ثقافة

هل يستطيع المعصوم فعل الحرام؟

ما معنى أن يعصم الله تعالى الأنبياء؟
هل معنى ذلك أنّه تعالى يمنعهم قهرًا من فعل الحرام؟

العصمة الجبريّة

لقد أجاب بعضهم: نعم، إنّ العصمة هي قهريّة، اضطراريّة، جبريّة، فالمعصوم حينما يهمُّ بفعل الحرام، فإنّ الله تعالى يتدخَّل ويمنعه قهرًا عن فعل ذلك الحرام، ومثالاً على هذه الفكرة يقولون: إنّ النبيّ يوسف حينما همَّ بامرأة العزيز، وكاد أن ينزلق في فعل المحرَّم، تدخّل الله تعالى، ومنع النبيّ عليه السلام من ارتكاب الإثم جبرًا وقهرًا.

ويبرِّرون تفسير العصمة بالنحو الجبريّ, بأنَّ الله تعالى أراد أن يعطي نموذجًا صافيًا للإنسان من كل إثم، حتى لو كان مقهورًا في فعله، فإنَّ ذلك لا يمنع من كونه نموذجًا لسائر الناس.

لكن يرد على هذا التبرير بأنّ العصمة الجبريّة للأنبياء عليه السلام تخرجهم عن مقام القدوة للناس، إذ كيف يقتدي الناس بمن يختلف عنهم بكونه مجبرًا على الصلاح، بينما هم في معرض الخير والشرّ، بل إنّ المؤمن المستطيع لفعل الحرام حينما يزجر نفسه عن المحرَّم باختياره، فإنّه يشعر بكونه أفضل من الأنبياء عليه السلام، فلو أنّ مؤمنًا حاولت إحدى النساء المتزوِّجات إغواءه، واستطاع أن يزجر نفسه عنها، فإنّه سيشعر في سرِّه بأنّه أفضل من النبيّ يوسف عليه السلام، فهل يستقيم هذا الأمر مع دعوة القرآن الكريم إلى الاقتداء بالأنبياء بقوله تعالى: ﴿أُوْلَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهْ1.

لا أعتقد أنّ من فسَّر العصمة بكونها جبريّة غير ملتفت إلى ما تقدَّم، إلاّ أن ما ألجأه إلى هذا التفسير هو صعوبةٌ وجدها في المواءمة بين كون العصمة من الله تعالى وبين كونها اختياريّة، إذ كيف يكون
النبيّ مختارًا في أفعاله، وفي الوقت نفسه معصومًا من الله تعالى؟!

تفسير العصمة الاختياريّة

إنّ الجواب على السؤال المتقدِّم يكمن، بداية، في تفسير معنى العصمة، فقد تقدَّم تفسيرها بأنّها “ملكة نفسيّة تمنع المتّصف بها من الفجور مع قدرته عليه”2.
وهذا التعريف يحتاج إلى تفصيل، فالعصمة عبارة عن علم خاص، راسخ في النفس، قد وهبه الله تعالى للنبيّ، أو غيره ممّن عصم، بحيث أنّ هذا العلم الخاص بالعالم به هو بأن يرى الطاعة كما هي عليه في الواقع من جمال، والمعصية كما هي عليه في الواقع من قبح، فتكون صورة الشيء في نفسه واقعيّة دومًا لا يستطيع إبليس أو أحد من الناس أن يغيِّرها بتزيين المعصية، أو تقبيح الطاعة، وهذا ما تقدّم في تفسير المخلَص، فالمخلَص نبيًّا كان أو غيره، نقيتْ نفسُه نقاءً تامًّا تبقى معه صور الأشياء على ما هي عليه في الواقع دون تبديل، وعليه، فهو حينما يرى المعصية قبيحة، فإنّه لا يقدم عليها باختياره، وحينما يرى الطاعة جميلة، فإنّه يندفع إليها باختياره، ومن باب المثال، فإنّ الله تعالى يصف أكل مال اليتيم بأنّه أكلٌ للنار، إذ يقول تعالى: ﴿إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا3, والمعصوم يستطيع باختياره أن يأكل مال اليتيم، إلاّ أنّه لا يقدم على ذلك, لأنّه يراه على حاله الواقعيّة نارًا، فكيف يقدم العاقل على النار ليأكلها، فلو أنّ طبيبًا علم يقينًا أنّ مصابًا بمرض السلّ المعدي شرب من كوب ماء، وانتقلت إليه الجراثيم المعدية، وكان الطبيب عطشانًا، فهل يشرب من الكوب نفسه؟! بل هل يتردّد في الشرب أو عدمه؟! أو أنّه يكون مصمِّمًا باختياره أن لا يشرب منه.

ولو أنّ مهندس كهرباء علم بأنّ السلك الكهربائيّ الذي أمامه فيه قوّة قاتلة، فهل تراه يقدم على لمسه؟!!
وعلى هذا الأساس يفسَّر موقف النبيّ يوسف عليه السلام الذي قال الله تعالى في توصيفه ﴿هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا لَوْلا أَن رَّأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ4.

إنّ زليخة همّت به، ولكنّ النبيّ يوسف عليه السلام، لأنّه رأى برهان ربّه، وهو ذلك العلم الخاصّ الذي يريه الأشياء على ما هي عليه، فيرى الحرام قبيحًا، فهو لولا ذلك العلم لهمَّ بها، لكنَّه لم يهمّ، ولم تتحرّك شهوته, لأنّه يرى الحرام على قبحه الواقعيّ.

أثر العلم الخاصّ على مقدِّمات المعصية

أجل، قلتُ: لم تتحرَّك شهوته، لأنّ صورة ذلك المشهد في نفسه هي قبيحة، وهذا الأمر يمكن أن نتعرَّف عليه نحن، وذلك حينما نتأمّل في بعض الأمور التي تحصل معنا نتيجة بيئة وتربية متراكمة، وأعطي
لذلك مثالين:
المثال الأوّل: الجائع ولحم الخنزير.

تربّى المؤمنون في مجتمعنا على كون لحم الخنزير حرامًا، حرمةً أضحى معه أكل هذا اللحم قبيحًا جدًّا، فلو أنّ أحد هؤلاء المؤمنين كان جائعًا جدًّا، ومرَّ من أمام مطعم يشوي لحم الخنزير، وتفوح رائحته، فهل إنّ هذا المؤمن الجائع العارف بكون المشويّ هو لحم خنزير تتحرّك شهوته نحوه؟

لا أظنّ أنّ أحدًا سيجيب بـ: نعم، بل إنّ تلك التربية ستشعره بالانزعاج والقرف حتى لو كان جائعًا.

هكذا كان النبيّ يوسف عليه السلام يرى المشهد.

المثال الثاني: النظرة إلى المحارم

في أغلب المجتمعات الإنسانيّة تربية حثيثة على النظرة الخاصّة إلى المحارم، كالأم، والأخت، والابنة، ونحوهنَّ، بحيث نرى أغلب الناس لو رأى أمّه، أو أخته، أو ابنته، في مشهد جماليٍّ يثير الآخرين، فإنّ غريزته لا تتحرّك، عادةً، بسبب أنّ الصورة المركَّزة في نفسه هي كون هذه المرأة من المحارم.

إنّ هذين المثالين يوضِّحان لنا أنّه يمكن من خلال تربية خاصةٍ أن ينقِّي الإنسان نفسه، فيعصمها من تزيين إبليس وتقبيحه.
وهذا ما فعله الله تعالى مع أنبيائه، فهو قد نقَّى أنفسهم، وأفاض عليهم العلم الخاصّ بحقائق الأمور، فكانوا يستطيعون فعل الحرام وترك الطاعة، لكنّهم ما كانوا يفعلون ذلك, لأنّهم يرون الطاعة في مشهد الجمال الذي يبعثهم نحوه، والمعصية في مشهد القبح الذي يبعدهم عنه.

فكيف إذا كان المشهد هو مشهد العشق الذي لا يتصرَّف فيه الحبيب إلاّ بما يرضي حبيبه. وهذا ما نتحدّث عنه لاحقًا.

يبقى سؤال هو:
لماذا منح الله هذا العلم لأناس بالخصوص دون سائر الناس؟

والجواب: إنّ الله تعالى علم بعلمه الأزليّ، قبل خلق الناس، أنّ هؤلاء الناس بالخصوص سيعبدون الله تعالى عبادة لا تشوبها شائبة، وترتقي على عبادة غيرهم من الناس، فأعطاهم الله تعالى منحة سابقة،
وجائزة متقدِّمة، بأن أفاض عليهم العلم الخاصّ.

وهذا الجواب مستفاد من كلمات الشيخ المفيد الذي قال: “العصمة تفضُّل من الله تعالى على من علم أنّه يتمسّك بعصمته”5.

  • كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.

المصادر والمراجع

1- سورة الأنعام، الآية 90.
2- السبحاني، محاضرات في الإلهيّات، (لا،ط)، قم، مؤسسة الإمام الصادق، (لا،ت)، ص 286.
3- سورة النساء، الآية 10.
4- سورة يوسف، الآية 24.
5- المفيد، محمد، تصحيح اعتقادات الإماميّة، تحقيق حسين دركاهي، ط2، بيروت، دار المفيد، 1993م، ص128.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى