ثقافة

أذلة على المؤمنين أعزة على الكافرين

يقول الله تعالى في محكم كتابه: ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ مَن يَرْتَدَّ مِنكُمْ عَن دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لآئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللّهِ يُؤْتِيهِ مَن يَشَاء وَاللّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ1.

معنى الذلّة على المؤمنين والعزّة على الكافرين
من صفات حزب الله، الرحمة بالمؤمنين، والشدّة على الكافرين. فالمؤمن صاحب قلب رقيق ملؤه الحنوّ على عباد الله المؤمنين، وبالمقابل هو أسد هصور على أعداء الله والدِّين والإنسانية، فهي صفة قلبية لها انعكاس خارجيّ على السلوك: ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِين﴾.

أي: رحماء على المؤمنين، غلاظ شداد على الكافرين.

﴿مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاء عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاء بَيْنَهُمْ﴾2.

فهو من الذلّ: الّذي هو اللين، لا من الذلّ الّذي هو الهوان. قال ابن عبّاس: “تراهم للمؤمنين كالولد لوالده، وكالعبد لسيّده، وهم في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته3.

قال القرطبيّ: أي يرأفون بالمؤمنين ويرحمونهم ويلينون لهم، من قولهم: دابّة ذلول أي تنقاد سهلة، وليس من الذلّ في شيء. ويغلظون على الكافرين ويعادونهم4.

والأذلّة والأعزّة جمعا الذليل والعزيز، وهما كنايتان عن خفضهم الجناح للمؤمنين تعظيماً لله الّذي هو وليّهم وهم أولياؤه، وعن ترفّعهم عن الاعتناء بما عند الكافرين من العزّة الكاذبة الّتي لا يعبأ بأمرها الدِّين كما أَّدّب الله تعالى بذلك نبيّه الكريم في قوله عزّ وجلّ: ﴿لاَ تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلَى مَا مَتَّعْنَا بِهِ أَزْوَاجًا مِّنْهُمْ وَلاَ تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَاخْفِضْ جَنَاحَكَ لِلْمُؤْمِنِين5.

فالمؤمن ذو حنان على المؤمنين يليّن جانبه معهم ويرفق بهم، وبالمقابل هو شديد على الكافرين وأعداء الله غليظ عليهم، لا تأخذه بهم رأفة ولا رحمة لأنّهم حادّوا الله ورسوله، وأرصَدُوا لأحكام شريعته تعالى، ودينه، وللمؤمنين.

قال تعالى: ﴿ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ *أُوْلَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَة6. ﴿َذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾7 ، ﴿وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَاة8.

كيفية علاقة المؤمن بإخوانه
إنّ علاقة المؤمن الحقيقيّ – (الداخل في عداد حزب الله بحسب الإطلاق القرآنيّ)- بإخوانه المؤمنين ينبغي أن تكون على أساس لين العريكة وخفض الجناح، والتواضع، والرحمة، لا الجفاء، والشدّة والغلظة، والفظاظة، والخشونة، إلى درجة التعبير القرآنيّ بقوله تعالى ﴿أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ﴾. وهذا جوّ أكّدَ عليه أهل البيت عليهم السلام كثيراً، وسنعرض غيضاً من فيض الروايات الّتي تقوّي الداعي إلى التعاطف والتراحم بين المؤمنين، وتدفع الجفاء وقساوة القلب فيما بينهم، لعلّه يكون دافعاً لهم نحو نبذ الخلافات والتخاصمات على أمور جزئية لا قيمة لها بالقياس لأصول العقائد الّتي يدينون الله تعالى بها.

عن خيثمة قال: دخلت على أبي جعفر عليه السلام أودّعه فقال: “يا خيثمة أبلغ من ترى من موالينا السلام وأوصهم بتقوى الله العظيم، وأن يعود غنيُّهُم على فقيرهِم، وقويُّهُم على ضعيفهِم، وأن يشهد حيُّهُم جنازَةَ ميتهم، وأن يتلاقوا في بيوتهم، فإنَّ لُقيَا بعضهِم بعضاً حياةٌ لأمرن، رحم الله عبدا أحيا أمرن، يا خيثمة أبلغ موالينا أنّا لا نغني عنهم من الله شيئاً إلّا بعمل، وأنّهم لن ينالوا ولايتنا إلّا بالورع، وأنّ أشدّ الناس حسرة يوم القيامة من وصف عدلاً ثمّ خالفه إلى غيره9.

وعن جابر عن أبي جعفر عليه السلام قال: قال رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم: “حدّثني جبرئيل عليه السلام أنّ الله عزّ وجلّ أهبط إلى الأرض ملَك، فأقبل ذلك الملك يمشي حتّى وقع إلى باب عليه رجل يستأذن على ربِّ الدار، فقال له الملَك: ما حاجتُك إلى ربِّ هذه الدار؟

قال: أخٌ لي: مسلمٌ زرتُه في الله تبارك وتعالى.

قال له الملَك، ما جاءَ بكَ إلّا ذاك؟

فقال: ما جاء بي إلّا ذاك.

فقال: إنّي رسولُ الله إليك وهو يقرئُك السلام ويقول: وجَبَت لك الجنّة10.

وقال الملَك: إنّ الله عزّ وجلّ يقول: أيّما مسلم زار مسلماً فليس إيّاه زار، إيّايَ زار وثوابُه عليَّ الجنّة”.

حقّ المؤمن على المؤمن
عن المعلّى بن خنيس قال:”سألت أبا عبد الله عليه السلام فقلت: ما حقّ المؤمن على المؤمن؟ فقال: إنّي عليك شفيق أخاف أن تعلم ولا تعمل وتضيّع ولا تتحفّظ. قال: قلت: لا حول ولا قوّة إلّا بالله. قال عليه السلام: للمؤمن على المؤمن سبع حقوق واجبات ليس منها حقّ إلّا واجب على أخيه، إن ضيّع منها حقّاً أخرج من ولاية الله ويترك طاعته ولم يكن له فيها نصيب:

أيسر حقّ منها أن تحبّ له ما تحبّ لنفسك وأن تكره له ما تكره لنفسك.

والثاني: أن تعينه بنفسك، ومالك، ولسانك، ويدك، ورجلك.

والثالث: أن تتّبع رضاه، وتجتنب سخطه، وتطيع أمره.

والرابع: أن تكون عينه ودليله ومرآته.

والخامس: أن لا تشبع ويجوع وتروى ويظم، وتلبس ويعرى.

والسادس: إن كان لك خادم وليس له خادم ولك امرأة تقوم عليك، وليس له امرأة تقوم عليه، أن تبعث خادمك يغسل ثيابه ويصنع طعامه، ويمهد فراشه.

والسابع: أن تبرّ قسمه، وتعود مريضه، وتشهد جنازته، وإن كانت له حاجة فبادر إليها مبادرة، ولا تكلّفه أن يسألك، فإذا فعلت ذلك وصلت بولايتك ولايته وولايته بولايتك”11.

عظمة حرمة المؤمن عند الله تعالى وعظم حقّه
وعن أبان بن تغلب قال: كنت أطوف مع أبي عبد الله عليه السلام فعرض لي رجل من أصحابنا كان سألني الذهاب معه في حاجة فأشار إليَّ، فكرهت أن أدع أبا عبد الله عليه السلام وأذهب إليه، فبينا أنا أطوف إذ أشار إليّ، أيضا فرآه أبو عبد الله عليه السلام فقال: يا أبان إيّاك يريد هذا؟ قلت: نعم. قال: فمن هو؟ قلت: رجل من أصحابنا. قال: هو على مثل ما أنت عليه؟ قلت: نعم، قال: فاذهب إليه، قلت: فأقطع الطواف؟ قال: نعم. قلت: وإن كان طواف الفريضة؟ قال: نعم. قال: فذهبت معه.

ثمّ دخلت عليه بعد فسألته، فقلت: أخبرني عن حقّ المؤمن على المؤمن فقال: يا أبان دعه لا ترده، قلت: بلى جعلت فداك فلم أزل أردّد عليه، فقال: “يا أبان تقاسمه شطر مالك، ثمّ نظر إليّ فرأى ما دخلني، فقال: يا أبان أما تعلم أن الله عزّ وجلّ قد ذكر المؤثرين على أنفسهم؟ قلت: بلى جعلت فداك، فقال: أمّا إذا أنت قاسمته فلم تؤثره بعد، إنّما أنت وهو سواء إنّما تؤثره إذا أنت أعطيته من النصف الآخر12.

فما أعظم التراحم والتعاطف والتحابّ في الله تعالى، ففي الواقع من يطالع هذه الروايات يعلم أنّ ذلك من أعظم القربات عند المولى تبارك وتعالى فإذا سألت نفسك يوماً أنا أريد التقرّب إلى الله تعالى وليس لديّ إقبال على كثرة صلاة مستحبّة، أو صوم نافلة، فما أصنع كي أقوم بعمل يكون ذا بال يقرّبني من خالقي؟

تذكّر أنّ من القربات العظيمة أن ترحم مؤمناً، وتقضي حاجته، وتسدّ خلّته، وتنفّس غمّه وكربته، وتغيث لهفته، وتدخل سروراً على قلبه، وقد ورد أنّه: “من كفّارات الذنوب العظام إغاثة الملهوف والتنفيس عن المكروب13.

الرحمة بالمؤمنين هي من موجبات رحمة الله تعالى
إذا أردت أن تشمَلك الرحمة الإلهية – الّتي هي منى القلوب – فمن موجباتها أن ترحم المؤمنين.
عن أمير المؤمنين عليه السلام: “ارحم من دونك، يرحمك من فوقك، وقس سهوه بسهوك ومعصيته لك بمعصيتك لربّك، وفقره إلى رحمتك بفقرك إلى رحمة ربّك“14.

وروي أنّه قال رجل للنبيّ صلى الله عليه وآله وسلم أحبّ أن يرحمني ربّي. فقال له صلى الله عليه وآله وسلم: “ارحم نفسك وارحم خلق الله يرحمك الله15.

وبالمقابل عدم الرحمة بالمؤمنين يعرِّض العبد لسلب الرحمة الالهية (نعوذ بالله تعالى)
فعن النبيّّ صلى الله عليه وآله وسلم: “من لم يَرحم لا يُرحَم16. “من لا يَرحَم من في الأرض لا يَرحَمه من في السماء17.

ومن قصص الرحمة بالناس قصّة تروى عن مالك الأشتر الّذي كان صحابيّاً للإمام عليّ عليه السلام قائداً في جيشه، شجاعاً في المعارك والحروب مجابهاً للظالمين،إلّا أنّه رحيماً بالناس شفيقاً في موضع الرحمة والشفقة.

فقد “حكي أنّ مالكاً الأشتر كان مجتازاً بسوق الكوفة وعليه قميص خام وعمامة منه، فرآه بعض السُّوْقة فازدرى بزيّه؛ فرماه ببندقة تهاوناً به، فمضى ولم يلتفت، فقيل له: ويلك! أتدري بمن رميت؟ فقال: لا، فقيل له: هذا مالك صاحب أمير المؤمنين عليه السلام، فارتعد الرجل ومضى إليه ليعتذر منه، فرآه وقد دخل مسجداً وهو قائم يصلّي، فلمّا انفتل أكبّ الرجل على قدميه يقبّلهما، فقال: ما هذا الأمر؟! فقال: أعتذر إليك ممّا صنعت، فقال: لا بأس عليك، فوالله ما دخلت المسجد إلّا لأستغفرنّ لك18

فإذا كنت تسعى لتحصيل مرتبة تسمو بك إلى نيل وسام حزب الله القرآنيّ ما عليك إلّا أن تُخرِج من قلبك القسوةَ وتجعل مكانها رحمة وعطفاً ورقّة على إخوانك المؤمنين، وتحبّ لهم ما تحبّ لنفسك وتشفق عليهم كما تشفق على أهلك.

  • اولئك حزب الله ، سلسلة الدروس الثقافية ، نشر: جمعية المعارف الإسلامية الثقافية

المصادر والمراجع

1- سورة المائدة، الآية: 54.
2- سورة الفتح، الآية: 29.
3- تفسير مجمع البيان، الشيخ الطبرسي، ج3، ص357.
4- تفسير القرطبي، القرطبي، ج 6، ص 220.
5- سورة الحجر، الآية: 88.
6- سورة البلد، الآيتان: 17 – 18.
7- سورة المائدة، الآية: 45.
8- سورة البلد، الآية: 17.
9- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 175.
10- م.ن، ج 2، ص 176.
11- الدعوات، قطب الدِّين الراوندي، ص 226.
12- الكافي، الشيخ الكليني، ج 2، ص 171.
13- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج72، ص 21.
14- عيون الحكم والمواعظ، الواسطي، ص 77.
15- كنز العمال، المتّقي الهندي، ج 16، ص 129.
16- ميزان الحكمة، محمّد الريشهري، ج2، ص 1044.
17- م.ن، ج 2، ص 1044.
18- بحار الأنوار، العلّامة المجلسي، ج42،ص157.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى