظم أمر الشيعة في الأعوام الأخيرة من حكم معاوية، وانتشرت دعوتهم أيّ انتشار في شرق البلاد الإسلاميّة، وفي جنوب بلاد العرب، ومات معاوية حين مات وكثير من الناس -وعامّة أهل العراق بنوع خاصّ- يرون بغض بني أميّة، وحبّ أهل البيت لأنفسهم ديناً”([5]).

والحاصل: إنّ التشيّع من حيث الواقع كان هو بعينه منذ بعثة النبيّ، حيث اقترن بدعوة النبيّ من قوله تعالى: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ}([6])، وقد تلقّاه كذلك بعض الخلّص من الأصحاب، فعن سلمان الفارسيّ ما يبيّن وضوح التشيّع عنده في مستواه المعرفيّ العميق، إذ جاء في الخبر: “كان سلمان الفارسيّ يحدّث الناس، ويقول: بايعنا رسول الله على النّصح للمسلمين، والائتمام بعليّ بن أبي طالب، والموالاة له. وقال: إنّ عند عليّ علم المنايا والوصايا، وفصل الخطاب، وقد قال له رسول الله: أنت وصيّي، وخليفتي في أهلي بمنزلة هارون من موسى. أما والله لو ولّيتموها عليّاً لأكلتم من فوقكم، ومن تحت أرجلكم”([7]). وهكذا جاء عن عمّار ما يُأصّل إلى التشيّع في الجانب السياسيّ والاجتماعيّ: “يا معشر قريش ويا معشر المسلمين، إنّ أهل بيت نبيّكم أولى به، وأحقّ بأثره، وأقوَم بأمور الدين، وأحفظ لملّته، وأنصح لأمّته، فرُدّوا الحقّ إلى أهله قبل أن يضطرب حبلكم، ويضعف أمركم، ويظهر شتاتكم، وتعظم الفتنة بكم، ويطمع فيكم عدوّكم، فقد علمتم أنّ بني هاشم أولى بهذا الأمر منكم، وعليّ أقرب إلى نبيّكم، وهو من بينكم وليّكم بعهد الله ورسوله”([8])، وكذا عن أبي ذر جاء الجانب العقائديّ الاحتجاجيّ: “إنّ عليّاً هو الصدّيق الأكبر، وهو الفاروق بعد رسول الله، يفرق بين الحقّ والباطل، وهو يعسوب الدين”([9])، ومثله المقداد.

وبقي التشيّع في صدور البعض بصورته المتكاملة في صدور البعض من خلّص الشيعة فقط، يتناقلونه بفهم واسع عميق مروراً بزمان الصادقَيْن إلى يومنا هذا، بينما المعروف الشائع من التشيّع آنذاك -في عهد النبيّ وما بعده حتى زمان الصادقَين- هو: أن يكون الهوى السياسيّ والاجتماعيّ مع أهل البيت، وكذلك المحبّة العامّة، والعاطفة الواسعة، التي لا ترتكز على مضامين عقائديّة مميّزة، وهذا بطبيعة الحال يوجب شيئاً من الخلط والتشويش الذي قد يُنتج:

1- محبّتهم إلى جنب محبّة غيرهم من أعدائهم.

2- أو يوجب الرجوع -في طلب شرعيّة حراك هنا أو هناك- إلى مصداق خاطئ من الهاشميين.

3- أو يوجب طاعة بعض وجهاء العلويّين بما يعارض طاعة الإمام المعصوم منهم، فيُعامل هذا كهذا.

وهكذا، يقول مغنية في (الشيعة في الميزان): “فالدعوة إلى التشيّع في هذا القرن كانت بسيطة ساذجة، تماماً كالدعوة الإسلاميّة في هذا العهد، لا فلسفة فيها، ولا شيء سوى حجج القرآن، والسنّة النبويّة التي قبلها المسلمون الأولون، وآمنوا بها بدون جدال وتعليل وتأويل، ولا تعمّق في الشروح والتفاصيل، ولم يكن في هذا الدور فقه يعرف بفقه الشيعة، وآخر يعرف بفقه السنة، ولذا لم يظهر أي فرق بين الشيعة وغيرهم إلّا في مسألة الخلافة، وإمارة المؤمنين، وكان الشيعة في هذا الدور يُعرفون بالتقوى والزهد، ومناهضة الظلم والظالمين، ومن هنا لاقوا من حكام الجور ألواناً من التقتيل والتنكيل”([10]).

ثمّ انتقل التشيّع على مستوى التلقّي العامّ إلى مرحلة جديدة منذ عهد الصادقَيْن، هكذا إلى عهد الشيخ المفيد، اتضحت فيه معالمه أصولاً وفروعاً، وامتازت فيه فرقة الجعفريّة بنحو تقدّم على جميع المذاهب، وصار له حضوره الفاعل في المنتديات العلميّة، والبحثيّة، بل وصل إلى درجة صار له فيها حضوره المفروض حتى على الساحة السياسيّة العامّة، ثمّ انتقل من عصر المفيد إلى عصر العلامة الحلّيّ إلى مرحلة جديدة، وهي مرحلة التحقيق الواسع المفصّل، التي برزت فيها العقيدة والفقه بانتقالات نوعيّة تراكميّة، لا زلنا نعيش أثرها اليوم، ونبني عليها ما وصل إليه التشيّع اليوم من بروز وتميّز، حتى وصل إلى أوج نضجه حسب ما جاءنا لحدّ الآن من أهل البيت، وسينتقل التشيّع إلى مستوى أعلى من الفهم في عصر الإمام الحجّة وما بعده من عصر الأئمة في الرجعة كما يُفهم من بعض الروايات وهذا ما يحتاج إلى تفصيل لست بصدده فعلاً.

قال مغنية في (الشيعة في الميزان): “نستطيع أن نقسّم الدعوة إلى التشيّع باعتبار الأدلّة التي كان يعتمدها الدعاة إلى ثلاثة أدوار: ويبدأ الدور الأوّل بوفاة الرسول، وينتهي بانتهاء العصر الأمويّ. ويبدأ الثاني بعهد الإمام الصادق، أي بأوّل العهد العباسي، ويمتدّ إلى عصر الشيخ المفيد المتوفى سنة 413 ه‍، وينتهي هذا الدور بالعلّامة الحلّيّ (ت 726 ه‍) الذي وضع أجوبة الشبهات، ونقضها بشتى أنواعها في وضعها النهائيّ، ولم يدع فيها زيادة لمن جاء بعده”([11]).

وقال السيد محسن الأمين: “وعن كتاب الزينة -تأليف أبي حاتم سهل بن محمّد السجستانيّ المتوفى سنة 205 ه‍- أنّ لفظ الشيعة على عهد رسول الله كان لقب أربعة من الصحابة: سلمان الفارسي، وأبي ذر، والمقداد بن الأسود، وعمار بن ياسر. ا ه. ثم بعد مقتل عثمان وقيام معاوية وأتباعه في وجه عليّ، وإظهاره الطلب بدم عثمان، واستمالته عدداً عظيماً إلى ذلك، صار أتباعه يُعرفون بالعثمانيّة، وهم من يوالون عثمان، ويبرؤون من عليّ. وصار أتباع عليّ يُعرفون بالعلويّة، مع بقاء إطلاق اسم الشيعة عليهم، واستمر ذلك مدّة ملك بني أميّة، وفي دولة بني العباس نسخ اسم العلوية والعثمانية، وصار في المسلمين اسم الشيعة، واسم السنّة إلى يومنا هذا”([12]).

إذاً الخلاصة: إنّ التشيّع قد تُلُقّي بعمقه من بعض الأصحاب، أمّا على المستوى العام، فلم يكن سوى فهم أحقيّة على المستوى السياسيّ والاجتماعيّ فقط، أو عاطفة ومحبّة عامّة لا ترتكز على أسس عقائديّة متكاملة، ثم نضج الفهم جيلاً بعد جيل، حتى وصل إلى شكله الحاليّ العميق، وسيتعمّق أكثر وأكثر في عصر الإمام الحجّة وما بعده.

الزاوية الثانية: الدرجات القلبيّة للتشيّع

والمقصود من هذه الزاوية: تلقّي التشيّع كعقيدة قلبيّة، تلقي أثرها السلوكي والتطبيقي، فهذه لا شكّ في أنّها درجات منذ عهد النبيّ وإلى يومنا هذا، وقراءة الروايات التي تفاضل بين الأركان الأربعة للتشيّع منذ عهد النبيّ تفيد ذلك، وها هنا جملة من الروايات التي تدلّل على أنّ التشيّع من هذه الناحية درجات، تؤثّر في طبيعة الأثر الناتج عنها:

الرواية الأولى: في التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري: >قال رجل للحسين بن عليّ: يا ابن رسول الله، أنا من شيعتكم. قال: اتّقِ الله، ولا تدّعيَنِّ شيئاً يقول الله لك: كذبت وفجرت في دعواك. إنّ شيعتنا من سلمتْ قلوبهم من كلّ غشٍّ، وغلٍّ، ودَغل، ولكن قُل: أنا من مواليكم، ومن محبّيكم<([13]).

الرواية الثانية: في (صفات الشيعة) للصدوق قال: >عن الإمام الصادق -لمفضل بن قيس-: كم شيعتنا بالكوفة؟ قال: قلت: خمسون ألفاً. فما زال يقول حتى قال: ترجو أن يكونوا عشرين؟! ثم قال: والله لوددت أن يكون بالكوفة خمسة وعشرون رجلاً يعرفون أمرنا الذي نحن عليه، ولا يقولون علينا إلّا الحقّ<([14]).

الرواية الثالثة: في (الخصال) للشيخ الصدوق: عن الصادق: >امتحنوا شيعتنا عند ثلاث: عند مواقيت الصلاة كيف محافظتهم عليها، وعند أسرارهم كيف حفظهم لها عند عدونا، وإلى أموالهم كيف مواساتهم لإخوانهم فيها<([15]).

الرواية الرابعة: في الكافي الشريف: عن أبي مريم، عن أبي جعفر قال: >قال أبي يوما وعنده أصحابه: من منكم تطيب نفسه أن يأخذ جمرةً في كفّه فيمسكها حتى تطفأ؟ قال: فكاع الناس كلّهم ونكلوا، فقمت وقلت: يا أبة، أتأمر أن أفعل؟ فقال: ليس إيّاك عنيت، إنّما أنت منّي وأنا منك، بل إياهم أردت. وكررها ثلاثاً، ثم قال: ما أكثر الوصف، وأقلّ الفعل، إنّ أهل الفعل قليل، إنّ أهل الفعل قليل، ألا وإنّا لنعرف أهل الفعل والوصف معاً، وما كان هذا منّا تعامياً عليكم، بل لنبلو أخباركم، ونكتب آثاركم. فقال: والله لكأنّما مادت بهم الأرض حياءً مما قال، حتى أنّي لأنظر إلى الرجل منهم يرفض عرقاً ما يرفع عينيه من الأرض، فلما رأى ذلك منهم قال: رحمكم الله، فما أردت إلا خيراً، إنّ الجنّة درجات، فدرجة أهل الفعل لا يدركها أحد من أهل القول، ودرجة أهل القول لا يدركها غيرهم. قال: فوالله لكأنّما نشطوا من عقال<([16]).

الرواية الخامسة: في الكافي أيضاً: عن موسى بن بكر الواسطيّ قال: قال لي أبو الحسن: >لو ميّزتُ شيعتي لم أجدهم إلا واصفة، ولو امتحنتُهم لما وجدتُهم إلا مرتدّين، ولو تمحصتُهم لما خلص من الألف واحد، ولو غربلتُهم غربلةً لم يبقَ منهم إلّا ما كان لي، إنّهم طال ما اتّكوا على الأرائك، فقالوا: نحن شيعة عليّ. إنّما شيعة عليٍّ من صدّق قولَه فعلُه<([17]).

ومع هذه الإطلالة في بيان درجات التشيع معرفةً وسلوكاً، يتضح أنّ ليس كلّ تشيّع يكون فعّالاً، ومؤدّياً إلى النتيجة المرضيّة لديهم، وهذا يعني أنّ مجرّد ادعاء التشيّع معرفةً لا يكفي في كثير من المواطن، وإن نفع أحياناً -بطبيعة الحال- في الإنجاء العامّ من النار، وإن عبّر عن العقيدة الحقّة، ولكنْ، تبقى هذه خطوة، ينبغي أن تتبعها خطوات في التعمق في التشيّع، والانتساب إليها علماً، ومعرفةً، قلباً، وعملاً، وإلّا فإنّ تمكين الأئمّة من الوصول إلى موقعهم الصحيح لا يعتمد على مستوى الادعاء العقديّ فقط، بل إنّه يحتاج أيضاً إلى إضافة المستوى الثاني، وهو: أنّ تُتبع العقيدة بالفعل، والعمل، ويمكن القول بأنّ ما وقع فيه الأئمّة منذ عهد عليّ إلى يومنا هذا من تغيّب الإمام الحجّة، يرجع حقيقةً إلى سبب واحد فقط، وهو: أنّه لا يوجد عدد كاف من الشيعة الحقيقيين الذين يتكئ عليهم الأئمّة ليتوصّلوا إلى موقعهم الصحيح الذي رتّبهم الله فيه، بحيث يكون هؤلاء الشيعة قد شفّعوا مستوى العقيدة والفكر الشيعيّ بمستوى السلوك، والتطبيق، والعمق، والتلقّي القلبيّ الحقيقيّ لهذا المذهب.

ثالثاً: الشيعة وما أفرزه تشيعهم تجاه الحسين

والسؤال العام هنا: ما هي علاقة الشيعة بثورة الحسين؟ هل كانوا ناصرين؟ أم كانوا خاذلين؟ أم كانوا قاتلين؟

والجواب العامّ هو: لقد شارك الشيعة -بالمعنى العام- في ثورة الحسين بهذه الأمور طرّاً! فمنهم من نصر، ومنهم من خذل، ومنهم من قُتل! وربما يكون هذا الكلام صادماً بعض الشيء، ولذلك فإنّه يحتاج إلى توضيح من جهتين:

الجهة الأولى: إثبات شموليّة المشاركة في الأمور الثلاثة:

أمّا المشاركة بالنّصرة: فهي واضحة، إذ قُتل مع الحسين تشيّعاً له، وحبّاً فيه، واعتقاداً بإمامته، جمع من الشيعة الخلّص، الذين ذابوا في الحسين عقيدةً، ومحبّةً، ورأوا ذلك ديناً، وجنّةً، منهم من قُتل قبله، ومنهم من قُتل معه، ومنهم من قُتل بعده.

وأما المشاركة بالخذلان: فهي واضحة أيضاً، وقد جاء في مصادر عديدة: “حتّى إذا انتهى إلى زبالة، سقط إليه خبر مقتل أخيه من الرّضاعة عبد الله بن يقْطر، فأخرج للناس كتاباً فقرأ عليهم: >بسم الله الرحمن الرحيم، أمّا بعدُ، فقد أتانا خبر فظيع، قتل مسلم بن عقيل وهاني بن عروة وعبد الله بن يقطر، وقد خذلتنا شيعتنا<([18]).

ويمكن أن نأخذ تصوّراً عن عدد هؤلاء من ثورة التوّابين؛ لأنّ بعض المشاركين فيها كانوا من هذا الصنف، وتشير النقولات إلى أنّ قوامهم النهائيّ كان 3300 رجل، وقد كانوا أكثر من ذلك بكثير، إلّا أنّهم أعادوا الكرّة في التخاذل!

وأما المشاركة بالقتل: فقد جاء في الاحتجاج للطبرسيّ عن السجاد: >إن هؤلاء يبكون علينا! فمن قتلنا غيرهم؟!<([19])، وفي أماليّ الشيخ المفيد عن السيّدة زينب: >ويلكم أتدرون أيّ كبد لمحمّد فريتم؟! وأيّ دم له سفكتم؟! وأيّ كريمة له أصبتم؟! لقد جئتم شيئاً إدّاً، تكاد السماوات يتفطّرن منه، وتنشق الأرض، وتخرّ الجبال هدّاً<([20]). وفي كلامهماr تصريح واضح في تحميل مسؤوليّة القتل لهؤلاء، ممّن كان يُحسب على أهل البيت، وممّن كتبوا للحسين.

وقد ذكر البلاذريّ أنّ مجموعة ممّن كانوا في معسكر ابن سعد، كانوا يبكون ويدعون: “اللّهم أنزل نصرك على ابن بنت نبيك”! ([21])

الجهة الثانية: في بيان وجه شموليّة المشاركة

وأمّا وجه مشاركة من يُحسب على الشيعة في أنواع المشاركات الثلاث بنحو شامل، رغم أنّهم مشتركون في الاعتقاد بمحبّة الحسين، وبأحقّيّته، وشرعيّته خاصّةً، فقد اتضح مما ذكرناه في النّقطة الثانية، ففي عهد الحسين، التشيّع السائد كان يعاني من نقص من الناحية العقائديّة في جهة التلقّي، فضلا عن النقص الفاحش في التشيّع من الناحية القلبيّة، وقد تبيّن أن مجرّد التفاعل العاطفيّ، والاعتقاد الأوّليّ الساذج، لا يكفي في صنع المواقف، وأنّ الادعاء والانتساب إلى أهل البيت، قد يوصل الإنسان إلى ألّا ينتفع حتى بعقيدته الأوّليّة تلك، إذا ما أخلّ بمتطلّباتها الأساسيّة، وقد يصل به الحال حينئذٍ إلى أن يخذل إمامه، أو حتى أن يشارك في تكثير السواد عليه، بل وقتله، وترويع عياله، حبّاً للدنيا، وركونا إليها.

وقد ذكر الشيخ باقر شريف القرشيّ في كتابه حياة الإمام الحسين في توصيف بعض من انتسب إلى الشيعة آنذاك: “ولكنّهم لم يبذلوا أيّ تضحية تذكر لعقيدتهم، فقد كان تشيّعهم عاطفيّاً لا عقائديّاً، وقد تخلّوا عن مسلم وتركوه فريسةً بيد الطاغية ابن مرجانة، ويروي البلاذريّ أنّهم كانوا في كربلاء، وهم ينظرون إلى ريحانة رسول الله، وقد تناهب جسمه الشريف السيوف والرماح، فكانوا يبكون، ويدعون الله قائلين: اللهم أنزل نصرك على ابن بنت نبيك. فانبرى إليهم أحدهم، فأنكر عليهم ذلك الدعاء، وقال لهم: هلّا تهبّون إلى نصرته بدل هذا الدعاء؟! وقد جرّدهم الإمام الحسين من إطار التشيّع، وصاح بهم: يا شيعة آل أبي سفيان<([22]).

فهؤلاء في نظر الحسين ليسوا شيعةً، وإن كانوا يدّعون ذلك، فإنّ التشيّع الحقيقيّ ليس قولاً فقط، وليس رأياً فقط، بل هو فعل، وصدق، وحزم، ورأي سديد، وورع، وأمانة، وجد، واجتهاد، هكذا وصف الأئمّة شيعتهم الحقيقيّين في أحاديث كثيرة، ولذلك قال الشيخ القرشيّ: “والحقّ أنّ الشيعة بالمعنى الصحيح لم تكن إلا فئة نادرة في ذلك العصر”([23])  .

والنتيجة: أنّه لا بدّ من تنقيح ما نحن عليه من تشيّع، وإلّا لم نفرق عن أهل الكوفة شيئاً..

فقد سرى الخذلان في عروقهم، وأول ما بانت علامات ونتائج هذا الخذلان في وجه سفير الحسين، حيث اجتمع عنده 18 ألف مبايعا، وكان العدد في تزايد، حتى أوصله بعضهم إلى 40 ألفا! وإذا بسيد الكوفة ينحدر من قمّة الغلبة، إلى هاوية الهزيمة، وذلك بخذلان أهل الكوفة إليه!!

ولقد أبى مسلم إلّا أن يواسي الحسين في مصيبته، وأن يحاكيه في رزيّته، فصحيح أنّه لم يكن معه في كربلاء، فكانت تلك حسرة في قلبه الشريف، إلا أنّ الله تعالى قد اختار له شهادةً كشهادة الحسين، تماشت معها في كلّ تفاصيلها..

المصادر والهوامش

  • ([1]) لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص189.
  • ([2]) التنقيح الرائع لمختصر الشرائع، المقداد السيوري، ج3، ص317.
  • ([3]) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد مغنيّة، ص29.
  • ([4]) أصل الشيعة وأصولها، كاشف الغطاء، ص145.
  • ([5]) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد مغنيّة، ص101.
  • ([6]) الشعراء: 214.
  • ([7]) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد مغنيّة، ص26.
  • ([8]) الاحتجاج، الطبرسي، ج1، ص102.
  • ([9]) الدرجات الرفيعة في طبقات الشيعة، الشيرازي، ص239.
  • ([10]) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد مغنيّة، 106.
  • ([11]) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد مغنيّة، ص20.
  • ([12]) أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج1، ص18.
  • ([13]) التفسير المنسوب إلى الإمام العسكري، ص309.
  • ([14]) صفات الشيعة، الشيخ الصدوق، ص14.
  • ([15]) الخصال، الشيخ الصدوق، ص103.
  • ([16]) الكافي، الكليني، ج8، ص228، ح289
  • ([17]) نفس المصدر، ح290.
  • ([18]) الإرشاد، الشيخ المفيد، ج2، ص75.
  • ([19]) الاحتجاج، الشيخ الطبرسي، ج2، ص29.
  • ([20]) الأمالي، الشيخ المفيد، ص323.
  • ([21]) حياة الإمام الحسين، الشيخ باقر شريف القرشي، ج2، ص442.
  • ([22]) نفس المصدر.
  • ([23]) نفس المصدر.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى