ثقافة

رضا الله تعالى عن المؤمنين ورضاهم عنه

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿لَا تَجِدُ قَوْمًا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلَا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُون﴾1

رضَا الله عن المؤمنين
﴿رَّضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ﴾
تشير الآية الكريمة إلى رضاءين بنوع من العلاقة بينهما: رضا الله تعالى عن العبد، ورضا العبد عن الله تبارك وتعالى. والمؤمن من حزب الله محقّقٌ لكليهم، ولكن كيف ننظر إلى هذا الانسجام بين الرضاءين وكيف نفسره ونقرأه؟

موجبات رضا الله تعالى
هناك موجبات لنيل رضا المعبود قد بُيّنَت من خلال الشريعة المقدّسة عن طريق كتاب الله وأهل العصمة والطهارة عليهم السلام.

تقوى الله وإطاعته
والتقوى هي الكلمة الجامعة الّتي توجب رضاه سبحانه، فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “وأوصاكم بالتقوى، وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه2 ، وعنه عليه السلام: “هيهات! لا يخدع الله عن جنّته، ولا تنال مرضاته إلّا بطاعته3.

وفي الواقع إنّ المتأمّل يجد أنّ تقوى الله تعالى هي الجامع لكلّ موجبات رضاه تعالى، وهو ما صرّح به الإمام عليه السلام بقوله: “وجعلها منتهى رضاه وحاجته من خلقه”، فلا بدّ لمن أراد نيل رضا الله تعالى من التعرّف إلى سمات المتّقين ثمّ التحلّي بها وتجسيدها في شخصيّته وقلبه وسلوكه، عندها سيجد نفسه قد حقّق ما يريده المولى عزّ وجلّ، ويكون قد أصبح محلّاً قابلاً لفيض ما يقتضيه رضا الله تعالى عليه، وعندها يكون قد دخل في سلك حزب الله النجباء الّذين يصفهم الله تعالى بقوله: ﴿رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ أُوْلَئِكَ حِزْبُ اللَّه﴾4.

فإذاً التقوى تؤدّي إلى منتهى رضا الله تعالى عن الخلق، وهذا يتطلّب من العبد بذل قصارى الجهد وتمام الوسع، فرِضَا الله تعالى عن عبدٍ ليس منحةً مجّانية يقدّمها المولى تعالى بلا ثمن وبلا سعي وجهد من العبد. كيف؟ وقد صرح القرآن الكريم بوجوب السعي لنيله ﴿وَأَن لَّيْسَ لِلْإِنسَانِ إِلَّا مَا سَعَى﴾5 ﴿فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَه﴾6.

أمور توجب الرضا
عن الإمام عليّ عليه السلام: “ثلاث يبلغن بالعبد رضوان الله:كثرة الاستغفار، وخفض الجانب، “أي التواضع، ومجانبة الترفّع، والتفاخر، والتعالي على عباد الله“، وكثرة الصدقة7.

وممّا يوجب رضا الله تعالى، “إسخاط النفس والبدن“.
فعن أمير المؤمنين عليه السلام: “من أسخط بدنه أرضى ربّه، ومن لم يسخط بدنه عصى ربّه8.
وقال لقمان عليه السلام لابنه: “يا بنيّ من يرد رضوان الله يسخط نفسه كثير، ومن لا يسخط نفسه لا يرضي ربّه9.

وهذا يعني أنّ الإنسان إذا أعطى نفسه هواه، وأرضاها بكلّ ما تشتهي، لا بدّ أن تقوده إلى المعصية، والمعصية بدورها ستقوده إلى سخط المولى عزّ وجلّ. تأمَّل بالتوصيفات الّتي يذكرها الإمام السّجاد عليه السلام للنفس الإنسانية فإنّها كافية لتعلَم أنّ النفس لا ينبغي أن تُعطَى سؤله، بل لا بدّ من ترويضها لمن أراد أن يأمن غوائلها ليصل إلى مرضاة ربّ العالمين تبارك وتعالى، يقول عليه السلام:”الهي إليك أشكو نفساً بالسوء أمّارة، وإلى الخطيئة مبادرة، وبمعاصيك مولعة، ولسخطك متعرّضة، تسلك بي مسالك المهالك، وتجعلني عندك أهون هالك، كثيرة العلل، طويلة الأمل، إن مسَّها الشرّ تجزع، وإن مسّها الخير تمنع، ميّالة إلى اللعب واللهو، مملوءة بالغفلة والسهو، تسرع بي إلى الحوبة، وتسوّفني بالتوبة10.

ولا بدّ من الالتفات إلى أن تعويد النفس ولو على الأهواء المباحة قد يجرّ الإنسان إلى ما لا تحمد عقباه، لأنّه من طاف حول الحمى كاد أن يدخل فيه، فاتّباع هوى النفس لإرضائها لا يؤمن غوائله ولا تضمن عواقبه.

وهنا أمر في غاية الأهمّية لا بدّ من الإشارة إليه، وهو أنّ بعضَ غيرِ الواعين قد يخفَى عليهم بعض الجوانب في الحكم الشرعيّ والتكليف، فيؤدّي ذلك إلى أنّهم يُغضِبُون الله تعالى من حيث يريدون إرضاءه، ويخرجون بذلك عمّا رسمه الله تعالى في كتابه لحزبه وأوليائه، وإليك بعض النماذج لذلك:

أ- أذيّة الوالدِّين بحجج واهية
فمثلاً إنّ الله تعالى لا يرضى عن من أسخط والديه، فقد يزيّن الشيطان لشخصٍ عمله فيراه حسن، فيوحي إليه أنّه مَرضِيّ عنه وان كان والداه ساخطين عليه، بحجّة أنّ والديه مثلاً لم يكونا على درجة من الالتزام فلا يكترث لبرّهما، ولا لصحبتهما بالمعروف، ولا يعبأ بسخطهما عليه!

بل قد يتمادى إلى حدّ أن لا يكترث بدعائهما عليه، ظنّاً منه بأنّه مثلاً هو مجاهد، ورائد في العمل الإسلاميّ، وهما يريدان الحدّ من نشاطاته وطموحاته في هذا السبيل، فيسيء التصرّف معهما ويكون عاقّاً لهم، وهذا قد يؤدّي إلى سخط الله عليه، فلا يوفَّق في عمله، ولا في جهاده، وقد يصدّه عقوقُه عن نيل الشهادة لأنّها مرتبةُ من آمن واتّقى، ولا ينبغي عقوق والديه حتّى وإن كانا غيرَ مسلمين!

فقد ورد في الحديث عن أبي جعفر عليه السلام قال: “ثلاث لم يجعل الله لأحد فيهنّ رخصة: أداء الأمانة إلى البرّ والفاجر، والوفاء بالعهد للبرّ والفاجر، وبرّ الوالدِّين برّين كانا أو فاجرين11.

وعن زكريا بن إبراهيم قال: كنت نصرانياً فأسلمت وحججت فدخلت على أبي عبد الله عليه السلام فقلت: إنّي كنت على النصرانية وإنّي أسلمت، فقال: وأيّ شيء رأيت في الإسلام؟ قلت: قول الله عزّ وجلّ: ﴿مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الْكِتَابُ وَلَا الْإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُورًا نَّهْدِي بِهِ مَنْ نَّشَاء﴾12. فقال: لقد هداك الله، ثمّ قال: اللّهمّ اهده، ثلاث، سل عمّا شئت يا بنيّ. فقلت: إنّ أبي وأمّي على النصرانية وأهل بيتي، وأمّي مكفوفة البصر فأكون معهم وآكل في آنيتهم؟ قال عليه السلام: يأكلون لحم الخنزير؟

فقلت: ل، ولا يمسّونه، فقال عليه السلام: لا بأس، فانظر أمّك فبرّه، فإذا ماتت فلا تكلها إلى غيرك.

فلمّا قدمت الكوفة ألطفت لأمّي، وكنت أطعمها وأفلّي ثوبها ورأسها وأخدمه، فقالت لي: يا بنيّ ما كنت تصنع بي هذا وأنت على ديني، فما الّذي أرى منك منذ هاجرت فدخلت في الحنيفية؟ فقلت: رجل من ولد نبيّنا أمرني بهذ، فقالت: هذا الرجل هو نبيّ؟ فقلت: لا ولكنّه ابن نبيّ، فقالت: يا بنيّ هذا نبيّ، إنّ هذه وصايا الأنبياء، فقلت: يا أمه إنّه ليس بعد نبيّنا نبيّ، ولكنّه ابنه، فقالت: يا بنيّ دينك خير دين، اعرضه علي، فعرضته عليه، فدخلت في الإسلام وعلّمته، فصلّت الظهر والعصر والمغرب والعشاء الآخرة، ثمّ عرض لها عارض في الليل.فقالت: يا بنيّ أعد عليّ ما علّمتني، فأعدته عليها فأقرّت به وماتت، فلمّا أصبحت كان المسلمون الّذين غسلوها وكنت أنا الّذي صلّيت عليها ونزلت في قبرها13.

نعم هذا هو ديننا الحنيف، دين الإنسانيّة، دين الأخلاق والوجدان، الدِّين الّذي يوصي بالإحسان إلى الوالدِّين وإن لم يكونا مسلمين، ونصّ القرآن: ﴿وَصَاحِبْهُمَا فِي الدُّنْيَا مَعْرُوفًا﴾14 .
من يقوم بالفعل المحزن لوالديه متهاوناً بمشاعرهما غير مكترث بأحاسيسهما كيف يطمئنّ إلى رضا الله عنه؟ وقد ورد في الرواية: “من أحزن والديه فقد عقّهما15.

ب- ظلم الناس بأعذار واهية
ومثال ثان فيمن يظلم الناس ويقصّر في أداء حقوقهم، ويُخلِفُ مواعيدَهم، ويخون أماناتهم، ويستخفّ بحرماتهم وكراماتهم،..الخ، بحجج متعدّدة ربّما يكون منها ضغط العمل وانشعاباته المتكثّرة، وكثرة الأعباء الاقتصادية والمعيشية، مع أنّ عمله قد يكون تحت عنوان العمل الإسلاميّ!!

ج- عدم الالتزام بشروط الطاعة وآدابها
نموذج ثالث بعض الّذين يرتادون المساجد ليعقدوا فيها مجالس اللغو والكلام الدنيويّ مع أنّ المسجد له حرمته والكلام فيه بغير ذكر الله غير مستحسن، وقد يجرّ إلى ما هو محرّم فيما لو زاحم المصلّين، أو الّذين يتلون القرآن ويدعون الله تعالى، أو أثر على الجماعة إلى غير ذلك من المحذورات.

الإسباغ على العيال
هذا ومن الأمور الّتي توصل إلى رضاه تعالى الإحسان إلى العيال، ورحمتُهم، والتوسعةُ عليهم، وقد ورد الكثير من الروايات في الحثّ على هذا الأمر الإنسانيّ الأخلاقيّ.فقد روي عن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال:”خيرُكم خيركم لأهله وأنا خيرُكم لأهلي16. وعن الإمام زين العابدين عليه السلام:”إنّ أرضاكم عند الله أسبغكم على عياله17.

وبعض الناس يقصّر في حقّ زوجته وأطفاله وعياله بحجّة الانشغال التامّ في العمل الإسلاميّ، ممّا يؤدّي إلى ضياع الأسرة، وتفكّك عراها، وتشتّت الأولاد لفقدانهم الرعاية الأبوية، وربّما ضياع الزوجة، مع أنّ الله تعالى قد جعل على الرجل حقّ الزوجة، وحقّ الأولاد، كما جعل عليه حقّ العمل الاجتماعيّ والجهاديّ، فإنّ لزوجك عليك حق، وإنّ لولدك عليك حق، ولا بدّ من التنسيق والجمع بين الحقوق دون تضييع لبعضها على حساب بعضها الآخر، بقدر الوسع والإمكان.

رضا العبد بقضاء الله
ومن أهمّ موجبات رضا اللّه تعالى عن العبد رضاه بقضاء الله، فإنّ مقصود المؤمن الأصيل وغايته القصوى الوصول إلى رضا الله تعالى كما يصرّح بذلك القران الكريم بقوله تعالى: ﴿وَاتَّبَعُواْ رِضْوَانَ اللّه﴾18.

فهو يتّبع كلّ ما يحقّق له هذا الهدف المقدّس.ففي كلّ شؤونه يكون رضا الله تعالى قبلةَ آماله، ومنتهى طموحاته، والعمدة في ذلك معرفة الموصِل إلى هذه الغاية المقدّسة، ثمّ سلوك طرق الوصول إليها ﴿أَفَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَ اللّهِ كَمَن بَاء بِسَخْطٍ مِّنَ اللّهِ وَمَأْوَاهُ جَهَنَّمُ وَبِئْسَ الْمَصِير﴾19 .

وإنّ من أهمّ الطرق والموجبات لرضا المولى عن عبده كون العبد قد وصل إلى مقام الرضا بالقضاء كيفما وقع، سرّاء كان أم ضرّاء، أكان من ناحية الرزق بأن يرضى بما قسم الله له من رزق في الدنيا سواء بما يرجع إلى الظاهر والبدن، أم إلى المال، والمواهب، والقابليات، أم من ناحية ما يصيبه من بلايا ومكروهات، وقد قال الله تعالى للنبيّ موسى عليه السلام: “فإنّ رضاي في رضاك بقضائي20.

فما معنى الرضا بالقضاء؟وكيف يُعرَف العبدُ بأنّه راضٍ بالقضاء؟
قد تعرّضت الروايات الواردة عن أهل بيت العصمة والطهارة عليهم السلام إلى معنى كون العبد راضياً عن الله، وهو مقام سامٍ أرقى من مقام الصبر:
فعن رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم أنّه قال لجبرئيل عليه السلام: فما تفسير الرضا؟ قال “جبرئيل”: “الراضي لا يسخط على سيّده أصاب من الدنيا أم لم يصب21.
وعن الإمام الصادق عليه السلام: “اعلموا أنّه لن يؤمن عبد من عبيده حتّى يرضى عن الله فيما صنع الله إليه وصنع به على ما أحبّ وكره22.

فهذه الروايات الشريفة موضِّحَة لمعنى الرضا بالقضاء، بأنّه رضا في كلّ الأحوال، سرّاء كانت أم ضرّاء.
وهذا الأمر ثمرة اليقين والإيمان القويّ، والعلم، والمعرفة، والمحبّة لله تعالى، فعن الإمام زين العابدين عليه السلام: “الرضا بالمكروه أرفع درجات المتّقين23.

  • اولئك حزب الله ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

المصادر والمراجع

1- سورة المجادلة، الآية: 22.
2- نهج البلاغة، شرح الشيخ محمّد عبده، ج 2، ص 112.
3- م. ن، ص 12.
4- سورة المجادلة، الآية 22.
5- سورة النجم، الآية: 39.
6- سورة الزلزلة، الآيتان: 7-8.
7- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 75، ص 81.
8- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 2، ص 1098.
9- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج 67، ص 78.
10- مناجاة الشاكين، الصحيفة السجادية.
11- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 207.
12- سورة الشورى، الآية: 52.
13- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 15، ص 207.
14- سورة لقمان، الآية: 15.
15- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج15، ص123.
16- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 14، ص 122.
17- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 2، ص 1098.
18- سورة آل عمرن، الآية: 174.
19- سورة آل عمران، الآية: 162.
20- مستدرك الوسائل، الميرزا النوري، ج 2، ص 412.
21- وسائل الشيعة، الحرّ العاملي، ج 11، ص 152.
22- م. ن.
23- ميزان الحكمة، محمدي الريشهري، ج 2، ص 1093.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى