ثقافة

المقتضيات الموضوعية للتحريف ودلالة مواقف أمير المؤمنين (ع)

المقدمة

تعتبر مسألةُ حفظ القرآن الكريم من يدِ التلاعب والتحريف من أهمِّ المسائل في الدراسات القرآنية وعلوم القرآن، وتبتني عليها كثيرٌ من الأبحاث، وهي في نفس الوقت مسألةٌ عقديةٌ حسَّاسةٌ عند جميع المسلمين.

وقد ذُكرتْ أدلّةٌ كثيرةٌ من القرآن والسنَّة على عدم وقوع التحريف، وفي هذا البحث المختصر نريد أنْ نتطرَّق إلى دليل مبثوث في الكلمات ([1])، ولكنَّه لم يأخذ حقَّه من التَّحقيق والبحث الموسَّع، وهو موقف أمير المؤمنين من هذه المسألة، والذي هو المسؤول الأوَّل عن حفظِ الشريعة بعد رحيل الرسول|، فهل يمكن الاستدلال على عدم وقوع التحريف من خلال موقفه أم لا؟

ورأينا خلال البحث أنَّ هناك مسألة لا تقلُّ أهمية عن دلالة موقف الأمير في نفي التحريف، وهي تعتبر بمثابة المقتضي للتحريف، وهي الإمكانات المتوفِّرة عند مريدي التحريف، وقدرتهم على ذلك في ظلِّ الوضعِ القائم آنذاك، فهل كان للخلفاء القدرة والظروف المناسبة للقيام بهذه الخطوة الخطيرة، أم لا؟

وحينئذٍ يكون الكلامُ حول ذلك هو كلام حول المقتضي للتحريف، والكلام عن موقف أمير المؤمنين هو كلام عن المانع من وقوع التحريف أو المبيِّن والفاضح لمريدي التحريف.

وسوف نحاولُ بيان النقطتين معاً بما أمكن -رغم قلَّة الباع-، بما يمكنُ أنْ يكونَ بمثابةِ المدخل والتمهيد للتوسُّع أكثر في هذا الدليل وأشباهه، وقد نذكر في الأثناء ما يعضده من مواقف الصحابة، خصوصا الحُفَّاظ منهم.

وللوصول إلى نتيجة هنا، لا بدَّ من ملاحظة الظروف التي عاشها أميرُ المؤمنين، وكذلك أهداف المحرِّفين على فرض وقوعه، ثمَّ موقف الأمير ممَّا حصل، ثمَّ الوصول إلى النتيجة في وقوع التحريف من عدمه.

ولهذا نقسم البحث في عدَّة محاور أربعة:

المحور الأول: معنى التحريف مورد البحث

لقد نُقِلَ الإجماع على عدم وقوع التحريف بالنسبة للزيادة؛ فما هو موجود كلُّه قرآن قطعاً، وإنّما وقع الخلاف في النّقيصة، فهل ضاعَ شيءٌ من القرآن أو حذف تعمَّداً أو لا ([2])؟

وهنا لا بدَّ من إخراج تعدُّد القراءات من مسألة التحريف حيث الاتِّفاق على تعدّدها بين المسلمين، ومع ذلك فهم ينفون التحريف، والقدر المتيقَّنُ في مسألة القراءات واختلافها هو الحركات وكيفية نُطْقِ الكلمات؛ فإنَّها -حتى مع العلم بوقوعها- لا تعتبر تحريفاً مع حفظ الهيئة القرآنية للكلمات، وأمّا تغيير كلمة بأخرى فالمفترض أنَّه داخل في التحريف؛ لأنَّ فيه حذفاً للكلمة الأصلية وزيادة لكلمة أخرى، وكذلك نقصانُ كلمةٍ بتمامِها فضلاً عن جملة فهو يعدُّ تحريفاً.

ويمكن أن يقال: بأنَّه على فرضِ وجود قراءات فيها زيادة كلمات أو تغييرها جوهرياً لا يؤثِّر في الأمر؛ لأنَّ النّصَّ الواصل إلينا إذا اعتقدنا أنَّه هو النّصُّ النازل -حتى مع فرض عدم صحَّة القراءة المتداولة وهي قراءة حفص عن عاصم- فهو يكفي للقول بحفظ القرآن وعدم تحريفه، وإلا فمجرَّد وجود قراءات أخرى غير مشهورة أو مشهورة ولكن غير متداولة لا يضرُّ بالحفظ؛ لأنَّ المقصودَ من حفظ القرآن الكريم هو حفظه النوعي، وإلا فوجودُ شيءٍ زائدٍ أو تغييرٍ في القرآن لدى فلان من النَّاس أو مجموعةٍ منهم لا يضرُّ بذلك كما هو واضح.

إذاً الكلام في أنَّ الموجودَ بين أيدينا اليوم هل هو ناقصٌ بمقدارِ كلماتٍ أو جُملٍ أو آياتٍ وسورٍ أم لا؟

المحور الثاني: الظروف التي عاشها أمير المؤمنين

حينما نأتي إلى مرحلة ما بعدَ رحيل النبي| نرى مرحلة جديدة تكوَّنت وهي تختلف تماماً عمَّا قبلها، فقد كانت الكلمةُ والقرارُ زمن النبي| بيد النبوة والعصمة، وبعد رحيل النبي| انتقل القرارُ بواسطة الانقلاب إلى الصحابة، وأُبعِدَ أميرُ المؤمنين، بل كان يُعتبرُ -عند أهل الخلافة- خصماً في كلِّ ما يتعلَّقُ بأمرِ الخلافة وشؤونها، أو ما يرتبط بالدّين تمثيلاً وحفظاً.

ولم يكن أميرُ المؤمنينَ يمتلك الأنصارَ لمعارضةِ كلِّ ما تقوم به السلطة من قرارات، ولذلك فنفس اغتصاب منصب الإمامة الظاهرية لم يكن للأمير إلا إبداء الاعتراض عليهم، وتسجيل الموقف الرّافض، وأعظم من ذلك ما جرى على الزهراء÷، وغصب فدك، وما سُمِّيَ بحروب الرِّدة، وما شاكل ذلك.

وقد أوصى النبي| علياً بالصبر لغرض الحفاظ على الدين، حتى قال الأمير -حينما بويع لعثمان-: >ووالله، لأُسلمَنَّ ما سلمت أمورُ المسلمين، ولم يكن فيها جورٌ إلا عليَّ خاصة< ([3])، ومن ضمن ما أوصي به حفظ القرآن الكريم، وجمعه بعد رحيله|.

وأيُّ موقفٍ للأمير تجاه القرآن الكريم يجب أنْ يكونَ متوافقاً مع هذه الوصايا ومع مصلحة الدين، وهناك مقدارٌ تتزاحم فيه الأمور فيضطرُّ إلى السكوت، وفي بعض المواقف لا يسعه السكوت فلذلك يتخِّذُ موفقاً صارماً من السلطة وإن انجرَّ إلى المواجهة، كما ورد في محاولتهم نبش قبر الزهراء÷([4]).

وفيما نحن فيه -حيث الخلاف في حصول النّقيصة في القرآن الكريم- يجب أنْ نلحظ إمكان سكوت الأمير بهذا المقدار وعدم إمكانِه، وكذلك ما نقله لنا التاريخُ إن وجد في موفقه من جمع الصحابة.

المحور الثالث: أهداف مدرسة الخلافة وإمكاناتهم

هنا نتعرَّض للأهداف التي انطلق منها الخلفاء، والإمكانات التي كانت بيدهم، وإمكانية التحريف بالنسبة للوضع الجديد الذي يعيشه المسلمون آنذاك.

والكلام هنا بمنزلة المقتضي لحصول التحريف في القرآن الكريم، فهل هناك مقتضٍ أم لا؟ وعلى افتراض وجود هذا المقتضي يأتي الكلام بعد ذلك عن الموانع التي منعت من وقوعه وأهمُّها موقف الأمير ووجوده المبارك.

والكلام في عدة أمور:

أولاً: مقدار اهتمام أصحاب الخلافة بحفظ القرآن

لا شكَّ أنَّ من يزوي الحقَّ عن أهله، ويعرِّض الإسلام لخطر الضياع والضعف، ويؤدِّي إلى ضلالِ الناس وانحرافهم؛ لأجل أنْ يستلمَ السلطة والحكم لن يكون مهتماً بحفظ دستور المسلمين وهو القرآن الكريم، بل قد يكون في صالِحه ضياعُ القرآن الكريم ليستحكم الأمر له في السلطة دون مقيِّد أو مرجعٍ معصوم.

فمقدارُ اهتمامهم بالقرآن الكريم -حبّاً في الدّين، ولكونه كتاب الله تعالى المتكفِّل بالهداية- يمكن أن يكون صفراً، وإذا وُجِدَ اهتمامٌ ما فإنَّما هو وسيلةٌ للتمسُّك بالسُّلطة.

ثانياً: هل من صالحِ الخلافة تغيير القرآن الكريم؟

نقول بالنسبة للوضع الذي استجدَّ وهو استلاب الخلافة من أهلِها، انصبَّ الاهتمامُ على تبرير غصبِ الخلافة من أهلها، وأيُّ خُطوةٍ متهوِّرةٍ وغيرِ محسوبةٍ قد تؤثِّر في شرعيّة الخلافة، ومن أهمِّ الأمور التي يمكنُ أنْ تؤثِّر هي المساس بالقرآن الكريم، فإنَّ ذلك لعامَّة المسلمين من الأمور الحسَّاسة، والتي قد تولِّدُ رَدَّةَ فعلٍ تجاهَ سالبي الخلافة، وتؤثِّر على شرعيتهم الباطلة أساساً.

فبلحاظ الظروف الموضوعية نقولُ: بأنَّه من غير صالحِ أصحابِ الخلافة أن يُقدّموا على المساس بالقرآن الكريم، خصوصاً بالنسبة للزيادة، والزيادة -لو فرض محاولتهم لها- فإنَّها إنمَّا تُتَصوَّرُ في مضامين تدعم سلطتَهم، ولا نجدُ آياتٍ بهذا المضمون.

وروي منع الخليفة الأول والثاني الرواية عن النبي| بحجّة وجود القرآن وخوف الزيادة فيه، فقد ورد: “أنَّ الصديق جمع الناس بعد وفاة نبيهم، فقال: إنَّكم تحدّثون عن رسول الله| أحاديث تختلفون فيها، والنَّاس بعدكم أشدُّ اختلافاً، فلا تحدثِّوا عن رسول الله شيئاً، فمن سألَكم فقولوا: بيننا وبينكم كتاب الله، فاستحلّوا حلاله، وحرّموا حرامه”([5]).

وعن عروة “أنّ عمر بن الخطاب أراد أن يكتب السنن، فاستشار أصحاب رسول الله| في ذلك، فأشاروا عليه أن يكتبها، فطفق يستخير الله فيها شهراً، ثم أصبح يوماً [وقد عزم الله له] فقال: إنّي كنت أريد أن أكتب السنن، وإنّي ذكرت قوماً كانوا قبلكم كتبوا كتباً، فأكبّوا عليها وتركوا كتاب الله، وإنّي والله لا ألبس كتاب الله بشيء أبدا”([6]).

وأرادوا شرعنة ذلك فافتروا على النبي| بأنَّه نهى عن كتابة شيء غير القرآن([7]).

وعلى كلّ حال فإنَّ ذلك -يعني: أنَّ القرآن الكريم- كان في نظر النَّاس محفوظاً أولاً، ومهمَّاً بالنسبة إليهم ثانياً.

نعم، يمكن تصويرُ مصلحةٍ في تغييرِ القرآن الكريم بالنَّقيصة -والذي هو مورد الخلاف- بالنسبة لما يفترض أنَّ فيه آياتٌ تنصُّ على أهلِ البيت وأحقيَّتِهم في الخلافة، أو تنصُّ على عدمِ صلاحيةِ هؤلاءِ المغتصبين للخلافة.

ومع ذلك، فإنَّه في نفسِ الوقت هناك -كما قلنا- خطرُ معارضة النَّاس، وتأثيرُ ذلك على شرعيةِ الخِّلافة، ومقتضى القول بالنّقيصة أنَّ الخلفاءَ -وحتى يحذفوا شيئاً من القرآن- قد منعوا النَّاس من تلاوتِه؛ كما منعوهم من رواية حديثِ النَّبي| وكتابته، والفرض أنَّ الحُفَّاظَ كُثُر، وهذا يقتضي المواجهة أو على الأقل الاعتراض والسخط وسط الأمَّة.

والسلطةُ وإن كانت قادرةً مادّياً على ذلك، وستجدُ لها الأعوان الكُثُر من المنافقين، ولكنّ هذا يؤدِّي إلى فقد الشرعية وهزِّها في نفوس النَّاس، بينما السلطةُ كانت تحاول أن تختلق لها الأدلَّة، وتبحث عن أيِّ شيء لحفظها!

إذاً المصلحة -حسب الظروف الموضوعية- تقتضي عدمَ العبثِ بالقرآن الكريم؛ خصوصاً في بداية انتقال الخلافة، والتحدِّيات الكثيرة التي كانت تواجهها.

ولا نريد هنا أن نمنع من وجود المقتضي للتحريف بشكلٍ كاملٍ وإلا صارت مصادرةً على المطلب، ولكن بحسب التَّحليلِ الموضوعي نقول: بأنَّ المصلحةَ ظاهرياً كانت في عدم المساس بالقرآن، لا أقل في تلك الفترة من بداية الانقلاب.

ثالثاً: على فرض تصور وقوع التحريف، ففي أيِّ فترة وقع ذلك؟

من المهمِّ جداً في بحثنا تحديد الزمن الذي يمكنُ تصور حصول التحريف فيه -على فرض حصولِه-، وذلك له علاقةٌ بموضوعِ زمنِ تدوين القرآن الكريم.

 فإنْ قلنا: بأنَّ التدوين قد حصل في زمن النبوة، وأنَّ ما في أيدينا اليوم دُوِّنَ بأمرٍ من النبي الأعظم|، فإنَّ ذلك ينفي أصل وقوع التحريف.

وإنْ قلنا: بأنَّ التدوين حصل في زمن الصحابة -كما هو مشهور العامَّة وبعض الخاصة ([8])، فإنَّ الكلام يأتي.

ومن المفترض أنَّ القرآن لم يُحرَّفْ في فترةِ ما بعدَ رحيل المصطفى| بقليل، لأنَّ القرآن الكريم لم يدوَّن بعدُ حسب الفرض.

ولا في فترة خلافة أبي بكر، فإنَّ تدوين القرآن -على فرضِ ثبوتِه في زمنه- إنَّما كان بتدوين نسخةٍ شخصيّةٍ لبيت الخلافة حيث إنَّها لم تُنشَر حسب ظاهر الروايات الواردة في جمع أبي بكر للقرآن الكريم([9])، ولم تكن هي النسخة المتداولة آنذاك، ولم أرَ في كتب العامّة أنَّها كانت المرجع للمسلمين، فلا زال القرآنُ محفوظاً في الصدور -حسب الفرض- ولم يُحرَّف.

ولا يُتصوَّرُ التحريفُ في زمنِ عثمان أيضاً؛ حيث كان الجمعُ في زمنِه بمعنى توحيد القراءات كما هو الأقوى، وليس بمعنى إيجاد جمعٍ جديدٍ للقرآن الكريم يخالف الجمع الموجود آنذاك، وإن كان هناك إيهام من بعض الروايات التي تدلُّ على أنَّ الجمع كان جديداً وابتدائياً ([10])، أو رواية عثمان في وضع البسملة بين الأنفال وبراءة، وهذه الروايات -على فرض صحتها- يمكن توجيهها بأنَّ ذلك للتأكيد أو للدلالة على صحَّة القراءة الفلانية وليس على أصل المادّة القرآنية.

وقد كانت بعضُ النُّسخ موجودة عند بعض الأشخاص كابن مسعود، وقد امتنعَ امتناعاً شديداً عن تسليمِ نسخته ([11])؛ لأنَّ له قراءة خاصَّة، أو ترتيباً خاصَّاً، ولم ينقل أحدٌ الاختلاف بين نسخته إلا في بعض القراءات وخلِّوها من المعوِّذتين ([12]).

بالإضافة إلى أنَّ عثمان لم يكن يمتلك القدرة التي يستطيع من خلالها تحريف القرآن الكريم، وقد ثار عليه النَّاس ومن ضمنهم كبارُ الصحابة، ولو كان هو المغيِّر للقرآن -على فرض وقوع التحريف- لكان أسهلُ سببٍ ومبررٍ للثورة عليه من اتهامه بالتلاعب بمال بيت المسلمين أو اتهام ولاته بالفساد.

وعلى هذا، فينحصرُ احتمالُ التحريفِ -حسب ما تقدَّم- في زمن الثاني حينئذٍ، وهنا يجب أنْ نلاحظ موقف أمير المؤمنينo، ولكنَّنا مع ذلك سنذكر في المحور التالي احتمال التحريف في أزمنة الخلفاء الثلاثة ودلالة موقف أمير المؤمنينo من ذلك.

 رابعاً: ما هو المقدار المحتمل في التحريف؟ وما هي طبيعته؟

على فرض وقوع حذفٍ لبعضِ الآيات أو السِّور، لا بدَّ أن نلحظَ الاحتمالات المتوقَّعة، فما هو المقدار الذي يمكن للخلافة حذفُه، مع حفظِ القرآن من قبل مئات أو آلاف الصَّحابة، وما هي طبيعة هذه الآيات المفترض حذفها؟

نقول هنا:

أمَّا المقدار: فمن المستبعد جداً تصوُّر حذف سور بأكملها بحيثُ لا تذكر أو يذكرُ شيء منها حتى في رواياتٍ ضعيفة، خصوصاً إذا افترضناها سوراً طويلة، نعم، وردت بعضُ الروايات من العامَّة ادِّعاء بعضهم بوجود سور معينة كسورتي الخلع والحفد([13])، أو ادعاء عمر وجود آية الرجم، وقد رفضت من قبل الصحابة([14])، وهذه لو كانت فعلاً من القرآن فما هو الوجه في رفضها، خصوصاً آية الرجم التي ادعاها الخليفة.

وعلى أيِّ حال، فالقدر الممكن من النّقص هو حذفُ بعض الكلمات أو تغيير مادَّتها، وعلى أكثر التقادير حذفُ بعضِ الآيات الشريفة.

فما جاء في بعضِ الروايات من كونِ السورة الفلانية تعادل براءة أو كنَّا نقرأ سورة أنسيناها كما ورد عن أبي موسى الأشعري ([15])، أو ما ورد عن عائشة قالت: “كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي| مائتي آية، فلمَّا كتب عثمان المصاحف لم يقدر منها إلا على ما هو الآن”([16])، وعن حذيفة “قال لي عمر بن الخطاب: كم تعدون سورة الأحزاب؟ قلت: اثنتين أو ثلاثاً وسبعين، قال: إن كانت لتقارب سورة البقرة، وإن كان فيها لآية الرجم”([17]).

فهذا بعيدٌ جداً حتى على القول بالتحريف، فليس من المعقول ألا يتذكَّر أحدٌ من الصحابة الحُفَّاظ شيئاً من هذه السور المنسية، فهل هي مشيئةٌ إلهيةٌ أن يحصل النسيان من جميع الصحابة لخصوص الآيات الفلانية؟!! ثم، أين علي وهو الحافظ لكلّ كتاب الله تعالى، ونعتقد بعصمته عن النسيان؟!

ومن هنا قال الآلوسي تعقيباً على مثل هذه الأخبار: “والحقُّ، أنَّ كلَّ خبرٍ ظاهرُه ضياع شيء من القرآن إمَّا موضوع أو مؤوَّل”([18]).

وأمَّا نوعية الآيات أو الكلمات المتصوَّر حذفُها: إنَّما تُتَصوَّر أكثر فيما يدلُّ على إمامة علي وأهل بيتِه، وفضائلهم الواضحة التي لا تحتمل التأويل، وثانياً ما يدلُّ على مساوئ الخلفاء وإلغاء شرعيتهم للخلافة، وإن كان يُحتمل التلاعب حتى في آيات الأحكام مثلاً أو حذف ما لا يستسيغوه من عقائد أو قصص أو ما شاكل، أو حتى التغيير لأجل التغيير، كما صنعوا في كثيرٍ من الأحكام الشرعية تشهياً وتلاعباً بالدين.

فخلاصة القول هنا: أنَّ التحريف على فرض حصولِه فإنَّه يُتصوَّر بشكلٍ أكبر في زمن الخليفة الثاني، وبمقدارٍ لا يتعدَّى الكلمات وبعض الآيات القرآنية، وبالأخصّ فيما يخصُّ فضائلَ أهل البيت أو مساوئ المنافقين.

المحور الرابع: كيف كان موقف الأمير

هناك نوعان من المواقف التي من خلالها يمكن الاستفادة من موقفِ أميرِ المؤمنين تجاه مسألة التحريف:

النوع الأوَّل: مواقفُ أميرِ المؤمنين التي تصدَّى فيها لبيانِ أحقيته في الخلافة، والتي من المفترض فيها الاستشهاد بالآيات القرآنية التي لم يكن أحدٌ من المسلمين يستطيعُ إنكارها.

النوع الثاني: موقفُه من التحريف بإنكاره على فرضِ حصولِه؛ حيث هو الإمام المؤتمن على الدين، والمسؤول عن حفظ القرآن الكريم.

والكلام هنا في أزمنة الخلفاء الثلاثة:

زمن أبي بكر:

قلنا بأنَّ الجمع الذي حصل في زمن أبي بكر -لو صُحَّ- فإنَّما هو على شكل نسخة لم تنتشر بين المسلمين، فحتى لو افترضنا أنَّ فيها نقصٌ، فليست هي النسخة التي تمثِّلَ المرجع للنَّاس آنذاك، بل لا زال المسلمون يعتمدون على حفظهم للقرآن، وكان الحُفَّاظُ بالمئات إن لم يكونوا بالآلاف.

ومع هذا نقول: لو فُرِضَ حصولُ التحريف فإنَّ ذلك يستوجب حصول اعتراض من أمير المؤمنين على أقل التقادير، فإنَّه سجَّل اعتراضاته على مجموعة من أمور الخلافة ([19])، وحيث إنَّه لم ينقل لنا التاريخ شيئاً من هذا الاعتراض فإنّه يدل بالالتزام على عدم حصوله.

وثانياً: إنَّه لم يصلنا أيُّ شيءٍ غيرِ موجود في القرآن الموجود اليوم، ولو فرض حذف شيء من القرآن، لكانَ من ضمنِه آياتٌ تدلُّ على إمامةِ الأمير أو ذكر مثالب الصحابة بشكلٍ واضحٍ وصريح، فليس من المصلحة في بدايات الانقلاب التلاعب بشيء من القرآن فيما لا يتعلَّق بشرعية الخلافة.

بينما لم نجد آيةً واحدةً غير موجودة عندنا اليوم -ولو بالإشارة- في شيءٍ من كلامِ أميرِ المؤمنين، فقد روى الكليني عن إمامنا الباقر أنَّ أمير المؤمنين خطب الناس بخطبة بعد سبعة أيام من رحيل النبي|، وهي خطبة طويلة تسمى “الوسيلة”، وفيها مجموعة كبيرة من المواعظ، ثم ذكر فيها علي حقَّه في الخلافة وممَّا ذكره: >واختصني بوصيّته، واصطفاني بخلافته في أمّته، فقال|: وقد حشده المهاجرون والأنصار، وانغصت بهم المحافل: أيّها الناس، إنَّ علياً مني كهارون من موسى إلا أنَّه لا نبي بعدي، فعقل المؤمنون عن الله نطقَ الرسول؛ إذ عرفوني أنَّي لستُ بأخيه لأبيه وأمّه كما كان هارون أخا موسى لأبيه وأمّه، ولا كنتُ نبياً فاقتضى نبوة، ولكن كان ذلك منه استخلافاً لي كما استخلف موسى هارون< وقال أيضاً: >وزعموا أنّ من اختاروا من آل أبي قحافة أولى بمقام رسول الله| ممن اختار رسول الله| لمقامه، وأنّ مهاجر آل أبي قحافة خير من المهاجري الأنصاري الرباني ناموس هاشم بن عبد مناف، ألا وإن أول شهادة زور وقعت في الإسلام شهادتهم أنّ صاحبهم مستخلف رسول الله|، فلمَّا كان من أمر سعد بن عبادة ما كان رجعوا عن ذلك وقالوا: إنَّ رسول الله| مضى ولم يستخلف فكان رسول الله| الطِّيب المبارك أوّل مشهود عليه بالزور في الإسلام<. وغيرها من الخطب والكلمات ([20]).

وكذلك لا نجد شيئاً من الآيات غير موجودة لدينا في خطبة الزهراءr التي كانت في مقام الدفاع عن أمير المؤمنين.

ومن غريب الروايات ما نقله السيوطي عن المسوّر بن مخرمة قال: قال عمر لعبد الرحمن بن عوف: “ألم تجد فيما أنزل علينا (أن جاهدوا كما جاهدتم أول مرة)، فإنَّا لا نجدها، قال: أسقطت فيما أسقط من القرآن”([21]).

فإنَّ الفرض أنَّ الكلام عن جمع أبي بكر؛ لأنَّ السائل عمر، وعمر كان مشاركاً في الجمع حسب روايات جمع أبي بكر للقرآن الكريم، ويفهم من هذه الرواية أنَّ ابن عوف يتذكَّر هذه الآية، فهو وعمر شاهدان عليها، فلِم لم يشهدا لإثباتها في القرآن الكريم؟!

زمن عمر بن الخطاب:

وهنا بالإضافة إلى أنَّ حصول التحريف في زمن عمر يقتضي أن يكون التدوين قد حصل في زمانه، بينما أكثرُ الآراء عند العامَّة أنَّ التدوين حصل في زمن أبي بكر أو عثمان، وإن كان البعضُ يقسِّم التدوين لمراحل ثلاث ومرحلة عمر هي مرحلة انتشار النسخ، نعم قد وردت بعض الروايات تشير إلى أنَّ الجامع هو عمر مثل ما روي عن أبي إسحاق عن بعض أصحابه قال: “لمَّا جمع عمر بن الخطاب المصحف سأل عمر من أعرب الناس؟ قيل سعيد بن العاص، فقال: من أكتب الناس؟ فقيل: زيد بن ثابت، قال: فليمل سعيد وليكتب زيد، فكتبوا مصاحف أربعة، فانفذ مصحفاً منها إلى الكوفة ومصحفاً إلى البصرة ومصحفاً إلى الشام ومصحفاً إلى الحجاز”([22]).

ولكن ذلك لم يثبت، بل نقل السيوطي أنَّه: “أراد عمر بن الخطاب أن يجمع القرآن، فقام في الناس فقال من كان تلقى من رسول الله| شيئاً من القرآن فليأتنا به، وكانوا كتبوا ذلك في الصحف، والألواح، والعسب، وكان لا يقبلُ من أحدٍ شيئاً حتى يشهد شهيدان، فقتل وهو يجمع ذلك إليه، فقام عثمان بن عفان فقال: من كان عنده شيء من كتاب الله فليأتنا به”([23]).

بل عن محمد بن سيرين قال: “قتل عمر ولم يجمع القرآن”([24]).

وعلى كلِّ حال يمكن الاستدلال بموقف الأمير على عدم وقوع التحريف في زمن عمر:

فأولاً: لم نرَ في كلامِ أمير المؤمنين كلاماً فيه آياتٌ غير موجودة في القرآن الموجود بين أيدينا، فصحيحٌ أنَّه في هذه المُدَّة لم يكن تروَ عنهُ خطبٌ كثيرة، فلم يكن إماماً للجمعة أو ما شاكل ذلك، ولكن طولَ هذه المدّة التي تقرب من العشر سنوات توجب نقل بعض الكلمات المتفرِّقة، بالإضافة إلى أنَّه وإن كان معارضاً للخليفة ولا يرى شرعيّته ولا صلاحيّته للخلافة، إلا أنَّه لم يكن غائباً بالمرَّة، فكم مرَّةٍ قال عمر “لو لا علي لهلك عمر”، و “لا أبقاني اللهُ لمعضلةٍ ليس لها أبو الحسن”، ممَّا يدلُّ على حضورِه في كثيرٍ من الحوادث بحكم مسؤوليته على الأمَّة، وكلامُه قطعاً سيشمل الاستشهاد بالقرآن الكريم كما هو ديدنه.

وثانياً: بالنسبة للنَّوع الثاني وهو الاعتراض -على فرض وجود التحريف- فإنَّه لم ينقل ولا في روايةٍ واحدةٍ اعتراض أمير المؤمنين على إقدام الخليفة -حسب الفرض- على تحريف القرآن الكريم، خصوصاً أنَّ موقفَ أميرِ المؤمنين هنا سيكونُ مدعوماً من قِبَلِ عامَّة المسلمين الذين -رغم سكوتهم عن الحق- يتحسَّسون كثيراً في مسألة القرآن، والفرضُ أنَّه مرَّ على رحيل النبي| سنوات عدَّة وقد انتشر الحُفَّاظُ وناسخي القرآن أكثرَ من قبل، ممَّا يصعبُ الأمرُ على الخليفة بإلزام النَّاس بما يختارُه من القرآن وحذف بعض الكلمات أو الآيات، وحينئذٍ سيكونُ اعتراض أمير المؤمنين قوياً.

والتاريخ لم ينقل لنا واقعةً واحدةً تدلُّ على حصولِ هذا التحريف، ولا معارضة الأمير لذلك، سواء استطاعَ أميرُ المؤمنين منعَ حصولِه أم لم يستطع.

إشكال:

قد يقال بأنَّ الاعتراض على الخليفة غيرُ ممكنٍ، ودونَ جدوى فكم قد غيروا في الدين، وزادوا وأنقصوا ولم يواجههم الأمير في ذلك، ومن الأمثلة: التكفير في الصلاة، منع المتعتين، حذف “حي على خير العمل” من الأذان والإقامة، تغيير المسح في الوضوء إلى الغسل… وكذلك منع كتابة الحديث، ولم ينقل لنا التاريخ اعتراض النَّاس أو الأمير على ذلك، مع كون الأمر خطيراً على مستقبل الدين والأمّة.

نقول في الجواب: إنَّ الإشكال وإن كان له وجهٌ، ولكنَّه غير صحيح على إطلاقه؛ فمن قال بأنَّ أمير المؤمنين لم يعترض على الخلفاء حينما يبدِّلون ويغيِّرون في الأحكام؟! ومواقفه في ذلك مشهودة، ولو كان هناك تحريف فلا بدَّ أن يصلنا شيءٌ من اعتراض علي، والذي هو الحامي والمؤتمن على الشريعة.

ومع ذلك فإنَّ مسألةَ تحريف القرآن الكريم تختلف عن كلِّ تلك المسائل، ومنع الحديث أصلاً كان من ضمن مبرراته عدم اختلاطه بالقرآن الكريم ممَّا يشير إلى كون القرآن محفوظاً عند الناس، وصحيح أنَّ عمر أدخل كثيراً من المسائل في الدين اجتهاداً مقابل النصوص، وغيَّر أشياءً، ومنعَ الحديثَ تدويناً وتحديثاً، ولكنَّه مع ذلك كان يحاولُ تبريرَ أيَّ شيءٍ يقومُ به، فكان يراعي رضا النَّاس بنسبة معيَّنة -ولو كانت المراعاة شكلية- لأنَّه يعمل في إطار كونه خليفة النبي|، وبالتالي لا بدَّ من مراعاة الأمور الحسَّاسة والضرورية عند المسلمين.

وممَّا يؤيّد حساسية الموضوع ما نقل عن عمر في آية الرجم، حيث إنَّه أتى بالآية المزعومة ورفضت منه لأنَّه لم يشهد أحدٌ معه، ورويت روايات كثيرة تدلّ على أنَّ عمر كانت تشغله هذه الآية، فلو فرض أنَّ القرآن الكريم جمع في زمنه فلماذا لم يثبت هذه الآية؟! فإذا لم يمكنه ذلك فهل كان بإمكانه حذف ما شهد به المسلمون من القرآن الكريم؟!

وقد ورد أنَّه في آخر حجّة له أراد أن يخطب الناس في مكة بعدما سمع أناساً يتحدّثون عن شأن من يخلف عمر، ولكن عبد الرحمن بن عوف قال له: “لا تفعل، فإنَّ الموسم يجمع رعاع الناس وغوغاءهم، وإنَّهم الذين يغلبون على مجلسك، إذا قمت في الناس فأخشى أن تقول مقالة يطير بها أولئك فلا يعوها ولا يضعوها على مواضعها، ولكن حتى تقدم المدينة فإنّها دار الهجرة والسنة وتخلص بعلماء الناس وأشرافهم فتقول ما قلت متمكناً” فلما جاء المدينة خطب الناس وقال: “إنّ الله تبارك وتعالى بعث محمداً بالحقِّ، وأنزل عليه الكتاب، وكان مما أنزل عليه آية الرجم فقرأناها ووعيناها، ورجم رسول اللهS ورجمنا بعده، فأخشى إن طال بالناس زمان أن يقول قائلٌ لا نجدُ آيةَ الرجم في كتاب الله! فيضلوا بترك فريضة قد أنزلها الله!”([25]).

وفي نقل آخر: “ولولا أن يقول قائلون أو يتكلَّم متكلِّمون إنَّ عمر زاد في كتاب الله ما ليس منه لأثبتها كما نزلت”([26]).

والنتيجة إلى هنا: أنَّ التدوين لم يثبت أنّه حصل في زمن عمر، حتى يحصل التحريف في زمنه، وعلى فرض كون الجمع في زمنه فإنّه لم ينقل التاريخ لنا أي اعتراض من أحد على هذا الأمر الجلل، خصوصاً أمير المؤمنين، وهذا يدلُّ على عدم حصول التحريف في زمانه.

زمن عثمان بن عفان:

تقدَّم في المحور الثالث في الأمر الثالث أنَّ التحريف على فرضِ حصولِه لا يتصوَّر في زمن عثمان؛ لأنَّ روايات جمع عثمان للقرآن الواردة في كتب العامّة يفهم من أكثرها كون الجمع بمعنى توحيد القراءات، وليس بمعنى إيجاد جمعٍ جديدٍ لم يكن موجوداً، وحتى لو افترضنا بأنَّ الجمع كانت له كيفية خاصة من الترتيب تختلف عن سابقاتها فإنَّها بالتأكيد لا تختلف عنها في أصل مادَّة القرآن الكريم.

ولكن نتحدَّث على فرض كون جمعه جمعاً جديداً كما توهمه بعض النقولات كما تقدَّم، بل وردت بعض الألفاظ الصريحة في حصول التحريف في زمنه، كما عن عائشة قالت: “كانت سورة الأحزاب تقرأ في زمن النبي| مائتي آية، فلمَّا كتب عثمانُ المصاحف لم يُقدَر منها إلا على ما هو الآن”([27]).

وعلى كلِّ حال هذه الرواية وأمثالها لا يمكن التصديق بمضمونها، فما هو معنى أنه “لم يقدر منها إلا على ما هو الآن”، وأين الحفاظ؟ وتقدَّم منّا القول بعدم معقولية حذف وضياع سور أو آيات طويلة، وإنّما المتصور هو حذف كلمات أو تبديلها أو آيات قصيرة على أكثر التقادير.

والمهم هنا هو الاستدلال بموقف أمير المؤمنين على نفي حصول التحريف بالنوعين المتقدمين؛ أماَّ النوع الأول فإنَّه لم ينقل عنهo الاستشهاد بأيِّ شيءٍ من الآيات غير موجودة في القرآن الموجود اليوم، وهنا يبرز هذا النوع بقوَّة؛ حيث إنَّه لو فرض حصول التحريف في زمن عثمان فهذا يعني أنَّه حصل بعد انتشار القرآن بشكلٍ كبير جداً، وأنَّ النَّاس كانوا يتلونه سابقاً، ومع افتراضِ حذفِ شيءٍ من القرآن يقتضي منع الناس من تلاوةِ ما حذف، وحيثُ لم يُنقَل شيءٌ من هذا القبيل فهو يدلُّ على عدم حذف شيء من القرآن.

وأمَّا النوع الثاني وهو الموقف الرافض لأمير المؤمنين للتحريف المفترض، فمن المعلوم أنَّ عثمان أضعف الخلفاء الثلاثة موقفاً وتمكناً، ونقل مخالفة الأمير له في موارد كثيرة منها حج التمتع([28])، ولذلك فقدرته على التصرُّف في مثل القرآن الكريم بحذف بعضِ آياته أو حتى كلماته أو تغييرها لم يكن مقدوراً أصلاً، ولا أتصوَّر أنَّه حتى المحاولة كانت ممكنة، حيث إنَّ القرآن الكريم -كما قلنا- قد انتشر بشكلٍ كبير جداً في الأمصار، ليس على مستوى الحفظ في الصدور فقط، بل حتى على مستوى الكتابة، ولو كان لبان، فإنَّ ما نُقِلَ من اعتراض اقتصر على امتناع عبد الله بن مسعود عن تسليم نسخته، لأنَّها تختلف هيئة عن سواها، ولم يكن الامتناع نتيجة التغيير بالحذف.

وعلى كلِّ حال لو كانت هناك محاولة تحريف أو قد حصل تحريف فعلاً لوصلنا شيء من مخالفة أمير المؤمنين واعتراضه، بل لنقل لنا اعتراضُ النَّاس الذين ثاروا على عثمان، ولكان اتهامه بتحريف القرآن الكريم أولى من اتهامه بالتلاعب بمال بيت المسلمين أو فساد بعض الولاة من قبله ([29]).

وممَّا يدعم ويؤيد عدم إمكان تغيير عثمان للقرآن ما ورد عن علباء بن أحمر: “أنَّ عثمان بن عفان لمَّا أراد أن يكتب المصاحف أرادوا أنْ يلقوا “الواو” التي في براءة {..وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ..}([30])، قال لهم أبو بكر: لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقوها”([31]).

فإذا كان عثمان عاجزاً عن حذف حرف من القرآن الكريم، فما باله بحذف كلمات أو آيات فضلا عن سور؟!

وأخيراً ننقل كلام السيد الإمام+ -في ردِّه على من تمسك بالروايات التي تذكر وجود أسماء الأئمة في القرآن للاستدلال على وقوع التحريف- حيث قال ونعم ما قال:

“وبالجملة: لو كان الأمر كما ذكره هذا وأشباهه، من كون الكتاب الإلهي مشحوناً بذكر أهل البيت وفضلهم، وذكر أمير المؤمنين وإثبات وصايته وإمامته، فلم لم يحتجَّ بواحدٍ من تلك الآيات النازلة، والبراهين القاطعة من الكتاب الإلهي أمير المؤمنين، وفاطمة، والحسن، والحسين وسلمان، وأبو ذر، ومقداد، وعمار، وسائر الأصحاب الذين لا يزالون يحتجون على خلافته؟! ولمَ تشبَّث بالأحاديث النبوية، والقرآن بين أظهرهم؟! ولو كان القرآن مشحوناً باسم أمير المؤمنين وأولاده المعصومين وفضائلهم وإثبات خلافتهم، فبأيّ وجه خاف النبي| في حجة الوداع آخر سنين عمره الشريف، وأخيرة نزول الوحي الإلهي من تبليغ آية واحدة مربوطة بالتبليغ، حتى ورد أنّ {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ}؟ ولمَ احتاج النبي| إلى دواة وقلم حين موته للتصريح باسم علي؟! فهل رأى أنَّ لكلامه أثراً فوق أثر الوحي الإلهي؟!”([32]).

النتيجة

بناء على ما تقدّم، يمكن الاستدلال على عدم حصول التحريف بأيِّ شكل من أشكال التحريف من خلال موقف أمير المؤمنين، وكذلك مواقف الصحابة بشكل عام، وأنَّه لو حصل شيء من التحريف لعرف المحرِّف بشكلٍ واضحٍ وصريح لعظم المسألة وخطورتها، ولنقل لنا التاريخ بأوضح بيان من هو الذي تجرأ على كتاب الله تعالى، ولكانت هناك أصوات معارضة، بغض النّظر عن قدرتها على منع حصول التحريف من عدمه.

ولَنقل لنا التاريخ كذلك، تصريحٌ واحدٌ لأمير المؤمنين -ولو أثناء خلافته-، كما نقل لنا بيان حقِّه بأبلغ الصور، وفي مواقف شتى.وآخر دعوانا أن الحمدُ للهِ ربِّ العالمين.

المصادر والهوامش

  • ([1]) ممن أشار إلى ذلك السيد الخوئي في الدليل الخامس في نفي التحريف. انظر: البيان في تفسير القرآن، ص217-218.
  • ([2]) انظر: مجمع البيان، الطبرسي، ج1، ص42-43.
  • ([3]) نهج البلاغة، ج1، ص124.
  • ([4]) ذكر ابن جرير الطبري (الشيعي) في دلائل الإمامة، ص136-137: “وإنّ المسلمين لمَّا علموا وفاتها جاءوا إلى البقيع، فوجدوا فيه أربعين قبراً، فأشكل عليهم قبرها من سائر القبور، فضجَّ الناس ولام بعضهم بعضاً.. فقال ولاة الأمر منهم: هاتوا من نساء المسلمين من ينبش هذه القبور حتى نجدها فنصلّي عليها ونزور قبرها، فبلغ ذلك أمير المؤمنين (صلَّى الله عليه)، فخرج مغضباً قد احمرَّت عيناه، ودرّت أوداجه، وعليه قباؤُه الأصفر الذي كان يلبسه في كلِّ كريهة، وهو يتوكَّأُ على سيفِه ذي الفقار، حتى ورد البقيع، فسار إلى النَّاس من أنذرهم، وقال: هذا علي بن أبي طالب قد أقبل كما ترونه، يقسم بالله لئن حول من هذه القبور حجر ليضعنَّ السيف في رقاب الآمرين، فتلقَّاه عُمر ومن معه من أصحابه، وقال له: ما لك يا أبا الحسن؟ والله لننبشنَّ قبرها، ولنصلينَّ عليها، فضرب عليo بيده إلى جوامع ثوبه فهزَّه ثمَّ ضرب به الأرض، وقال له: >يا بن السوداء، أمّا حقي فقد تركتُه مخافةَ أنْ يرتدَّ النَّاسُ عن دينهم، وأمَّا قبرُ فاطمة فو الذي نفسُ عليٍّ بيدِه، لئن رمت وأصحابك شيئاً من ذلك، لأسقينَّ الأرضَ من دمائكم، فإنْ شئتَ فاعرضْ يا عمر<. فتلقَّاه أبو بكر فقال: يا أبا الحسن، بحقّ رسول الله وبحق من فوق العرش إلا خليت عنه، فإنّا غير  فاعلين شيئاً تكرهه. قال: فخلَّى عنه وتفرق النَّاس ولم يعودوا إلى ذلك”.
  • ([5]) تذكرة الحفاظ، الذهبي، ج1، ص2-3.
  • ([6]) المصنف، عبد الرزاق الصنعاني، ج11، ص257-258.
  • ([7]) ففي مسند أحمد، ج3، ص12، عن النبيS: “لا تكتبوا عنّى شيئاً سوى القرآن، من كتب شيئاً سوى القرآن فليمحه”.
  • ([8]) وقد نسب للسيد المرتضى أنّ إجماع الشيعة على أنَّ حصول التدوين كان في زمن النبيK وأنّ المخالفين من الشيعة قلّة، بينما ادعى صاحب الحدائق اتفاق الأصحاب على العكس. انظر: مجمع البيان، الطبرسي، ج1، ص43، والحدائق الناظرة، المحدث البحراني، ج8، ص206.
  • ([9]) فورد مثلاً عن جمعه: ” كانت الصحف عند أبي بكر حتى توفاه الله، ثمَّ عند عمر حياته، ثمَّ عند حفصة بنت عمر”، صحيح البخاري، كتاب تفسير القرآن، ج6، ص98.
  • ([10]) مثل ما روي في طريقة الجمع وأنَّه “كان الرجل يجيء بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثيراً، ثم دخل عثمان، فدعاهم رجلاً رجلاً، فناشدهم: أسمعته من رسول اللهS، وهو أملاه عليك فيقول: نعم” تاريخ الإسلام، الذهبي، ج3، ص477.
  • ([11]) روى عدةٌ، منهم أحمد في مسنده، ج1، ص414 عن خمير بن مالك، قال: “أمر بالمصاحف أن تغيَّر، قال: قال ابن مسعود: من استطاع منكم أنْ يغلَّ مصحفَه فليغلُه، فإنَّ من غلَّ شيئاً جاء به يوم القيامة، قال: ثمَّ قال: قرأت من فمِ رسول اللهS سبعين سورةً، أفأتركُ ما أخذتُ من فيّ رسول اللهS”.
  • ([12]) فقد كان يحكُّها من المصحف لاعتقاده أنَّها ليست من القرآن الكريم، انظر: مسند أحمد، ج5، ص129.
  • ([13]) نقل الزركشي عن الحسين بن المنادي قوله: “ممَّا رُفعَ رسمُه من القرآن، ولم يرفع من القلوب حفظُه، سورتا القنوت في الوتر، قال: ولا خلاف بين الماضين والغابرين أنَّهما مكتوبتان في المصاحف المنسوبة إلى أبي بن كعب، وأنَّه ذكر عن النبيS أنَّه أقرأه إياهما، وتسمَّى سورتا الخلع والحفد” البرهان، الزركشي، ج2، ص27.
  • ([14]) فعن عمر أنَّه قال: “إنَّ الله! بعث محمداS بالحقِّ، وأنزل معه الكتاب، فكان ممَّا أنزل عليه آية الرجم، فرجم رسول اللهS ورجمنا بعده، ثم قال: قد كنَّا نقرأ (ولا ترغبوا عن آبائكم، فإنَّه كفرٌ بكم أو إنّ كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم)”، وفي نص آخر: “فقرأنا بها، وعقلناها، ووعيناها، فأخشى أن يطول بالنَّاس عهدٌ، فيقولوا إنَّا لا نجد آية الرجم”، مسند أحمد، ج1،ص40 و47، ونقلت آية الرجم عن أبي بن كعب وإحدى النساء أيضاً، انظر: الاتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج2، ص66.
  • ([15]) مثل ما روي عن أبي موسى الأشعري: “وإنَّا كنَّا نقرأ سورة كنَّا نشبهها في الطول والشدة ببراءة فأنسيتها، غير أني قد حفظت منها: (لو كان لابن آدم واديان من مال، لابتغى واديا ثالثا، ولا يملأ جوف ابن آدم إلا التراب)، وكنَّا نقرأ سورة كنَّا نشبِّهها بإحدى المسبِّحات فأنسيتها، غيرَ أني حفظت منها: (يا أيها الذين آمنوا لم تقولون ما لا تفعلون، فتكتب شهادة في أعناقكم فتسألون عنها يوم القيامة)” صحيح مسلم، ج3، ص100.
  • ([16]) الدر المنثور، السيوطي، ج5، ص180.
  • ([17]) نفس المصدر.
  • ([18]) تفسير الآلوسي، ج21، ص142.
  • ([19]) منها قاله معترضاً على اغتصاب الخلافة: >واعجباه أتكون الخلافة بالصحابة والقرابة<، وروي له شعر في هذا المعنى: فإن كنتَ بالشورى ملكتَ أمورهم فكيف بهذا والمشيرون غُيَّبُ وإن كنتَ بالقربى حججتَ خصيمهم فغيرُك أولى بالنَّبي وأقربُ نهج البلاغة، ج4، ص43.
  • ([20]) انظر: الكافي (الروضة)، الحديث الرابع، ج8، ص18-30، وبعدها أيضاً خطبة تسمى “الطالوتية” وهي مما خطبه أيام أبي بكر، وطلب فيها الأنصار، فراجع.
  • ([21]) الإتقان في علوم القرآن، السيوطي، ج2، ص68.
  • ([22]) كنز العمال، المتقي الهندي، ج2، ص578.
  • ([23]) الدر المنثور، السيوطي، ج3، ص296.
  • ([24]) الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج3، ص294، وفي نقل آخر عن ابن سيرين ” مات أبو بكر ولم يجمع القرآن”، نفس المصدر، ص211.
  • ([25]) مسند أحمد، ج1، ص55.
  • ([26]) نفس المصدر، ج1، ص29.
  • ([27]) الدر المنثور، السيوطي، ج5، ص180.
  • ([28]) ففي الكافي ج2، ص171، عن أبي عبد اللهo قال: >إنَّ عثمان خرج حاجا فلمَّا صار إلى الأبواء أمر مناديا فنادى في الناس اجعلوها حجة، ولا تمتعوا، فنادى المنادي فمرَّ المنادي بالمقداد بن الأسود فقال: أما والله لتجدنَّ عند القلايص رجلاً لا يقبل منك ما تقول، فلمَّا انتهى المنادي إلى عليo، وكان عند ركائبه يلقمها خبطا ودقيقا، فلمَّا سمع النداء تركها ومضى إلى عثمان، فقال: ما هذا الذي أمرت به؟ فقال: رأي رأيته، فقال: والله لقد أمرت بخلاف رسول اللهK،ثم أدبر مولياً رافعا صوته(لبيك بحجة وعمرة معا لبيك)<.
  • ([29]) انظر في هذه المسألة، البيان في تفسير القرآن، السيد الخوئي، ص218-219، وعلوم القرآن، السيد الحكيم، ص113-114.
  • ([30]) سورة براءة: 34.
  • ([31]) الدر المنثور، السيوطي، ج3، ص232.
  • ([32]) أنوار الهداية، الإمام الخميني، ج1، ص254-247.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى