ثقافة

يحبهم ويحبونه

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ﴾1

تمهيد
الكلام عن المدخل الحقيقيّ للولاية، فإنّ ولاية الله تعالى لا تتحقّق إلّا بعد نيل المؤمن مقام الحبّ لربّه تعالى، وبعد تحقّق حبّ الله تعالى لعبده يثمر هذا الحبّ المقدّس الولاية. فالمؤمنون في حزب الله بحسب التعريف القرآنيّ يحبّون الله حبّ، من لوازمه إيثارهم ربّهم على كلّ شيء سواه، ممّا تتعلّق به نفس الإنسان من مال، أو جاه، أو عشيرة، أو غيره، ﴿وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَشَدُّ حُبًّا لِّلّه﴾2.

﴿قُلْ إِن كَانَ آبَاؤُكُمْ وَأَبْنَآؤُكُمْ وَإِخْوَانُكُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ وَعَشِيرَتُكُمْ وَأَمْوَالٌ اقْتَرَفْتُمُوهَا وَتِجَارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسَادَهَا وَمَسَاكِنُ تَرْضَوْنَهَا أَحَبَّ إِلَيْكُم مِّنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ وَجِهَادٍ فِي سَبِيلِهِ فَتَرَبَّصُواْ حَتَّى يَأْتِيَ اللّهُ بِأَمْرِهِ وَاللّهُ لاَ يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ﴾3.

فهؤلاء لا يوالون أحداً من أعداء الله سبحانه، وإنّما يوالون أولياء الله بولاية الله تعالى، هذه درجة حبّهم لخالقهم.

فإذا حصلوا على مرتبة المحبّة للخالق واتّبعوا الرسول حقّ الاتّباع نالوا بعد ذلك وسام محبّة الله لهم ﴿قُلْ إِن كُنتُمْ تُحِبُّونَ اللّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللّهُ﴾ فإذاً حبّ من جانب العبد، واتّباعٌ للرسول، ثمّ محبّة وعناية من الله تعالى، هذه مراحل ومقامات متتالية.

فإنّ محبّة الله تعالى لا تنال بالأمنيات والدعاوى، بل هناك أمور يجب على الساعي المريد أن يطردها عن نفسه، وأمور يلزم تحصيلها في النفس، ومن دون ذلك لا يرتفع العبد إلى تلك الدرجة الراقية للولاية والمحبّة لله، ولا ينال محبّة الله تعالى له.

صفات من يحبّهم الله تعالى
سنذكر فيما يلي بعض الآيات الّتي تتناول أولئك الّذين يحبّهم الله تعالى:
كن تقياً يحبّك الله: ﴿فَإِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ﴾5 .
وقد فسّر الإمام الصادق عليه السلام التقوى: “بأن لا يفقدك الله حيث أمرك ولا يراك حيث نهاك6.

والتقوى لها مراتب تبدأ من الاستقامة في جادّة الشرع بأن يفعل العبد ما فُرض عليه ويترك ما نُهي عنه، وتنتهي بالتنزّه عمّا يشغل قلبه عن الحقّ وهو أعلى المراتب.

كن من الّذين يقاتلون في سبيل الله:﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُم بُنيَانٌ مَّرْصُوصٌ﴾7.
كن متوكّلاً على الله: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِين﴾8.

والتوكّل: أن تعتمد على الله وتجعله نائباً عنك.

كن توّاباً متطهّراً: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَيُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ﴾9.

التوبة هي: الرجوع إلى الله سبحانه بالندم على الذنب والعزم على عدم العود والتدارك للتفريط.

كن محسناً: ﴿إِنَّ اللّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ﴾10.

الإحسان: فوق العدل، وذاك أنّ العدل هو أن يُعطي ما عليه ويأخذ ما له. والإحسان أن يعطي أكثر ممّا عليه ويأخذ أقلّ ممّا له، فالإحسان زائد على العدل فتحرّي العدل واجب وتحرّي الإحسان ندب وتطوّع، ﴿إِنَّ اللّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالإِحْسَانِ﴾11 ، ولذلك عظّم الله تعالى ثواب المحسنين فقال تعالى: ﴿وَإِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ﴾12.

كن صابراً: ﴿وَاللّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ﴾13.

كن عادلاً مقسطاً: ﴿إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِين﴾14.

وعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “إنّ المقسطين يوم القيامة على منابر من نور عن يمين الرحمن وكلتا يديه يمين الّذين يعدلون في حكمهم وأهليهم وما ولوا”15.

صفات من لا يحبّهم الله تعالى
كما أنّه تعالى بيّن صفات من يحبّ، فإنّه أيضاً بلطفه بيّن صفات من لا يحبّ، لكي يطوي سالك طريق المحبّة طريقه على بصيرة وفهم ومعرفة ودراية فيمتثل ما يحبّه خالقه، ويفرّ ويبتعد عمّا لا يحبّه، فينال بذلك غاية مراده ويصل إلى منتهى أمنيته وهو حبّ الله سبحانه له.

لا تكن ظالماً: قال تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الظَّالِمِينَ﴾16.
فلا تظلم نفسك بعصيانها لخالقها، ولا تظلم غيرك من الناس، فإنّ الظلم ظلماتٌ يوم القيامة.
لا تظلم أجيرك، ولا زوجك، ولا جارك، ولا أخاك، ولا أولادك، ولا أحداً من الناس، قريباً كان أم بعيداً، فإنّك مسؤول عن ذلك كلّه.
لا تكن مسرفاً: قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ﴾17.

لا ريب في أنّ النعم الموجودة على الكرة الأرضية كافية لساكنيها، بشرط أن لا يبذّروا هذه النعم بلا سبب، بل عليهم استثمارها بشكل معقول وبلا إفراط وإسراف.

لا تكن مفسداً: قال تعالى: ﴿وَاللّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُفْسِدِين﴾﴾18.

الله تعالى يحبّ الإصلاح لا الإفساد، والأنبياء عليهم السلام دعوتهم الإصلاح ﴿إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الإِصْلاَحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَمَا تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ﴾19.

والأولياء والأوصياء كذلك وظيفتهم الإصلاح كما أعلن ذلك سيّد الشهداء الحسين عليه السلام في نهضته “إنّما خرجت لطلب الإصلاح في أمّة جدّي“.

فعوِّد نفسك في كلّ حياتك على أن تكون مصلحاً أينما حللت تصلح بك الأمور، ويتصالح بك المختلفون، ويلتقي بك المفترقون، ويتقارب بك المتباعدون، ولا تكن من الّذين يفسدون وتفسد بهم الأمور فإنّ الله لا يحبّ الفساد ولا المفسدين.

لا تكن معتدياً: قال تعالى: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ﴾20.

الحرب في الإسلام لله وفي سبيل الله، ولا يجوز أن يكون في سبيل الله اعتداء. لذلك يوصي الإسلام برعاية كثير من الأصول الخلقية في الحرب، وهو ما تفتقر إليه حروب عصرنا أشدّ الافتقار. يوصي مثلاً بعدم الاعتداء على المستسلمين وعلى من فقدوا القدرة على الحرب، كالشيوخ والنساء والأطفال، وهكذا يجب عدم التعرُّض للمزارع والبساتين، وعدم اللجوء إلى المواد السامة لتسميم مياه شرب العدو كالسائد اليوم في الحروب الكيمياوية والجرثومية.

يقول الإمام عليّ عليه السلام لأفراد جيشه قبل شروع القتال في صفّين: “لا تقاتلوهم حتّى يبدؤوكم فإنّكم بحمد الله على حجّة، وترككم إيّاهم حتّى يبدؤوكم حجّة أخرى لكم عليهم، فإذا كانت الهزيمة بإذن الله فلا تقتلوا مدبراً ولا تصيبوا معوراً ولا تجهزوا على جريح، ولا تهيجوا النساء بأذى وإن شتمن أعراضكم وسببن أمراءكم21.

لا تكن مستكبراً: قال تعالى: ﴿إِنَّهُ لاَ يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِين﴾22.

فالمؤمن لا يستكبر عن قبول الحقّ ولا يتكبّر على الخلق. ومن وجد في نفسه شيئاً من ذلك عليه أن يعلم أنّ هذا مُهلِك، وليبادر لاقتلاعه من نفسه، وإلّا فسوف يكون بعيداً عن محبّة الله له.

لا تكن خائناً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ الخَائِنِينَ﴾23 .

الخيانة في الأصل معناها: الامتناع عن دفع حقّ أحد مع التعهّد به، وهي ضدّ الأمانة، والأمانة وإن كانت تطلق على الأمانة المالية غالباً، لكنّها في منطق القرآن ذات مفهوم أوسع يشمل شؤون الحياة الاجتماعية والسياسية والأخلاقية كافة، ولذلك جاء في الأحاديث: “المجالس بالأمانة24. ومن ذلك تكون أرض الإسلام أمانة إلهية بأيدي المسلمين وأبنائهم أيضاً. وفوق كلّ ذلك فإنّ القرآن المجيد وتعاليمه كلّ ذلك يعدّ أمانة إلهية كبرى. والخيانة لله ورسوله، هي وضع الأسرار العسكرية للمسلمين في تصرُّف أعدائهم، أو تقوية الأعداء أثناء محاربتهم، أو بصورة عامّة ترك الواجبات والمحرّمات والأوامر الإلهية، قال تعالى:﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَخُونُواْ اللّهَ وَالرَّسُولَ وَتَخُونُواْ أَمَانَاتِكُمْ﴾25

لا تكن مختالاً ولا فخوراً: ﴿إِنَّ اللّهَ لاَ يُحِبُّ مَن كَانَ مُخْتَالاً فَخُورًا﴾26.

الخيلاء: الكبر. تقول: اختال فهو ذو خيلاء، أي ذو كبر.

والفخر: المباهاة في الأشياء الخارجة عن الإنسان كالمال أوالجاه أو النسب.

ولا بدّ هنا من الإشارة إلى أنّ المفاخرة قد تكون محرّمة وقد لا تكون، فإنّ أخذ في عنوانها نفي الفضيلة عن المخاطب وإثبات منقصة ورذيلة عليه فلا ريب في الحرمة، وقد تكون الرواية التالية عن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم مشيرة إليه: “أربع في أمّتي من أمر الجاهلية.. الفخر في الأحساب27.

وأمّا إن لم تستلزم ذلك ولم تمسّ كرامة أحد وإنّما أراد المفاخِر من خِلالها أن يثبت لنفسه فضيلة أو ينفي عنها رذيلة من دون تعريض بمؤمن آخر أو مساس بكرامته، فلا بدّ من إخراجها عن المفاخرة الممنوعة لعدم احتمال حرمة هذا النحو من المفاخرة، فمجرّد الافتخار ما لم يستوجب منقصة على أحد من المؤمنين لا محذور فيه شرعاً28. طبعاً هذا من الناحية الفقهية، وأمّا من الناحية الأخلاقية فقد يكون مرجوحاً ساعتئذ وإن لم يصل إلى مرتبة التحريم.

روي عن البزنطي قال:”...قلت له (أي للإمام الرضا عليه السلام): يا ابن رسول الله أشتهي أن تدعوني إلى دارك في أوقات تعلم أنّه لا مفسدة لنا من الدخول عليكم من أيدي الأعداء، قال: ثمّ (إنّه) بعث إليّ مركوباً في آخر يوم فخرجت وصلّيت معه العشائين، وقعد يملي عليّ العلوم ابتداء وأسأله فيجيبني إلى أن مضى كثير من الليل ثمّ قال للغلام: هات الثياب الّتي أنام فيها لينام أحمد البزنطي فيها. قال: فخطر ببالي: ليس في الدنيا من هو أحسن حالاً منّي بعث الإمام مركوبه إليّ وجاء وقعد إليّ ثمّ أمر لي بهذا الإكرام، وكان قد اتّكأ على يديه لينهض، فجلس وقال: يا أحمد لا تفخر على أصحابك بذلك، فإنّ صعصعة بن صوحان مرض فعاده أمير المؤمنين عليه السلام وأكرمه ووضع يده على جبهته، وجعل يلاطفه، فلمّا أراد النهوض قال: يا صعصعة لا تفخر على إخوانك بما فعلت، فانّي إنّما فعلت جميع ذلك لأنّه كان تكليفاً لي29.

لا تكن فرحاً أشراً بطراً: ﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ﴾30.

الفرح: انشراح الصدر بلذّة عاجلة. وأكثر ما يكون ذلك في اللذّات البدنيّة، فلهذا قال تعالى: ﴿وَلَا تَفْرَحُوا بِمَا آتَاكُمْ﴾31﴿وَفَرِحُواْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا﴾32.

﴿ذَلِكُم بِمَا كُنتُمْ تَفْرَحُونَ﴾33﴿حَتَّى إِذَا فَرِحُواْ بِمَا أُوتُواْ﴾34﴿فَرِحُوا بِمَا عِندَهُم مِّنَ الْعِلْمِ﴾35﴿إِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْفَرِحِين﴾﴾36 ولم يرخّص تعالى في الفرح إلّا في قوله ﴿فَبِذَلِكَ فَلْيَفْرَحُواْ﴾37﴿وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ﴾38، والمنهي عنه هو الفرح الّذي يكون مع البطر للأهواء الباطلة39.

فلكي تحصل على محبّة الله تعالى لك، عليك أن تجتنب تلك الصفات الّتي لا يحبّها الله، وأن تتحلّى بالصّفات الّتي يحبّها، فعندها تكون من السعداء بحبّ الله تعالى لك، وهي والله سعادة الدنيا والآخرة وتكون قد نلت درجة حزب الله لأنّ: من صفات حزب الله في القرآن: يحبّهم ويحبّونه…

  • اولئك حزب الله ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

المصادر والمراجع

1- سورة المائدة، الآية:54.
2- سورة البقرة، الآية: 165.
3- سورة التوبة، الآية: 24.
4- سورة آل عمران، الآية: 31.
5- سورة آل عمران، الآية: 76.
6- شرح أصول الكافي، المولى محمّد صالح المازندراني،ج1،ص 118.
7- سورة الصف، الآية: 4.
8- سورة آل عمران، الآية: 159.
9- سورة البقرة، الآية: 222.
10- سورة البقرة، الآية: 195.
11- سورة النحل، الآية: 90.
12- سورة العنكبوت، الآية: 69.
13- سورة آل عمران، الآية: 146.
14- سورة المائدة، الآية: 142.
15- تفسير القرطبي، القرطبي، ج5، ص 258.
16- سورة آل عمران، الآية: 57.
17- سورة الأنعام، الآية: 41.
18- سورة المائدة، الآية: 64.
19- سورة هود، الآية: 88.
20- سورة البقرة، الآية: 190.
21- نهج البلاغة، الخطبة: 123.
22- سورة النحل، الآية: 23.
23- سورة الأنفال، الآية: 58.
24- الكافي، الشيخ الكليني، ج2،ص660.
25- سورة الأنفال،الآية:27.
26- سورة النساء، الآية: 36.
27- تفسير القرطبي، القرطبي، ج 71، ص 255.
28- راجع كتاب الحج، السيد الخوئي، ج 4، ص 158.
29- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 49، ص 48- 49.
30- سورة القصص، الآية: 76.
31- سورة الحديد، الآية:23.
32- سورة الرعد، الآية:26.
33- سورة غافر، الآية:75.
34- سورة الأنعام، الآية44.
35- سورة غافر، الآية:83.
36- سورة القصص، الآية:76.
37- سورة يونس، الآية: 58.
38- سورة الروم، الآية: 4.
39- انظر: مفردات غريب القرآن، الراغب الأصفهاني، ص 375.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى