ثقافة

واخفض جناحك

بسم الله الرحمن الرحيم

وَاخْفِضْ جَنَاحَك
 
قال الله تعالى مخاطباً نبيّه الكريم: ﴿فَلَا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ*وَأَنذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ*وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ* فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تَعْمَلُونَ*َتَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ﴾1

وفي موضع آخر يقول الباري أيضاً: ﴿…وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ﴾2

في هذه الآيات الكريمة إرشادات إلهية ربّانية إلى سيّد الأنبياء والرسل (صلوات الله عليهم) محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله) وفيها تعاليم جميلة وسامية في تأديب الأنبياء(صلوات الله عليهم) على واحدة من الخصال الحميدة وهي خصلة وصفة التواضع.

وقيل في معنى: ﴿وَاخْفِضْ جَنَاحَك﴾: ألن جانبك وأرفق بالمؤمنين، وأصل المعنى أن الطائر إذا ضمّ فرخه إلى نفسه، بسط جناحه، ثم خفضه، فيكون المعنى المراد: أيها النبي تواضع للمؤمنين لكي يتبعك الناس في دينهم.

وقيل:إنّ الطائر إذا أراد أن ينحط للوقوع يخفض جناحه، وإذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه، فجعل خفض الجناح عند الانحطاط مثلاً يضرب في التواضع ولين الجانب.

وهذا الإرشاد الإلهي لم يكن على سبيل أمر النبي(صلوات الله عليه وآله) بذلك لأنه لا يملك هذه الصفة، بل إنّه(صلوات الله عليه وآله) كان المثل الأعلى في التواضع والرفق واللين والمحبّة للناس-كما سنبيّن ذلك- بل هو أمر إرشادي لصفة ينبغي أن يكون عليها النبي(صلوات الله عليه وآله) ليتأسّى به كل من اتبعه وأراد أن يكون في نهجه.
 
النبي (صلوات الله عليه وآله) القائد المتواضع

أوصى الله تبارك وتعالى الرسول الأعظم (صلوات الله عليه وآله) في العديد من آيات الكتاب الكريم بأن يكون متواضعاً مع المؤمنين، محباً، سهلاً ورحيماً، وهذه الوصايا لا تختص بالنبي(صلوات الله عليه وآله)، بل هي عامة لكل قائد وموجّه، سواء كانت دائرة قيادته واسعة أم محدودة، فعليه أن يأخذ بهذا الأصل الأساسي في الإدارة والقيادة الصحيحة.

ومن القضايا المؤثرة والأسس والمرتكزات لحبّ الناس وتعلّقهم بالقائد هي تحلّيه بمثل هذه الصفة، وهذا ما يضمن له أيضاً الطاعة منهم والنجاح في إرادتهم.

وأما خشونة طباعه وقسوة قلبه وتكبّره وغروره فإنّها سبيل للنفور منه وعدم وجود رابطة حقيقية بينه وبينهم، وهذا ما سيؤدّي إلى وحشتهم منه وتفرّقهم عنه.

يقول أمير المؤمنين(عليه السلام) في رسالته إلى محمد بن أبي بكر: “فاخفض لهم جناحك وألن لهم جانبك وابسط لهم وجهك وآس بينهم في اللحظة والنظرة”3

وخفض الجناح واللين والرفق هي صفات النبي(صلوات الله عليه وآله) ومكارم أخلاقه التي بها نال المكانة الرفيعة عند الله تعالى وبين الناس، ولذلك كانت توجيهات القرآن الكريم للنبي(صلوات الله عليه وآله) وللمؤمنين تصبّ كلها في هذا الإطار.

قال تعالى: ﴿فَبِمَا رَحْمَةٍ مِّنَ اللّهِ لِنتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لاَنفَضُّواْ مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاسْتَغْفِرْ لَهُمْ… ﴾4

وقال تعالى: ﴿..وَتَعَاوَنُواْ عَلَى الْبرِّ وَالتَّقْوَى وَلاَ تَعَاوَنُواْ عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ…﴾5

وقال تعالى: ﴿وَقُل لِّعِبَادِي يَقُولُواْ الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلإِنْسَانِ عَدُوًّا مُّبِينً﴾6

وقال تعالى: ﴿…وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلَامً﴾7

ولا تنحصر مظاهر الرحمة واللين والرفق والتواضع وغيرها في هذه المفردات والعناوين بالمظهر الخارجي للإنسان كأن تظهر على الإنسان علاماته وأشكاله، بل يتعدّى ذلك ليشمل جميع جوارحه وأعماله مثل اللسان والروح والقلب بحيث يكون اللسان لسان رفق لا فحش وبذاء، ولسان احترام ومحبة لا عداء وعدوانية، ويكون القلب قلب ليّن خافض لا قلب قسوة وشدّة.
 
التواضع في سيرة النبي وأهل البيت(سلام الله عليهم)

أشاد النبي (صلوات الله عليه وآله) والأئمة المعصومين(عليهم السلام) بشرف هذه الصفة المجيدة، واعتبروا التواضع والرفق من الأخلاق السامية التي ينبغي أن يتحلى بها الإنسان، فدعوا الناس إلى الاتصاف بذلك.

يقول الإمام الصادق(عليه السلام):“إنّ في السماء ملكين موكلين بالعباد، فمن تواضع لله رفعاه، ومن تكبّر وضعاه”8

وفي سيرة النبي(صلوات الله عليه وآله) أنه كان في تواضعه ورفقه بالآخرين على ما يلي: ” كان النبي(صلوات الله عليه وآله) أشدَّ الناس تواضعاً، وكان إذا دخل منزلاً قعد في أدنى المجلس حين يدخل، وكان في بيته في مهنة أهله، يحلب شاته، ويرقع ثوبه، ويخصف نعله، ويخدم نفسه، ويحمل بضاعته من السوق، ويجالس الفقراء، ويواكل المساكين…

وكان يبدأ من لقيه بالسلام، ويبادئ أصحابه بالمصافحة، ولم يُر قطّ ماداً رجليه بين أصحابه، يُكرم من يدخل عليه، وربما بسط له ثوبه، ويؤثره بالوسادة التي تحته، ويُكني أصحابه، ويدعوهم بأحبّ أسمائهم تكرمةً لهم، ولا يقطع على أحد حديثه، وكان يقسّم لحظاته بين أصحابه، وكان أكثر الناس تبسّماً، وأطيبهم نفساً”
.9

وفي المأثور عن أمير المؤمنين الإمام علي(عليه السلام) يقول الإمام الصادق(عليه السلام): ” خرج أمير المؤمنين(عليه السلام) راكباً على أصحابه، فمشوا خلفه، فالتفت إليهم فقال لهم: لكم حاجة، فقالوا: لا يا أمير المؤمنين، ولكنّا نحبّ أن نمشي معك، فقال لهم: انصرفوا، فإنّ مشي الماشي مع الراكب مفسدة للراكب، ومذلّة للماشي”.10

فمن يريد الإقتداء بالنبي (صلوات الله عليه وآله) والأئمة (عليهم السلام) عليه أن يحمل  مثل هذه المواصفات التي تعكس أنوارها على المجتمع بحيث يتحوّل إلى مجتمع مثالي نموذجي غير طبقي… يتساوى فيه الناس على اختلاف مستوياتهم، وتُنتزع العصبية والجاهلية من القلوب، بل إنّ مفتاح صلاح القلوب هو بتواضع ومحبه الناس لبعضهم البعض، ورفقهم ببعضهم البعض.

قال تعالى: ﴿وَلاَ تَمْشِ فِي الأَرْضِ مَرَحًا إِنَّكَ لَن تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَن تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولاً ﴾11

والحمد لله رب العالمين


1- سورة الشعراء:الآيات 213-217.
2- سورة الحجر:الآية:88
3- نهج البلاغة:الرسالة:27
4- سورة آل عمران: الآية:159.
5- سورة المائدة: الآية:2.
6- سورة الإسراء:الآية:53.
7- سورة الفرقان:63.
8- الكافي، الكليني:
9- سفينة البحار، الشيخ عباس القمي:مجلد1/415.
10- الكافي، الكليني،ج6،ص540.
11- سورة الإسراء:الآية:

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى