ثقافة

النزول الدفعي للقرآن بين القبول والرد

المقدّمة من المباحث الجديرة بالتحقيق في مجال التفسير وعلوم القرآن هي مسألة النزول الدفعي للقرآن الكريم، وأنّه هل نزل بطريقة النجوم والتدرّج فقط أم كان له نزول آخر أيضاً بنحو الدفعيّة والجملة الواحدة؛ إذ إنّ المتّفق عليه بين الأعلام هو النزول التدريجي الذي امتدّ طوال فترة الرسالة، وهو ما أشارت إليه الآيات والنصوص الروائية والتاريخية بوضوحٍ وجلاءٍ كقوله تعالى: {وَقُرْآنًا فَرَقْنَاهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلَى مُكْثٍ وَنَزَّلْنَاهُ تَنْزِيلًا}[1]، وأما النزول الدفعي فهو ممّا وقع محلاًّ للأخذ والردّ مذ أمدٍ بعيدٍ -وبالتحديد في أواخر القرن الثالث الهجري- وصار محوراً للنقاش في أصل فكرته وتفصيلاته، ونظراً لأهميّة هذا الموضوع وانعكاسه على تفسير مجموعة كبيرة من الآيات، وخاصةً تلك التي ورد فيها لفظ التنزيل واشتقاقاته -وتربو على مائتين وست وسبعين مورداً- كان هذا البحث الذي يستعرض الآراء في المقام مع أدلّتها التفصيليّة ومناقشتها والنتائج المترتّبة عليها، وسيكون ضمن أربعة مباحث وخاتمة.

 المبحث الأول: مفهوم النزول الدفعي وآراء العلماء حوله مفهوم النزول الدفعي في اللغة: النزول في اللغة مأخوذ من نزل، وهو هبوط شيءٍ ووقوعه[2]، أو انحطاطه من علوٍّ[3].

والدَّفْعَة هي الانتهاء إلى موضعٍ بمرّةٍ[4] أو هي المرّة الواحدة[5] ويقال: جمع الشيئين في دَفعَةٍ، أي: دفعهما معاً[6].

 والخلاصة: هو هبوط شيءٍ من علوٍّ إلى موضعٍ أدنى مرّة واحدة بدون تكرّر أو تدرّج.

مفهومه الاصطلاحي: ويراد به في اصطلاح المفسّرين والعلماء: هو نزول القرآن الكريم جملة واحدة بكامله من اللوح المحفوظ على قلب النبي| أو السماء الدنيا في ليلة القدر قبل أن ينزل مرّة أخرى بصورة تدريجيّة مفرّقة على هيئة نجوم طوال فترة الرسالة المحمّديّة[7].

 آراء العلماء حول النزول الدفعي للقرآن: ذهب الغالب من علماء الخاصّة والعامّة إلى الأخذ بفكرة النزول الدفعي -وإن اختلفوا في التفاصيل كحقيقة النازل هل هو اللفظ أم المعنى، وهل يشمل كل القرآن أو قسماً منه، وأن الموضع المنزول به هل هو قلب النبي| أم السماء الدنيا أم البيت المعمور وغير ذلك- حتى ادّعى البعض اتفاقهم على هذا الأمر، يقول العلامة النهاوندي: “قد اتفقت الأمّة من الخاصّة والعامّة وتظافرت بل تواترت نصوصهم على أنّ الكتاب العزيز نزل أولاً، في ليلة القدر مجموعاً من اللّوح المحفوظ إلى البيت المعمور الذي يكون في السماء الرابعة، أو إلى بيت العزّة في السماء الدنيا إلى السفرة الكرام البررة، ثم نزل به جبرئيل نجوماً على خاتم النبيين صلّى اللّه عليه وآله في مدّة عشرين أو ثلاث وعشرين أو خمس وعشرين سنة، على حسب اختلاف العلماء في مدّة إقامته صلّى اللّه عليه وآله بمكة بعد بعثته وقبل هجرته”[8].

إلا أنّ هناك فريقاً من العلماء رفض هذه الفكرة وردّها بقوّة وعلى رأسهم من المتقدّمين الشيخ المفيد حيث قال: “… فأما أن يكون (القرآن) نزل بأسره وجميعه في ليلة القدر فهو بعيد مما يقتضيه ظاهر القرآن والمتواتر من الأخبار وإجماع العلماء على اختلافهم في الآراء”[9]، وتبعه على ذلك الشريف المرتضى[10]، ومن المعاصرين المرحوم العلامة الشيخ محمد هادي معرفة[11].

 وبناء على ذلك ومن أجل التقييم الموضوعي لهذه الآراء والخروج بنتيجة مناسبة منها يتعيّن علينا أولاً بسط أدلّة كلا الفريقين القابل والرافض.

 المبحث الثاني: أدلّة القائلين بفكرة النزول الدفعي استند أصحاب هذا الرأي إلى مجموعة من الأدلّة والشواهد القرآنية والروائيّة والتاريخيّة، بعضها متفق عليها بينهم، وبعضها انفرد بها قسمٌ منهم وستعرض هنا بنحوٍ عامٍ بدون الإشارة إلى ذلك، وهي كالتالي: الدليل الأوّل: الآيات التي تشير إلى نزول القرآن في شهر رمضان أو ليلة القدر: من قبيل قوله تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[12]، {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ * فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ}[13]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِنَ الْهُدَى وَالْفُرْقَانِ}[14]، وتقريب الاستدلال يكون عبر النقاط التالية: إنّ مرجع الضمير في {أَنْزَلْنَاهُ} يعود إلى القرآن الكريم، والظاهر منه هو كلّ القرآن لا بعض آياته، وهذا هو الأصل ما لم توجد قرينة تصرف المعنى إلى غيره، وهو الذي يفضي إليه لفظ الكتاب الدال على ما بين الدفّتين، والموصوف بالهداية والبيّنة.

 ‌أ-  نزول القرآن بالكامل في شهر رمضان وفي ظرف ليلةٍ مباركةٍ واحدةٍ منه وهي ليلة القدر لا يناسب إلا النزول جملة واحدة وبدون تدرّج. ‌ب-  إنّ لفظ الإنزال يختلف عن لفظ التنزيل بالرغم من اشتراكهما في الدلالة على الانحطاط من علوٍّ، فالإنزال ظاهرٌ في الدفعيّة، والتنزيل فيه دلالة على التكثير والتكرار وهو يلائم النزول التدريجي، وهذا التفريق قد ذكره بعض أئمّة اللغة[15]، والآيات السابقة استعملت مفردة الإنزال دون التنزيل.

 بعض الروايات الواردة في شأن هذه الآيات يظهر منها أيضاً نزول كلّ القرآن في ليلة القدر وهو ما يناسب القول بالدفعيّة، كمثل ما ورد عن علي ابن إبراهيم عن أبيه عن ابن أبي عمير عن عمر بن أذينة عن الفضيل وزرارة ومحمد بن مسلم عن حمران أنّه سال أبا جعفرٍ عن قول الله: {إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ} قال: >نَعَمْ لَيْلَةُ الْقَدْرِ وَهِيَ فِي كُلِّ سَنَةٍ فِي شَهْرِ رَمَضَانَ فِي الْعَشْرِ الْأَوَاخِرِ فَلَمْ يُنْزَلِ الْقُرْآنُ إِلَّا فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ…<[16].

الدليل الثاني: تصريح بعض الروايات بنزول القرآن جملة واحدة: وهي من طرق العامّة كثيرة وأغلبها عن ابن عبّاس[17]، ووردت بنفس المضمون وبعبائر متقاربة في بعض مصادرنا أيضاً كتفسيري العياشي والقمّي وكتاب الكافي وغيرها، وهي بحسب نقل الشيخ الكليني: عن علي بن إبراهيم عن أبيه ومحمد بن القاسم عن محمد بن سليمان عن داود عن حفص بن غياث عن أبي عبد الله قال: سَأَلْتُهُ عَنْ قَوْلِ اللَّهِ: {شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ} وَإِنَّمَا أُنْزِلَ فِي عِشْرِينَ سَنَةً بَيْنَ أَوَّلِهِ وَآخِرِهِ فَقَالَ أَبُو عَبْدِ اللَّهِ: >نَزَلَ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً فِي شَهْرِ رَمَضَانَ إِلَى الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ ثُمَّ نَزَلَ فِي طُولِ عِشْرِينَ سَنَةً<، ثُمَّ قَالَ: >قَالَ النَّبِيُّ| نَزَلَتْ صُحُفُ إِبْرَاهِيمَ فِي أَوَّلِ لَيْلَةٍ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَتِ التَّوْرَاةُ لِسِتٍّ مَضَيْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْإِنْجِيلُ لِثَلَاثَ عَشْرَةَ لَيْلَةً خَلَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الزَّبُورُ لِثَمَانِيَةَ عَشَرَ خَلَوْنَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَأُنْزِلَ الْقُرْآنُ فِي ثَلَاثٍ وَعِشْرِينَ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ<[18][19].

 وهي صريحة الدلالة جدّاً على المطلوب، خاصّة مع ذكرها في عرض النزول التدريجي وتوسّط (ثمّ) بينهما الذي يدل على المغايرة بين النزولين.

الدليل الثالث: اشتراك كلّ الكتب السماويّة في كيفيّة النزول: بتقريب: أنّ ظاهر الروايات التي تتحدّث عن نزول الكتب السماوية هو وجود تشابه واشتراك بينها في كيفيّة النزول، وحيث إنّ المعروف في الكتب السابقة على القرآن هو نزولها الدفعي، فيكون القرآن كذلك أيضاً.

 ولمزيد من التوضيح والبيان نقول: لو نظرنا إلى رواية حفص بن غياث السابقة أو شبيهاتها -كالتي ينقلها الكليني عن محمد بن يحيى عن أحمد بن محمد عن الحسين بن سعيد عن القاسم بن محمد عن علي بن أبي حمزة عن أبي بصير عن الإمام الصادق قال: >نَزَلَتِ التَّوْرَاةُ فِي سِتٍّ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَزَلَ الْإِنْجِيلُ فِي اثْنَتَيْ عَشْرَةَ لَيْلَةً مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَزَلَ الزَّبُورُ فِي لَيْلَةِ ثَمَانِيَ عَشَرَةَ مَضَتْ مِنْ شَهْرِ رَمَضَانَ وَنَزَلَ الْقُرْآنُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ<[20]- لاستنتجنا التالي: أنّ التعبير في بيان نزولها ورد بلفظ (نَزَلَ أو أُنْزِلَ) الذي سبق وأن أشرنا إلى ظهوره في الدفعيّة، وإن لم يكن كذلك فلا أقل أنّ المعروف والمتداول بين المفسّرين هو نزول الكتب السماوية السابقة على القرآن -كالتوراة والإنجيل- بصورة دفعيّة كجملة واحدة ولم يكن بالتدريج؛ ولذا فسّروا قوله تعالى على لسان المعاندين لرسالة النبي|: {وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً}[21] أنّه احتجاج من الكفّار واعتراض منهم على القرآن كيف يبلّغ لهم بصورة متدرّجة ووفق المناسبات المتفرّقة ولا يكون كالكتب السماويّة السابقة التي نُزلت وبُلّغت دفعةً كاملةً حتى يصبح أبلغ في التصديق[22].

1-  وحدة الجهة التي نزلت منها هذه الكتب وخصوصيّة نزولها في شهرٍ واحد -وهو شهر رمضان المبارك- يوحي بوجود سرٍّ وغرضٍ مشتركٍ موحّدٍ بينها بالرغم من تعدّد ظروف وبيئة وزمن كلّ رسالة وكتاب، ومن أبرز ما يلحظ من وجه الاشتراك -في الكتب السابقة على القرآن- هو توحّدها في كيفيّة النزول.

 2-  القرآن هو أحد الكتب السماوية التي ذكرت في هذه الروايات واستعمل معه نفس البيان والأسلوب المستخدم معها.

والمتحصّل من المجموع: أنّ ظاهر هذه الروايات هو اشتراك كل الكتب -بما فيها القرآن الكريم- في أهداف ٍ وأغراضٍ واحدةٍ، ومنها التشابه في كيفيّة النزول، وهو النزول الدفعي

. الدليل الرابع: إحكام القرآن قبل تفصيله: بمعنى أنّ القرآن في الأصل له حقيقة بسيطة غير مفصّلة نزلت دفعةً على فؤاد النبي|، وطرأ عليه التفصيل بعد ذلك ليناسب عقول الناس ويتفهّموه فنزل مرّة أخرى على هيئة كلمات وألفاظ وبنحوٍ تدريجي، فالنزول الدفعي ثابت لكلّ القرآن لكن بحقيقته العالية المكنونة، وهذا هو دليل العلامة الطباطبائي ومختاره[23]، ويمكن توضيحه وتلخيصه عبر الالتفات إلى الآيات والمضامين التالية: للقرآن حقيقة عالية مغايرة لما نفهمه، قال تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[24]، والإحكام هنا هو في مقابل التفصيل، أي أنّ القرآن له حقيقة واحدة بسيطة لا يتميّز فصلٌ منها عن فصل، ثم بعد ذلك طرأ عليه التفصيل وهو جعله فصلاً فصلاً وقطعةً قطعةً.

 الهدف من التفصيل بعد الإحكام هو إلباسه لباس القراءة والعربية ليعقله الناس ويتبيّنوا ما فيه وإلا فهو عند الله تعالى في لوحٍ محفوظٍ مكنونٍ لا يوجد فيه هذا التفصيل، ولا يهضم حقيقة القرآن العالية إلا المطهّرون من عباده كالنبيّ الخاتم|، قال تعالى: {حم * وَالْكِتَابِ الْمُبِينِ * إِنَّا جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ * وَإِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتَابِ لَدَيْنَا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ}[25]، {إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ * فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ * لَا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ * تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ}[26]، والتنزيل حصل بعد كونه مكنوناً.

قال تعالى: {وَلَقَدْ جِئْنَاهُمْ بِكِتَابٍ فَصَّلْنَاهُ عَلَى عِلْمٍ هُدًى وَرَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ * هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَاءَتْ رُسُلُ رَبِّنَا بِالْحَقِّ…}[27]، {بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذَلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ الظَّالِمِينَ}[28]، وهذا يدل على أنّ الكتاب شيء وتفصيله شيء آخر، وأنّ الذين كذّبوا القرآن في الواقع قد كذّبوا بتفصيله لغفلتهم عن حقيقته وواقعه، وهو ما سيعلمونه يوم القيامة حينما يظهر لهم ويأتهم تأويله.

 وحينئذٍ إذا عرفنا أنّ حقيقة القرآن هي الإحكام والبساطة أمكن هضم إنزاله بنحوٍ دفعي جملة واحدة في ليلة القدر الشريفة: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[29]، ويترتّب عليه في قوله تعالى: {… وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ …}[30]، و{لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ}[31] أنّ النبي| كان يعلم بما سينزل عليه، فنهي عن الاستعجال بالقراءة قبل قضاء الوحي.

هذه أبرز أدلّة القائلين بالنزول الدفعي ونؤجّل التعليق عليها -قبولاً أو رفضاً- إلى حين الفراغ من استعراض أدلّة الطرف المقابل الرافض للدفعيّة.  المبحث الثالث: أدلّة النافين لفكرة الدفعيّة لو تتبعنا بنحوٍ عابرٍ أدلّة النافين للنزول الدفعي للقرآن لوجدنا أنّها تتمحور -إجمالاً- حول محورين: الأوّل: هو استبعاد تحقّقه وإمكان حصوله.

 والثاني: هو عدم تماميّة دليله وبرهان صحّته في مقابل الأدلّة الثابتة المتفق عليها لدى الجميع حول نزوله التدريجي على هيئة النجوم، بمعنى أنّ القول بالنزول الدفعي إما هو فاقد للدليل القويم وإما هو مجابه بما هو أصرح وأوضح منه -إشارة إلى القول بالنزول النجومي- مع عدم إمكان الجمع بين القولين أو عدم الحاجة إليه أساساً.

وبيان ذلك نستعرضه تفصيلاً ضمن الأدلّة التالية: الدليل الأوّل: خلو النزول الدفعي من الغرض إذا لم يجب العمل به[32]: من المعلوم ضرورة أن القرآن كتاب هداية للبشر، والغاية الأساس من نزوله هو نقل الناس من الانحطاط إلى حيث العلا والتكامل عبر العمل بتعاليمه والتقيّد بأوامره ونواهيه، فإذا التزمنا بالنزول الدفعي سينتفي هذا الغرض وستلغى الفائدة من إرسالة والتالي باطل فالمقدّم مثله، ووجه الملازمة جليٌّ وهو أنّ نزول القرآن جملة واحدة إلى البيت المعمور أو السماء الرابعة وما شابه ذلك قبل أن يصل إلى الناس يعني غياب فائدته وتعطيل مصلحته وهدايته، ولا يشفع لذلك القول بشأنيّته للهداية قياساً لما هو موجود في القوانين الوضعيّة التي تسنّ بشكلٍ تقديريٍّ وشأنيٍّ حتى يحين وقت الحاجة إليها فتخرج إلى الفعليّة؛ إذ إنّ القرآن شيء وهذه الدساتير شيءٌ آخر وبينهما فرقٌ شاسعٌ، فلنا أن نسأل: ما الفائدة من نزول القرآن قبل الحاجة إليه؟!! الدليل الثاني: نزول الآيات قبل وقوع الحوادث غير مقبول: نزول كل القرآن جملة واحدة في ليلة واحدة لا يتناسب مع طبيعة مواكبة الآيات للأحداث المتعاقبة، بل هو ممنوعٌ؛ إذ يستلزم مخالفة ما عليه الواقع، فكيف يخبر بحصول شيءٍ بصيغة الماضي كـ: {قَدْ سَمِعَ اللهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللهِ وَاللهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ}[33] في الوقت التي لم يحصل الفعل بعد في الخارج؟!! يقول الشيخ المفيد: “ونزول القرآن على الأسباب الحادثة حالاً بحال يدلّ على خلاف ما تضمنه الحديث [المشير إلى النزول الدفعي]، وذلك أنّه قد تضمّن حكم ما حدث وذكر ما جرى على وجهه، وذلك لا يكون على الحقيقة إلا بحدوثه عند السبب، ألا ترى إلى قوله تعالى: {وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ} وقوله: {وَقَالُوا لَوْ شَاء الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُم مَّا لَهُم بِذَلِكَ مِنْ عِلْمٍ} وهذا خبر عن ماض، ولا يجوز أن يتقدم مخبره، فيكون حينئذٍ جزاءً عن ماض وهو لم يقع بل هو في المستقبل. وأمثال ذلك في القرآن كثيرة”[34].

 الدليل الثالث: توقف النبي| عند الحوادث انتظاراً لما ينزل عليه من الوحي: كان النبي| لا يسبق الله تعالى في اتخاذ المواقف ومعالجة القضايا، فما لم ينزل عليه في شأنها وحيٌ أو يؤذن له في التصرف فيها يبقى متوقّفاً ومترقّباً لنزوله وإن طال زمن ذلك، وحينئذٍ يقال: لو كان القرآن قد نزل بنحو الدفعة أولاً لعلم النبي| بمحتواه وعرف تمام تكليفه اتجاه كل القضايا ولم يكن هناك داعٍ لانتظار نزوله مرّة أخرى، وبالتالي نفس توقفه| في مختلف الحوادث يعدّ دليلاً على نفي حصول التعدّد في النزول ونفي فكرة الدفعيّة.

الدليل الرابع: عدم وجود فرقٍ في اللغة وفي القرآن بين الإنزال والتنزيل: وتوضيح ذلك في مقامين: أولاً:- عند أهل اللغة: ذهب كثيرٌ من علماء اللغة إلى عدم وجود فرقٍ بين مفردتي الإنزال والتنزيل، فقد ورد في الصحاح: “وأنزَلهُ غيرهُ واسْتنزَلَه بمعنًى”[35]، وفي المصباح: “نَزَلَ: مِنْ عُلُوٍ إِلَى سُفْلٍ يَنْزِلُ نُزُولاً وَيَتَعَدَّى بِالْحـَرْفِ وَالْهـَمْزَةِ والتَّضْعِيفِ فَيُقَالُ (نَزَلْتُ) به وَ(أَنْزَلْتُهُ) وَ(نَزَّلْتُهُ) وَ(اسْتَنْزَلْتُهُ) بِمَعْنَى‌”[36]، وقال الزبيدي: “ونَزَّلَهُ تَنْزيلاً و أَنْزَلَهُ إنْزالاً و مُنْزَلاً، كمُجْمَلٍ، و اسْتَنْزَلَه بمعْنًى واحِدٍ”[37].

 بل هناك من اعتبر أنّ التفريق ممنوعٌ ولا شاهد له أصلاً، يقول ابن أبي بكر الرازي: “والذي وقع لي فيه -واللّه أعلم- أنّ التّضعيف في نزّل، والهمزة في أنزل، كلاهما للتّعدية؛ لأنّ نزل فعل لازم، في نفسه؛ وإذا كانا للتّعدية، لا يكونان لمعنى آخر، وهو التّكثير أو نحوه؛ لأنّه لا نظير له؛ وإنّما جمع بينهما، والمعنى واحد، وهو التّعدية؛ جرياً على عادة العرب في افتنانهم في الكلام، وتصرّفهم فيه، على وجوه شتّى.

 ويؤيّد هذا قوله تعالى: {لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}[38]‏ وقال في موضع آخر: {لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ}‏[39]”[40]. ثانياً:- في الاستعمال القرآني: لم يفرّق القرآن الكريم بين المفردتين واستفاد منهما لأداء نفس المدلول والغرض وهو الهبوط من علوٍّ، والشاهد على ذلك أنه عبّر في بعض الموارد عن الأمر الواحد تارة بصيغة نَزَّل -في سورةٍ- وتارة بصيغة أَنْزَل -في سورة أخرى- كما هو الحال في بيان نزول المَلَك في قوله تعالى في سورة الإسراء: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}[41]، وقوله تعالى في سورة الأنعام: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}[42]، ناهيك عن عدم قابليّة المَلَك للتدريج حتى يستعمل لنزوله لفظ (نزَّلنا) بناء على وجود الاختلاف بين الصيغتين، ونفس الشيء في قوله تعالى: {وَقَالُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللهَ قَادِرٌ عَلَى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لَا يَعْلَمُونَ}[43] فإنّ الآية تعني العلامة والمعجزة ونزولها لا يكون بالتدريج، وكذلك في قوله تعالى: {يَسْأَلُكَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتَابًا مِنَ السَّمَاءِ…}[44] بتقريب أنّ الذي طلبه أهل الكتاب هو الكتاب الكامل الدفعي وليس التدريجيّ ومع ذلك عبّرت الآية عن ذلك بلفظ التنَزَّل، والمواضع التي من هذا القبيل متكرّرة وغير عزيزة[45].

 الدليل الخامس: ضعف روايات النزول الدفعي: فهي إما ضعيفة سنداً أو دلالةً فلا يعوّل عليها؛ لأنّا إذا تتبعنا جهة صدورها فهي في الأعم الأغلب عاميّة المصدر وغير نقيّة السند، وفي المقابل هي مجابهة بروايات أكثر عدداً وأقوى اعتباراً تدل على النزول التدريجي، وهذا هو المعلوم والمعروف والمتفق عليه قاطبة وبالتالي يضعف الأخذ بدلالة ومضمون روايات النزول الدفعي.

الدليل السادس: الإحكام هو بمعنى الإتقان وليس البساطة وعدم التركيب: الإحكام في اللغة هو الضبط والإتقان والمنعة من الفساد[46]، والتفصيل هو التبيين[47]، وهذا لا ينسجم مع تفسير الإحكام بالبساطة والإجمال وعدم التركيب كما ذهب إليه بعض القائلين بالنزول الدفعي،  والمناسب في المقام أن يكون مفاد قوله تعالى: {الر كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ}[48] دائراً حول بيان قوّة ومنعة وإتقان القرآن الذي لا يزلزله شيء، والذي بُيِّن للناس منجّماً طوال فترة الرسالة، و(ثمّ) هنا للترتيب اللفظي لا غير، ويعزّز ذلك أنّ {كِتَابٌ} هو خبر لمبتدأ محذوف، والتقدير: هذا كتابٌ، فينصرف إلى القرآن المعهود بأيدينا وإلا لما جاز حذف المبتدأ[49]، وبذلك يستبعد القول بدلالة الآية على كون القرآن له حقيقة بسيطة هي التي نزلت أولاً بالنزول الدفعي ثم نزلت مرّة أخرى على نحو التدريج.

وفي ضمن نفس الإطار أيضاً يمكننا أن نسأل: هل يعقل أن يكون القرآن بسيطاً وبه آيات محكمة وأخرى متشابهة {هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتَابَ مِنْهُ آيَاتٌ مُحْكَمَاتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتَابِ وَأُخَرُ مُتَشَابِهَاتٌ}[50]؟![51] الدليل السابع: صيغة الماضي {أُنْزِلَ} تدل على عدم نزول كلّ القرآن بليلة القدر: وبيان ذلك: أنّ الآيات التي عبّرت عن النزول القرآني كـ: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ}[52]، {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ}[53]، {شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ}[54] جاء لفظ الإنزال فيها بصيغة الماضي ممّا يعني حكايتها عن أمرٍ حاصلٍ يتعلّق بقسم القرآن الذي سبق هذه الآيات وإلا لكان المناسب هو استعمالها بصيغة المضارع مثلاً أو الوصف[55]، وهذا دليل على أنّ القرآن لم ينزل بأكمله في ليلة القدر فلا يتّسق مع القول بالدفعية إلا باللجوء إلى التأويلات والتكلّفات التي نحن في غنىً عنها.

 وإن قيل: كيف يمكن توجيه هذه الآيات مع الالتزام بنزول قسم من القرآن فقط؟ فيجاب بعدّة أجوبة، أوجهها: أنّ المقصود من نزول القرآن في ليلة القدر هو الإشارة إلى مبدأ نزوله، وذلك تخليداً لهذا التاريخ المهم والبارز من جهة وبياناً إلى شرف وعظمة الـمُنزل باقترانه بليلة مباركة من جهة أخرى، وهذا الأسلوب متعارف عليه ومعمول به كثيراً في تسجيل تواريخ الأحداث والمشاريع والدول والأمور الخطيرة والمميّزة، فمثلاً لو قال أحدهم: سأحجّ غداً، كان يعني أن ابتداء حجّه يشرع وينطلق من الغد لا أنّ حجّته بتمام أعمالها سيوقعها في الغد، وقد ألمح إلى هذا القول ثلّة من الأعلام المتقدّمين واستحسنه بعدهم بعض المتأخرين والمعاصرين[56].

 المبحث الرابع: تقييم مطلق الأدلّة والنتيجة المختارة بعد استعراض أدلّة المثبتين وأدلّة النافين لفكرة النزول الدفعي تصل النوبة الآن إلى مناقشة وغربلة هذه الأدلّة وبيان المحصّلة النهائية المترتّبة عليها، فنقول: إننا بحاجة إلى تقييمها بلحاظ الجهة الثبوتيّة والإمكانيّة في المسألة أولاً ومن ثمّ النظر إليها من ناحية إثباتيّة ووقوعيّة؛ لوضوح أنّ مرحلة الإثبات تتأثر بنتيجة مرحلة الثبوت، وحينئذٍ فالتقييم: أ‌- بلحاظ عالم الثبوت والإمكان: بمعنى أنّ أصل فكرة النزول الدفعي -وبمعزلٍ عن تحقّقها في الخارج أو عدمه- هل هي ممكنة في نفسها بدون محذور أم لا؟ الذي يلوح من الدليل الأوّل والثاني -على الأقل- من أدلّة النافين هو عدم إمكانيّتها، تارة بداعي خلوّ النزول الدفعي من الغرض إذا لم يعمل بالقرآن، وتارة بداعي عدم مقبوليّة نزول الآيات بصيغة الماضي قبل حدوث الحوادث، ولكن يمكن الردّ والمناقشة في كلا الدليلين، فالقول بخلو النزول الدفعي من مطلق الغرض غير ثابتٍ وغير تامٍّ، لأنّه بمجرّد عدم معرفتنا لغرضٍ مناسبٍ له لا يعني عدم وجود الغرض من الأساس، وهل عقولنا استطاعت التوصّل إلى علّة وغرض كل شيء حتى يقال إنّ عدم المعرفة يعني عدم الوجود؟!! ثمّ إنّه من الممكن ذكر وتعقّل بعض الغايات من هذا النزول، ولو من ناحية تنوير قلب الرسول| واستضاءته بهدى القرآن بنحوٍ مجملٍ حتى يكون أكثر استعداداً لإفاضته على سائر الناس بنحوٍ تدريجيٍّ بعد ذلك، وهذا التوجيه لا ينافي كون الغرض من نزول القرآن هو الهداية؛ فتنوير فؤاد النبي| هو مقدّمة لهداية الأمّة، ومقدّمة الغرض تصبّ في نفس الغرض، يقول العلامة النهاوندي: “وقيل في سرّ إنزاله جملة أولاً إلى السماء الدنيا أو إلى البيت المعمور: أنّه تفخيم أمر القرآن وأمر النبي الذى أنزل إليه، … وقيل: إنّ السرّ هو تسليمه تبارك وتعالى لهذه الأمّة ما كان أبرز لهم من الحظّ من الرحمة التي استحقوها لأجل مبعث محمد|، … وقيل: إنّ السرّ في نزوله جملة إلى السماء الدنيا تكريم بني آدم وتعظيم شأنهم عند الملائكة، وتعريفهم عناية الله بهم ورحمته لهم… أقول: يمكن أن يكون السرّ تكميل عالم الملكوت ووجود الروحانيين بإيجاد الكتاب الكريم فيهم، وتقريره أن يقال: المراد من إنزاله إلى السماء الدنيا أو إلى البيت المعمور، هو إبداعه تعالى وإيجاده كتابه الكريم بوجوده الجوهري وصورته النورية في ملكوت السماء، وعالم الأنوار بعد وجوده في مكنون علمه المعبّر عنه بالعرش تارة وباللّوح المحفوظ أخرى، ولما كان وجود خاتم النبيين صلّى الله عليه وآله وسلّم رحمة للعالمين حصل ببركته استعداد الكمال لجميع العوالم الملكية والملكوتية، وكما كان للكتاب العظيم تأثير عظيم بوجوده اللفظي والكتبي في تكميل النفوس المستعدة في عالم الملك، كان لوجوده الجوهري النوري في عالم الملكوت تأثير في تكميل وجود الذوات المستعدة الملكوتية والملكية، وبحصول مرتبة من الكمال الوجودي لعالم الوجود، صار مستحقاً لتزيّنه بوجود خاتم النبيين وتكميله ببعثته، فشملته هذه الرحمة العظيمة وبعثه الله فيه، ثم بعد هذا الفيض، حصل له استعداد قبول فيض آخر واستحقاق رحمة أتم من إنزال كتابه الكريم الذى هو تجلي صفاته التامة في العوالم، وكان إيجاد الكتاب الكريم في عالم الملكوت تكميل الرحمة على جميع الموجودات الملكية والملكوتية ببركة وجود نبي الرحمة”[57].

 وأما القول بعدم مقبوليّة نزول الآيات بصيغة الماضي قبل حصول الحدث فيرد عليه أنّ النازل دفعةً ليس هو القرآن بوجوده اللفظي والكتبي -كما هو المثبتٌ في المصاحف- كي ينشأ هذا الاعتراض؛ وإنّما النازل هو القرآن الكريم بوجوده المناسب للعوالم العلويّة غير عالم المُلك، وتفصيل ذلك نورده على هيئة نقاط: 1-إنّ القرآن له مراتب لها مبدأ ولها منتهى، فمبدأه من علم الله تعالى المكنون والمحفوظ ومنتهاه هو مرتبته الكتبية واللفظية، وكل هذه المراتب تشترك في كونها قرآناً وإنّما تختلف في حقيقتها وقوّتها.

كل مرتبة من هذه المراتب تتناسب مع مستوى وقابليّة العالم والظرف الذي يحتويها، فقابليّة عالم الملكوت مثلاً أعلى وأعظم من قابليّة عالم الدنيا والمُلك، كما أنّ استعداد الأرواح العالية كالنبيّ الخاتم| لتحمّل القرآن هي غير استعداد وقابليّة الفرد العادي.

أنّ النزول المناسب لفكرة الدفعية هو هبوطٌ للقرآن الكريم من المبدأ والمستوى الأعلى إلى أحد المراتب التي تليه ولكن ليست المرتبة النهائية الدنيا، ولتكن هي المرتبة التي تناسب عالم الملكوت، أو التي لا يتحمّلها إلا صاحب الاستعداد الخاص كالنبي| دون غيره، وهذه المرتبة ليست هي ألفاظاً أو كتابةً كي يعترض عليها بالإشكال المتقدّم.

 2-هذا النزول الدفعي لا يعارض إمكانيّة حصول نزول آخر للقرآن إلى مستوى أدنى منه ولو على نحو التدريج. وربما الرواية التي تنقلها بعض الكتب الحديثيّة عن الإمام الحسين وبعضها عن الإمام الصادق حول حقيقة القرآن فيها نحو إشارةٍ للكلام المتقدّم، وهي: >كِتَابُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى أَرْبَعَةِ أَشْيَاءَ: عَلَى الْعِبَارَةِ وَالْإِشَارَةِ وَاللَّطَائِفِ وَالْحَقَائِقِ، فَالْعِبَارَةُ لِلْعَوَامِّ وَالْإِشَارَةُ لِلْخَوَاصِّ وَاللَّطَائِفُ لِلْأَوْلِيَاءِ وَالْحَقَائِقُ لِلْأَنْبِيَاءِ<[58].

 وفي هذا المقام يقول صاحب كتاب التوشيح: “إنّ كل موجود شهودي فله حقيقة وقالب والقوالب تتعدد بحسب تعدد النشآت فكما أنّ الإنسان أول ما ترى بالعيان هو الهيكل المحسوس والشكل المخصوص وبعد الإمعان يثبت لك أنّ له روحاً بخارياً… وهذا الروح هو الروح الحيواني عند الأصحاب والحكماء الأطياب وبعد التأمل الأقوى والنظر الأعلى يظهر أنّ لهذا الروح سلطاناً أقوى وروحاً آخر أجلى وأصفى وهو النفس الناطقة الإنسانية اللاهوتية عند العلماء ونسبة الثاني إلى الثالث كنسبة الأول إلى الثاني، وكذلك للقرآن معان تظهر بالإمعان تختلف باعتبار اختلاف العوالم والنشآت وأطوار الغيب والشهود فبعضها مفهوم لبعض دون آخر…”[59].

 ويقول العلامة النهاوندي: “فيتحقق في القرآن قوسان، قوس نزول ينتهى إلى وجوده اللفظي والكتبي الواقع في هذه النشأة، وقوس صعود واقع في عالم البرزخ كما هو الحال في حقيقة الإنسان…

 ومراتبه المعنوية تنتهي إلى حقيقة الاسم الإلهي الذي هو المبدأ للقرآن، ويشبه أن يكون هو حقيقة اسم الهادي والنور الذي ربما اطلق اسمه على القرآن في مواضع”[60].

 وتحصّل من جميع ما مضى أنّ الأدلّة المساقة لعدم معقوليّة النزول الإجمالي الدفعي ثبوتاً غير ناهضة ولا تصلح مانعاً من تحقّقه.

ب‌-بلحاظ عالم الإثبات والوقوع: ويأتي الحديث في هذه المرحلة حول مدى وفاء أدلّة القائلين بالدفعيّة على تحقّق فكرتهم في قبال أدلّة النافين لحصولها، ولتقييم هذه المسألة سنبدأ بمناقشة أدلّة القائلين بالمنع.

 أولاً: تقييم أدلّة النافين للنزول الدفعي: سبق وأن تطرّقنا إلى ردّ الدليلين الأوّلَيْن للمانعين -في النقطة السالفة- ومنه نكتشف الجواب على الدليل الثالث أيضاً؛ إذ إنّ النازل دفعة ليس هو القرآن بوجوده اللفظي حتى يعترض بسلوك النبي| في انتظاره لنزول الوحي، ومن الواضح أنّ الذي يناسب شأن الناس ويلائم فهمهم وطبعهم ويكون مؤثراً في اعتقادهم وسلوكهم هو التدرّج في التنزيل، فانتظار الوحي من قِبله | هو من أجل رعيّته وأداء تكليفه المرتبط بالأخذ بالأسباب والمسبّبات الطبيعيّة والاختياريّة لا التي يتعامل معها بالغيب والعلم الخاص المسبق، وإلا فالنبي الكريم| على علمٍ بالغيب وبما تؤول إليه الأمور بتعليم من الباري.

وأما الدليل الرابع الناظر إلى عدم وجود الفرق بين الإنزال والتنزيل في اللغة والاستعمال القرآني ففيه: أولاً: لم تتفق كلمة اللغويّين على قولٍ فاردٍ في هذا الشأن، فمنهم من ذهب إلى عدم وجود الفرق ومنهم من صرّح بوجوده، فتصوير المسألة على أنّها محسومة في صالح عدم التفريق يحتاج إلى تريّث، ويكفي في ملاحظة تعدّد الأنظار ما يقوله صاحب تاج العروس: “قالَ سِيْبَوَيْه: أَبو عَمْرو يفرُقُ بينَ نَزَّلْت وأَنْزَلْت ولم يذْكُرْ وَجْهَ الفَرْق.

 قالَ أَبو الحَسَنِ: لا فَرْق عنْدِي بَيْنهما إلا صيغَة التَّكْثير في نزَّلْت في قِراءَةِ ابنِ مَسْعود وأَنْزَل المَلائِكةَ تَنْزِيلاً؛ أَنْزَلَ كنَزَّل.

 قالَ شيْخُنا: وفرَّقَ جماعَةٌ مِن أَرْبابِ التَّحْقيقِ فقالُوا: التَّنْزيلُ تَدْريجيٌّ والإنْزِالُ دَفعيٌّ كما في أَكْثَر الحَواشِي الكَشَّافية والبَيْضاوِيَّة، ولمَّا وَرَدَ اسْتِعْمال التَّنْزِيلِ في الدَّفْعيّ زَعَمَ أَقوام أَنَّ التَّفْرقَةَ أَكْثَرية وأَنَّ التَّنْزيلَ يكونُ في الدَّفْعيّ أَيْضاً، وهو مَبْسوطٌ في مواضِعٍ مِن عنايَةِ القاضِي، انتَهَى.

وقالَ المصنِّفُ في البَصَائِر تِبْعاً للرَّاغبِ وغيرِهِ: الفَرْق بينَ الإنْزالِ والتَّنْزيلِ في وَصْف القُرْآن والمَلائِكَة أَنَّ التَّنْزِيلَ يَخْتص بالمَوْضِعِ الذي يشيرُ إلى إنْزالِه مُتَفرّقاً مُنَجّماً ومرَّةً بعْدَ أُخْرَى، والإنْزالُ عامٌّ…”[61].

 ثانياً: كون اللفظتين بمعنىً واحدٍ صحيحٌ من جهة المفهوم العام الإجمالي وهو الانحطاط من علوٍّ[62]، وحينئذٍ قد يكون تعبير بعض الكتب اللغويّة بالاتحاد ناظراً إلى هذا المعنى العام ولا ينافي ذلك تعبير البعض الآخر بالتغاير مع نظرهم إلى المعنى التفصيلي، ومجرّد اختيار المعنى الإجمالي لا يعارض اختصاص كلّ واحدة من الصيغتين بخصوصيّة مرتبطة بطبيعة وزنها الصرفي والدلالي كالدفعيّة أو التعدّديّة والتكثير.

 وقد ينقدح في الذهن احتمالٌ شبيه لهذا يتولّد من خلال مراجعة بعض ما ذكر في مصادر اللغة حول حالات صيغة (أَفْعَل) وصيغة (فَعّل) من المادة الواحدة، فأحياناً تشتركان في أصل المعنى في بعض المصاديق، وأحياناً يكون بينهما افتراق واختلاف، يقول سيبويه: “وقد يجي‏ء فعّلت‏ وأفعلت‏ في‏ معنى‏ واحد مشتركين‏ كما جاء فيما صيّرته فاعلا ونحوه، وذلك: وعّزت إليه وأوعزت إليه، وخبّرت وأخبرت، وسمّيت وأسميت، وقد يجيآن مفترقين مثل علّمته وأعلمته، فعلّمت أدّبت، وأعلمت آذنت، وآذنت أعلمت، وأذّنت النّداء والتصويت بإعلان، وبعض العرب يجرى أذّنت وآذنت مجرى سمّيت وأسميت…‏”[63].

 فربما نقرأ في بعض القواميس أن (أنْزَلَ) و(نَزَّلَ) بمعنى واحد ويكون المراد هو الإشارة إلى دخولهما في القسم الذي به اشتراك، وذلك تمييزاً لهما عن الدخول في القسم الآخر فقط، من دون أن يقصدوا الاتحاد من سائر الجهات والخصوصيّات.

 ثالثاً: دقّة القرآن وأسلوبه وعمق بلاغته ومراميه تأبى عن استعمال الألفاظ المتعدّدة الصيغ -وإن كانت من مادّة واحدة- في معنىً واحدٍ مطابقٍ تماماً لمجرّد التفنّن والتلاعب في التعابير، فلا توجد كلمة ولا صيغة بل ولا حرف أو حركة موجودة فيه إلا وتشير إلى مغزىً مختلف عن سائر الكلمات والصيغ والحروف والحركات، أو لا أقل توحي بإيحاء خاص زائد على المعنى المشترك، فمثلاً مفهوم (تَسْتَطِيع، تَسْتَطِع وتَسْطِع) في قوله تعالى: {قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا}[64] وقوله تعالى: {قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[65] وقوله: {… ذَلِكَ تَأْوِيلُ مَا لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا}[66] هو واحد لغة من حيث أصل المعنى ولكن متفاوت في المؤدّى من ناحية الدرجة والضعف، وذلك تناغماً مع درجة الثقل والخفّة التي كان يعيشها نبي الله موسى في نفسه وهو يقابل أفعال الخضر[67]، ولذا حينما كان اعتراضه واستغرابه شديداً في المرّة الأولى جاء تعبير القرآن عن عدم صبره بحروف أكثر: (لن تستطيع)، ولما صار في حالة متوسّطة جاء التعبير بـ: (لم تستطع) بإنقاص حرف عن السابقة، ولمّا خفّت حالته في الاعتراض الأخير عُبِّر عنه بـ: (لم تسطع)، ونظائر هذا في القرآن الكريم ليست بعزيزة.

 وحينئذٍ حتى لو كان لفظ (أنْزَلَ) كلفظ (نَزَّل) في المعنى فهذا لا ينافي مناسبة الأولى للدفعيّة وعدم التكثير، والثانية للتعدّد والتكرار والتدريج، فالمعنى العام الأصلي واحد ولكن الخصوصيّة الموجودة في طبيعة الصيغة تعيّن حالة من حالات هذا المعنى وتبرز طوراً من أطواره.

 رابعاً: جميع النقوض القرآنيّة التي ذكرت كشواهد على عدم وجود الفرق بين المفردتين إنّما لجأ إليها أصحابها نتيجة ضيق الخناق عليهم في الجمع بين معانيها على ضوء ثبوت النزولين، كما أنّ لاستبعادهم النزول الكلي للقرآن الكريم في ليلة واحدة أثر أيضاً في استظهارهم لهذه الآيات، أما لو قمنا برفع هذا الاستبعاد بما تقدّم من الالتزام بوجود مراتب للقرآن وأن النازل دفعة هو حقيقته غير اللفظية والكتبية، وأثبتنا إمكانيّة إعطاء تفسير معقول لكل هذه الآيات بدون أن تنثلم قاعدة التفريق بين اللفظتين والنزولين فلن يبقى موضوع لهذا الإشكال من رأس، فمثلاً يمكن أن يجاب على شبهة كيفيّة تنزّل الملك من السماء بنحو تدريجي في قوله تعالى: {قُلْ لَوْ كَانَ فِي الْأَرْضِ مَلَائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنَا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّمَاءِ مَلَكًا رَسُولًا}[68] -مع أنّ الملك الواحد لا يتجزّأ والمناسب له هو النزول دفعة- بأنّ المقصود هو تكرار تنزّل الملك لا أنّه ينزل جزءاً جزءاً، لأنّ غرض الآية الإشارة إلى أنّه لكل جماعة يقطنون الأرض لابد من أن يرسل إليهم ملكاً رسولاً وأن الإرسال يكون بنحوٍ متكرّر وكرّة بعد أخرى فناسب معه استعمال لفظ (لنزّلنا)، أما في قوله تعالى بسورة أخرى: {وَقَالُوا لَوْلَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَلَوْ أَنْزَلْنَا مَلَكًا لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لَا يُنْظَرُونَ}[69] فالمراد والنظر فيها هو النزول الدفعي ولمرّة؛ إذ إنّ الغرض من الآية هنا مختلف، وطلب المعاندين هو إرسال ملك واحد فناسب التعبير بالإنزال لإفادة ذلك، وعلى هذا المنوال يمكننا معالجة سائر النقوض.

 وأما ما يتعلّق بدليلهم الخامس وهو ضعف روايات النزول الدفعي سنداً ودلالة فيجاب عليه: أنّ روايات النزول التدريجي لا تعدّ معارضة لروايات الدفعيّة حتى تصل النوبة إلى ترجيحها عليها لأنّها أكثر وأقوى، فلا يوجد لدينا تنافٍ بين المجموعتين من الأساس بحيث يكون ثبوت إحداها منذراً ومخبراً عن نفي وسقوط الأخرى، فلا معنى لضعف الدلالة كما هو مذكور.

 نعم، يبقى أنّ سند هذه الروايات قد لا يكون بالمستوى المناسب للجزم بوقوع النزول الدفعي لو لم يوجد غيره من الأدلّة والقرائن الأخرى، ولكن هذا الكلام إمّا أنّه يردّ بأنّ المعيار في الروايات التاريخيّة والتفسيريّة يختلف عمّا هو مستعمل في المسائل العقديّة والفقهيّة فيكون هذا المقدار الموجود وافياً بالمطلوب، وإمّا أن يقال: إنّ هذه الروايات تصلح أنّ تعدّ قرينةً مؤيِّدةً في المقام، فتسهم في تكوين الجزم والوقوع، خاصة مع كثرتها وتعدّدها؛ إذ لو لم تصدر وكانت باطلةً لجاءت الروايات الصراح مجابهةً لها.

وأما دليلهم السادس النافي لكون الإحكام بمعنى البساطة فهو إن تمّ فيعتبر رداً على مختار العلامة الطباطبائي ولا يتعارض مع أصل مفهوم الدفعيّة، على أنّ تفسير الإحكام بالضبط والإتقان ينسجم مع كلا النزولين، مع العلم أنّه بملاحظة مجموع الآيات وبالالتفات إلى مراتب القرآن الكريم لا يكون نظر العلامة ومختاره بعيداً ونشازاً، ويتّضح به الجواب على كيفيّة تعقّل بساطة القرآن مع احتوائه على المحكم والمتشابه، كما أنّه بنفس هذا البيان يعرف الردّ على الدليل السابع والأخير.

 ثانياً: تقييم أدلّة القائلين بالنزول الدفعي: لا شك في أنّ متابعة الردود والتقييمات المتقدّمة على أدلّة النافين تبرز لنا الصورة العامة التقييميّة لأدلّة المثبتين وتكفينا مؤونة الإعادة لجلّ النقاط المذكورة فيها، وبالتالي سنقتصر على ذكر ملاحظتين فقط لا غير: الملاحظة الأولى: وهي موجّهة إلى الدليل الثالث المبتني على اشتراك الكتب السماويّة في ظروف النزول، والدعوى فيه أنّ جميع الكتب السماويّة السابقة على القرآن قد نزلت دفعة وعلى هيئة كتاب تام وكامل، فهذه المسألة أخذت مسلّمةً وثابتةً وكأنّها خالية من النقاش، والحال أنّها برغم شهرتها ليست موضعاً للاتفاق[70]، والخلاصة أنّ مجرّد الاشتراك لوحده لا يرقى إلى مستوى الدليليّة.

الملاحظة الثانية: وهي ترتبط بالدليل الرابع الذي هو مختار السيّد العلامة الطباطبائي وجوهرها أننا إذا أثبتنا تعدّد مراتب القرآن، وكون النازل في ليلة القدر هو تمامه وليس قسماً منه كفى ذلك في تحقيق المطلوب وإن لم نثبت باقي تفصيلات العلامة كالبساطة وعدم التركيب والتفصيل بعد الإحكام وغيرها من المسائل.

 المحصّلة النهائيّة: نصل الآن إلى بيان الحصيلة النهائيّة في المسألة، إذ قد تلخّص لنا مما تقدّم أنّ جميع الأدلّة التي سيقت لنفي النزول الدفعي قابلة للنقاش والردّ ولا تشكّل مانعاً من وقوعه سواء على مستوى عالم الثبوت أو عالم الإثبات، وأما ما يستدل به على تحقّقه فقد ثبت منها ما به الكفاية كالدليلين الأولين من أدلّة المثبتين بالإضافة إلى مراتب القرآن الكريم والفرق بين (أنْزَلنا) و(نزَّلنا) وتأييد الروايات وغير ذلك، وإذا كان هناك تردّد في دليليّة هذه الأمور فلا أقل من عدّها قرائن قويّة تشكّل بضمّها مع بعض ظهوراً ساطعاً على ثبوت النزول الدفعي.

 الخـاتمـة: من خلال التطوّف والنظر في المباحث السابقة والاطلاع على أدلّة الفريقين -المثبت والنافي للدفعيّة- وتقويمها نتوصّل إلى النتائج التالية: ‌أ-  القول بوقوع النزول الدفعي هو رأي المشهور من العلماء قديماً وحديثاً وإن خالفه بعض الأكابر كالشيخ المفيد والسيد المرتضى_.

 ‌ب-السبب الرئيس في احتدام النزاع في المسألة ناشئ من الكلام في إمكانيّة الجمع بين ظاهر الآيات والروايات التي ذكرت نزول القرآن في ليلة واحدة -مما يعني مناسبتها للنزول الدفعي- وبين التسالم والاتفاق المطبق بين الجميع في تحقّق النزول التدريجي وكونه هو المتّسق مع ظاهر آيات القرآن وأحداثه.

 ‌ج-فكرة النزول الدفعي تدور في دائرة وفلك الإمكان من دون أن تكون ضروريّة الوقوع، وليس للعقل وحده سبيلٌ لإثباتها، وبالتالي فمسرح الحديث حولها يرتبط بما يسعف من النصوص والظهور والتعبّد.

 ‌د-الحكم في المسألة قبولاً أو رفضاً يحتاج إلى ملاحقة ومتابعة كل اللوازم والتأكد من انسجامها معه، فوجود فرق بين لفظتي (أَنْزَلنا) و(نزَّلنا) أو عدمه مثلاً له انعكاس على مائتين وست وسبعين آية كحدٍّ أدنى، وبالتالي يجب ملاحظة جميع هذه الموارد قبل الحسم.

هـ- في المناقشة تم توضيح عدم وجود مانع من تحقّق النزول الدفعي سواء في عالم الإمكان والثبوت أو في عالم الإثبات، وفي الوقت نفسه تبيّنت تماميّة القول بالدفعيّة وأنّه هو المتسق والمناسب لظاهر الأدلّة.

 هذا تمام الكلام في تحرير المسألة ومناقشتها، والله هو الهادي إلى سواء السبيل، والحمد له أولاً وآخراً، وأفضل الصلاة والسلام على رسوله الأمين وآله الطهر الميامين.

الهوامش والمصادر

  • [1] سورة الإسراء: 106.
  • [2] انظر: كتاب العين، خليل بن أحمد الفراهيدي، ج7، ص367؛ معجم مقاييس اللغة، أحمد بن فارس، ج5، ص417؛ وغير ذلك.
  • [3] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الإصفهاني، ص799.
  • [4] كتاب العين، خليل بن أحمد الفراهيدي، ج2، ص45؛ المحيط في اللغة، ابن عباد، ج1، ص427.
  • [5] الصحاح (تاج اللغة و صحاح العربية)، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج3، ص1208؛ لسان العرب، ابن منظور، ج8، ص87.
  • [6] شمس العلوم و دواء كلام العرب من الكلوم، الحميري، ج4، ص2113.
  • [7] انظر على سبيل المثال: تصحيح اعتقادات الإماميّة، الشيخ المفيد، ص123؛ أمالي السيد المرتضى في التفسير والحديث والأدب، الشريف المرتضى، ج4، ص161؛ وكلّ من تعرّض إلى المسألة من العامّة والخاصّة.
  • [8] نفحات الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ محمد النهاوندي، ج1، ص36.
  • [9] تصحيح اعتقادات الإماميّة، الشيخ المفيد، ص124.
  • [10] رسائل الشريف المرتضى، علم الهدى السيد المرتضى، ج1، ص403- 405.
  • [11] التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص142.
  • [12] سورة القدر: 1.
  • [13] سورة الدخان: 1- 4.
  • [14] سورة البقرة: 185.
  • [15] انظر مثلاً: تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج15، ص728- 729؛ المفردات في غريب القرآن، الراغب الإصفهاني، ص799- 800.
  • [16] الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص157، ر6.
  • [17] انظر: الإتقان في علوم القرآن، جلال الدين السيوطي، ج1، ص156.
  • [18] الكافي، الشيخ الكليني، ج2، ص628، ر6.
  • [19] راجع أيضاً: تفسير العياشي، محمد بن مسعود العياشي، ج1، ص80، ر184؛ وتفسير القمي، علي بن إبراهيم القمي، ج1، ص66؛ والأمالي، الشيخ الصدوق، ص62.
  • [20] الكافي، الشيخ الكليني، ج4، ص157، ر5.
  • [21] سورة الفرقان: 32.
  • [22] انظر مثلاً: مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الطبرسي، ج7، ص265؛ وجامع البيان في تفسير القرآن، محمد بن جرير الطبري، ج19، ص8.
  • [23] الميزان في تفسير القرآن، العلامة السيد الطباطبائي، ج2، ص15- 18.
  • [24] سورة هود: 1.
  • [25] سورة الزخرف: 1- 4.
  • [26] سورة الواقعة: 77- 80.
  • [27] سورة الأعراف: 52- 53.
  • [28] سورة يونس: 39.
  • [29] سورة القدر: 1.
  • [30] سورة طه: 114.
  • [31] سورة القيامة: 16- 19.
  • [32] من المفيد مراجعة: التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص147؛ دروس حول نزول القرآن، الشيخ ميرزا يد الله الدوزدوزاني، ج1، ص12- 86 والمنقول بـ: نصوص في علوم القرآن، السيد علي الموسوي الداراني، ص647.
  • [33] سورة المجادلة: 1.
  • [34] تصحيح اعتقادات الإماميّة، الشيخ المفيد، ص123.
  • [35] الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، إسماعيل بن حماد الجوهري، ج5، ص1829.
  • [36] المصباح المنير في غريب الشرح الكبير للرافعي، الفيّومي، ج‌2، ص: 600‌.
  • [37] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج15، ص728.
  • [38] سورة الأنعام: 37.
  • [39] سورة الرعد: 7.
  • [40] أسئلة القرآن (المجيد) وأجوبتها، محمد بن أبي بكر الرازي ، ص32.
  • [41] سورة الإسراء: 95.
  • [42] سورة الأنعام: 8.
  • [43] سورة الأنعام: 37.
  • [44] سورة النساء: 153.
  • [45] لمزيد من التفصيل راجع ما قاله آية الله الشيخ ميرزا يد الله الدوزدوزاني• في كتابه دروس حول نزول القرآن والمنقول بـ: نصوص في علوم القرآن، السيد علي الموسوي الداراني، ص628- 634.
  • [46] راجع: كتاب العين، الفراهيدي، ج3، ص67؛ المحيط في اللغة، ابن عباد، ج2، ص388؛ الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، بن حماد الجوهري، ج12، ص143؛ مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، ج6، ص43.
  • [47] لاحظ: الصحاح (تاج اللغة وصحاح العربية)، بن حماد الجوهري، ج5، ص1791؛ شمس العلوم ودواء كلام العرب من الكلوم، الحميري، ج8، ص5199؛ مجمع البحرين، الشيخ فخر الدين الطريحي، ج5، ص442؛ تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج15، ص576.
  • [48] سورة هود: 1.
  • [49] لمزيد من الاطلاع انظر: دروس حول نزول القرآن، الشيخ ميرزا يد الله الدوزدوزاني المنقول بـ: نصوص في علوم القرآن، السيد علي الموسوي الداراني، ص635.
  • [50] سورة آل عمران: 7.
  • [51] التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص156.
  • [52] سورة القدر: 1.
  • [53] سورة الدخان: 3.
  • [54] سورة البقرة: 185.
  • [55] التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص145.
  • [56] لاحظ: روض الجنان وروح الجنان في تفسير القرآن، أبو الفتوح الرازي، ج3، ص30؛ تصحيح اعتقادات الإماميّة، الشيخ المفيد، ص124؛ مجمع البيان في تفسير القرآن، الشيخ الطبرسي، ج2، ص14؛ التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص145.
  • [57] نفحات الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ محمد النهاوندي، ج1، ص36- 37.
  • [58] أعلام الدين في صفات المؤمنين، بن أبي الحسن الديلمي، ص303؛ جامع الأخبار، تاج الدين الشعيري، ص41؛ بحار الأنوار، العلامة المجلسي، ج75، ص278، وج89، ص20.
  • [59] توشيح التفسير في قواعد التفسير والتأويل، محمد بن سليمان التنكابني، ص38.
  • [60] نفحات الرحمن في تفسير القرآن، الشيخ محمد النهاوندي، ج1، ص130- 131.
  • [61] تاج العروس من جواهر القاموس، الزبيدي، ج15، ص728- 729.
  • [62] مفردات ألفاظ القرآن، الراغب الإصفهاني، ص799.
  • [63] كتاب سيبويه، عمرو بن عثمان سيبويه، ج2، ص282.
  • [64] سورة الكهف: 75.
  • [65] سورة الكهف: 78.
  • [66] سورة الكهف: 82.
  • [67] راجع: تفسير القرآن العظيم، ابن كثير، ج5، ص169.
  • [68] سورة الإسراء: 95.
  • [69] سورة الأنعام: 8.
  • [70] راجع مثلاً: التمهيد في علوم القرآن، الشيخ محمد هادي معرفة، ج1، ص156- 157.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى