ثقافة

الإحياء الحقيقي لعاشوراء

تمهيد:

لم تشهد الأرض – كل الأرض – ثورة بهذه العظمة والقدسية والخلود والمحركية للأجيال في كل زمان ومكان. ثورة أراد مفجرها أن تكون للدنيا كلها، وللبشرية جمعاء فكانت كذلك؛ فكما نهل منها المؤمنون، استفاد منها غيرهم، كل بحسبه، فهذه الكاتبة الإنجليزية فرياستارك تقول: “إن مأساة الحسين تتغلغل في كل شيء حتى تصل إلى الأسس، وهي من القصص القليلة التي لا أستطيع قراءتها من دون أن ينتابني البكاء([1]).

وهذا غاندي (الهندوسي) يقول: “تعلمتُ من الحسين كيف أكون مظلوماً فأنتصر([2]). وقد خاطب شعبه الهندي قائلاً: “على الهند إذا أرادت أن تنتصر أن تقتدي بالإمام الحسين”([3]). وسمعنا المسيحي انطوان بارا يصدح قائلاً: “لو كان الحسين منا لنشرنا له في كل أرضٍ راية ولدعونا الناس إلى المسيحية باسم الحسين”([4]).

فإذا كان غير المسلمين قد ذُهلوا من روعة وبهاء هذه الثورة، وصاروا يترنمون بها، ويستفيدون من عطاءاتها – وهم الغرباء عن هديها – فالأحرى بنا ونحن أبناء هذه المدرسة وحملة رسالتها إلى الدنيا كلها، أن نكون أول الناس فهماً لها، واستفادة من دروسها، وتَمَثُّلاً لأخلاقها، وسيراً باتجاه تفعيل أهدافها النبيلة وغاياتها المقدسة.

مسؤولية إحياء عاشوراء:

إنَّ قضيَّة إحياء الشَّعائر بشكل عامٍّ، ومسألة إحياء ذكرى العظماء، والاحتفاء بها ليست قضيَّة خاصَّة بالشِّيعة وحدهم، وإنَّما هي قضيَّة إنسانيَّة عامَّة، تحاول فيها الشعوب أنْ تعبِّر عن اهتمامها بشعائرها الدِّينيَّة، وتمسُّكها بها، وتقديرها لعظمائها، وعميق ارتباطها بهم([5]).

وقد جاءت التعاليم الإسلاميّة بالحثِّ الشديد على تعظيم شعائر الله (تعالى)، حيث قال (عزّ وجلّ): ﴿ذَلِكَ وَمَنْ يُعَظِّمْ شَعَائِرَ اللَّهِ فَإِنَّهَا مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ﴾ الحج:32، فجعلت تعظيم الشعائر من تقوى القلوب، وذكرت الآيات القرآنيَّة الكريمة بعضَ نماذج لتلك الشَّعائر.

هذا، وقد وردت الكثير من الرِّوايات عن المعصومين (عليهم السّلام) التي تدعو إلى إحياء الشَّعائر الحسينيَّة بمختلف أشكالها، من الزِّيارة، وإنشاد شعر الرِّثاء الحسينيِّ، وإقامة المجالس الحسينيَّة، والنَّدب والبكاء، والإحياء بشكل عام مما يدخل فيه الكثير من الأمور التي تعتبر من مصاديق الإحياء مثل المواكب العزائية ونحوها من مظاهر إحياء لتلك القضية؛ مما يعكس تخطيطاً وغاية حكيمة تهدف إلى الدفع بالقضية الحسينية إلى الواجهة بشكل دائم، وجعلها قضية مركزية في ذهن الأمة وضميرها، تستحضر عطاءاتها وتتمثّل دروسها العظيمة في الفكر والمشاعر والسلوك.

ومن تلك الروايات المعصومية ما عن بكر بن محمدالأزدي،عن أبي عبدالله (عليهالسّلام) قال: “تجلسون،وتتحدَّثون؟

قال: قلت: جُعِلتُ فداك نعم.

قال: إنَّ تلك المجالس أحبُّها، فأحيوا أمرنا إنَّه مَن ذكرنا، وذُكرنا عنده، فخرج من عينه مثل جناحالذُّبابة غفر الله ذنوبه ولو كانت أكثر من زبد البحر”([6]).

والروايات في هذا المجال كثيرة جداً.

فلسفة إحياء عاشوراء:

وهنا لابد أن يتوقف المؤمن النبيه مستفهماً عن سر التأكيد الشديد على ضرورة إحياء هذه الذكرى العظيمة، وعن سبب كل هذا الثواب العظيم على إحيائها؛ فليس من المعقول أن يكون كل هذا التأكيد، والثواب على مجرد دمعة غير هادفة، وعزاء لا يغيّر من واقع الإنسان، سواء على مستوى الفرد، أم على مستوى الأمة وواقع الأمة.

وفي هذا المعنى يقول الإمام الخميني العظيم(قده): لا تظنوا أن هدف هذه المآتم والمواكب وغاياتها تنتهي عند حدّ البكاء على سيد الشهداء (عليه السلام)، فلا سيد الشهداء (عليه السلام) بحاجة إلى هذا البكاء، ولا هذا البكاء ينتج شيئاً في حد ذاته.([7]). فالهدف ليس هو البكاء وحده، ولا اللطم والعزاء، وإنما هو أبعد من ذلك وأسمى. إن الهدف الحقيقي الأسمى هو أن يشع في عقولنا فكر عاشوراء، وتملأ علينا مشاعرنا، ونجسّد أهدافها في واقعنا العملي، على كل المستويات، وهذه بعض أبعاد فلسفة الإحياء:

1: البعد الفكري التوعوي:

وهو من أهم أبعاد فلسفة إحياء هذه الذكرى العظيمة، ويشكّل موسم عاشوراء – إذا أُحسِن استثماره – فرصة ثمينة جداً لتزويد الفرد والمجتمع بالثقافة الإسلامية الأصيلة، وطرد الأفكار الهدامة، وتغذية العقول بزاد القرآن، والسنة، والوعي بالتكاليف الشرعية المناطة بالفرد والأمة، تجاه ربه (تعالى) ونفسه وأمته.

إنها دورة ثقافية وروحية تندفع إليها الأمة من تلقاء ذاتها دون دعوة وضغط من أحد، تحدوها حرارة المصيبة، والتفاعل الوجداني مع الذكرى العظيمة، ومن التقصير العظيم أن لا تُستثمر هذه الليالي والأيام في ترسيخ وعي الناس بإسلامهم وواقعهم بالشكل المطلوب.

2: البعد المعنوي الروحي:

ذلك أن ثورة الإمام الحسين (عليه السلام) هي قيام لله (تعالى) وفي سبيل الله (تعالى)، ثورة جسّدت مدى حب الله (تعالى) والذوبان في كل ما يقرب منه، ويدني إليه.

ثورة وقف قائدها ليقدِّم نفسه، وعياله وأصحابه، وكل ما يملك في سبيل رضا ربه، واستجابة لأمره، وهذا لسان حاله يقول:

تركت الخلق طراً في هواكا …. وأيتمتُ العيال لكي أراكا

فلو قطعتني في الحب إرباً …. لما مال الفؤاد إلى سواكا

يحدثنا التاريخ أنه” لما رأى الحسين (عليه السلام) حِرص القوم على تعجيل القتال وقلة انتفاعهم بمواعظ الفعال والمقال قال لأخيه العباس (عليه السلام) إنْ استطعت أن تصرفهم عنا في هذا اليوم فافعل لعلنا نصلي لربنا في هذه الليلة فإنه يعلم إني أحب الصلاة له وتلاوة كتابه ” وقد ” بات الحسين (عليه السلام) وأصحابه تلك الليلة ولهم دوي كدوِّي النحل ما بين راكع وساجد وقائم وقاعد” ([8]).

إن هذه الحالة من الإنقطاع إلى الله (تعالى)، وتحرّي طلب مرضاته، والتضحية في سبيله (تعالى) لابد أن تنعكس – ولو بمقدار ما – على الإنسان المؤمن، الذي يحيي عاشوراء بوعي وصدق.

ولقد أرتنا الدنيا رجالاً تخرّجوا من هذه المدرسة (مدرسة عاشوراء) وساروا على هدي أبي الأحرار (عليه السلام)، فكانوا أنموذج طهرٍ وانقطاعٍ إلى الله(تعالى). وكمثال على هؤلاء الذين خرجتهم مدرسة كربلاء أبطال في هذا الجانب (المعنوي الروحي) هو الإمام الخميني (قده) حيث “كان الإمام ملتزماً بتلاوة عدد صفحات من القرآن (حزب كامل أو أكثر) كل يوم، ولم يترك تلاوة القرآن، ونافلة الليل حتى في أيام حياته الأخيرة وحتى في الليلة التي أجريت له العملية الجراحية الأخيرة في صبيحتها.”([9]).

وهكذا يجب أن يكون المؤمن إذا أراد أن يحيي ذكرى عاشوراء بصدق، أن يقتدي بإمامه(عليه السلام)، في كافة سلوكياته بما تطيقه نفسه.

نقرأ في أحداث كربلاء الدامية أنه “حضر وقت صلاة الظهر فقال أبو ثمامة الصيداوي للحسين (عليه السلام) يا أبا عبد الله نفسي لنفسك الفداء، هؤلاء اقتربوا منك، ولا والله لا تُقتل حتى اقتل دونك وأحب أن ألقى الله ربي وقد صليتُ هذه الصلاة فرفع الحسين (عليه السلام) رأسه إلى السماء وقال ذكرت الصلاة جعلك الله من المصلين الذاكرين”([10])، فصلى بأصحابه صلاة الخوف والنبال تترى عليهم، وفي ذلك درس للإنسان المؤمن في المحافظة على الصلاة، وأدائها لوقتها، والاهتمام البالغ بشأنها.

فإذا كانت الصلاة لم تُترك ولم تؤجل في حالة الحرب والخطر، فكيف ينبغي لك أيها المؤمن؟ أوَ هل يصح أن نؤخر الصلاة عن وقتها لهذا السبب أو ذاك، ونحن شيعة هذا الإمام(عليه السلام) الذي صلى في ساحة المعركة؟!

ولهذا وجدنا تأكيد السيد القائد الخامنائي(دام ظله) على ضرورة الإهتمام بهذا الجانب في عملية التبليغ – والتي يشكل موسم عاشوراء فرصة عظيمة لممارستها – حيث قال: “يجب أن يكون جُلّ تبليغكم في مجال خضوع القلوب للباري (تعالى) والتسليم له، إن هذا أهم عملكم، إنّ التسليم لله (تعالى) بداية لجميع الخيرات والبركات”.([11]).

3: البعد الإجتماعي:

من فلسفة وأبعاد إحياء شعيرة عاشوراء، هو ترسيخ القوة الإجتماعية في الأمة في ظل اجتماع المؤمنين في مجالس ومواكب عاشوراء، وهي سمة في كل العبادات، والشعائر التي تؤدى بصورة جماعية. ولذك نجد أن الإمام الخميني(قده) يشير إلى هذا البعد بقوله: “لو كان مثقفونا يدركون الأبعاد السياسية والاجتماعية لهذه المجالس وهذه الأدعية والأذكار والنوائح لما قالوا لنا لِمَ تفعلون كل هذه الأمور وتتمسكون بها”.([12]).

إن التجمع من أجل إحياء ذكرى الإمام الحسين (عليه السلام) يحدث تلقائياً، وهو من النعم التي من الله (تعالى) على أتباع أهل البيت (عليهم السلام) بها، من أجل اجتماعهم في هذه المدرسة، وتنمية وعيهم، وعلاقاتهم، وبناء روابطهم في ظلال هذه الخيمة الحسينية المباركة. وفي التنبيه على هذه النعمة التي يجب علينا استثمارها بشكل صحيح يقول الإمام الخميني (قده):

“لو أن القوى الكبرى عزمت على عقد مثل هذه التجمعات الجماهيرية الكبرى في البلدان التي تحكمها فإن ذلك يحتاج منها إلى أعمال ونشاطات وجهود كبرى تستغرق عدة أيام أو عشرات الأيام فهيمضطرة ولأجل عقد تجمع جماهيري في مدينة من المدن يضم مثلاً مائة ألف أو خمسين ألفاً إلى إنفاق مبالغ طائلة وبذل جهود جبارة، لجمع الناس وجعلهم يستمعون لحديث محدثهم”([13]).

4: البعد الولائي والسياسي:

إن إحياء عاشوراء الحسين (عليه السلام) ليُعيد إلى ذاكرة الأمة تلك المجزرة البشعة التي ارتكبتها السلطة الأموية ضد فلذة كبد رسول الله (صلى الله عليه وآله)، فتجذِّر علاقتها، وعاطفتها الفوّارة بالإمام المظلوم، وتُذكي غضبها وبغضها لأعداء الأمة، وتفتح أمام عينها كتاب مخازيهم، وتنمي روح البراءة من أعداء الله (تعالى).

إنها تشير إلى ضرورة الإرتباط بإمام الحق في كل زمان ومكان، والبراءة من أئمة الجور وحكام الظلم، ففي كل عصر حسين يجب مناصرته، ويزيد تجب مناهضته ورفضه.

يقول إمام الأمة الراحل(قده): “فلا يتصور أبناؤنا وشبّاننا أن القضية بكاء شعب لا غير، وأننا “شعبٌ بكّاء”! على ما يريد الآخرون أن يوحوا لكم به. إنهم يخافون من هذا البكاء بالذات؛ لأنّه بكاء على المظلوم، وصرخة بوجه الظالم، وهذه المواكب التي تجوب الشوارع للعزاء إنما تواجه الظلم وتتحدّى الظالمين، وهو ما ينبغي المحافظة عليه. إنها شعائرنا الدينية التي ينبغي أن تصان وهي شعائر سياسية يلزم التمسّك بها… مجالس العزاء هذه وذكر مصائب المظلوم وجرائم الظالم في كل عصر إنما تدفع إلى الوقوف بوجه الظالم”. ([14]).

الإحياء وأخذ الإجازة:

إن حرية العقيدة وممارسة الشعائر الدينية من الحقوق التي كفلتها مواثيق وقوانين حقوق الإنسان، وهي من الحقوق المنصوصة في دستور بلدنا السليب.

وليس من الصحيح – بل ولا الجائز – أن يخضع المؤمنون للنظام الظالم عبر أخذ الإجازة على إقامة هذه الشعائر التي عرفتها البلد قبل أن تطأها أقدام هؤلاء.

إن الروح الحسينية، والإحياء الصحيح ليفرض علينا أن نمارس حقنا المشروع، والمكفول شرعياً وحقوقياً وقانونياً دون أخذ إجازة من أحد.

قال الإمام الخميني(قده): “إن إقامة مجالس العزاء يجب أن تكون مستقلة، وأن لا تتوقف على رخصة الشرطة أو المؤسسة التخريبية التي تسمى الأمنية، فيا أبناء الشعب الأعزاء أقيموا المجالس دون الرجوع إلى المسؤولين، وإذا ما منعوها، فتجمعوا في الساحات والشوارع والأزقة، واكشفوا عن مصائب الإسلام والمسلمين، وخيانات نظام الشاه”. ([15]).

في سبيل إحياء متميّز:

للإحياء الفاعل خصائص تجعل من الموسم منطلقاً وجسراً للرقي والتقدم على كافة المستويات، نذكر منها ما يلي بشكل مختصر:

1: المعرفة الناضجة بعاشوراء وأهدافها المقدسة، فمن معرفة ذلك نستطيع أن نحمل مشعل الثورة ونبلغ رسالتها بالصورة الصحيحة.

2: التخطيط والإعداد المسبق لإحياء عاشوراء.

3: التواصل مع السادة الخطباء وإطلاعهم على القضايا التي يعاني منها المجتمع، وينبغي التركيز عليها بشكل خاص.

4: تقديم الخطباء الأكثر علماً وأخلاقاً واهتماماً بالموسم لما لذلك من أثر على إحياء الذكرى والمجتمع.

5: التنسيق مع بقية المآتم والمواكب في الأمور التي تحتاج إلى ذلك.

6: الإستفادة من التجارب الناجحة للآخرين.

7: التواصل مع الجمهور واستبيان آرائهم.

8: إيصال رسالة عاشوراء إلى أقصى نقطة ممكنة عبر الإستفادة من أدوات وتقنيات الإتصال والتواصل المتاحة. يقول الإمام الخميني(قده): “أيَّة مصيبةٍ، وأيُّ غمٍّ أكبر مِن أنْ يكون لدى المسلمين بضاعةٌ لا نظير لها منذ نشوء العالم وحتى نهايته، ولا يستطيعون عرض هذه الجوهرة الثَّمينة التي يطلبها كلُّ إنسان بفطرته؟!”([16]).

__________________

المصادر:

  • ([1]) صور بغدادية، فرياستارك، ص 145 ـ 150.
  • ([2])نظرة في إحياء مراسم عاشوراء، الشيخ المصباح اليزدي، ص7.
  • ([3]) نفس المصدر السابق.
  • ([4])نظرة في إحياء مراسم عاشوراء، الشيخ المصباح اليزدي، ص8.
  • ([5]) يلاحظ: الشعائر الحسينية من المظلومية إلى النهوض، الشيخ شفيق جرادي، ص14ـ 15.
  • ([6]) ثواب الأعمال، الشيخ الصدوق، ص 187.
  • ([7]) نهضة عاشوراء، الإمام الخميني، ص82.
  • ([8]) اللهوف في قتلى الطفوف، السيد ابن طاووس، ص 54 و ص57.
  • ([9]) قبسات من سيرة الإمام، الحالات العبادية والمعنوية، غلام علي رجائي.
  • ([10])لواعج الأشجان، السيد محسن الأمين، ص 155.
  • ([11])الإسلام المحمدي، الإمام الخامنائي، ص652.
  • ([12])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني، ص87.
  • ([13])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني، ص15.
  • ([14])نهضة عاشوراء، الإمام الخميني، ص10-11.
  • ([15])صحيفة الإمام، ج‏5، ص: 51.
  • ([16])هكذا تكلّم حرّاس الأمة، محسن عقيل، ص39.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى