ثقافة

ما تفسير الآيات المتعرِّضة للنبيّ إبراهيم (ع) في العقيدة والسلوك؟

تعرَّضت عدة آيات قرآنيّة لخليل الله ونبيّه إبراهيم عليه السلام، تارةً فيما يخصّ عقيدته بالله تعالى، وأخرى بما يخصّ سلوكه، ممّا قد يوهم البعض بأنّها تخدش من مقام عصمته، نعرضها بما يأتي:
إبراهيم وربوبيَّة الكواكب قال تعالى: ﴿وَكَذَلِكَ نُرِي إِبْرَاهِيمَ مَلَكُوتَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَلِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ * فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأَى كَوْكَبًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لا أُحِبُّ الآفِلِينَ * فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بَازِغًا قَالَ هَذَا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قَالَ لَئِن لَّمْ يَهْدِنِي رَبِّي لأكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ * فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي هَذَآ أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قَالَ يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾1.

قد يظنّ البعض أنّ هذه الآيات تخدش من المقام الاعتقاديّ بالله تعالى للنبيّ إبراهيم عليه السلام في بداية رحلته البحثيّة، بتوهّم أنّ نبيّ الله انتقل في حياته من الاعتقاد بربوبيّة الكواكب ليصل إلى الاعتقاد بوحدانيّة الله تعالى. وقد طرح المأمون سؤالاً للإمام علي بن موسى الرضا عليه السلام حول هذه الآيات، فقدّم الإمام عليه السلام إجابته بالقول: “إنّ إبراهيم عليه السلام وقع إلى ثلاثة أصناف: صنف يعبد الزهرة، وصنف يعبد القمر، وصنف يعبد الشمس”2.

إذًا كلام نبيّ الله كان موجَّهًا إلى ثلاثة أصناف يعبد كلٌّ منهم كوكبًا بصفته الربّ المدير للكون والإنسان. وأراد النبيّ عليه السلام أن يقنعهم بانحصار الربوبيّة والألوهيّة بالله تعالى، فاستخدم أسلوبًا مؤثِّرًا في الإقناع، فحينما رأى كوكب الزهرة قال: هذا ربي! بلهجة استفهاميّة، يُعبّر عنها في الاصطلاح بالاستفهام الاستنكاريّ، ومثاله حينما يقول المتسوّل لمن أعطاه صدقة قليلة: هذا كرمك؟! مستنكرًا عليه قلّة عطائه.

فلمّا أفل كوكب الزهرة، أي غاب واختفى نوره، قال: لا أحبّ الآفلين، لأنّ الأفول من صفات الحادث، أي المسبوق بالعدم، وليس من صفات القديم غير المسبوق به، فلمّا رأى القمر مضيئًا بحجم يبدو كونه أكبر من الزهرة، قال بلهجة الاستفهام الاستنكاريّ: هذا ربّي! باعتبار أنّ الربوبيّة إذا كان منطلقها الحجم الظاهر من النور، فالقمر أولى من الزهرة، وهذا الأمر يثير الشكّ عند عابدي الزهرة، إن لم يوجب التحوّل عندهم، لكن القمر حينما غاب أثار التساؤل نفسه، بكون الأفول والغياب لا يتناسب مع الربّ الذي لا بدَّ أن يواكب عبده بالهداية، وإلا ضلَّ عن السبيل، فلمّا أصبح، وظهرت الشمس بحجمها الأكبر، ونورها الأسطع، قال بلهجة الاستفهام الاستنكاريّ أيضًا: ﴿هَذَا رَبِّي﴾، وعلّل ذلك بقوله: ﴿هَذَآ أَكْبَرُ﴾، ممّا يثير الشكّ عند عابدي الزهرة والقمر، إنْ لم يوجب التحوّل عندهم، فلمّا غابت اغتنم النبيّ إبراهيم عليه السلام تشكيكه المتكرِّر بكون الآفل لا يصلح للربوبيّة لينقل القوم إلى عبوديّة الله تعالى الذي لا يغيب، بل هو خالق الكواكب وسائر السموات والأرض، فقال: ﴿يَا قَوْمِ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ * إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضَ حَنِيفًا وَمَا أَنَاْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ﴾3.

إذًا لم يكن موقف إبراهيم عليه السلام معبِّرًا عن قناعة متدرِّجة لديه، بل عن أسلوب احتجاج وإقناع قومه بوحدانيّة الله تعالى، وقد أوضح الله تعالى ذلك بقوله: ﴿وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ﴾4.
إنَّ ما تقدَّم هو توضيح لجواب الإمام الرضا عليه السلام لسؤال المأمون.

إبراهيم عليه السلام وعدم الاطمئنان

قال تعالى: عن لسان إبراهيم عليه السلام: ﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قَالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِّنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلَى كُلِّ جَبَلٍ مِّنْهُنَّ جُزْءًا ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْيًا وَاعْلَمْ أَنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ﴾5.
قد يتوهّم البعض أنّ سؤال النبيّ إبراهيم عليه السلام فيه نوع من الانتقاص بعقيدته، لأنّ قوله:﴿لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾ يفيد عدم اكتمال إيمانه بإحياء الله تعالى للموتى.

ولدفع هذا التوهّم نذكر جوابين:
الجواب الأوّل: إنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام كان على يقين بقدرة الله تعالى على إحياء الموتى، وإنّه سيُحييهم فعلاً، لكن الاعتقاد الجازم بشيء لا يتناقض مع السؤال بهدف معرفة كيفيّة حصوله، فأنا مثلاً، حينما أرى المصباح الكهربائيّ مضيئًا أمامي أعتقد جازمًا بوجوده وبإضاءته، ولكن هذا الاعتقاد يجتمع مع سؤالي حول كيفيّة حصول هذه الإضاءة، فما الذي يحدث داخل الزجاجة حينما تصل الطاقة الكهربائيّة إلى ذلك السلك الكائن فيها ليبعث هذا النور القويّ؟! فأسأل: كيف يضيء المصباح؟ فهل سؤالي هذا يتناقض مع إيماني واعتقادي الجازم بوجود النور وإضاءته؟ الجواب: كلا، وعند ملاحظة قلبي، قبل معرفة كيفيّة حدوث الضوء، تراه متسائلاً عن الكيفيّة، طالبًا معرفتها، وبمعرفة الكيفيّة ينتفي عندي السؤال، وبالتالي أصل إلى مرحلة الاطمئنان والاستقرار الأتمّ.

إنّ هذا تقريبٌ لحال النبيّ إبراهيم عليه السلام الذي كان على يقين تامّ جازم بأنّ الله تعالى سوف يحيى الموتى، لكنّه لم يكن قد رأى كيفيّة ذلك ليصل إلى استقرار القلب بهذه الرؤية الفعليّة، فسأل الله تعالى أن يريه كيف يحيي الموتى، فاستجاب الله تعالى له، وطلب منه تعالى أن يأخذ أربعة من الطير، وأن يصرهنّ إليه، ثمّ يجعل على كلّ جبل منهنّ جزءً، ثمّ يدعوهنّ، فأخذ، كما في الرواية، نسرًا، وبطًّا، وطاووسًا، وديكًا، فقطعهنّ وخلطهنّ، ثمّ جعل على كلّ جبل من الجبال العشرة التي حوله منهنّ جزءً، فجعل مناقيدهنّ بين أصابعه، ثمّ دعاهنّ بأسمائهنّ، فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى استوت الأبدان، وجاء كلّ بدن حتى انضمّ إلى رقبته ورأسه، وجئن إلى نبيّ الله، وقلن: “يا نبيّ الله أحييتنا أحياك الله، فقال إبراهيم عليه السلام، بل الله يحيي ويميت، وهو على كلّ شيءٍ قدير”6.

الجواب الثاني:
 هو ما أجاب به الإمام الرضا عليه السلام المأمون حينما سأل عن تفسير تلك الآيات فقال: “إنّ الله تبارك وتعالى كان قد أوحى إلى إبراهيم عليه السلام: أنّي متخذ من عبادي خليلاً، إن
سألني إحياء الموتى أجبته، فوقع في نفس إبراهيم عليه السلام أنّه ذلك الخليل، فقال: 
﴿رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِي الْمَوْتَى قَالَ أَوَلَمْ تُؤْمِن قَالَ بَلَى وَلَكِن لِّيَطْمَئِنَّ قَلْبِي﴾7 على الخلّة”8. أي ليطمئنّ قلبه على كونه هو ذلك الخليل لله تعالى الذي حدّثه عنه ربّه.

إبراهيم عليه السلام ودِقّة الكلام

قال تعالى: عن لسان النبيّ إبراهيم عليه السلام: ﴿وَتَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنَامَكُم بَعْدَ أَن تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ * فَجَعَلَهُمْ جُذَاذًا إِلَّا كَبِيرًا لَّهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ * قَالُوا مَن فَعَلَ هَذَا بِآلِهَتِنَا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا سَمِعْنَا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقَالُ لَهُ إِبْرَاهِيمُ * قَالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلَى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ * قَالُوا أَأَنتَ فَعَلْتَ هَذَا بِآلِهَتِنَا يَا إِبْرَاهِيمُ * قَالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هَذَا فَاسْأَلُوهُمْ إِن كَانُوا يَنطِقُونَ * فَرَجَعُوا إِلَى أَنفُسِهِمْ فَقَالُوا إِنَّكُمْ أَنتُمُ الظَّالِمُونَ * ثُمَّ نُكِسُوا عَلَى رُؤُوسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ مَا هَؤُلَاء يَنطِقُونَ * قَالَ أَفَتَعْبُدُونَ مِن دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَنفَعُكُمْ شَيْئًا وَلَا يَضُرُّكُمْ﴾9.

قد يتوهّم البعض أنّ النبيّ إبراهيم عليه السلام حينما قال لهم: ﴿بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ﴾، إنّه، والعياذ بالله، لم يكن صادقًا، وهذا يتنافى مع عصمته.
والجواب أنّ نبيّ الله قد علَّق كون الفاعل كبيرهم بشرط مستحيل هو أنّهم ينطقون، فكأنّه قال: “إن كانوا ينطقون فقد فعله كبيرهم”10، وعليه فهو عليه السلام لم يكن كاذبًا في قوله هذا، بل هو بذلك أراد أن يوصل رسالة لهم، بأنّ من كانت هذه حاله لا يكون ربًّا، ولا يستحقّ العبادة، فمن لا يقدر أن يدفع عن نفسه كيف يدفع عن غيره ليكون ربًّا؟!

  • كتاب يسألونك عن الأنبياء، سماحة الشيخ أكرم بركات.

المصادر والمراجع

1- سورة الأنعام، الآيات 75-79.
2- الصدوق، محمّد، عيون أخبار الرضا، تصحيح وتعليق وتقديم حسين الأعلمي، (لا،ط)، بيروت، مؤسسّة الأعلميّ، 1404هـ، ج1، ص175.
3- سورة الأنعام، الآيات 75-79.
4- سورة الأنعام، الآية 83.
5- سورة البقرة، الآية 260.
6- الصدوق، محمّد، التوحيد، (لا،ط)، قم، منشورات جماعة المدرسين، (لا،ت)، ص132.
7- سورة البقرة، الآية 260.
8- المجلسيّ، محمّد باقر، بحار الأنوار، ج11، ص80.
9- سورة الأنبياء، الآيات 57-66.
10- انظر: الطوسيّ، محمّد، الخلاف، (لا،ط)، قم، مؤسسة النشر الإسلاميّ، 1407هـ، ج4، ص491.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى