ثقافة

طرق الفهرستين – هل هي إلى واقع الكتب أم لا

من المباحث الجديرة التي طرحها المتأخرون من المهتمّين بشؤون الحديث وأسناد الروايات هي تلك المتعلّقة بحال الطرق والأسانيد المبثوثة في كتابيّ الفهرست للشيخ الطوسي (رحمه الله) والرجال (فهرست أسماء مصنّفي الشيعة) للنجاشي (رحمه الله)، هل هي أسانيدٌ إلى حقائق المصنّفات وواقع الكتب، أم هـي لعنـاوينـها وأسمائها فقط؟ وبمعنىً أجلى: هل نقل الشيخ (رحمه الله) -مثلاً- في فهرسته لطريقٍ إلى أحد الأصول الروائيّة يكشف عن وصول عين هذا الأصل وبنسخته المحدّدة إلى يده، أم لا يستشف منه أكثر من وصول عنوانه واسمه فقط، إلا في موارد منصوصة؟ ولا شك أن الحسم في هذا الموضوع له أثره الملموس في درجة الاعتماد على طرق الكتابين إلى المصنّفات الروائيّة وقيمة الاعتناء بها، وله دوره في خروج جمعٍ من الروايات من حدّ الإرسال إلى دائرة وحيّز الإسناد، وخاصّة على المبنى القائل بلزوم نقد الطرق والمشيخة، وحينئذٍ يتضح الجواب على من قلّل من أهميّة طرق هذا البحث بحجّة عدم الفائدة منه، وبذريعة إغفال المتقدّمين -بحسب الظاهر- إلى التعرّض إليه؛ فاستغناؤهم عنه -لقرب عصرهم من عصر الأصول والمصنّفات، وكونها معروفة ومشهورة عندهم، ومحفوفة بالعديد من القرائن التي فقدت بعد ذلك- لا يعني استغناء الأجيال المتعاقبة بعدهم عن البحث فيه بالتبع.

 وإن قيل: أن الأصحاب تلقّفوا طرق الشيخين الطوسي والنجاشي (رحمهما الله) في فهرستيهما بالقبول والتأييد، وهذا يكشف إناً عن كونها إلى واقع النسخ والمصنّفات، فلا نحتاج إلى مزيد بحث وتنقيحٍ حول الموضوع.

فإنه يقال: إن العبرة والأساس في بيان حال المسألة هو نفس سلوك وكلام الشيخين (رحمهما الله)، وقرائن نفس فهرستيهما، أما تلقي جمهرة من الأعلام تلك الطرق بالرضا والاستحسان فلربما كان لأسبابٍ أخرى ودواعٍ متعدّدة لا ربط لها بمسألة كون الطرق إلى واقع الكتب أم لا.

 وعلى كلّ التقادير فالآراء التي ظهرت في هذا الشأن ثلاثة، نذكرها معزّزة بأدلّتها مع بعض المناقشة، عسى أن نصل في نهاية الأمر إلى الرأي الأسدّ والأوفق للصواب.

الرأي الأوّل:- الأصل في طرق الفهرستين أنّها إلى أسامي النسخ: أي أن ذكر الطرق فيهما هو لاتصال السند إلى تلك الأصول والمصنّفات وإن لم تكن حاضرة موجودة تحت متناول الشيخين (رحمهما الله)، فيكفي وصول قسم منها بأيديهما، والباقي لم يصل، بل وصل خبره إليهما بوساطة المشايخ الناقلين، والنتيجة أن الطريق إلى اسم النسخة(العنوان) ونسبتها إلى صاحبها متحقّق، أما الطريق إلى واقعها(المعنون) فغير ثابت، نعم قد يتّفق أحياناً وصول الكتاب بواقعه بأحد الأنحاء التي تدل على ذلك، وهذا في المورد الذي تدلّ عليه القرينة.

 وأبرز الأدلّة التي ساقها أصحاب هذا الرأي:

 أ- بناء على أن الغرض من تصنيف الفهرستين هو التعرّف على نسبة الكتب إلى مؤلفيها لا غير، لا يعقل -بحسب سلوك العقلاء- أن يصرف كلا الشيخين (رحمهما الله) جهده في سبيل الحصول على واقع النسخ، وهي تربو على الألفين كما قيل، وفيها المواضيع المختلفة التي ليست كلّها مورد اهتمام ونفع لهما، خاصة إذا كان الكتاب الواحد له أكثر من نسخة وطريق(1).

وفيه: انحصار الغرض من الفهرستين في المذكور فقط هو أوّل الكلام ولم يثبت بعد، ويزول معه الاستبعاد العقلائي المتوقّف عليه، في حين إن الاعتناء بالطرق وبالنسخ -مهما تكثّرت- كان شائعاً ومتداولاً وهو سبب حفظ الموروثات الروائية وصونها من العبث، وله دواعي وفوائد مختلفة ليست خفيّة(2).

 ب- أحياناً ليست بعزيزة يتفق أن يذكر الشيخان (رحمهما الله) راوياً معيّناً له كتب كثيرة، ولا يعدّدان منها إلا النزر الذي هو أقل من مجموعها، ثم يردفان ذلك بالقول: (أخبرنا بكتبه أو بجميع كتبه فلان عن فلان) ممّا يظهر منه عدم وصول كل كتب هذا الراوي لحوزتهما، ومع ذلك يذكران طريقهما إلى جميع مصنّفاته، والشواهد على هذه السيرة قائمة، مثلاً: جاء في الفهرست للشيخ (رحمه الله) ضمن ترجمة أحمد بن محمد بن عمر المعروف بابن الجندي: “صنّف كتباً منها…، أخبرنا بجميع رواياته أبو طالب بن غرور عنه”(3)، فلفظ (منها) يوحي بعدم ذكره لجميع كتبه رغم حرصه على جمع وبيان أكبر قدر ممكن من المصنّفات كما قال في ديباجة الفهرست: “ولم أضمن أني أستوفي ذلك إلى آخره فإن تصانيف أصحابنا وأصولهم لا تكاد تضبط لانتشار أصحابنا في البلدان وأقاصي الأرض غير أن علي الجهد في ذلك والاستقصاء فيما أقدر عليه ويبلغه وسعي ووجدي وألتمس بذلك القربة إلى الله تعالى وجزيل ثوابه”(4).

وعلى نفس المنوال ورد في ترجمة يونس بن عبد الرحمن: “له كتب كثيرة أكثر من ثلاثين كتاباً، وقيل: إنها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة… أخبرنا بجميع كتبه ورواياته جماعة عن أبي جعفر بن بابويه…”(5)، إذ لو كانت كلّ كتب يونس واصلة له لما تردّد وعبّر بـ (وقيل: إنها مثل كتب الحسين بن سعيد وزيادة).

 ويناقش بـ: إن هذه التعابير والقرائن لئن تركت بحالها بنفس التوجيه المذكور في الدليل ولم تقبل تصرّفاً مغايراً في معناها لا تصل إلى قوّة تأسيس الأصل في المسألة، فهل هذا الأسلوب -وهو بلا شك ليس الأسلوب الغالب، وموارده هي الأقل مقارنة بسواها- يسوّغ القول أن القاعدة الأولى في طرق الفهرستين هي أنها لعناوين الكتب لا لمعنوناتها؟ ألا يمكن أن يكون معنى عبارة: (أخبرنا بجميع كتبه ورواياته) هو الإخبار عن كل الكتب الواصلة دون سواها كما هو ليس ببعيد.

 ثم إن التتبّع العام في تراجم الفهرستين يفيد شعوراً مضادّاً لهذا الرأي، خاصّة إذا عرفنا أن الشيخ الطوسي (رحمه الله) وكذلك الشيخ النجاشي (رحمه الله) تركا مجموعة من المصنّفات والكتب من دون ذكر طريق إليها، ممّا قد يستوحى منه أن ذلك إلفات منهما إلى عدم وجود هذه المصنّفات بأيديهما وإنما قد وصلت عناوينها إليهما فقط، والخلاصة: أن هذا الدليل لا ينظر إليه بمعزل عن سائر الأدلّة والآراء الأخر، إذ مع ملاحظتها عموماً لا غرو من تأثيرها في تغيير اتجاه تفسيره ومعناه.

ج- لو كان ذكر الطرق إلى واقع النسخ لتمّ التنبيه عليه مراراً وتكراراً، ولو من باب الإشارة إلى كيفية تحمّل رواية الكتاب، نعم في موارد معيّنة بُيّنت بعض أنحائه كالسماع أو القراءة أو الإجازة، ولكن لا يفهم منها أن الموارد الأخرى هي بنفس الشاكلة، وكلمة الإخبار لوحدها -المتكرّرة كثيراً في الكتابين بتعبير أخبرني بكتبه… ألخ- قاصرة عن بيان هذه الكيفية، وبالتالي مع غياب التنبيه لا جزم لنا بكونها إلى واقع المصنّفات(6).

ويجاب: عدم التنبيه الصريح -لغياب الداعي له بحسب تشخيص المصنّف أو اعتماداً لوضوحه في وقته أو لعلّة ما- لا يلزم منه ما ذكر ولا يعدّ دليلاً، وأقصى ما يترشّح منه هو الاستغراب والتوقّف البدوي، والذي قد يشكّل قرينة بشرط انتفاء سائر القرائن المباينة الأخرى، وعدّ الإخبار قاصراً وأجنبيّاً بالتمام عن المقام هو الذي يحتاج إلى دليل وتنبيه وليس العكس كما سيلمح إلى ذلك -إن شاء الله تعالى- في الرأي القادم.

 الرأي الثاني:- الأصل في طرق الفهرستين أنّها إلى واقع النسخ: بمعنى أن ذكر الشيخ الطوسي (رحمه الله) -مثلاً- في الفهرست طريقاً إلى راوٍ يفهم منه أن كتاب هذا الراوي -أو مرويّاته- قد وصل لمتناول يده، بل وفيه إشارة وتحديد إلى نسخة معيّنة من نسخ هذا الكتاب أيضاً، وبالتالي تصنّف الرواية المأخوذة بواسطة هذا الطريق في عداد المسندات، وتخرج عن حدّ الإرسال، وتنتقل من جهالة الواسطة والنسخة إلى معلومَيْها، وهذا هو مقتضى أصل عبائر الفهرستين، وإذا ما حصل أحياناً عدول عن هذا النهج فهو من موارد الاستثناء التي يهتدى إليها عبر الإشارة أو وجود القرينة، وبالطبع ليس لها مساس وتأثير على الحفاظ على الأصل المذكور.

ويتّكئ هذا الرأي على طائفة من الشواهد والأدلّة، من عمدتها:

 1- إرجاع الشيخ الطوسي (رحمه الله) في تهذيبيه إلى فهرسته بالخصوص، وإلى فهارس الأعلام بالعموم، حيث قال في آخر التهذيب عند ذكر المشيخة: “قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرحٌ يطول هو مذكورٌ في الفهارس المصنّفة في هذا الباب للشيوخ (رحمهم الله) من أراده أخذه من هناك إن شاء الله، وقد ذكرنا نحن مستوفى في كتاب فهرست الشيعة”(7).

 وبمضمون قريب منه أيضاً أشار  (قدِّس سرُّه) في مشيخة الإستبصار: “قد أوردت جملاً من الطرق إلى هذه المصنّفات والأصول، ولتفصيل ذلك شرحٌ يطول هو مذكورٌ في الفهارس للشيوخ، فمن أراده وقف عليه من هناك إن شاء الله تعالى”(8). وقبل هذا وضّح غرضه وراء ذكر هذه الطرق، فذكر  (قدِّس سرُّه) مطلع مشيخة التهذيب: “والآن فحيث وفق اللّه تعالى للفراغ من هذا الكتاب نحن نذكر الطرق التي يتوصل بها الى رواية هذه الاصول والمصنفات ونذكرها على غاية ما يمكن من الاختصار لتخرج الاخبار بذلك عن حد المراسيل وتلحق بباب المسندات”(9).

 وأكّد على هذا الغرض بمقدّمة مشيخة الإستبصار: “وكنت سلكت في أول الكتاب إيراد الأحاديث بأسانيدها وعلى ذلك اعتمدت في الجزء الأول والثاني، ثم اختصرت في الجزء الثالث وعولت على الابتداء بذكر الراوي الذي أخذت الحديث من كتابه أو أصله على أن أورد عند الفراغ من الكتاب جملة من الأسانيد يتوصل بها إلى هذه الكتب والأصول حسب ما عملته في كتاب (تهذيب الأحكام)”(10). وإخراج الروايات من حيّز الإرسال إلى حريم الإسناد لا يحصل إذا لم تكن الطرق إلى واقع المستطرق؛ وهو ظاهر -إن لم يكن صريح- قوله  (قدِّس سرُّه): (على أن أورد عند الفراغ من الكتاب جملة من الأسانيد يتوصل بها إلى هذه الكتب والأصول)، إذ من البعيد إرادة أسامي الكتب والأصول دون واقعها، وإذا كان هذا هو حال طرقه في التهذيبين، فإحالته إلى الفهرست يكشف عن كون طرقه فيه هي بنفس المنوال والفكرة.

 2- ظهور مقدّمة كل من الفهرستين في كون الأسناد إلى واقع الكتب، وتوضيح ذلك: أن الشيخ الطوسي (قدِّس سرُّه) بعد أن أشار في ديباجة الفهرست إلى عدم وجود مصنّف فهرستي جامع للشيعة يضم بين دفتيه ما حوته خزائن الأصحاب، قال: “… فإذا سهل الله إتمام هذا الكتاب فإنه يطلع على أكثر ما عمل من التصانيف والأصول ويعرف به قدر صالح من الرجال وطرائقهم، ولم أضمن أني أستوفي ذلك إلى آخره فإن تصانيف أصحابنا وأصولهم لا تكاد تضبط لانتشار أصحابنا في البلدان وأقاصي الأرض غير أن علي الجهد في ذلك والاستقصاء فيما أقدر عليه ويبلغه وسعي”(11).

 وهذا يستشف منه أن الفهرست يحوي أكثر تصانيف الأصحاب، ولربما أعم وأوسع ممّا وصل واقعه إلى الشيخ (رحمه الله) نفسه، ولكن إذا عرفنا أنه (رحمه الله) لم يذكر طرقه إلى الكل، بل إلى قسم مما ذكره في الفهرست -وإن كان الأكبر- نستظهر أن الكتب التي ذكر طريقه إليها هي ما حوته خزانته ووصلت بواقعها لمتناول يده، وأما تلك التي لم يذكر إليها طريقاً فهي التي وصلت أسماؤها فقط دون واقعها(12)، ويمكن أن يكون هذا هو مدلول: (ويعرف به قدر صالح من الرجال وطرائقهم)، والنتيجة أن الطرق في الفهرست هي إلى واقع الكتب.

 وأما الشيخ النجاشي (رحمه الله) فيمكن استفادة هذا المعنى في حق فهرسته عند قوله في مقدّمة رجاله: “وقد جمعت من ذلك ما استطعته، ولم أبلغ غايته، لعدم أكثر الكتب…”(13)، فهذه العبارة ظاهرة -بل صريحة- في أنه ذكر كتباً كانت موجودة عنده(14).

 ويسجّل على الظهور الأول: أن احتواء الفهرست على ذكر معظم التصانيف لا يساوي الجزم بعدم وصول هذه التصانيف المذكورة بواقعها كلها إلى الشيخ، حتى ولو كانت في حقول متعدّدة ومجالات مختلفة، كما لا يساوي وصولها أيضاً، ومجرّد ذكر طرقه لبعضها دون البعض الآخر لا يعد -لوحده دون انضمامه لسائر القرائن والأدلّة الأخرى- مستمسكاً يقود إلى الجزم أو الظن الغالب، فهو تقريب واستئناس قابل للانطباق وقابل لعدمه -بالرغم من لطافته وحسن سبكه-.

 وأما الظهور الثاني فقد يرد عليه: أن النجاشي (رحمه الله) في ديباجته ليس بصدد بيان وصول الكتب بيده من عدمه، بل هو في مقام الاعتذار للقرّاء فيما لو فاته ذكر مصنّف لم يستوفه وقد استوفاه غيره، ولذا عقّب على تلك العبارة بـ: “وإنما ذكرت ذلك عذراً إلى من وقع إليه كتاب لم أذكره”(15)، فعدم أغلب الكتب يعني انطمار أثرها، وهي أعم من كونها موجودة ولكن واقعها لم يصل إليه حتى نفهم منها أنه لم يذكرها لهذا السبب بالخصوص فقط، نعم يبقى أن العبارة أيضاً لا تنفي الاستظهار المذكور، خاصة مع ملاحظة جملة (من وقع إليه كتاب)، وعلى كل الأحوال كما أسلف في الظهور الأوّل أن هذه استئناسات أكثر من كونها أدلّة، وبالتالي تصلح كمؤيّدات لا كدليل، والله العالم.

 3- تصريح كلا الشيخين (رحمهما الله) في فهرستيهما بعبائر عديدة صريحة في معاني التحمّل الدالة على أن الطرق إلى واقع الكتب وليس إلى أساميها، فمن عبائر الشيخ الطوسي (رحمه الله): جاء في ترجمة أحمد بن الحسين بن عبد الملك: “أبو جعفر الأودي كوفي ثقة مرجوع إليه بوب كتاب المشيخة… سمعنا هذه النسخة من أحمد بن عبدون، قال سمعتها من علي بن‌ محمد بن الزبير عن أحمد بن الحسين بن عبد الملك”(16).

 أيضاً: في ترجمة علي بن الحسن بن فضّال: “وكتبه في الفقه مستوفاة في الأخبار حسنة… أخبرنا بجميع كتبه قراءة عليه أكثرها والباقي إجازة، أحمد بن عبدون، عن علي بن محمد بن الزبير سماعاً وإجازة عنه”(17).

 أيضاً: في ترجمة عبد الله بن أحمد بن أبي زيد الأنباري: “له مائة وأربعون كتاب ورسالة… أخبرنا بكتبه ورواياته أبو عبد الله أحمد بن عبدون المعروف بابن الحاشر رحمه الله سماعاً وإجازة”(18).

 والشيخ (رحمه الله) استخدم لفظة (أخبرنا) في أغلب التراجم، وهي تدل بوحدها على السماع أو القراءة، والتي تعدّ من أعلى طرق التحمّل(19)، وفيما لو استخدمت في غير ذلك لاحتاجت إلى نصب قرينة تصرفها عن معناها المتعارف، يقول الشهيد الثاني (قدِّس سرُّه) وهو نحرير هذا العلم: “وإذا روى بها أي بالمناولة بأي معنىً فرض قال: «حدّثنا فلان مناولة» و: «أخبرنا مناولة» غير مقتصرٍ على «حدّثنا» و«أخبرنا»؛ لإيهامه السماع أو القراءة”(20).

 ويقول علمٌ آخر من خبراء هذا الفن: “جوّز جماعة إطلاق «حدّثنا» و«أخبرنا» في الرواية بالمناولة، وهو مقتضى قول من جعلها سماعاً، وحُكي عن بعضهم جوازُهما في الإجازة المجرّدة أيضاً.

 والصحيح المنع فيهما منهما، وتخصيصهما بعبارةٍ مشعرة بهما، كـ: «حدّثنا إجازة» أو «مناولة»…”(21). ناهيك عن لفظة (رويناه) المتكررة بكثرة جداً(22)، وظهورها في الإشارة إلى واقع الكتب لا ينكر.

 ومن عبائر الشيخ النجاشي (قدِّس سرُّه): ما جاء في ترجمة إسماعيل بن أبي زياد‌: “يعرف بالسكوني الشعيري.

 له كتاب قرأته على أبي العباس أحمد بن علي بن نوح قال: أخبرنا الشريف أبو محمد الحسن بن حمزة قال: حدثنا علي بن إبراهيم بن هاشم عن أبيه عن النوفلي عن إسماعيل بن أبي زياد السكوني الشعيري بكتابه”(23).

أيضاً: في ترجمة أحمد بن محمد بن عمرو‌ بن أبي نصر: “و له كتب، منها: الجامع، قرأناه على أبي عبد الله الحسين بن عبيد الله رحمه الله قال: قرأته على أبي غالب أحمد بن محمد الزراري قال: حدثني به خال أبي محمد بن جعفر و عم أبي علي بن سليمان، قالا: حدثنا محمد بن الحسين بن أبي الخطاب عنه به”(24).

 أيضاً: في ترجمة أحمد بن الحسن بن علي‌ بن محمد بن علي بن فضال: “يعرف من كتبه كتاب الصلاة، كتاب الوضوء، أخبرنا بهما قراءة عليه أبو عبد الله أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا أبو الحسن علي بن محمد القرشي قال: حدثنا علي بن الحسن بن فضال عن أخيه بكتبه”(25).

 ثم أن كتاب رجال النجاشي (رحمه الله) كفهرست الشيخ (رحمه الله) في كثرة استخدامه عبارة (أخبرنا)، كما أنه يكثر من استخدام لفظة (حدّثنا) وهي لا تقل عن سابقتها إلّم تكن أبلغ وأعلى منها رتبة في الإشارة إلى السماع أو القراءة(26).

 ويمكن أن يتوجّه عليه بـ: أن الألفاظ الدالة على السماع بلفظه المخصوص الصريح قليلة جداً في فهرست الشيخ (رحمه الله)، ولا يعوّل عليها في استفادة قاعدة كبرى شاملة، والحال بعينه في كتاب النجاشي (رحمه الله)، وأما عبارة (أخبرنا) فدلالتها على السماع أو القراءة تحتاج إلى تنصيص وقرينة، يقول أحد الباحثين المعاصرين(27): “فلأن التعبير الشائع في كلامه (الطوسي (رحمه الله) في الفهرست) في معظم الموارد هو جملة (أخبرنا)… وعلى كلّ لفظ: أخبرنا لا يدل على الإجازة المجرّدة، فضلاً عن المناولة وإعطاء الكتاب، فضلاً عن القراءة والسماع.

وأي ملزم وأي داعٍ؟ بل أي مجوز لحمل جملة (أخبرنا) على المناولة؟… والمستفاد من هذه الموارد القليلة (التي بها تصريح بالسماع وأمثاله) أن مجرّد الإخبار لا يدل على الإجازة، فضلاً عن المناولة، فضلاً عن القراءة، أو السماع، والمشتمل عليها محتاج إلى التنصيص عليها، كما في هذه الموارد الضئيلة”.

 وفي مقام الدفاع يقال: هذه المناقشة تتجه لو كان التعبير الحاكي عن السماع أو القراءة مقتصر على ألفاظ مخصوصة -كـسمعت، أو قرأت- ليس من بينها (أخبرنا)، وهذا غير متحقّق بالمتابعة كما تطرّق في الدليل؛ إذ أن المرجع في ذلك هم أعلام الدراية، وكلماتهم (رحمهم الله) تظفر وتؤكّد على أن أحد أوجه التعبير عن السماع هو لفظة (حدّثنا وأخبرنا)، وهذا هو الأصل، فما الداعي لاستخدام الشيخين (رحمهما الله) أسلوباً وتعبيراً مغايراً لما عليه جمهور الأعلام؟! خاصة مع ملاحظة عدم ذكرهما لما ينافي هذه الطريقة، وهما أجلّ من أن يخفي هذا عليهما، كيف وأحد روافد هذه الصناعة وفنونها تستقى من منبعهما، ومجرّد قلّة وضآلة استفادة الشيخ الطوسي (رحمه الله) من لفظ السماع الصريح في فهرسته لا يفضي إلى القول بعدم دلالة لفظة الإخبار على شيء من طرق التحمّل كما ذكره المستشكل.

نعم، ورد استخدام (أخبرنا) في المناولة أو الإجازة أحياناً، ممّا قد يحتج به على كون الإخبار أعم من السماع أوالقراءة أو الإجازة وأمثالها، وبالتالي قد لا يدل -بعمومه من دون تبيين وتنصيص- على أنحاء التحمّل التي يفهم منها وصول واقع النسخة للمتحمّل، ولكن هذا مُجاب بعدم تساوي لفظة الإخبار في دلالتها على هذه الأنحاء المذكورة، فدلالتها على السماع هي الأساس حين الإطلاق، وقد تُجرّى إلى القراءة أيضاً على قول، وكلاهما يفي بالمطلوب، وتبقى الأنحاء الأخرى من التحمل تحتاج إلى قرينة.

 والحاصل أن (أخبرنا) تقوم مقام السماع على أقل التقادير، وهي ولفظة (سمعته، أو سماعاً وسائر مشتقات السماع) من حيث الغرض واحدة، وإن اختلفت في درجة الصراحة والوضوح.

 4- وجود بعض القرائن -في كلا الفهرستين- المشعرة بكون طابع وأسلوب الشيخين (رحمهما الله) هو ذكر الطرق إلى الكتب بعد الاطلاع على واقعها، منها مثلاً: ما ذكره الشيخ (رحمه الله) في الفهرست عند ترجمة إبراهيم بن سليمان بن داحة: “ذكر أنه روى عن أبي عبد الله عليه السلام وكان وجه أصحابنا بالبصرة فقهاً وكلاماً وأدباً وشعراً، والجاحظ يحكي عنه كثيراً، وذكر أنه صنف كتباً ولم نر منها شيئاً”(28).

 أو ما ذكره في ترجمة محمد بن علي الشلمغاني: “وله من الكتب التي عملها في حال الاستقامة كتاب التكليف، أخبرنا به جماعة عن أبي جعفر ابن بابويه عن أبيه عنه إلا حديثاً واحداً منه في باب الشهادات”(29)، ونحوه ويشبهه ما ورد في ترجمة علي بن إبراهيم بن هاشم القمي(30).

 إذ لو كان الطريق إلى أسامي الكتب فحسب، فلم استثناء هذا الحديث الواحد؟ وما ذكره النجاشي (رحمه الله) عند تطرّقه لترجمة عليم بن محمد أبو سلمة البكري: “له كتاب التوحيد كلام، وهو كتاب لم نره ولم يخبرني عنه أحد من أصحابنا أنه رآه، غير أنه ذكر في الفهرستات”(31).

 وأيضاً عنه في ترجمة الفضل بن شاذان بن الخليل: “وذكر الكنجي أنه صنف مائة وثمانين كتاباً وقع إلينا منها:…(وذكر ما عدّه ثمانية وأربعين كتاباً) أخبرنا أبو العباس بن نوح قال: حدثنا أحمد بن جعفر قال: حدثنا أحمد بن إدريس بن أحمد قال: حدثنا علي بن أحمد بن قتيبة النيشابوري (النيسابوري) عنه بكتبه”(32).

وغيرها من الموارد، كما أننا نلاحظ في الكثير من التراجم التي ذكرها الشيخ الطوسي (رحمه الله) أن له إلى كتبها أكثر من طريق(33)، أو أنه يذكر لكل كتاب أو مجموعة لمصنّف واحد طريقاً يغاير الطريق الذي لكتابه الآخر أو مجموعته الأخرى، كما هو الحال في ترجمته لإسماعيل بن مهران بن محمد بن أبي نصر: “وصنف مصنفات كثيرة منها كتاب الملاحم، أخبرنا به الحسين بن عبيد الله عن أبي غالب أحمد بن محمد الزراري قراءة عليه، قال حدثني عم أبي علي بن سليمان عن جد أبي محمد بن سليمان عن أبي جعفر أحمد بن الحسن عن إسماعيل بن مهران، وكتاب ثواب القرآن، أخبرنا به الحسين بن عبيد الله، قال حدثنا أحمد بن جعفر بن سفيان، قال حدثنا أحمد بن إدريس عن سلمة بن الخطاب عنه، وكتاب خطب أمير المؤمنين عليه السلام، وكتاب النوادر، أخبرنا بهما أحمد بن عبدون، قال حدثنا علي بن محمد بن الزبير، قال حدثنا علي بن الحسن بن فضال عنه، وكتاب العلل، أخبرنا به عدة من أصحابنا عن أبي محمد هارون بن موسى، قال حدثنا علي بن يعقوب الكناني قال حدثنا علي بن الحسن بن فضال عنه، وله أصل، أخبرنا به عدة من أصحابنا عن محمد بن علي بن الحسين عن محمد بن الحسن الصفار عن محمد بن الحسين عنه”(34).

 يلاحظ عليه: إن هذه القرائن تفيد بالفعل الإشعار والتقريب المذكور لولا معارضتها بقرائن أخر تفيد العكس، من جملتها: ما أورده النجاشي (رحمه الله) في ترجمة أحمد بن محمد بن علي بن عمر بن رباح القلاء: “وصنف كتباً، فمنها: كتاب الصيام، وكتاب الدلائل، كتاب سقاطات العجلية، كتاب ما روي في أبي الخطاب محمد بن أبي زينب، وهو شركة بينه وبين أخيه علي بن محمد، ولم أر من هذه الكتب إلا كتاب الصيام حسب.

وأخبرنا بكتبه إجازة أحمد بن عبد الواحد قال: حدثنا عبيد الله بن أحمد بن أبي زيد الأنباري أبو طالب، قال: حدثنا أحمد بها”(35).

إذ لو كانت إجازة الكتب تتضمّن المناولة والاطلاع على الكتب لما قال: (ولم أر من هذه الكتب إلا كتاب الصيام حسب).

ويقرب منه ما ذكره عند ترجمة عبد العزيز بن يحيى بن أحمد الجلودي الأزدي: “وله كتب قد ذكرها الناس، منها: كتاب مسند أمير المؤمنين عليه السلام، كتاب الجمل…(وذكر كتباً كثيرة جداً) هذه جملة كتب أبي أحمد الجلودي التي رأيتها في الفهرستات، وقد رأيت بعضها. قال لنا أبو عبد الله الحسين بن عبيد الله: أجازنا كتبه جميعها أبو الحسن علي بن حماد…”(36). حيث اطلع على البعض منها فقط، والباقي وجد أسماءها في الفهارس لا غير.

ولكن يجاب بـ: أ- أمثال هذه النقولات بالرغم من تصريحها بعدم رؤية بعض الكتب إلا أن مضمونها لا يستوحى منه المعارضة للقرائن السابقة، وذلك لأن الظاهر منها هو بيان الحالات الخارجة عن المعهود والمتعارف، فالأصل هو الاطلاع على النسخ وأنها وصلت بعينها إليهما، وفي المناسبة والموضع الذي يكون على خلافه تأتي الحاجة والموضوعية والأمانة في بيان الحالة المستثناة منه، إذ هذا ما تقتضيه الحرفة والدقّة العلميّة، وبالتالي تصبح هذه القرائن التي يخال أنها معارضة ونافية لأدلّة وصول عين الكتب للشيخين هي داعمة ومؤيدة لهذه الأدلة وللقرائن الأولى، ويبدو أن هذا هو مراد بعض الأعلام(37) عندما دعى للتأمل والتدبّر في هذه المقاطع، حيث أنها تفضي إلى القول بالإخبار عن النسخ بواقعها، لا بكونها مبثوثة في الفهارس والإجازات.

 ب- هذه الموارد المشار إليها قليلة جداً، ولا تنهض للمعارضة والوقوف ضد الأصل المذكور، فهي بحكم مواضع الاستثناء المبيَّنة التي تحصل كثيراً في شتى المجالات من دون أن تخدش في قضيّتها الأساس.

 5- لو كانت هذه الأسناد إلى أسامي الكتب لكانت متعدّدة في أكثر الموارد، بل متواترة، والحال أنها ليست كذلك(38).

 وقد يورد عليه: أنه لا توجد ملازمة بهذا المعنى، والأسناد حتى ولو كانت إلى أسامي الكتب فلا يعني أنها ملقاة هكذا بدون تسليم وتسلّم بين المشايخ وتلاميذهم، بحيث تنتزع من المصنّفات والفهرستات بوساطة الرؤية فقط، أضف إلى أن هذا إن تم فلا ينفع مع رجال النجاشي (رحمه الله)، وذلك لتصريحه: “وذكرت لرجل(39) طريقاً واحداً حتى لا يكثر الطرق فيخرج عن الغرض”(40).

الرأي الثالث:- التفصيل في المقام: وذلك بالقول بعدم وجود منهج واحد وأسلوب متّفق في طريقة عرض الأسناد، فمنها ما هو إلى عناوين المصنّفات والأصول فقط، ومنها ما هو إلى المعنونات أيضاً، ويميّز بينهما بوساطة بعض الإشارات والقرائن المعينة.

 وهذا التفصيل بالأساس مختص بفهرست الشيخ الطوسي (رحمه الله)، وإن كان بالإمكان تعديته إلى رجال النجاشي (رحمه الله) أيضاً، وتوضيحه والإستدلال عليه يتم عبر مقدّمات: الأولى: الفراغ من كون الشيخ الطوسي (رحمه الله) لم يطّلع على كافة الكتب التي ذكرها في فهرسته، ويكفي لإثبات ذلك قصور الأدلّة والشواهد المساقة حول أصالة وقوفه عليها.

 الثانية: يظهر من كلام الشيخ (رحمه الله) في مشيخة التهذيب عند قوله: وما ذكرته عن فلان فقد أخبر به… أن ضمير (به) راجع إلى الروايات التي أودعها كتابه، وبالتالي فالرواة قد أخبروه بمتون الروايات ولم يكتفوا بإخباره بأسماء المصنّفات والأصول فقط.

 الثالثة: إحالة الشيخ (رحمه الله) آخر مشيخة التهذيب في بقية أسانيد رواياته إلى كتاب الفهرست مؤشّر على اتحاد طرقه إلى من روى عنهم في التهذيب مع طرقه التي إليهم في الفهرست، وإلا لما كان هناك معنىً للإحالة والإرجاع(41).

 النتيجة: أن طرق كتاب الفهرست نستطيع تقسيمها إلى قسمين، قسمٌ قامت القرينة البيّنة على أنه لمعنونات المصنّفات والأصول، وهو للرواة الذين أخذ منهم رواياته في التهذيب، وقسمٌ هو لمجرّد الإخبار عن عناوين وأسامي هذه المصنّفات، وهو للبقيّة غير من روى عنهم في كتابه المذكور، ووجه هذا التفصيل يبدو جليّاً بملاحظة المقدّمات السالفة والتأليف بينها، فمن المقدمة الثالثة نستكشف أن طرق الشيخ في الفهرست والمشيخة واحدٌ، وحيث أن ظاهر الطرق في المشيخة أنها إلى واقع الكتب -كما في المقدمة الثانية- فكذلك الحال بالنسبة لطرق الفهرست، ولكن ليس بإطلاقها، بل في خصوص ما هي إلى مصادر التهذيب، إذ أن هذا هو القدر الخارج عن مفاد المقدمة الأولى والذي دلّت عليه الإحالة المذكورة، وحينئذ تكون سائر الطرق الأخرى -التي إلى غير مصادر التهذيب- هي إلى أسامي الكتب، ولم تنهض القرينة على إطلاع الشيخ (رحمه الله) عليها، يقول أحد كبار أعلام الرجال ومراجع العصر (دام ظلُّه)(42) حين سئل حول هذا الموضوع: “ما ذكر من أن الشيخ (قدِّس سرُّه) لم يقف على غالب الكتب، التي أورد أسماءها في الفهرست، وإنما نقلها عن أساتذته بنحو الإجازة المجرّدة عن الاطلاع على الكتاب، وإن كان صحيحاً في الجملة، ولكنّه لا يصحّ فيما قامت القرينة على خلاف ذلك، كما هو الحال فيما اعتمده من المصادر في التهذيبين، فإنه يظهر من كلامه في مقدّمة مشيختهما، وفي آخرهما أن طرقه إليها في الفهرست، ليست من ذاك القبيل؛ إذ أنه  (قدِّس سرُّه) قد أرجع في آخر المشيخة في الوقوف إلى سائر طرق تلك الكتب إلى فهارس الأصحاب، وكتابه الفهرست، وقد ذكر في مقدّمة الفهرست أن الأصحاب إنما ذكروا في فهارسهم الطرق إلى ما اختصّوا بروايته أو حوته خزائنهم، وبما أن مصادر الشيخ لم تكن من قبيل ما اختصوا بروايته، فلا بدّ أنها كانت ممّا حوته خزائنهم من المصنّفات.

 وعليه فمقتضى إرجاعه إلى تلك الفهارس من معرفة سائر أسانيد تلك الكتب إحرازه اتحاد نسخته منها مع النسخ الموجودة من خزائن أصحاب الفهارس المشار إليهم؛ وإلا لم تكن فائدة في الإرجاع إلى فهارسهم بعد أن لم تكن الأسانيد الواردة فيها أسانيد إلى ما اعتمده الشيخ (قدِّس سرُّه) في كتابه من نسخ الكتب والمصنّفات واحتمال أن تكون إشارته (رحمه الله) إلى تلك الطرق لمجرّد بيان أن هناك طرقاً اخرى لتلك الكتب احتمال ضعيف؛ إذ الظاهر من ذيل عبارته في خاتمة المشيخة، أنه لا ميزة للأسانيد التي ذكرها في المشيخة إلى تلك المصادر عن سائر الأسانيد المذكورة في فهارس الأصحاب، وإنما اقتصر على ما ذكره من باب الاختصار، بل يكاد أن يكون ذلك صريح كلامه في مقدّمة مشيخة التهذيب.

 واستبعاد وقوف الشيخ على اتحاد نسخه من تلك المصادر مع النسخ، التي كانت موجودة في خزائن الأصحاب في غير محله…”.

وربما أمكن إجراء هذا التفصيل أيضاً مع رجال النجاشي (رحمه الله) بنفس الفكرة وعين المقدّمات الثلاث السابقة، مع تغيير طفيف في المقدّمة الثالثة، وذلك بتوسيع دائرتها اعتماداً على إحالة الشيخ الطوسي (رحمه الله) في مشيختي التهذيب والاستبصار إلى فهارس الأصحاب، ممّا يعني اتحاد نسخه مع النسخ المتداولة عندهم، وكتاب الرجال للنجاشي (رحمه الله) يصدق عليه أنه أحد فهارس الأصحاب، فيشمله التفصيل المذكور أيضاً، ولكن بشرط تجاوز الإشكال القائل بأن تأليف فهرست الشيخ (رحمه الله) متقدم زماناً على رجال النجاشي (رحمه الله) -بدلالة أن الأخير قد ذكر كتاب الفهرست من ضمن تراجمه(43)- وبالتالي فلا تشمله إحالة التهذيبين.

ويسجّل على ما سبق: أن التفصيل المذكور والتوجيه له جميل في حدّ نفسه لولا المناقشة في المقدّمة الأولى، فهي مبنيّة على الفراغ من كون الأصل الأوّلي في فهرست الشيخ (رحمه الله) أنه إلى أسامي الكتب، وهذا قد تمّت مناقشته ضمن الرأي الأوّل، وتمت الإشارة إلى بعض ما يضادّه في معرض الحديث حول أدلّة الرأي الثاني فلا نعيد، والذي ينبغي أن يضاف: أن إحالة الشيخ الطوسي (قدِّس سرُّه) إلى فهارس الأصحاب لا يظهر منها الاقتصار فقط على طرقهم إلى المصنّفات والأصول التي اعتمدها في تأليف التهذيبين، بل الذي يشعر منها هو أنه لاشتهار هذه النسخ وانتشار طرقها في الفهارس فهي لا تختلف عن النسخ التي بحوزته، وبالتالي إذا لم يحصل على الطريق إليها من خلال مشيخته يمكن استيفاءه من فهرسته أو فهرستات الأصحاب، وهذا يتلاءم مع الكلام المنقول عن المرجع (دام ظلُّه)، فحصر الإحالة على طرق مصادر التهذيبين فقط -وإن كان هو القدر الأوضح والمفروغ منه- لا تساعد عليه عبائر المشيختين، ثم أن عبائر التراجم المستخدمة في الفهرست ورجال النجاشي متشابهة وعلى وتيرة واحدة في الغالب، فلم التفصيل والتقسيم بينها؟ فهل لفظة (أخبرنا بكتبه) إذا استعملت في حق راوٍ أو ترجمة مصدر مما ورد في التهذيبين تكون بمعنى، وإذا استعملت بعينها في حق راوٍ آخر أو مصدر لم يرد ضمن مصادر التهذيبين تصبح بمعنىً مغاير ومختلف؟! فالعادة أن الأسلوب في التدوين هو واحد، وصياغة العبائر تكون بنسقٍ ثابت، والخروج عن هذه الطريقة يحتاج إلى بيان وتنبيه، وإلا لعدّ تدليساً أو فوضى بعيدة كل البعد عن أمثال أعلامنا العظام النزيهين.

 نعم، لا خلاف في ظهور بعض التراجم في فهرست الشيخ (قدِّس سرُّه) ورجال النجاشي (رحمه الله) في عدم وصول الكتاب وإنما الواصل هو عنوانه فقط، وهذا لا ينكره حتى أصحاب الرأي الثاني، ولكن كما سبقت الإشارة إلى أن هذه الموارد ليست هي الغالبة على الكتابين، ولا تنهض لتأسيس الأصل في أسلوب تأليفهما، وبالتالي فإن أراد أنصار التفصيل الإلماح إلى هذا المعنى فحسب فلا خلاف حقيقة بينهم وبين ما ذهب إليه أصحاب الرأي الثاني، وأما لو كان بناؤهم -كما هو الظاهر من كلماتهم- على أن الأصل في طرق الفهرستين هو أنه إلى أسامي الكتب، وخرج منه بفضل الإحالة بعض الطرق دون الباقي، فلا غرو من مغايرته للرأي الثاني، ولكن لا يسلم من المناقشة والرد كما بُيّن.

 المحصّلة النهائيّة والرأي المرجَّح: يبدو من خلال سرد الآراء والأدلّة أن الرأي الأوّل هو أبعد الثلاثة من حيث الانسجام مع قرائن الفهرستين، ويبقى الترجيح قائمٌ بين الثاني والثالث، إلا أن المتراءى والمظنون جداً -بحسب الظاهر- أن الرأي الثاني أكثر قرباً وأوفر حجّة من عداه، لا سيّما عند ملاحظة الإحالة إلى الفهارس والفهرست، والوقوف على معنى (أخبرنا وحدّثنا) ممّا تطفح به تراجم الكتابين، ناهيك عن المؤيّدات الكثيرة التي تبعث على الاستئناس وركون النفس بالرأي المختار، والتي من ضمنها -غير ما أسلف في سياق الأدلّة-: ‌أ- شهرة الكثير من المصنّفات والأصول، ويشهد لذلك كلام الشيخ الصدوق (رحمه الله) مطلع الفقيه(44)، وكلمات النجاشي (رحمه الله) المتنوّعة بهذا المضمون حين يترجم لها(45)، إذ أن انتشار الكتاب ووفرة نسخة تقرّب من فكرة الاطلاع على واقع النسخ.

 ‌ب- اشتهار الكتاب يحدّ من تعدّد نسخه، ولذا قد يفهم من عدم تعرّض الأعلام كالصدوق والطوسي والنجاشي (رحمهم الله) إلى اختلاف النسخ في أغلب الموارد وإرشادهم إلى اختلافها في الأقل أنه في كل موضعٍ يخلو فيه ذكرهم وبيانهم للاختلاف بين النسخ هو بمثابة الدليل على عدم وجود الاختلاف والتفاوت بينها، ومعرفة اتحاد النسخ من عدمه ليس أمراً خارقاً يعجز عنه أمثال الشيخ الطوسي أو النجاشي (رحمهما الله)، وقد أقرّ به نفس المرجع (دام ظلُّه) المنسوب إليه القول بالتفصيل في النقل المتقدّم: “واستبعاد وقوف الشيخ على اتحاد نسخه من تلك المصادر مع النسخ، التي كانت موجودة في خزائن الأصحاب في غير محله”(46). ‌

ج- اعتماد علمائنا الكبار (رحمهم الله) -وخاصّة القريبي العهد من زمن تأليف الفهرستين- على طرق الشيخين (رحمهما الله) وجعلها مسانيد لرواياتهم وليس للتبرّك فقط، وبعض كلماتهم ظاهرة بجلاء في هذا المعنى، نجد مثلاً ما ذكره السيد ابن طاووس حين تعرّضه لبيان طريقه إلى الشيخ (قدِّس سرُّه): “أقول وربما لا أذكر أول طريقي في كل حديث من هذا الكتاب لئلا يطول ويكفي أنني أذكر طريقي إلى رواية كلما رواه جدي السعيد‌ أبو جعفر الطوسي تلقاه الله جل جلاله ببلوغ المأمول… ثم رويت بعدة طرق عن جدي أبي جعفر الطوسي كلما رواه محمد بن يعقوب الكليني وكلما رواه أبو جعفر محمد بن بابويه وكلما رواه السعيد المفيد محمد بن محمد بن النعمان وكلما رواه السيد المعظم المرتضى وغيرهم ممن تضمن الفهرست و كتاب أسماء الرجال و غيرهما رواية جدي أبي جعفر الطوسي عنهم رضوان الله جل جلاله عليهم و ضاعف إحسانه إليهم”(47).

 وكذلك ما ساقه الشهيد الثاني (قدِّس سرُّه) في إجازته لوالد الشيخ البهائي (رحمهما الله)، حيث صرّح بعد عدّه لمجموعة من الطرق إلى الشيخ الطوسي (رحمه الله): “وبهذه الطرُق نروي جميعَ مصنّفاتِ مَنْ تقدّم على الشيخ أبي جعفر (رحمه الله) مِن المشايخ المذكورين وغيرِهم، وجميعَ ما اشْتَمَلَ عليه كتابُهُ فهرستُ أسماء المصنّفينَ، وجميعَ كُتُبِهِم ورِواياتِهم بالطرُقِ التي له إليهم، ثمَّ بالطرق التي تضمّنتها الأحاديث.

 وإنّما أكثَرنا الطرُقَ إلى الشيخ أبي جعفرٍ؛ لأنّ أُصولَ المذهبِ كلّها ترجِعُ إلى كُتُبِهِ ورِواياتِه”(48).

 الخاتمة في آخر المطاف -وبالرغم من الخروج بنتيجةٍ وترجيحٍ في المسألة- يحسن الالتفات إلى أن البحث لازالت به القابليّة للتكامل والتطوير، وبالإمكان إثراؤه بالمزيد من النكات والدلالات؛ وذلك عبر السعي لدراسة الظروف والملابسات المرافقة لتأليف الفهرستين -ولو بدراسة الحقب التاريخية والأسباب الخارجية المحيطة بعصر الشيخين (رحمهما الله)-، وحينها ربما تتأثر بعض الأدلة والمقدّمات السابقة فتتغيّر معها النتيجة النهائيّة ولو يسيراً.

والحمد لله رب العالمين، وصلى الله على رسوله الأمين وآله الطاهرين. 

الهوامش والمصادر

  • (1) المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص311.
  • (2) انظر فوائد كتاب فهرست الطوسي (رحمه الله) في: أبو الهدى الكلباسي، ميرزا بن أبو المعالي، سماء المقال في علم الرجال، ج1، ص106.
  • (3) الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ترجمة رقم [(98) 36] ص79.
  • (4) المصدر نفسه، ص33.
  • (5) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(813) 1] ص266.
  • (6) المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص311 (بتصرّف).
  • (7) الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، ج10، (المشيخة) ص88.
  • (8) الطوسي، محمد بن الحسن، الإستبصار فيما اختلف من الأخبار، ج4، ص342.
  • (9) الطوسي، محمد بن الحسن، تهذيب الأحكام، ج10، (المشيخة) ص4- 5.
  • (10) الطوسي، محمد بن الحسن، الإستبصار فيما اختلف من الأخبار، ج4، ص304- 305.
  • (11) الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ص32- 33.
  • (12) راجع: سويدان، الشيخ حسان، نقد الطرق والمشيخة، ص10.
  • (13) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ص3.
  • (14) الهادوي الطهراني، الشيخ مهدي، تحرير المقال في كليات علم الرجال، ص136.
  • (15) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ص3.
  • (16) الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ترجمة رقم [(71) 9] ص67.
  • (17) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(391) 18] ص157.
  • (18) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(445) 13] ص169.
  • (19) انظر مثلاً: الشهيد الثاني، زين الدين العاملي، البداية في علم الدراية (المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج1)، ص137؛ أيضاً: البهائي، محمد بن الحسين، الوجيزة في علم الدراية (المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج1)، ص547.
  • (20) الشهيد الثاني، زين الدين العاملي، الرعاية لحال البداية في علم الدراية (المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج1)، ص235.
  • (21) الحارثي الهمداني(البهائي الأب)، الحسين بن عبد الصمد، وصول الأخيار إلى أصول الأخبار (المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج1)، ص439.
  • (22) انظر بعض النماذج مثلاً: الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، التراجم التالية: [(26) 26] ص45، [(27) 27] ص45، [(179) 19] ص101، [(263) 14] ص121، [(379) 6] ص152، [(467) 2] ص174، [(644) 59] ص227، [(648) 63] ص228.
  • (23) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ترجمة رقم (47) ص26.
  • (24) المصدر نفسه، ترجمة رقم (180) ص75.
  • (25) المصدر نفسه، ترجمة رقم (194) ص80- 81.
  • (26) انظر: الشهيد الثاني، زين الدين العاملي، البداية في علم الدراية (المطبوع ضمن رسائل في دراية الحديث، ج1)، ص138.
  • (27) المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص311- 312.
  • (28) الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ترجمة رقم [(3) 3] ص35.
  • (29) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(627) 42] ص224.
  • (30) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(380) 7] ص152- 153.
  • (31) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ترجمة رقم 829، ص304.
  • (32) المصدر نفسه، ترجمة رقم 840، ص306- 307.
  • (33) كما هو الحال في ترجمة حريز بن عبد الله السجستاني: الطوسي، محمد بن الحسن، الفهرست، ترجمة رقم [(249) 1] ص118.
  • (34) المصدر نفسه، ترجمة رقم [(32) 3] ص46- 47.
  • (35) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ترجمة رقم 229، ص92.
  • (36) المصدر نفسه، ترجمة رقم 640، ص240-244.
  • (37) الداوري، الشيخ مسلم، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ج1، ص159.
  • (38) الهادوي الطهراني، الشيخ مهدي، تحرير المقال في كليات علم الرجال، ص137.
  • (39) هكذا في المصدر، ولعلّها: (لكل رجل).
  • (40) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ص3.
  • (41) المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص316- 317 (بتصرّف وتلخيص).
  • (42) المقصود هو آية الله العظمى السيد السيستاني (دام ظلُّه)، والنص عبارة عن جواب لسؤال أرسله له مصنّف كتاب بحوث في علم الرجال، وقد أودعه مؤلّفه فيه: المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص317- 318.
  • (43) النجاشي، أحمد بن علي، رجال النجاشي، ترجمة رقم 1068، ص403.
  • (44) الصدوق، محمد بن علي بن الحسين، من لايحضره الفقيه، ج1، ص3.
  • (45) وقد أعدّ أحد الأعلام المتخصّصين في هذا المضمار دراسة جديرة بالمطالعة، أثبت من خلالها وجود الكتب والأصول المشهورة في عصر الشيخ الطوسي (قدِّس سرُّه) اعتماداً على كلمات الشيخ النجاشي (قدِّس سرُّه) في رجاله، من أمثال: أن الكتاب معروف، أو كثير الرواة، أو رواه جماعة من الناس… ألخ، انظر: الداوري، الشيخ مسلم، أصول علم الرجال بين النظرية والتطبيق، ج1، ص 134~ 156.
  • (46) المحسني، محمد آصف، بحوث في علم الرجال، ص318.
  • (47) ابن طاووس، رضي الدين علي، فلاح السائل ونجاح المسائل، ص13- 14.
  • (48) الشهيد الثاني، زين الدين العاملي، رسائل الشهيد الثاني، ج2، ص1131.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى