ثقافة

أصالة التشيع في البحرين

بسم الله الرحمن الرحيم، والصلاة والسلام على سيّد الأنبياء والمرسلين محمّد وآله الطيّبين الطاهرين.  

المقدّمة ارتبط اسم الشيعة والتشيّع بالبحرين منذ العصور الإسلاميّة الأولى، وبقي مرافقاً لها إلى يومنا هذا، ويشهد لذلك الكثير من النقول التاريخية والآثار والنتاج العلمي والفكري والبعد الولائي المتجذّر المعروف لدى أهلها قديماً وحديثاً، إلا أنه في الآونة الأخيرة برزت في الساحات الإعلاميّة المختلفـة حملات مشبوهة أخـذت بالتشكيـك في أصالة هذا الارتباط، وادّعت أن الوجود الشيعي في البحرين طارئٌ وليس له ذاك الامتداد التاريخي، وأنه دخيلٌ ووافدٌ من الخارج، وثقافته غريبة عن أهل البلد والمنطقة، إلى غير ذلك من التحليلات والآراء التي تفوح من أكثرها رائحة التحامل والحقد أكثر من كونها تستند إلى شاهدٍ ودليلٍ محكم.

 وإذا ما أخذنا بعين الاعتبار تزامن هذه الدعاوى مع محاولات صريحة وفاضحة من قبل نفس المروّجين لها لطمس أو تحريف المعالم والآثار المشيرة إلى تاريخ التشيّع وعراقته في هذا البلد سنعرف المغزى وراء بثّها والتطبيل على وترها.

لذا كان من اللزام في ظل هذه الملابسات وهذا الظرف الخاص أن تكثّف الكتابات التي تبرز الحقيقة الناصعة في هذا الأمر، وأضحى من المهم أن توضع جميع الآراء النشاز تحت طاولة النقد والتحليل والتقييم، حتى لا يشوّه التاريخ وتصادر هويّة شعبٍ وتستبدل حضارته لأهواءٍ ومآرب خاصّةٍ، وهذا البحث هو محاولة جادّة في هذا الطريق، ويسعى إلى عرض المسألة بنحوٍ موضوعيّ معزّزة بما يعين على الوصول إلى الرأي النَصَف والصواب.

توضيحٌ وتوطئةٌ طالما أن أساس الموضوع يتمحور حول الوجود الشيعي في البحرين فلا بد ابتداءً من الوقوف على النقاط التوضيحيّة التالية على نحو الاختصار: النقطة الأولى: المقصود من (الشِّيْعَة) في اللغة: الأصحاب والأتباع، وكلّ قومٍ اجتمعوا على أمرٍ فهم شِيعَة(1).

 وأمّا في الاصطلاح: فهي الفرقة التي تعتقد بخلافة وإمامة الإمام علي (عليه السلام) بعد النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) -بلا فصل- بالنصّ والوصيّة، وأنها مستمرّة في أبنائه من فاطمة الزهراء (عليه السلام) ولا يشاركهم فيها غيرهم، يقول الشهرستاني: “هم الذين شايعوا علياً (رضيَّ الله عنه)على الخصوص، وقالوا بإمامته وخلافته نصّاً ووصيّةً، إما جليّاً أو خفيّاً، واعتقدوا أن الإمامة لا تخرج من أولاده…”(2).

والشيعة فرقٌ متعدّدةٌ أشهرها وأقواها هي الشيعة الإماميّة، وهي المقصودة عند الإطلاق، ويرجع زمان تكوّنها -على الرأي المشهور عندنا- إلى عصر الرسول الأعظم (صلَّى الله عليه وآله)، يقول السيّد الطباطبائي (رحمه الله): “يجب أن نعلم أن بداية نشوء الشيعة، والتي سمّيت لأول مرّة بشيعة علي وعرفت بهذا الاسم، كان في زمن النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، فظهور الدعوة الإسلامية وتقدّمها وانتشارها خلال ثلاث وعشرين سنة، زمن البعثة النبوية، أدّت إلى ظهور مثل هذه الطائفة بين صحابة النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)”(3).

 النقطة الثانية: نعني من البحرين تلك الجزيرة المعروفة اليوم -والتي كانت تسمى سالفاً بـ (أوال) حين كان اسم البحرين يطلق بنحوٍ جامع عليها وعلى مناطق القطيف وهجر (الإحساء) وتخومها شرق الجزيرة العربيّة- فهي المقصودة بالدرجة الأساس وإن كانت ظروف جميع هذه المناطق متشابهة وواحدة وعلاقتها بالتشيّع مشتركة.

 النقطة الثالثة: لفظ الأصالة في العنوان مفهومٌ يحوي العديد من الدلالات، فهو يختزن:

 ‌أ- السبق الزماني، بمعنى أن البحرين من الدول السبّاقة والمتقدّمة العهد في التشيّع ومن أوائل البلدان التي واكبته، بل وساهمت في نشره وتثبيته والذود عنه ولم تكن عنصراً ثانويّاً في هذا الإطار.

 ‌ب- القدم الزماني، أي الامتداد التاريخي البعيد في مقابل الحالة الطارئة الجديدة غير الطويلة.

 ‌ج- الاعتناق الشمولي للتشيّع الذي يستوعب غالبيّة الناس ويخلق جوّاً عامّاً يلحظه الداني والقاصي.

 ‌د- قوّة المعتقد والتمثيل الحقيقي لمبادئه، وبتعبيرٍ آخر: الإيمان بالتشيّع كهويّة وليس كشعارٍ وهوىً قشري.

 ‌ه- النتاج الحضاري -الفكري الثقافي الأدبي…إلخ- الثرّ الذي يمثّل آيةً وعلامةً على عراقة التشيّع ووجود علمائه.

 ‌و- الآثار التاريخيّة المشيرة إلى التشيّع سواءً كانت دينيّةً كالمساجد والمزارات والمقابر أو غيرها كالنقود والمسكوكات المعلّمة.

النقطة الرابعة: من أجل تنظيم الأفكار وعدم تداخلها سيتم عرض وتحليل وتقييم آراء المشكّكين أو الرافضين للأصالة أولاً ثمّ بعد ذلك يأتي الدور إلى أدلّة المثبتين والقائلين بها، وعلى الله الاعتماد والتوكّل.

 أولاً: آراء ونظرة المشكّكين أو النافين للأصالة ومناقشتها يذهب هؤلاء إلى أن الوجود الشيعي في البحرين لم يكن إلا ظاهرة مؤقتة حصلت في فترة معيّنة من دون أن تؤثّر في هويّة أهل البحرين ذاك التأثير المعتدّ به وعلى امتداد التاريخ، وأصل معتنقيه -في الأعم الأغلب- هم وفّادٌ من الخارج هاجروا إلى البحرين وبقوا فيها إلى يومنا هذا ممّا يعني أنّهم ليسوا من السكّان الأصليّين، وعددهم ليس هو الأكثر، وبالتالي لا تصح نسبة الأصالة إلى التشيّع في البحرين، أو لا أقل من التوقّف والتشكيك في هذه النسبة.

 ووصلوا إلى هذه النتيجة بناءً على عدّة تراكمات ومزاعم ساقوها، نورد أبرزها ملحقةً بما يتيسّر من الرد: الزعم الأوّل: أن أصل أهل البحرين هم من السنّة(4)، وذلك لأن البحرين دخلت في الإسلام بعهد الرسول (صلَّى الله عليه وآله) في العام 8 هـ ق ولم تكن الشيعة موجودةً أصلاً في ذلك الوقت، واستمر الحال على ما هو عليه في عصر الخلفاء والدولة الأمويّة والعبّاسيّة، يقول

 د. حسن الشيخي: “كذلك استمر التواجد الإسلامي (السنّي) في عهد الدولة الأمويّة والعبّاسيّة اللتين كانتا دولتين سنّيّتين بامتياز.. ولم يكن يسمح لأي وجود شيعي في أيّ بقعة.. حيث كان الشيعة أقليّة لا يشكّلون أيّ ثقلٍ في الأمّة”(5).

 ويلاحظ عليه:

 ‌أ- أن هذا الدليل المدّعى لا يزيد على كون أهل البحرين من المسلمين منذ عام 8هـ، أمّا أنهم من السنّة أو من غيرهم فلا يتكفّل بإثباته، إذ ليس كل من عاش في عصر الرسالة الأوّل كان ممّن يدين ويؤمن بمدرسة الخلافة، وبالتالي مع عدم وجود أدلّة وشواهد تدلّل على طبيعة تعبّد وتديّن أهل البحرين مذهبيّاً لا نستطيع بضرسٍ قاطع أن نقول أن الأصل فيهم كذا أو كذا.

 ‌ب- نفي وجود الشيعة بنحو الإطلاق في أوائل وبدايات العصر الإسلامي هو نوعٌ من المكابرة والتعامي عن الحق، فالتشيّع بالمعنى الذي ذكر في النقطة الأولى من النقاط السابقة كان له مصاديق عينيّة منذ عصر الرسول الأكرم (صلَّى الله عليه وآله)، حيث كانت هناك جماعة تلقّب بشيعة علي (عليه السلام) من بين الصحابة(6)، يقول محمد كرْد علي: “… ثم صار [اسم الشيعة] علماً بالغلبة على أتباع علي بن أبي طالب عليه السلام.

 عرف جماعة من كبار الصحابة بموالاة علي في عصر رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم مثل سلمان الفارسي القائل: بايعنا رسول الله على النصح للمسلمين والائتمام بعلي بن أبي طالب والموالاة له.

ومثل أبي سعيد الخدري الذي يقول: أمر الناس بخمس فعملوا بأربع وتركوا واحدة.

ولما سئل عن الأربع قال: الصلاة والزكاة وصوم شهر رمضان والحج، قيل: فما الواحدة التي تركوها؟ قال: ولاية علي بن أبي طالب، قيل له: وإنها لمفروضة معهن؟ قال: هي مفروضة معهن.

 ومثل أبي ذو الغفاري وعمار بن ياسر وحذيفة بن اليمان وذي الشهادتين خزيمة بن ثابت وأبي أيوب الأنصاري وخالد بن سعيد بن العاص وقيس بن سعد بن عبادة وكثير أمثالهم.

…. فالأمر الذي لا خلاف أنه لما استقل الأمويون بالأمر وناهضوا الهاشميين وأتباعهم تلك المناهضة الشديدة كان اسم الشيعة على إطلاقه علماً على أتباع آل البيت”(7).

كما أنه وردت مجموعة من الروايات تناقلها الفريقان عن النبي (صلَّى الله عليه وآله) تذكر الشيعة مثل ما رواه السيوطي في تفسيره: أخرج ابن عساكر عن جابر بن عبد الله قال: كنا عند النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم فاقبل علي فقال النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم: والذي نفسي بيده إن هذا وشيعته لهم الفائزون يوم القيامة، ونزلت {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ}، فكان أصحاب النبي صلى الله عليه [وآله] وسلم إذا أقبل علي قالوا: جاء خير البرية(8).

 ‌ج- لا أحد ينكر ما جزّرته أيادي الدولة الأمويّة والعبّاسيّة من مجازر طالت شيعة وأتباع أهل البيت (عليهم السلام) أينما حلّوا ولكن لا يعني هذا اضمحلال وجودهم بالكامل ولو ضمن دويلات صغيرة، كيف وقد كانت الثورات العلويّة -من باب المثال لا الحصر- لم تهدأ على مدى عهد هاتين الدولتين، وقسمٌ منها انتهى إلى دول مستقلّة لها نظامها وعقيدتها الخاصّة كدولة الأدارسة (172هـ- 375هـ) والدولة الفاطميّة (297هـ- 567هـ)، بينما بقى قسمٌ آخر محافظاً على مبادئه وتشيّعه ضمن كياناتٍ وكتلٍ مستقلّةٍ عن هويّة السلطة والجهاز الحاكم وتضيق عليها الأفق أحياناً أو تفرج بحسب الظروف، والخلاصة: أن مجرّد كثرة عدد وعتاد الدولتين الأمويّة والعباسيّة وملاحقتهما للشيعة وتضييقهما الخناق عليهم لا يلازم انقراض وجودهم وغياب بعض مجتمعاتهم وحواضرهم.

 الزعم الثاني: لو كان الشيعة هم السكان الأصليّون فكيف لم يثبت بأنهم حكموا البحرين إلا يسيراً(9)؟! والرد عليه: أولاً: ما ربط السكّان بالحكم! فكثيراً ما نجد السلطان يحلّق في سربٍ والرعيّة تطير في آخر، ولا يغيّر هذا من أصل عقيدتهم كثيراً، خاصّة إذا عرفنا أن الأساس الفكري الشيعي -العقيدي والفقهي- لا يسمح بالولاء والذوبان مع أيّ حاكمٍ ولو كان فاسقاً فاجراً.

 ثانياً: أن منطقة البحرين ومحيطها الإقليمي الذي يشمل الإحساء والقطيف والساحل الشرقي عموماً لم يعرف الاستقرار والهدوء السياسي الشامل على مدى العصور، والأعم الأغلب من فترات الحكم فيها كانت تابعةً لغيرها وللجهات التي تستولي عليها بالقوّة والغلبة، فعقيدة أهلها من جانب وطبيعتها الجغرافيّة وموقعها المهم وثروتها الطبيعيّة الثرّة من جانبٍ آخر(10) ساهم في كثرة الطامعين في الاستحواذ عليها، وحينئذٍ يرتفع العجب من شحّ وجود الحكومات المحليّة المستقلّة فيها، وحتى تلك المحسوبة على السنّة هي في الواقع وافدة من الخارج.

 ثالثاً: لم تخل البحرين من الحكم الشيعي، سواء كان من الشيعة الإثني عشريّة أم من غيرها، ولسنوات كثيرة أيضاً، وسيأتي الحديث عن شيءٍ منها في القسم الثاني من البحث إن شاء الله تعالى، ولكن كلّ هذا لا يهم، لأن العبرة في إثبات الأصالة من عدمها هي في بقاء العقيدة في قلوب الناس وتوارثها بينهم جيلاً بعد جيل، وليس وصول الناس إلى الحكم أو طول مكوثهم فيه.

 الزعم الثالث: أن أصل الشيعة في البحرين مختلفٌ فيه، وأكثر الاحتمالات أنه يرجع إلى القرامطة حين دخلوا البحرين في القرن الثالث(11)، ثمّ حدثت لهم هجرات تاريخيّة متعدّدة من أكثر من مكان، وأغلبهم في وقتنا الحاضر قدموا على دفعات: “الدفعة الأولى: عام 1670م عندما تم فتح القطيف على يد قبيلة بني خالد، مما دفع الكثير من سكانها من الشيعة الاثني عشرية إلى الهجرة إلى البحرين. الدفعة الثانية: عام 1835م بعد أن طردهم فيصل بن تركي بن عبد الله آل سعود من الإحساء.

 الدفعة الثالثة: بعد عام 1869م أيام حكم عيسى بن علي آل خليفة، وقد قدموا كمزارعين وعمّال.

 الدفعة الرابعة: قدموا في الخمسينات، أيام حكم سلمان بن حمد آل خليفة”(12).

 والخلاصة: لم يثبت كونهم من السكّان الأصليّين، والغالب عليهم أنهم من الوفّاد القادمين في فترات ليست ببعيدة وضاربة في التاريخ.

 ويسجّل عليه النقاط التالية:

 1- منشأ الاختلاف والتخبّط في تحديد أصل التشيّع في البحرين -كما في كلام الزاعم- ليس ناتجاً من أسبابٍ موضوعيّة، وإنّما هو بسبب وجود تفسيرات خاطئة ومحرّفة عن المذهب الشيعي، فمثلاً هناك من مال إلى أن أصل شيعة البحرين هم من اليهود القاطنين في الخليج قبل الإسلام(13) ولربما ربط هذا الأمر مع فرية أن أصل الشيعة يرجع إلى الشخصيّة اليهوديّة الوهميّة عبد الله بن سبأ، والعجيب أنّ بعضهم تنظّر أكثر وقال أن قرى وأماكن التشيّع الآن هي نفس الأماكن التي كان يقطنها اليهود ولذا أخذوا صفاتهم وعاداتهم وعقائدهم(14)!!، وهناك من ذهب إلى أن أصلهم من إيران أبّان حكم الدولة الصفويّة (905هـ- 1133هـ) وذلك تمشّياً مع فكرة أن التشيّع فارسي الصبغة والتكوين(15)، وهناك من أرجع أصلهم إلى حركة القرامطة (281هـ- 469هـ) مع أنّ قصّة نشوء هذه الحركة تذكر كيفيّة استغلالها لتشيّع الناس في ترغيبهم إليها(16)، مع العلم أنّ القرامطة انحرفت كثيراً عن المبادئ الأساسيّة للتشيّع وصدرت منها أفعالاً منكرةً نال منها الشيعي كما نال غيره إن لم يكن أكثر حتى قال الشاعر المفوّه ابن المقرّب العيوني تأريخاً لجرائمهم: وَحَرَّقُوْا عَبْدَ قَيْسٍ فِيْ مَنَاْزلِهَاْ       وَصَيَّرُوْا الغُرَّ مِنْ سَاْدَاْتِهَاْ حِمَمَاْ(17) وبالتالي ينبغي تصحيح النظر أولاً حول مفهوم التشيّع وأخذه من مصادره الأصليّة والابتعاد عن اللغة غير العلميّة.

2- يرد عليه ما ذكرناه سابقاً في  الزعم الأوّل فلا نعيد.

 3- وجود الهجرات بين الشعوب وخاصّة المتقاربة كالتي بين البحرين والقطيف والإحساء -والتي كانت تعدّ إقليماً واحداً لمدّة مديدة- أمرٌ مألوف وطبيعيٌّ وشائعٌ جداً ولأسباب متعدّدة، إذ لا توجد مشكلة في كون البلد الواحد يحوي السكّان الأصليّين بالإضافة إلى غيرهم من الوافدين، ولكن الكلام في حصر الشيعة في الوافدين فقط أو أن أغلبهم كذلك، وهذا ما يحتاج إلى دليل، وهو مبنيّ على الفراغ من عدم وجودهم في البحرين قبل هذه الفترة وهو غير صحيح، وسيأتي ما يثبت العكس في القسم الثاني من البحث إن شاء الله.

 4- هذا الزعم والذي على شاكلته يحتوي على نظرة ازدراء واحتقار للشيعة وتصويرهم كالعبيد والعمّال والطبقة الدون في المجتمع لا غير وكأنّما كانوا شذّاذاً تكرّم عليهم سادة هذا البلد بالمأوى والكلأ والعيش، وترويج ذلك من قبل بعض الأقلام المأجورة وغير النزيهة شائعٌ وذائعٌ ولا يخفى على أحد، وهذه لغة العاجز وحرفة القاصر وسجيّة عديم المروّة والخُلُق والحياء.

 الزعم الرابع: أن الشيعة في البحرين ليست أكثريّة، وبالتالي لا يحق لها أن تدّعي الأصالة، يقول الدكتور البداح: “ولابد من الإشارة هنا إلى أن الإقبال على الزواج والتعدّد في المجتمع الشيعي جاء بناء على توجيه المراجع الدينيّة في البحرين، فقد اجتمعت هذه المراجع في جزيرة سترة عام 1923م… وكان المقصود من ذلك زيادة أعداد الشيعة في البحرين وقلب المعادلة السكّانيّة، فكان لهم ما أرادوا حيث تحوّل الشيعة بعد ثمانين سنة من ذلك المؤتمر إلى أكثريّة بعد أن كانوا أقليّة.

 إذ من كتب عن البحرين ذكر أنّ أهل السنّة أكثر من الشيعة.

 فذكر “حافظ وهبة” أنّ عدد سكان البحرين في العام 1950م بلغ (109650) نسمة، الثلثان منهم من أهل السنّة والثلث الباقي من طائفة الشيعة.

 ولعلّ ما أشار إليه لوريمر في كتابه: (دليل الخليج) من أن عدد السكان مائة ألف نسمة، ستون ألفاً منهم من أهل السنّة، وأربعون ألفاً من طائفة الشيعة يعتبر أقدم تحديد لتعداد الطائفتين، إذ أن الكتاب ألف في عام (1908م).

 وذكر المؤرّخ محمود شاكر أن ثلاثة أرباع السكّان ينتسبون إلى أهل السنّة والجماعة، وما يقرب من ربع السكّان ينتسبون إلى الشيعة الإماميّة”(18).

 ويسجّل عليه التحفّظات التالية: التحفّظ الأوّل: أن هذه الدعوى تفتقر إلى الدراسة الموضوعيّة والحياديّة، إذ اعتمدت على بعض المصادر التي تتناسب مع ذوقها ومشربها وأشاحت ببصرها عن المصادر الأخرى المقابلة لها في النتيجة، ولم تجعل المعيار في ذلك هو درجة الضبط والواقعيّة والأهليّة والأمانة، ففرقٌ في الاعتبار بين مصدرٍ مأجورٍ موظّفٍ لإملاء مصالح المتنفّذين أو تغلي في عروقه العصبيّة العمياء وبين كاتبٍ حرٍّ مستقلٍّ يرنو إلى عرض الحقيقة كما هي مهما كانت ليخدم بها البشريّة لا لينتفع بها الانتفاع الشخصي أو الفئويّ.

التحفّظ الثاني: أنها تخالف المنطق العقلي الحصيف وتناقض الواقع المعلوم بالوجدان، فلو كانت الشيعة أقليّةً وبنسبةٍ واضحةٍ جداً كالربع أو الثلث لكان من المستحيل -عادةً- أن تنقلب النسبة وتصبح أكثريّةً في غضون ثمانين سنة فقط من دون أن تصاحب ذلك أية ضجّة وبهرجة من أحد، فلا أقل من ظهور أثرٍ لهذه الزيادة الغير متعارفة في القرى والمقابر والمدارس والمستشفيات وسائر القطاعات، وفي المقابل لو كانت السنّة أكثريّة لرأينا كثرة قراهم وآثارهم وعاداتهم ونتاج فكرهم بارزةً على نطاقٍ واسعٍ جدّاً بينما هي مفقودهٌ، ومدّة قرنٍ من الزمن ليست كفيلةً في محو هذه الأمور وطمسها وتغيير معالمها، وجولة واحدة فاحصة في معظم القرى والمناطق تكفي للوصول إلى الحقيقة، وخاصةً إذا عرفنا أنّ ملامح القرى المذهبيّة لم تتأثر لا في هذا القرن ولا ما قبله.

التحفّظ الثالث: الإحصاء الدقيق لعدد السكّان لو افترضنا أنه غير متوفّرٍ قبل قرنٍ -تنزّلاً وإلا الإحصاءات كانت موجودةً وبنسبةٍ معقولةٍ من الدقّة أيضاً وخاصّة لدى الإنجليز الذين كان لهم يد وتدخّل مباشر وعلني في إدارة البلاد آنذاك- فهناك وسائل وقرائن أخرى تستشفّ منها النتيجة، منها ملاحظة القرى المحسوبة على المذهب المعيّن مثلاً وإحصاء عددها وكثافتها السكانيّة ومظهرها العام وتتبّع آثارها وشواهد قبورها ونمط شعائرها وما قيل حولها وغير ذلك، ولعمري أن الحقيقة في هذا الأمر ساطعةٌ جداً ولا تحتاج إلى مزيد عناءٍ واستقصاءٍ فوق اللزوم، وإن كانت مرّةً وغصّةً في حلوق البعض فلا يطيقون هضمها وبلعها، مع العلم أن الكتب التاريخيّة والمتتبّعة لأحوال الأمم والأقاليم بالرغم من كون غالبيّة كتّابها من السنّة -ومنهم من هو متحاملٌ على التشيّع- إلا أنها لم تخل من إشارة إلى موضوع الأكثرية الشيعيّة والساحقة أيضاً، مثل ما ذكره ابن المجاور الشيباني الدمشقي(ت690هـ) عند تعرّضه لوصف البحرين: “وتسمى الجزيرة جزيرة أوال وبها ثلاثمائة وستين قرية إمامية المذهب ما خلا قرية واحدة”(19).

وأيضاً ما قاله صاحب معجم البلدان (ت 626هـ) عند معرض حديثه عن عمان: “وأكثر أهلها في أيامنا خوارج إباضية ليس بها من غير هذا المذهب إلا طارئ غريب وهم لا يخفون ذلك، وأهل البحرين بالقرب منهم بضدهم كلهم روافض سبائيون لا يكتمونه ولا يتحاشون وليس عندهم من يخالف هذا المذهب إلا أن يكون غريباً”(20).

 وما ذكره المقريزي (ت 845هـ) في درره: “وجميع أهل الأحساء، والقطيف، والبحرين، وتاروت رفضةٌ”(21).

 وفي كتاب التحفة النبهانيّة الذي كتب بعين ورؤية الأسرة الحاكمة ينقل كاتبه (ت 1370هـ- 1950م) -مع تحاشيه الشديد وتعمّده إغفال دور التشيّع والتشنيع لأهله- عند التعرّض لقصّة دخول آل خليفة إلى البحرين: “وكان غالب سكان البحرين شيعة شديدي التعصّب…”(22). وتوجد شواهد وأدلّة أخرى أيضاً سيُذكر شطرٌ منها في القسم الثاني إن شاء الله تعالى.

 المحصّلة النهائيّة من مناقشة آراء النافين للأصالة: بعد عرض وجهات نظر النافين لأصالة التشيّع في البحرين ودعاواهم الأساسيّة التي استندوا إليها في مختارهم وبالنظر إلى مناقشاتها التفصيليّة نتوصّل إلى مجموعة من الملاحظات والاستنتاجات حول هذه الآراء، ومن أجلاها:

 ‌أ- أنها في الأعم الأغلب تفتقر إلى معرفة المفهوم الصحيح للتشيّع وتجهل المنظومة الفكريّة والعقائديّة الحقيقيّة للشيعة، بحيث تتلكّأ وتتخبّط في الاهتداء إلى بدايات نشوئه وتشخيص معتنقيه، فلربما تُخرج جماعةً من التشيّع وهم أعلامٌ وأوتادٌ له، وقد تُدخل جماعةً أخرى فيه وهو منهم براء.

‌ب- انبهارها بالكثرة والغلبة وبزهو الدول الكبرى التي انبسطت بالحكم على معظم ديار العالم الإسلامي -كالدولة الأمويّة والعباسيّة والعثمانيّة وأمثالها- فيصبح المتبادر العالق في تصوّرها هو أن المسلم يعني التابع لتلك الدول والمتشرّب بعقيدتها وهواها لا غير.

 ‌ج- فقدانها للتحقيق الموضوعي الموزون، فأحياناً تعتمد على بعض المصادر وتتجاهل البعض الآخر، وأحياناً تأتي بتبريراتٍ بعيدةٍ عن الواقعيّة وبأسبابٍ وحججٍ واهيةٍ منطقيّاً.

 ‌د- انطلاقها غالباً ما يكون بدوافع سياسيّة وأضغان مذهبيّة، ولذا تتأرجح بين جانبيّ الإفراط والتفريط، وهذا ما يفسّر طابعها التشدّدي والإقصائيّ البعيد عن الإنصاف والروح الإسلاميّة السمحاء، فلا يكون الدعم الكبير -وبسخاءٍ ملفتٍ للنظر جداً- لهذه الأفكار قد جاء عبثاً ومن دون تدخّلٍ مباشرٍ من أصحاب النفوذ والمصالح، بل يجري وفق خطط مرسومة وتدابير موسومة لا تخفى على أحدٍ.

 والنتيجة النهائيّة: عدم دلالة هذه الدعاوى على مختار أصحابها، فننتقل بالبحث إلى شقّه الثاني ومع الجماعة القائلة بالأصالة.

 ثانياً: الأدلّة على إثبات أصالة التشيّع في البحرين  المطلوب هو إثبات أن التشيّع في البحرين أصيلٌ ورائدٌ وعميق التجذّر، وأن نشوؤه متزامنٌ مع بدايات تكوّن الكتل والمجاميع الشيعيّة الأولى في العصر النبوي، وقد استمرّ وجوده من تلك الحقبة المتقدّمة إلى يومنا هذا بدون انقطاعٍ، وكان يشكّل الثقل والغالبيّة رغم كلّ الظروف والمحن التي تعرّض لها، حتى غدت معه البحرين واحدة من المراكز المهمّة التي عزّزت وثبّتت ونشرت التشيّع في جميع رقاع العالم.

والأدلّة على كلّ ذلك نسردها ضمن النقاط التالية: النقطة الأولى:- بدايات التكوّن الشيعي في البحرين: بذور التشيّع في البحرين وملامح هويّته لم تتأخّر إطلاقاً ولم تنفصل عن أجواء تشكيل لُبْنَته الأولى في المدينة المنوّرة، ولها علاقة وثيقة بطلائع شخصيّاته الأصليّة الكبيرة التي تعدّ أركاناً له وعلامةً عليه كسلمان، والقرائن على ذلك عديدة، منها: ‌أ- إن أصول أهل البحرين تنحدر بالدرجة الأساس من قبيلتي عبد القيس -وهم الأكثر- وبكر بن وائل(23) اللتين تتفرعان من ربيعة، وهاتان القبيلتان معروفتان بالتشيّع القويّ منذ نشأته، فابن قتيبة (ت 276هـ) مثلاً يذكر ما مضمونه أن قبيلة عبد قيس كانت كلّها من الشيعة باستثناء شخص: “صحار بن العبّاس العبديّ… وكان عثمانيّاً، وكانت «عبد القيس» تتشيّع، فخالفها”(24)، ويشير المسعودي (ت 346هـ) في مروجه: “ولعلي في ربيعة كلام كثير يمدحهم فيه، ويرثيهم شعراً ومنثوراً، وقد كانوا أنصاره وأعوانه، والركن المنيع من أركانه، فمن بعض ذلك قوله يوم صفين: لمن راية سوداء [حمراء](25) يخفق ظلها       إذا قيل قدمها حُضَينُ تقدما  فيوردها في الصف حتى يعلها     حياض المنايا تقطر الموت والدما جزى الله قوماً قاتلوا في لقائه      لدى الموت قدماً ما أعز وأكرما وأطيب أخباراً، وأكرم شيمة      إذا كان أصوات الرجال تغمغما ربيعة أعني إنهم أهل نجدة      وبأس إذا لاقوا خميساً عرمرما”(26)   وأورد ابن الأثير (ت 630هـ) في تاريخه يحكي عن الإمام علي (عليه السلام): “وأقام بذي قار ينتظر محمداً ومحمداً، فأتاه الخبر بما لقيت ربيعة وخروج عبد القيس، فقال: عبد القيس خير ربيعة وفي كلّ ربيعة خير، وقال: يا لهف نفسي على ربيعة       ربيعة السّامعة المطيعة قد سبقتني فيهم الوقيعة      دعا عليّ دعوة سميعة حلّـوا بهـا المنـزلـة الـرّفـيـعـة”(27) وينقل ابن عساكر (ت 571هـ): “عن أبي عبيدة، قال: لما قتل علي بن أبي طالب أراد معاوية الناس على بيعة يزيد، فتثاقلت ربيعة ولحقت بعبد القيس بالبحرين واجتمعت بكر بن وائل إلى خالد بن المعمر، فلما تثاقلت ربيعة تثاقلت العرب أيضاً فضاق معاوية بذلك ذرعاً فبعث إلى خالد فقدم عليه، فلما دخل عليه رحًّب به، وقال: كيف ما نحن فيه؟ قال: أرى ملكاً طريفاً وبغضاً تليداً، فقال معاوية: قل ما بدا لك فقد عفونا عنك، ولكن ما بال ربيعة أول الناس في حربنا وآخرهم في سلمنا؟ قال له خالد: إنما أتيتك مستأمناً ولم آتك مخاصماً ولست للقوم بحري في حجتهم وإن ربيعة إن تدخل في طاعتك تنفعك وإن تدخل كرهاً تكن قلوبها عليك وأبدانها لك فأعط الأمان عامتهم شاهدهم وغائبهم وأن ينـزلوا حيث شاءوا، فقال: أفعل.

 فانصرف خالد إلى قومه بذلك”(28).                       

وعن أحوال صفين ينقل ابن مزاحم (ت 212هـ): “نصر عن عمر عن سويد بن حبة النضري عن الحضين بن المنذر الرقاشي قال: إن ناساً كانوا أتوا علياً قبل الوقعة في هذا اليوم فقالوا: إنا لا نرى خالد بن المعمر السدوسي إلا قد كاتب معاوية وقد خشينا أن يتابعه فبعث إليه علي وإلى رجال من أشرافهم فحمد الله ربه تبارك وتعالى وأثنى عليه ثم قال: «أما بعد يا معشر ربيعة فأنتم أنصاري ومجيبو دعوتي ومن أوثق حي في العرب في نفسي… فلما كان يوم الخميس انهزم الناس من الميمنة فجاءنا علي حتى انتهى إلينا ومعه بنوه فنادى بصوت عال جهير كغير المكترث لما فيه الناس: وقال: «لمن هذه الرايات؟» قلنا: رايات ربيعة قال: «بل هي رايات الله عصم الله أهلها وصبرهم وثبت أقدامهم» ثم قال لي: وأنا حامل راية ربيعة يومئذ «يا فتى ألا تدني رايتك هذه ذراعا؟» فقلت له: نعم والله وعشرة أذرع ثم ملت بها هكذا فأدنيتها فقال لي: «حسبك مكانك»”(29).

 وبخصوص قبيلة بكر بن وائل وأحداث عام 38هـ يذكر الطبري (ت 310هـ) في تاريخه: “فخرج زياد بن خصفه حتى أتى داره، وجمع أصحابه، فحمد الله وأثنى عليه، ثم قال: أما بعد يا معشر بكر بن وائل، فإن أمير المؤمنين ندبني لأمر من أمره مهم له، وأمرني بالانكماش فيه، وأنتم شيعته وأنصاره، وأوثق حي من الأحياء في نفسه، فانتدبوا معي الساعة، واعجلوا”(30).

 وغير ذلك كثير، مع العلم أن كتب التاريخ والوقائع والبلدان والأنساب والرجال عندما تعرّضت لتشيّع كل قبيلة عبد القيس وبكر بن وائل من ربيعة لم تقصر ذلك على زمن الدعوة الأوّل وعصر الخلفاء، بل ذكرت أنّ هذه ميزة وسمة لهم امتدّت لقرون ولا زال أثرها باقٍ إلى يومنا هذا، وسنورد إن شاء الله تعالى لاحقاً بعض الشواهد على ذلك غير ما ذكر سابقاً.

 ‌ب- وجود بعض الشخصيّات الشيعيّة المؤثّرة التي حكمت البحرين أو كانت لها سيادة وطاعة في وسط المجتمعات، فعكسوا انتماءهم وولاءهم في نفوس الناس وأشربوهم حبّ أهل البيت (عليهم السلام) وأفشوا فيهم مبادئ العقيدة العلويّة، وقسمٌ منهم يعدّ من الصحابة الأوفياء، ويكفي أن يكون من بينهم الأعلام التالية:

1- أبان بن سعيد بن العاص الأموي: وهو والي البحرين بتنصيبٍ من رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) منذ العام التاسع للهجرة، واستمر في موقعه إلى أن توفّي النبي الأكرم (صلَّى الله عليه وآله) فاعتزل ذلك بنفسه، وهو من الموالين لأمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، والشاهد على ذلك هو ما نقله ابن الأثير (ت 630هـ) عند بيانه لترجمته: “واستعمله رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم على البحرين لما عزل عنها العلاء بن الحضرميّ، فلم يزل عليها إلى أن توفي رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم فرجع إلى المدينة، فأراد أبو بكر أن يرده إليها فقال: «لا أعمل لأحد بعد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم»… وكان أبان أحد من تخلف عن بيعة أبي بكر لينظر ما يصنع بنو هاشم، فلما بايعوه بايع”(31).

 وأشار ابن عبد البر (ت 463هـ) في الاستيعاب إلى أن ترك الحكم والأمارة بعد وفاة النبي (صلَّى الله عليه وآله) كان عملاً وتصرّفاً مشتركاً بين الإخوة الثلاثة (أبان وخالد وعمر) بعد أن كانوا عمّالاً له من قبله على بعض الأمصار، حيث قالوا: “نحن بنو أبي أحيحة، لا نعمل لأحدٍ بعد رسول الله صلى الله عليه [وآله] وسلم أبداً”(32)، وأسفر ابن الأثير (ت 630هـ) عن سرّ هذا الترك حينما قال: “وتأخر خالد وأخوه أبان عن بيعة أبى بكر (رضيَّ الله عنه).

 فقال لبني هاشم: إنكم لطوال الشجر طيبوا الثمر، ونحن تبع لكم، فلما بايع بنو هاشم أبا بكر بايعه خالد وأبان‏”(33).

 وأجلى منه قول ابن سعد (ت 230هـ) في الطبقات بقوله: “عن إبراهيم بن عقبة قال: سمعت أم خالد بنت خالد بن سعيد بن العاص تقول: قدم أبي من اليمن إلى المدينة بعد أن بويع لأبي بكر فقال لعلي وعثمان: أرضيتم بني عبد مناف أن يلي هذا الأمر عليكم غيركم؟ فنقلها عمر إلى أبي بكر فلم يحملها أبو بكر على خالد وحملها عمر عليه. وأقام خالد ثلاثة أشهر لم يبايع أبا بكر”(34).

 والأوضح من الجميع ما ساقه البرقي (ت في القرن الثالث) في رجاله عند تعرّضه لأسماء المنكرين على أبي بكر: “وكان أول من تكلم يوم الجمعة خالد بن سعيد بن العاص فقال: يا أبا بكر أذكرك قول رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم يوم قريظة: يا معشر قريش احفظوا وصيتي أن علياً إمامكم بعدي بذلك أنبأني جبرئيل (عليه السلام) عن ربي عز ذكره.

 إلا إنكم إن لم تؤتوه أموركم اختلفتم وتولى عليكم أشراركم. إلا إن أهل بيتي هم الوارثون لي والقائمون من أمتي.

 اللهم من أطاعهم فثبته ومن نصرهم فانصره ومن خالف أمري وأقام إماماً لم أقمه وترك إماماً أقمته ونصبته فاحرمه جنتك والعنه على لسان أنبيائك أتعرف هذا القول يا أبا بكر؟ قال: لا.

 ثم قال له عمر: اسكت فلست من أهل المشورة فقال: بل اسكت أنت يا ابن الخطاب فإنك تنطق بغير لسانك وتفوه بغير فوك وإنك لجبان في الحرب ما وجدنا لك في قريش فخراً”(35).

 ولم يكن أباناً حاكماً منبوذاً ومكروهاً لدى أهل البحرين بل كانت له مكانته وسمعته الحسنة في قلوبهم، ونستشعر ذلك من رغبتهم الملحّة في بقاءه في منصبه عليهم(36)، وهذا الأمر لا يخلو من تلويحٍ وإشارةٍ للانسجام الروحي بينهم وبينه ورضاهم بشخصيّته، بل وتشابههم معه في المعتقد أيضاً، بقرينة أن الذي جاء بعده لم يدخل البحرين إلا بالحرب وإعمال السيف والقوة وإراقة الدم(37).

 2- عمر بن أبي سلمة المخزومي: وهو ابن أم سلمة أم المؤمنين وزوجة الرسول (صلَّى الله عليه وآله)، كان والي البحرين من قبل الإمام علي (عليه السلام)(38)، ويعدّ من خيرة مواليه والمقربين منه والمعتمدين لديه، ويكفي لإثبات ذلك شهادة الأمير (عليه السلام) له عندما أرسل إليه رسالة يستقدمه فيها ليكون أحد الذين يحتجّ ويستظهر بهم على الخصم في معركة الجمل فهو أحد وجوه الصحابة الخيّرين، فقد ذكر اليعقوبي (ت بعد 292هـ) وكذلك الشريف الرضي (رحمه الله) (ت 406هـ) في النهج: “من كتاب له (عليه السلام) إلى عمر بن أبي سلمة المخزومي وكان عامله على البحرين، فعزله، واستعمل نعمان بن عجلان الزّرقي مكانه‏: «أَمَّا بَعْدُ فَإِنِّي قَدْ وَلَّيْتُ النُّعْمَانَ بْنِ عَجْلانَ الزُّرَقِيَّ عَلَى الْبَحْرَيْنِ وَنَزَعْتُ يَدَكَ بِلا ذَمٍّ لَكَ وَلا تَثْرِيبٍ عَلَيْكَ، فَلَقَدْ أَحْسَنْتَ الْوِلايَةَ وَأَدَّيْتَ الأَمَانَةَ، فَأَقْبِلْ غَيْرَ ظَنِينٍ وَلا مَلُومٍ وَلا مُتَّهَمٍ وَلا مَأْثُومٍ فَلَقَدْ أَرَدْتُ الْمَسِيرَ إِلَى ظَلَمَةِ أَهْلِ الشَّامِ، وَأَحْبَبْتُ أَنْ تَشْهَدَ مَعِي فَإِنَّكَ مِمَّنْ أَسْتَظْهِرُ بِهِ عَلَى جِهَادِ الْعَدُوِّ وَإِقَامَةِ عَمُودِ الدِّينِ إِنْ شَاءَ اللَّهُ»”(39).

 وذكر ابن أعثم الكوفي (ت 314هـ) في فتوحه أن أم سلمة كتبت كتاباً إلى الإمام علي (عليه السلام) تخبره بأمر قادة الجمل جاء فيه: “لعبد الله عليّ أمير المؤمنين، من أم سلمة بنت أبي أمية، سلام عليك ورحمة الله وبركاته، أما بعد! فإن طلحة والزبير وعائشة وبنيها بني السوء وشيعة الضلال‏ خرجوا مع ابن الجزار عبد الله بن عامر إلى البصرة، يزعمون أن عثمان بن عفان قتل مظلوماً وأنهم يطلبون بدمه، والله كافيكم وجعل دائرة السوء عليهم إن شاء الله تعالى، وتاللّه لولا ما نهى الله (عزَّ وجلَّ) عنه من خروج النساء من بيوتهن وما أوصى به رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلّم عند وفاته لشخصت معك، ولكن قد بعثت إليك بأحب الناس إلى النبي صلّى الله عليه [وآله] وسلّم وإليك ابني عمر بن أبي سلمة- والسلام-.

 قال: فجاء عمرو بن أبي سلمة إلى علي (رضيَّ الله عنه) فصار معه، وكان له فضل وعبادة وعقل‏”(40).

 3- صعصعة بن صوحان العبدي: وهو وأخويه زيد وسيحان(41) من سادة قبيلة عبد القيس ومن خلّص أصحاب الإمام علي (عليه السلام) ومن قادة جيشه، يقول ابن عبد البر (ت 463هـ): “صعصعة بن صوحان العبديّ، كان مسلماً على عهد رسول الله صلّى الله عليه [وآله] وسلم لم يلقه ولم يره، صغر عن ذلك، وكان سيداً من سادات قومه عبد القيس، وكان فصيحاً خطيباً عاقلاً، لسناً ديّناً، فاضلاً بليغاً. يعدّ في أصحاب علي رضي الله عنه”(42).

 ولقوّة فصاحته وخطابته واستبساله في الصدح بعقيدته وتشيّعه كان يخشاه خصومه، ونقل المؤرخون الكثير من المواقف حول ذلك، وخاصّة مع معاوية، فعلى سبيل المثال ورد في كتاب البلدان لابن الفقيه (ت 365هـ): “وقال المدائنيّ: قدم وفد من العراق على معاوية بن أبي سفيان فيهم صعصعة بن صوحان العبديّ، فقال معاوية: مرحباً بكم وأهلاً، قدمتم خير مقدم، وقدمتم على خير خليفة، وهو جنّة لكم، وقدمتم الأرض المقدّسة، وقدمتم أرض المحشر والمنشر، وقدمتم أرضاً بها قبور الأنبياء.

 فقال صعصعة: أما قولك يا معاوية قدمتم خير مقدم فذاك من قدم على الله والله عنه راض، وأما قولك قدمتم على خليفتكم وهو جنّة لكم فكيف بالجنّة إذا احترقت، وأما قولك قدمتم الأرض المقدّسة، فإن الأرض لا تقدّس أهلها لكن أهلها يقدّسونها، وأما قولك قدمتم أرض الحشر والمنشر فإن بعد الأرض لا ينفع كافراً ولا يضرّ مؤمناً، وأما قولك قدمتم أرض الأنبياء بها قبور الأنبياء فإن من مات بها من الفراعنة أكثر ممّن مات فيها من الأنبياء.

 فقال معاوية: اسكت لا أرض لك. قال: ولا لك يا معاوية، الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده والعاقبة للمتّقين.

 قال معاوية: يا صعصعة إني كنت لأبغض أن أراك خطيباً.

 قال: وأنا والله يا معاوية أبغض أن أراك أميراً”(43). وفي كتاب الغارات ينقل الثقفي الكوفي (ت 283هـ): “… عن داود بن أبي يزيد قال: قال أبو عبد الله (عليه السلام): «ما كان مع أمير المؤمنين (عليه السلام) من يعرف حقّه إلا صعصعة وأصحابه».

محمّد بن مسعود قال: حدّثني أبو الحسن عليّ بن أبي عليّ الخزاعيّ قال: حدّثنا… عن عاصم بن أبي النّجود عمّن شهد ذلك أنّ معاويد حين قدم الكوفة دخل عليه رجال من أصحاب عليّ (عليه السلام)، وكان الحسن (عليه السلام) قد أخذ الأمان لرجال منهم مسمّين بأسمائهم وأسماء آبائهم وكان فيهم صعصعة فلمّا دخل عليه صعصعة قال معاوية لصعصعة: أما والله إنّي كنت لأبغض أن تدخل في أماني، قال: وأنا والله أبغض أن اسمّيك بهذا الاسم، ثمّ سلّم عليه بالخلافة، قال: فقال معاوية: ان كنت صادقاً فاصعد المنبر فالعن عليّاً، قال: فصعد المنبر وحمد الله وأثنى عليه ثمّ قال: أيّها النّاس أتيتكم من عند رجل قدّم شرّه وأخّر خيره، وانّه أمرني أن ألعن عليّاً فالعنوه لعنه الله، فضجّ أهل المسجد بآمين، فلمّا رجع إليه فأخبره بما قال، قال: لا والله ما عنيت غيري ارجع حتّى تسمّيه باسمه، فرجع وصعد المنبر ثمّ قال: أيّها النّاس انّ أمير المؤمنين أمرني أن ألعن عليّ بن أبي طالب فالعنوا من لعن عليّ بن أبي طالب، قال: فضجّوا بآمين، قال: فلمّا خبّر معاوية قال: والله ما عني غيري، أخرجوه لا يساكنني في بلد فأخرجوه”(44).

 ولهذا السبب لم يحتمل معاوية وجود صعصعة في الشام فأمر بنفيه إلى البحرين، فقد جاء في الإصابة: “صعصعة بن صوحان العبديّ… وكان خطيباً فصيحاً، وله مع معاوية مواقف… وذكر العلائيّ في أخبار زياد أن المغيرة نفى صعصعة بأمر معاوية من الكوفة إلى الجزيرة، أو إلى البحرين.

وقيل إلى جزيرة ابن كافان [كاوان]، فمات بها”(45).

والمرجّح من بين هذه المحتملات أن يكون قبره في البحرين لأنها الوحيدة التي بها مرقد ومزار موجود إلى حدّ الآن في منطقة عسكر باسم صعصعة بن صوحان، وهو معروف لدى أهلها من سالف الأزمان وتقصده الناس للزيارة والنذورات(46).

 4- الجارود بن المنذر العبدي: وهو أحد سادة عبد القيس، ومن بين الوفد الذي انطلق منهم إلى ملاقاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) والاحتفاء به(47)، وكان نصرانياً قد نبّئ بعلامات نبي الإسلام وبأوصيائه من قبل قس بن ساعدة، فلمّا استوثق انطباق هذه العلامات على النبي (صلَّى الله عليه وآله) آمن به وأسلم، وشاهِدُنا من هذا العرض أنه لما التقى بالنبي (صلَّى الله عليه وآله) وحاوره بمرأى من الوفد والحضور سأله عن الأوصياء الذين أخبر عنهم القس فأجابه النبي (صلَّى الله عليه وآله) بعددهم وأسمائهم وأن أولهم علي بن أبي طالب (عليه السلام)، كما دار بينه وبين سلمان المحمدي (الفارسي) كلام وأقرّه الأخير على حديث القس، وحكى له أيضاً قصّة إسلامه وتعرّفه على النبي (صلَّى الله عليه وآله) والتشابه الكبير بينهما في ذلك.

 والتأمّل في هذه الحادثة يعطي مؤشراً بنحوٍ ما يفيد باطلاع أمثال الجارود ومن معه على خيوط وبذور التشيّع الأولى ومن منابتها الأصليّة، فلا نتعجّب من انغراس هذه البذور في طينة أهل البحرين منذ عصر الرسالة، وشخصيّة الجارود البارزة في عشيرته لا ينكرها أحد ومدوّنة في أمّهات الكتب التاريخية(48).

ورواية الحادثة طويلة سنذكر منها ما يرتبط ببحثنا من كتاب مقتضب الأثر لابن عياش الجوهري( ت 401هـ): “قال: ومن أتقن الأخبار المأثورة وغريبها وعجيبها ومن المصون المكنون في أعداد الأئمة وأسمائهم من طريق العامة مرفوعاً وهو خبر الجارود بن المنذر وإخباره عن قس بن ساعدة: مَا حَدَّثَنَا بِهِ أَبُو جَعْفَرٍ مُحَمَّدُ بْنُ لاحِقِ… عَنْ تَمِيمِ بْنِ وَهْلَةَ الْمُرِّيِّ قَالَ: حَدَّثَنِي الْجَارُودُ بْنُ الْمُنْذِرِ الْعَبْدِيُّ وَكَانَ نَصْرَانِيّاً فَأَسْلَمَ عَامَ الْحُدَيْبِيَةِ وَحَسُنَ إِسْلامُهُ وَكَانَ قَارِئاً لِلْكُتُبِ، عَالِماً بِتَأْوِيلِهَا عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَسَالِفِ الْعَصْرِ؛ بَصِيراً بِالْفَلْسَفَةِ وَالطِّبِّ، ذَا رَأْيٍ أَصِيلٍ وَوَجْهٍ جَمِيلٍ؛ أَنْشَأَ يُحَدِّثُنَا فِي إِمَارَةِ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ قَالَ: وَفَدْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) في رِجَالٍ مِنْ عَبْدِ الْقَيْسِ ذَوِي أَحْلامٍ وَأَسْنَانٍ وَفَصَاحَةٍ وَبَيَانٍ وَحُجَّةٍ وَبُرْهَانٍ، فَلَمَّا بَصُرُوا بِهِ (صلَّى الله عليه وآله)ِ رَاعَهُمْ مَنْظَرُهُ وَمَحْضَرُهُ؛ وَأُفْحِمُوا عَنْ بَيَانِهِمْ وَاعْتَرَاهُمُ الْعُرَوَاءُ فِي أَبْدَانِهِمْ! فَقَالَ زَعِيمُ الْقَوْمِ لِي: دُونَكَ مَنْ أَقَمْتَ بِنَا أممه [أَقِمْهُ‏] فَمَا نَسْتَطِيعُ أَنْ نُكَلِّمَهُ فَاسْتَقْدَمْتُ دُونَهُمْ إِلَيْهِ فَوَقَفْتُ بَيْنَ يَدَيْهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَقُلْتُ: السَّلامُ عَلَيْكَ يَا نَبِيَّ اللَّهِ بِأَبِي أَنْتَ وَأُمِّي ثُمَّ أَنْشَأْتُ أَقُولُ: يَا نَبِيَّ الْهُدَى أَتَتْكَ رِجَالٌ‏     قَطَعَتْ قَرْدَداً وَآلاً فَآلا   … [إلى آخر الأبيات] قَالَ: فَأَقْبَلَ عَلَيَّ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَآلِهِ بِصَفْحَةِ وَجْهِهِ الْمُبَارَكِ شِمْتُ مِنْهُ ضِيَاءً لامِعاً سَاطِعاً كَوَمِيضِ الْبَرْقِ‏ فَقَالَ: يَا جَارُودُ لَقَدْ تَأَخَّرَ بِكَ‏ وَبِقَوْمِكَ الْمَوْعِدُ، وَقَدْ كُنْتُ وَعَدْتُهُ قَبْلَ عَامِي ذَلِكَ أَنْ أَفِدَ إِلَيْهِ بِقَوْمِي؛ فَلَمْ آتِهِ وَأَتَيْتُهُ فِي عَامِ الْحُدَيْبِيَةِ… وَقَدْ كُنْتُ عَلَى دِينِ النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ أَتْيَتِي إِلَيْكَ الأُولَى فَهَا أَنَا تَارِكُهُ بَيْنَ يَدَيْكَ إِذْ ذَلِكَ مِمَّا يُعَظِّمُ الأَجْرَ وَيَمْحُو الْمَأْثَمَ وَالْحُوبَ وَيُرْضِي الرَّبَّ عَنِ الْمَرْبُوبِ؛ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): أَنَا ضَامِنٌ لَكَ يَا جَارُودُ! قُلْتُ: أَعْلَمُ يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنَّكَ بِذَلِكَ ضَمِينٌ قَمِينٌ‏، قَالَ: فَدِنِ الْآنَ بِالْوَحْدَانِيَّةِ وَدَعْ عَنْكَ النَّصْرَانِيَّةَ، قُلْتُ: أَشْهَدُ أَنْ لا إِلَهَ إِلا اللَّهُ وَحْدَهُ لا شَرِيكَ لَهُ، وَأَنَّكَ عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ وَلَقَدْ أَسْلَمْتُ عَلَى عِلْمٍ بِكَ وَنَبَإٍ فِيكَ؛ عَلِمْتُهُ مِنْ قَبْلُ، فَتَبَسَّمَ (صلَّى الله عليه وآله) كَأَنَّهُ عَلِمَ مَا أَرَدْتُهُ مِنَ الإِنْبَاءِ فِيهِ، فَأَقْبَلَ عَلَيَّ وَعَلَى قَوْمِي فَقَالَ: أَفِيكُمْ مَنْ يَعْرِفُ قُسَّ بْنَ سَاعِدَةَ الإِيَادِيَّ؟ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ كُلُّنَا نَعْرِفُهُ غَيْرَ أَنِّي مِنْ بَيْنِهِمْ عَارِفٌ بِخَبَرِهِ وَاقِفٌ عَلَى أَثَرِهِ، كَانَ قُسُّ بْنُ سَاعِدَةَ يَا رَسُولَ اللَّهِ سِبْطاً مِنْ أَسْبَاطِ الْعَرَبِ عُمِّرَ خَمْسَمِائَةِ عَامٍ تَقَفَّرَ مِنْهَا فِي الْبَرَارِي خَمْسَةَ أَعْمَارٍ يَضِجُّ بِالتَّسْبِيحِ عَلَى مِنْهَاجِ الْمَسِيحِ… ثُمَّ أَقْبَلْتُ عَلَى أَصْحَابِهِ فَقُلْتُ: عَلَى عِلْمٍ بِهِ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ مَبْعَثِهِ كَمَا آمَنْتُ بِهِ أَنَا، فَنَصَّتْ إِلَى رَجُلٍ مِنْهُمْ وَأَشَارَتْ إِلَيْهِ وَقَالُوا: هَذَا صَاحِبُهُ وَطَالِبُهُ عَلَى وَجْهِ الدَّهْرِ وَسَالِفِ الْعَصْرِ؛ وَلَيْسَ فِينَا خَيْرٌ مِنْهُ وَلا أَفْضَلُ فَبَصُرْتُ بِهِ أَغَرَّ أَبْلَجَ قَدْ وَقَذَتْهُ الْحِكْمَةُ أَعْرِفُ ذَلِكَ في أَسَارِيرِ وَجْهِهِ‏ وَإِنْ لَمْ أُحِطْ عِلْماً بِكُنْهِهِ قُلْتُ: وَمَنْ هُوَ؟ قَالُوا هَذَا سَلْمَانُ الْفَارِسِيُّ ذُو الْبُرْهَانِ الْعَظِيمِ، وَالشَّأْنِ الْقَدِيمِ فَقَالَ سَلْمَانُ: عَرَفْتُهُ يَا أَخَا عَبْدِ الْقَيْسِ مِنْ قَبْلِ إِتْيَانِهِ؛ فَأَقْبَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) وَهُوَ يَتَلأْلأُ وَيُشْرِقُ وَجْهُهُ نُوراً وَسُرُوراً، فَقُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ قُسّاً كَانَ يَنْتَظِرُ زَمَانَكَ وَيَتَوَكَّفُ إِبَّانَكَ‏ وَيَهْتِفُ بِاسْمِكَ وَاسْمِ أَبِيكَ وَأُمِّكَ، وَبِأَسْمَاءٍ لَسْتُ أُصِيبُهَا مَعَكَ وَلا أَرَاهَا فِي مَنِ اتَّبَعَكَ؛ قَالَ سَلْمَانُ: فَأَخْبِرْنَا فَأَنْشَأْتُ أُحَدِّثُهُمْ وَرَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله) يَسْمَعُ وَالْقَوْمُ سَامِعُونَ وَاعُونَ؛ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ لَقَدْ شَهِدْتُ قُسّاً خَرَجَ مِنْ نَادٍ مِنْ أَنْدِيَةِ إِيَادٍ، إِلَى صَحْصَحٍ ذِي قَتَادٍ وَسَمُرَةٍ وَعَتَادٍ وَهُوَ مُشْتَمِلٌ بِنِجَادٍ، فَوَقَفَ فِي إِضْحِيَانِ لَيْلٍ كَالشَّمْسِ‏ رَافِعاً إِلَى السَّمَاءِ وَجْهَهُ وَإِصْبَعَهُ، فَدَنَوْتُ مِنْهُ وَسَمِعْتُهُ يَقُولُ: اللَّهُمَّ رَبَّ هَذِهِ السَّبْعَةِ الأَرْقِعَةِ وَالأَرَضِينَ الْمُمْرِعَةِ وَبِمُحَمَّدٍ وَالثَّلاثَةِ الْمَحَامِدَةِ مَعَهُ، وَالْعَلِيِّينَ الأَرْبَعَةِ، وَسِبْطَيْهِ النَّبِعَةِ وَالأَرْفِعَةِ الْفَرِعَةِ وَالسُّرَى اللامِعَةِ وَسَمِيِّ الْكَلِيمِ الضَّرَعَةِ وَالْحَسَنِ ذِي الرِّفْعَةِ أُولَئِكَ النُّقَبَاءُ الشَّفَعَةُ وَالطَّرِيقُ [الطُّرُقُ الْمَهْيَعَةُ] دَرَسَةُ الإِنْجِيلِ وَحَفَظَةُ التَّنْزِيلِ، عَلَى عَدَدِ النُّقَبَاءِ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ، مُحَاةُ الأَضَالِيلِ وَنُفَاةُ الأَبَاطِيلِ، الصَّادِقُو الْقِيلِ، عَلَيْهِمْ تَقُومُ السَّاعَةُ وَبِهِمْ تُنَالُ الشَّفَاعَةُ، وَلَهُمْ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى فَرْضُ الطَّاعَةِ، ثُمَّ قَالَ: اللَّهُمَّ لَيْتَنِي مُدْرِكُهُمْ وَلَوْ بَعْدَ لأْيٍ‏ مِنْ عُمُرِي وَمَحْيَايَ… ثُمَّ آبَ يُكَفْكِفُ دَمْعَهُ وَيَرِنُّ رَنِينَ الْبَكْرَةِ وَقَدْ برئت [بُرِيَتْ ببراة] بِمِبْرَاةٍ وَهُوَ يَقُولُ: أَقْسَمَ قُسٌّ قَسَماً   لَيْسَ بِهِ مُكْتَتِمَا   لَوْ عَاشَ أَلْفَيْ عُمُرٍ   لَمْ يَلْقَ مِنْهَا سَأَمَا   حَتَّى يُلاقِيَ أَحْمَداً   وَ النُّقَبَاءَ الْحُكَمَا   هُمْ أَوْصِيَاءُ أَحْمَدَ   أَكْرَمَ مَنْ تَحْتَ السَّمَا   يَعْمَى الْعِبَادُ عَنْهُمُ   وَ هُمْ جَلاءٌ لِلْعَمَى   لَسْتُ بِنَاسٍ ذِكْرَهُمْ   حَتَّى أَحُلَّ الرَّجَمَا   ثُمَّ قُلْتُ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَنْبِئْنِي أَنْبَأَكَ اللَّهُ بِخَيْرٍ عَنْ هَذِهِ الأَسْمَاءِ الَّتِي لَمْ نَشْهَدْهَا وَأَشْهَدَنَا قُسٌّ ذِكْرَهَا؟ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ (صلَّى الله عليه وآله): يَا جَارُودُ لَيْلَةَ أُسْرِيَ بِي إِلَى السَّمَاءِ أَوْحَى اللَّهُ (عزَّ وجلَّ) إِلَيَّ أَنْ سَلْ‏ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا عَلَى مَا بُعِثُوا؟ فَقُلْتُ: عَلَى مَا بُعِثْتُمْ؟ فَقَالُوا: عَلَى نُبُوَّتِكَ وَوَلايَةِ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ وَالأَئِمَّةِ مِنْكُمَا؛ ثُمَّ أَوْحَى إِلَيَّ أَنِ الْتَفِتْ عَنْ يَمِينِ الْعَرْشِ؛ فَالْتَفَتُّ فَإِذَا عَلِيٌّ وَالْحَسَنُ؛ وَالْحُسَيْنُ، وَعَلِيُّ بْنُ الْحُسَيْنِ؛ وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ، وَجَعْفَرُ بْنُ مُحَمَّدٍ وَمُوسَى بْنُ جَعْفَرٍ، وَعَلِيُّ بْنُ مُوسَى، وَمُحَمَّدُ بْنُ عَلِيٍّ؛ وَعَلِيُّ بْنُ مُحَمَّدٍ؛ وَالْحَسَنُ بْنُ عَلِيٍّ؛ وَالْمَهْدِيُّ فِي ضَحْضَاحٍ مِنْ نُورٍ يُصَلُّونَ؛ فَقَالَ لِيَ الرَّبُّ تَعَالَى: هَؤُلاءِ الْحُجَجُ لأَوْلِيَائِي وَهَذَا الْمُنْتَقِمُ مِنْ أَعْدَائِي؛ قَالَ الْجَارُودُ: فَقَالَ لِي سَلْمَانُ يَا جَارُودُ هَؤُلاءِ الْمَذْكُورُونَ فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنْجِيلِ وَالزَّبُورِ كَذَلِكَ؛ فَانْصَرَفْتُ بِقَوْمِي وَقُلْتُ فِي وِجْهَتِي [تَوَجُّهِي] إِلَى قَوْمِي: أَتَيْتُكَ يَا ابْنَ آمِنَةَ الرَّسُولا   لِكَيْ بِكَ أَهْتَدِي النَّهْجَ السَّبِيلا   فَقُلْتُ وَكَانَ قَوْلُكَ قَوْلَ حَقٍ   وَصِدْقٍ مَا بَدَا لَكَ أَنْ تَقُولا   وَبَصَّرْتَ الْعَمَى مِنْ عَبْدِ قَيْسٍ   وَكُلٌّ كَانَ مِنْ عَمَهٍ ضَلِيلا   وَأَنْبَئْنَاكَ عَنْ قُسِّ الإِيَادِي   مَقَالاً فِيكَ ظِلْتَ بِهِ جَدِيلا   وَأَسْمَاءً عَمَتْ عَنَّا فَآلَتْ   إِلَى عِلْمٍ وَ كُنْتُ بِهِ جَهُولا”(49)   ويمكننا عبر التأمل في بعض هذه المقاطع أن نستشعر ونتلمّس أثر هذه الحادثة في تثبيت أركان التشيّع ومحبّة أهل البيت (عليهم السلام) في البحرين، وخاصّة إذا التفتنا أن خبر القس لم يكن معلوماً لدى الجارود فحسب، بل كان ذائعاً ومشهوراً بين كل أفراد الوفد الذي يضم كبار وسادة أهل البحرين -وينقل أن عددهم زهاء العشرين(50)-، وأن سؤالهم عن كنه وحقيقة الأوصياء (عليهم السلام) لم يكن ارتجالياً عابراً، بل يستوحى من السياق أنه من ضمن أولويّات برنامجهم، حيث أرادوا التعرّف عن قرب على أولئك الذين سمعوا عنهم أنهم أمناء التنزيل ونفاة الأباطيل والذين عليهم تقوم الساعة وبهم تنال الشفاعة إلى غير ذلك من الأوصاف العظيمة التي تحفّز سامعها إلى حثّ الخطى للوصول إليهم والتعلّق القلبي الوثيق معهم، ولا شك في أن هذا الوفد عند رجوعه إلى محلّه ووطنه قد نشر مضمون زيارته للرسول (صلَّى الله عليه وآله) بين الناس، وحينئذٍ فعلى أقل التقادير أن شعب البحرين قد اطلع على أبجديّات حب الأئمة (عليه السلام) والتشيّع لهم، ومن يكون الإمام علي (عليه السلام) والأوصياء من بعده (عليهم السلام).

 والخلاصة: أن وجود شخصيّات ثقال بهذا المستوى في أوساط الناس وكانت ممّن تدين بالتشيّع بكل صراحة -ومنهم الصحابة ومنهم الولاة ومنهم السادة وأصحاب العقل والتدبير والحكمة والبيان والخطابة- لا غرو أن لها القدرة الكبيرة على التأثير في محيطها وتلوينه بنظام معتقدها ومبتنياتها الفكرية.

ج- وجود قرائن عديدة أن حروب الردّة التي جرت بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) لم تكن بسبب الارتداد عن الدين، بل بسبب عدم القبول بالخليفة الأوّل وعدم تسليم الزكاة إليه، فينقل ابن أعثم الكوفي (ت 314هـ) عند استعراضه لحروب الردّة عند حضرموت حواراً جرى بين مبعوث الخليفة وأهل حضرموت جاء فيه: “فأقبل إليه رجل من سادات بني تميم يقال له الحارث بن معاوية فقال لزياد: إنك لتدعو إلى طاعة رجل لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد، فقال له زياد بن لبيد: يا هذا صدقت! فإنه لم يعهد إلينا ولا إليكم فيه عهد، ولكنّا اخترناه لهذا الأمر، فقال له الحارث: أخبرني لم نحيتم عنها أهل بيته وهم أحقّ الناس بها لأنّ الله (عزَّ وجلَّ) يقول: {وَأُولُوا الأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى‏ بِبَعْضٍ في كِتابِ الله}؟ فقال له زياد بن لبيد: إنّ المهاجرين والأنصار أنظر لأنفسهم منك، فقال له الحارث بن معاوية: لا والله! ما أزلتموها عن أهلها إلا حسداً منكم لهم وما يستقرّ في قلبي أن رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) خرج من الدنيا ولم ينصب للناس علماً يتبعونه فارحل عنّا أيها الرجل”(51).

 ومن هذا القبيل إرسال أبو بكر العلاء الحضرمي إلى البحرين لمقاتلة أهلها بحجّة الردة، حيث تبرز القرائن أن أهل البحرين لم يرتدوا عن الدين، فقد جاء في كتاب الردّة للواقدي (ت 207هـ): “وكتب أبو بكر (رضيَّ الله عنه) إلى أبان بن سعيد يستقدمه من أرض البحرين، وقد كان النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم وجّهه إليها أميراً، فلما ورد عليه الكتاب نادى في أهل البحرين فجمعهم، ثم قرأ عليهم كتاب أبي بكر، وقال: (قد علمتم [ان‏] أهل عمان قد وفوا لصاحبهم عمرو بن العاص)، قال: فوثب رجل من سادات عبد القيس يقال له الجارود بن المعلَّى، فقال: يا أبان، قد علمت بأن إسلامنا كان طوعاً بلا قتال، فأنزل الله تبارك وتعالى فينا: {وَلَهُ أَسْلَمَ من في السَّماواتِ وَالأَرْضِ طَوْعاً وَكَرْهاً}، وقد علمت أنه حملنا إلى رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم صدقات أموالنا من قبل أن يحملها إليه أحد من الناس، فإن أقمت عندنا أطعناك، وإن ظعنت عنا خفرناك.

قال: ثم وثب إليه هرم بن حيّان العبدي، وهو يومئذ شيخ عبد القيس وأسنّها فقال: يا أبان، إن الله (عزَّ وجلَّ) قد كثّر بالإسلام عددنا، وشدّ به قلوبنا وألسنتنا، فلسنا نخاف أعداءنا من الناس، وقد أبيت المقام بأرضنا، فإن كان أوحشك منا شيء أمنّاك منه، وإن خشيت أن تعجز عن ولايتنا أعنّاك بأنفسنا، وإذا أردت خيراً مما أنت فيه بذلنا لك أموالنا.

 ثم وثب إليه المنذر بن عائذ العبدي، وهو الذي سوّده النبي صلّى الله عليه وآله وسلّم على‏ وفد عبد القيس، حين وفدوا عليه، فقال: يا أبان، إن مقامك عندنا خير لك ولنا، ولو كنت تريد مقامك لنفسك لاتبعنا هواك، ولكنا نريدك لأنفسنا، وفي خروجك عنا معصية لإمامك وعيب علينا، فإن أبيت إلا الخروج عنا فغير مأمور ولا مطرود.

فقال أبان بن سعيد: جزاكم الله خيراً يا معشر عبد القيس، فو الله ما رأيت خصلة من خصال الخير إلا وهي موجودة فيكم… قال: ولما قدمت عبد القيس إلى أبي بكر (رضيَّ الله عنه)، مع أبان بن سعيد، أثنى عليهم أبو بكر والمسلمون ثناء حسناً، قال أبان بن سعيد: والله يا خليفة رسول الله، ما فارقت القوم وخرجت لشيء كرهته منهم، وإنهم على دين الإسلام، ما غيّروا ولا بدّلوا…”(52).

 ثم إنه من البعيد الغريب أن يرتد كل أهل البحرين بعد وفاة الرسول (صلَّى الله عليه وآله) مباشرة والحال أن أرباب السير قد ذكرت لهم مدحاً من قبل النبي (صلَّى الله عليه وآله) في أواخر عمره الشريف يغبطهم عليه الجميع، حيث لا يؤمّل من معصومٍ أن يصف إيمان جماعة بالقوة وأنهم خير أهل المشرق ثم لا تمضي إلا مدة يسيرة ويرتدوا بالجملة! فقد أوردوا: “… حدثنا عوف بن أبي جميلة عن أبي القموص زيد بن علي عن أحد الوفد الذين وفدوا إلى نبي الله صلى الله عليه [وآله] وسلم من وفد عبد القيس إلا أن يكون قيس بن النعمان فأني نسيت اسمه قال:… ثم ابتهل في الدعاء لعبد القيس، قال ووجهه عن عين القبلة، ورفع يديه وهو يقول: اللَّهمّ اغفر لعبد القيس، اللَّهمّ اغفر لعبد القيس، رافعاً يديه وهو يستدير حتى استقبل القبلة وهو يقول: اللَّهمّ اغفر لعبد القيس إذ أسلموا طائعين وغير خزايا وغير موتورين إذ بعض قوم لم يسلموا حتى يخزوا ويوتروا، خير أهل المشرق عبد القيس، خير أهل المشرق عبد القيس”(53). وذكروا أيضاً: “… وحدثني عبد الحميد بن جعفر عن أبيه قالا: كتب رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى أهل البحرين أن يقدم عليه عشرون رجلا منهم. فقدم عليه عشرون رجلاً رأسهم عبد الله بن عوف الأشج.

 وفيهم الجارود ومنقذ بن حيان.

 وهو ابن أخت الأشج.

 وكان قدومهم عام الفتح.

 فقيل: يا رسول الله هؤلاء وفد عبد القيس. قال: مرحباً بهم، نعم القوم عبد القيس! قال: ونظر رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) إلى الأفق صبيحة ليلة قدموا وقال: ليأتين ركب من المشركين لم يكرهوا على الإسلام قد أنضوا الركاب وأفنوا الزاد.

 بصاحبهم علامة.

 اللهم اغفر لعبد القيس أتوني لا يسألوني مالا هم خير أهل المشرق”(54).

 وبالتالي يمكن عدّ نفس حروب الردّة التي جرت في البحرين واحدة من المؤشرات على تشيّع أهلها.

 النقطة الثانية:- ثبات واستمرار في الوجود منذ النشأة إلى الزمان الحاضر: لم ينقطع التواجد والحضور الشيعي في البحرين منذ بدء نشأته في عصر الرسالة إلى يومنا هذا، ويشهد لهذا أقوال الباحثين حول البلدان وكتّاب التاريخ والجغرافيا وخبراء الآثار وأهل التراجم والرجال وغيرها على اختلاف مشاربهم وأماكنهم وزمانهم، ولذا يكفينا أن نلحظ وجود بعض هذه النقولات أو الشواهد في كل حقبة زمنية -يمكن بحسب العادة فيها تغيّر العقيدة وتبدّل الهوى- على امتداد هذه العصور المذكورة لإثبات المطلوب، ولكن قبل الشروع في ذلك ينبغي التنبّه لأمرين: الأمر الأوّل: إن شياع عقيدة بصورة قويّةٍ في قومٍ أو بلد -بالصورة التي يتفانى أهله في التضحية من أجلها، ويبذلون لها الغالي والنفيس- لا ينتقل منها إلى غيرها بسهولة وبغضون عقودٍ وسنواتٍ قليلة، وإنما على فرض تحقّق الاستبدال والتحوّل إلى عقيدةٍ أخرى يحتاج إلى عاملٍ ومؤثرٍ قوي يسهم في تزلزل الأولى ويحث ويدعو إلى الثانية، ومن ناحية أخرى يفتقر إلى مدّة زمنيّة بعيدة جداً، ويترتب على ذلك أحياناً أثرٌ في البحث الموضوعي عن أحوال وعقيدة هذا البلد، إذ يمكن دراستها بنحوٍ مستوعب لفترة زمنية طويلة -كقرن أو قرنين مثلاً- كحلقة واحدة متصلة الملابسات والظروف من دون ضرورة إلى المتابعة الجزئيّة.

الأمر الثاني: إنّ غالبيّة المؤرّخين حول المذاهب والاعتقادات والبلدان قد سطّروا أخبارهم وكتبهم على دين السلاطين وهواهم أو بحسب ميولهم وانتماءاتهم الشخصيّة، ولذا أهملوا الحديث عن قسمٍ كثير من مفاصل التاريخ أو حوّروها لعدم تلاؤمها مع مصالحهم، والحديث عن عقائد أهل البحرين وتاريخ التشيع فيها بالذات هو واحدٌ من المواضيع التي جُنِي عليها كثيراً، وقد أهمل الحديث عنها أو حرّف بامتياز، إلا أنّ ما بين السطور مع كل التعتيم يفي بالمطلوب.

وبناء على ذلك وروماً للاختصار سيتم عرض عيّنة من الشواهد السريعة موزّعة طولياً على عدّة مقاطع زمنية منذ النشأة إلى زماننا الحالي كلّها تشير إلى حقيقة واحدة، وهي عدم انقطاع الوجود الشيعي في البحرين، وستكون وفق التسلسل التالي: أولاً:- مرحلة النشوء وعصر الرسالة والخلافة: وقد أشبع الحديث حولها في النقطة الأولى بما لا مزيد عليه، وأثبت المطلوب فيها فلا نعيد.

ثانياً:- عصر الدولة الأمويّة: لم تعمّر الدولة الأمويّة مدّة طويلة جداً -قرن واحد من الزمن تقريباً- حتى نحتمل حدوث ما من شأنه تغيير المنظومة العقائديّة لأهل البحرين من الجذور، بل المنقول هو حدوث العكس، حيث سجّلت كتب التاريخ ثورات عديدة وحركات انطلقت من إقليم البحرين العام -الشامل لجزيرة أوال- ضد الدولة الأمويّة وبالخصوص في عهد عبد الملك بن مروان(55)، وفي هذا الإطار قيل: “وقال الشيخ المظفر في (تاريخ الشيعة): حاول عبد الملك أن يحمل أهل البحرين على مفارقة التشيع فأبوا، وأراد أن يستعمل القوة فخاف بأسهم، فصالحهم على نزع السلاح، وأن يرفع عنهم الخراج لقاء ذلك، وداموا على التشيع لا يخشون سلطة حاكم، ولا يرهبون من التصريح به سطوة ظالم، وكان فيها كثير من العلماء والأفاضل والشعراء”(56).

 ثالثاً:- عصر الدولة العباسيّة: وهذا العصر كسابقه أيضاً، حيث استمرّ فيه التواجد الشيعي وتعزّز نفوذه، وكانت الأهالي تتحيّن الفرص للاستقلال عن الجهاز العباسي أو التمرّد عليه كلّما سمح الظرف بذلك، ففي سنة 151هـ خرجت ثورة بقيادة سليمان بن حكيم العبدي -وهو من زعماء البحرين(57)- ضد المنصور العباسي وتصدّى لها الأخير بإرساله جيشاً بقيادة عقبة بن سلم، ينقل البلاذري (ت 279هـ): “وحدثني الحرمازي، عن أبي عمرو الجاباني، قال: ولّى المنصور عقبة بن سلم الأزدي البحرين وعمان، فقتل سليمان بن حكيم العبدي وكان مخالفاً، وأسر من أهل البحرين بشراً كثيراً وحملهم إلى المنصور فقطع عدة منهم ووهب باقيهم للمهدي…”(58).

 وفي عام 190هـ خرجت أيضاً ثورة بقيادة سيف بن بكير ضد الرشيد، فوجّه إليه الثاني محمّد بن يزيد بن مزيد ليقتله ويصدّ حركته(59).

 رابعاً:- القرن الثالث والرابع: وارتباط اسم الشيعة على إقليم البحرين في هذين القرنين أصبح جليّاً ويعرفه الداني والقاصي، وحتى البعض ممن ذهب إلى نفي أصالة التشيّع في البحرين لم ينكر وجودهم في هذه الحقبة الزمنيّة(60)، وهذا ما حفّز بعض شخصيّات القرامطة من استغلال سمة التشيع في هذا الإقليم وتعاطف أهله مع قضيّة المهدي الموعود ليبث فيهم أفكار حركته ويروّج لها ممّا ترشّح منه قيام دولة القرامطة سنة 281هـ: “وكان ابتداء القرامطة بناحية البحرين أنّ رجلاً يعرف بيحيى بن المهديّ‏ قصد القطيف فنـزل على رجل يعرف بعليّ بن المعلّى بن حمدان، مولى الزياديّين، وكان مغالياً في التشيّع…”(61).

 وينقل الرحالة المقدسي (ت -على التقريب- 381هـ) حول هذا الإطار: “الأحساء قصبة هجر وتسمّى البحرين‏ كبيرة كثيرة النخيل عامرة آهلة… ومذاهبهم بمكّة وتهامة وصنعاء وقرح‏ سنّة وسواد صنعاء ونواحيها مع سواد عمان شراة غالية وبقيّة الحجاز وأهل الرأي بعمان وهجر وصعدة شيعة”(62).

خامساً:- القرن الخامس والسادس: وفيه حلّت الدولة العيونيّة محلّ القرامطة وهي دولة شيعية أيضاً ولا زالت بعض آثارهم الدالة على هويّتهم موجودة في مسجد الخميس (المشهد ذو المنارتين)، وكذلك عملاتهم النقديّة التاريخيّة المسكوكة في جزيرة أوال والمعروض عينات منها في المتحف البريطاني(63):   وفي هذه الحقبة أيضاً بدأ نجم البحرين يتألّق في سماء العلم والفقاهة، حيث ارتفع صيت علمائها ونوابغها على الملأ بعد أن كانوا في وضعٍ لا يسمح لهم بذلك بشكلٍ جيّد، فشهد العالم أسماء ثلّة من الفقهاء والمتكلمين والأدباء وغيرهم ممّن حوتهم هذه الأرض المعطاءة، وكانوا من الطراز الأوّل، ومن الذين أثروا بعلومهم في حوزات الشرق والغرب، ومن ضمنهم مثلاً الشيخ الفاضل الفقيه الشريف ابن الشريف أكمل البحراني الذي تفصله واسطة واحدة عن السيد المرتضى علم الهدى (رحمه الله)(64)، والشيخ الأقدم الذي كانت بينه وبين الشيخ أبي جعفر الطوسي (رحمه الله) ثلاث وسائط فقط(65)، وهو الشيخ راشد بن إبراهيم بن إسحاق البحراني (ت 605هـ)، وقد ترجم له الفقيه والرجالي الكبير الشيخ سليمان الماحوزي البحراني (قدِّس سرُّه) بقوله: “ومن قدماء علماء البحرين الشيخ الفقيه العالم المتكلّم الأديب اللغوي ناصر الدين راشد بن إبراهيم بن إسحاق”(66).  

موضع قبر الفقيه الشيخ راشد البحراني في جزيرة النبيه صالح بالقرب من المسجد   وكذلك الشيخ الفقيه قوام الدين محمد بن محمد البحراني الذي قال فيه صاحب أمل الآمل: “كان فاضلاً أديباً صالحاً”(67).

ولا ننسى العالم النحرير البارع في المعقول والمنقول الشيخ كمال الدين أبو جعفر أحمد بن علي بن سعيد بن سعادة، الذي برز في الفقه والكلام والفلسفة، صاحب الرسالة الفاخرة (رسالة العلم) الذي قام بشرحها المحقق والفيلسوف الإسلامي الكبير الخواجة نصير الدين الطوسي (قدِّس سرُّه) بعد أن أطرى عليها وعلى مؤلفها(68)، وكذلك تلميذه الألمعي الحكيم الشيخ علي بن سليمان الستراوي البحراني، الذي حمل رسالة أستاذه المذكورة وأوصلها إلى الخواجة نصير الدين الطوسي، وقد وصفه الأخير في ديباجة شرحه على هذه الرسالة: “أرسلها وسأل عنها من كان أفضل زمانه وأوحد أقرانه، الذي نطق الحق على لسانه، ولوّح الحقيقة من بيانه”(69)، وكلاهما -الأستاذ والتلميذ- قد دفن في جزيرة سترة في البحرين.

وبروز هذه الأسماء إلى جانب أعلام الطائفة الكبار كالسيد المرتضى والشيخ الطوسي والخواجة نصير الدين (رحمهم الله) وتلامذتهم يوحي إلى عدّة دلالات، منها بروز حوزة البحرين كواحدة من روافد العلم في العالم الإسلامي الشيعي، ووجود العلاقات المتبادلة بين البحرين وغيرها من المراكز الشيعيّة المؤثرة كالكوفة والحلّة وغيرها، كما يدل على أن المذهب الإمامي الإثني عشري من بين سائر فرق الشيعة الأخرى هو المستحكم والمستشري فيها،  ولو أخذنا جولة في الفهارس والتراجم وكتب الرجال وتتبعنا أسماء علماء البحرين ومؤلفاتهم وإجازاتهم ومراكز ارتباطهم وآثارهم لأدركنا حقيقة ذلك.

 سادساً:- القرن السابع والثامن والتاسع: واشتهار تشيع أهل البحرين بكل أطيافها -من علماء وعوام ومدن وأرياف- في هذه القرون كالشمس في رائعة النهار، ويكفي دلالة على ذلك أقوال بعض الرحّالة وخبراء البلدان مثل قول صاحب معجم البلدان (ت 626هـ) المتقدّم: “وأكثر أهلها [يقصد عمان] في أيامنا خوارج إباضية ليس بها من غير هذا المذهب إلا طارئ غريب وهم لا يخفون ذلك، وأهل البحرين بالقرب منهم بضدهم كلهم روافض سبائيون لا يكتمونه ولا يتحاشون وليس عندهم من يخالف هذا المذهب إلا أن يكون غريباً”(70).

 وقول ابن المجاور الشيباني (ت690هـ): “وتسمى الجزيرة جزيرة أوال وبها ثلاثمائة وستين قرية إمامية المذهب ما خلا قرية واحدة”(71).

وكذلك قول ابن خلدون (ت 779هـ) عند ذكر سفره إلى إقليم البحرين المتمثّل بجزيرة أوال والقطيف والإحساء: “ثم سافرنا من سيراف إلى مدينة البحرين‏ وهي مدينة كبيرة حسنة ذات بساتين وأشجار وأنهار…

 ثم سافرنا إلى مدينة القطيف‏، وضبط اسمها بضم القاف كأنّه تصغير قطف، وهي مدينة كبيرة حسنة ذات نخل كثير يسكنها طوائف العرب، وهم رافضيّة غلاة يظهرون‏ الرفض جهاراً لا يتّقون أحداً: ويقول مؤذّنهم في أذانه بعد الشهادتين: أشهد أنّ عليّاً ولىّ الله، ويزيد بعد الحيعلتين: حيّ على خير العمل، ويزيد بعد التكبير الأخير: محمّد وعليّ خير البشر، من خالفهما فقد كفر”(72).

 وبموضعٍ آخر -عند حديثه عن البصرة وقصة المسجد ذي الصومعتين وقيامه بفعلٍ فيه- يذكر أيضاً: “وأهل البصرة على مذهب السنّة والجماعة، ولا يخاف من يفعل مثل فعلي عندهم، ولو جرى‏ مثل‏ هذا بمشهد عليّ أو مشهد الحسين أو بالحلّة أو بالبحرين أو قم أو قاشان أو ساوة أو آوه أو طوس لهلك فاعله! لأنّهم رافضة غالية”(73).

وأخيراً وليس آخراً قول المقريزي (ت 845هـ): “وجميع أهل الأحساء، والقطيف، والبحرين، وتاروت رفضةٌ”(74).

 واستمرّ تدفق نبع علماء الشيعة في هذه الحقبة كسابقتها وبصورة مضاعفة، وفي هذا الإطار يقول المحقّق السبحاني (حفظه الله): “… كما كان في البحرين حوزة علمية فقهية عامرة في القرن السابع والثامن تخرّج منها: المحقّق‌ ميثم البحراني صاحب «شرح نهج البلاغة» وأُستاذ العلامة المتوفّى عام 699 ه‍، وابنا المتوج، وغيرهم”(75).

 سابعاً:- القرن العاشر والحادي عشر: والكلام فيهما لا يختلف عن القرون السابقة، فلا زالت سمة التشيّع هي الماثلة للعيان لكل من يدنو من أرض البحرين ويعاين أهلها وأجواءها، ففي إحدى أعداد مجلة العرب عرض أحد الباحثين في جامعة الكويت -وهو فيصل الكندري، الدكتور في قسم التاريخ- وثيقةً وتقريراً عثمانياً عن حملة مصطفى باشا على جزيرة البحرين عام 966هـ كتبها أحد المشاركين في هذه الحملة، وقد ذكر فيها: “إن جزيرة البحرين خطرة وصعبة، وكل أهلها من الروافض”(76).

 والنهضة العلميّة الشاملة والوسط العلمائي الشيعي بنتاجه الثر في جميع المجالات كان حاضراً في هذه الحقبة وبقوّة، وقد كان له دورٌ رائدٌ في تدشين حواضر بعض البلدان المجاورة وإرساء الفكر الإمامي فيها، فلو استثنينا علم الفقه الذي امتاز به أكثر علماء البحرين ووصل إلى ذروته والاجتهاد فيه جمعٌ وفيرٌ منهم سنجد هناك قائمة أخرى من العلوم والتخصّصات برزوا فيها أيضاً، كعلم النحو الذي برع فيه الشيخ علي بن حسين الشاطري العسكري -نسبة إلى قرية عسكر- حيث أثر له شرحٌ مفيدٌ على ألفية ابن مالك وكذلك ابنه الشيخ حرز (77)، وعلم الأدب والشعر والمناظرة والمنطق الذي لمع فيه العلامة الشيخ داوود بن أبي شافيز المدفون بجدحفص وزميله العلامة السيد حسين ابن السيد حسن الغريفي جد الأسرة الغريفية العريقة المدفون بأبي صيبع(78)، وعلم الحديث الذي نال قصب السبق فيه صاحب الفضائل السيد ماجد بن هاشم الجدحفصي، وينقل أنه أول من نشر علم الحديث في دار العلم بشيراز وتلمذ على يديه العلامة الفيض الكاشاني صاحب الوافي، وله صولات مع الشيخ العلامة البهائي في إصفهان(79)، وعلم الفلك والرياضيات والهيئة والهندسة والحساب والعقليات بنحو عام الذي أجاده الشيخ محمد بن يوسف الخطّي المقابي(80)، وعلم الكلام الذي عرف به الشيخ محمد بن علي الإصبعي(81)، وغير ذلك.

والهدف من ذكر هذه الباقة من العلوم والعلماء بيان سعة الفكر والحضارة التي نهض بها علماء التشيّع في البحرين في الوقت الذي يصف البعض شيعة البحرين بالخدم الوافدين الذين لا يفقهون غير الزراعة ولا حظ لهم في شيء!!! ثامناً:- من القرن الثاني عشر إلى زماننا الحاضر: يمثّل نهاية القرن الثاني عشر بدايات دخول العتوب (آل خليفة) إلى البحرين قادمين من الزبارة في قطر، وكان ذلك بالقهر والغلبة، وكان حينها الشيعة يشكلون الغالبية القصوى، وذلك بحسب نقل النبهاني (ت 1370هـ- 1950م) الذي بدى عليه الحساسيّة المفرطة تجاه الشيعة ولكنه في مقام الذم لهم ذكر: “وكان غالب سكان البحرين شيعة شديدي التعصّب…”(82).

وحينئذٍ لو أغفلنا النتاج الشيعي الضخم الذي ظهر في هذه الحقبة المذكورة وغضضنا النظر عن أمثال العلامة والمفسر والمحدِّث الكبير السيد هاشم التوبلاني البحراني صاحب تفسير البرهان (قدِّس سرُّه)، وأمثال الفقيه الملهم الواصل الشيخ يوسف البحراني صاحب الحدائق (قدِّس سرُّه) وغيرهما، فيكفينا في إثبات المطلوب ملاحظة المساجد والمآتم -ذات الطابع الشيعي- الكثيرة المنتشرة في غالبيّة القرى والمدن الرئيسيّة في البحرين والتي يرجع بعضها إلى ما قبل هذه القرون، وكذلك ملاحظة القرى الشيعية والمقابر الملحقة لها بما فيها من ثقل سكاني وعادات وتقاليد واعتقادات وما ينتشر فيها من حرف ومهن شعبية قديمة وما تتميّز به من لهجة خاصة معروفة، والوجود العيني الحسي لهذه الأمور خير برهان على استحكام الوجود الشيعي في هذا البلد، كما أنه مع ملاحظة الإرث التاريخي الشيعي الممتد طيلة القرون السابقة المذكورة يكون هناك استبعاد بمنظار العقل والاجتماع وطبيعة حياة الشعوب أن يتبدّل نظام عقيدة وفكر وتاريخ وثقافة وأدب وأعراف بنسبة مقلوبة تماماً في غضون قرن أو قرنين من الزمن، وبالتالي نحن في غنى عن كثير من هذه الشواهد المذكورة ولكن ذكرناها إتماماً للحجة لمن لا يتبصّر الواقع على ما هو عليه، إنّما يراه بمنظار عينه التي تغيّر الألوان وتموّه الصور.

ويقال: أنّه (لو كان لبان)، أي أن الأصالة لو كانت لهذا الطرف لبانت علائمها في الآفاق، وأقلها النتاج العلمي والحضاري والفكري، ولو كانت لذاك الطرف لبان أيضاً، أما انعدامها أو ضعفها وخوائها لطرف فإنّه دليل على عدم وجوده أو وجوده الضعيف المتواضع الطارئ.

النقطة الثالثة:- قوّة وعمق وأصالة الاعتقاد: ذكر سابقاً في النقطة الثالثة من التوطئة في صدر البحث أنّ مفهوم الأصالة يحوي جملة من الدلالات وقد أنهيت إلى ست، وهي السبق والتقدّم، والقدم الزماني، والاعتناق الشمولي المستوعب، وقوّة وصلابة المعتقد كهويّة وليست شعاراً، والنتاج الحضاري والفكري الثرّ، ووفرة الآثار التاريخية الدالة عليه، ولعمري أنه بعد العرض المتقدّم في النقطتين السابقتين، وبعد ملاحظة الردود والمناقشات التي أوردت على المنكرين للأصالة سنجد أن جميع هذه النقاط الستّة تنطبق على التشيّع في البحرين بامتياز وجدارة، إذ أثبتنا سبق اعتناق البحرين للتشيّع وأنّها من البلدان الرائدة في تصديره وإشعاعه إلى الآخرين وليس مجرّد اعتناقه وحسب.

 وأن تاريخها معه قديم يمتد منذ نشوئه إلى عصرنا الحاضر، وأنّه كان المعتقد السائد الشامل والمستوعب لجميع أو غالبيّة أهلها، وأنّها آمنت به من أعماق وجدانها حتى دفعت من أجله أثماناً باهضة، وقدمت في سبيله الكثير من التضحيات الجسام والقرابين والشهداء وصبرت على تبعاته رغم تربّص المناوئين له وضرباتهم الموجعة.

 وبيّنا غزارة النتاج العلمي والفكري والثقافي والأدبي والحضاري لعلماء الشيعة في البحرين بالصورة التي بوّأتهم موقعاً بارزاً على مستوى الحواضر العلمية في جميع الحوزات والمراكز العالميّة، ومن ناحية أخرى أشرنا إلى جملة من الآثار التاريخيّة الدالة على الأصالة، ومن الواضح أن استقصاءها جميعها يحتاج إلى موضوعٍ مستقلّ ولا يتناسب مع حجم هذا البحث.

وبذلك ستكون النتيجة النهائية الجليّة البرهان هي ثبوت أصالة التشيّع في البحرين وخطأ ادعاء القائلين بالنفي.

الخاتمة بعد الفراغ ممّا تقدّم وعرض المسألة بتأنٍ وموضوعيّة قد تطرأ في أذهاننا جملة من الأسئلة، ومفادها: هل أدلّة أصالة التشيّع قاصرة إلى هذا الحد بحيث يلجأ البعض إلى نسفها وعدم الاكتراث بها؟ وهل هي أضعف حالاً من أدلّة المنكرين حتى تؤخّر ويغض الطرف عنها؟ أم أنّها غير واصلة ومعروفة فنحتاج إلى إذاعتها أولاً ثم نرقب درجة التفاعل معها؟!! فغريبٌ جداً موقف المتفرّجين على الحقائق عندما يتعامون عن رؤيتها والاستبصار بهدايتها ويؤثرون الاحتمالات البعيدة والدعاوى الملفقة والركيكة على حساب المنطق الحصيف والوجدان الصادق، فهل المستقوي بالباطل يشعر بالنشوة والاطمئنان والوثوق بأمره حينما يموّه الواقع ويحجبه على الناس أم أنّه بعمله غير المسؤول هذا يدلّل على اضطرابه وخوائه وخوفه من مجابهة الحق؟ الملحوظ في البحث أنّ نكران أصالة التشيع في البحرين ناتجٌ في الأعم الأغلب عن أسباب سياسيّة بحتة وأغراض شخصيّة ومذهبيّة صرفة ولا تمت بالأسباب الموضوعيّة والعلمية بأي صلة، ولذا نجد الفارق الكبير بين ادّعاءات المنكرين وبين أدلّة المثبتين من حيث الغرض والأسلوب والمحتوى والمضمون.

 نسأل الله تعالى أن يعصمنا من الغرور والميل عن الصواب والصدّ عن الحق وأن يوفقنا لمراضيه واجتناب ما يسخطه وأن يلم شملنا ويأخذ بأيدينا إلى الفلاح، والحمد لله أولاً وآخراً ولا حول ولا قوّة إلا بالله العلي العظيم.

الهوامش والمصادر

  • (1) كتاب العين، الخليل بن أحمد الفراهيدي، ج2، ص191.
  • (2) الملل والنحل، محمد بن عبد الكريم، ج1، ص144.
  • (3) الشيعة في الإسلام، السيّد محمد حسين الطباطبائي، ص21.
  • (4) لاحظ مثلاً: التشيّع في البحرين تاريخه وأهدافه، د. عبد العزيز بن أحمد البداح، ص44؛ وص128. أيضاً: مقال للدكتور حسن الشيخي بعنوان: (أكاذيب شيعة البحرين) نشر بتاريخ: 2 مايو 2011م بالإنترنت: ؛ وكذلك: موقع الموسوعة الحرّة: org بعنوان: سكان البحرين.
  • (5) مقال للدكتور حسن الشيخي بعنوان: (أكاذيب شيعة البحرين) نشر بتاريخ: 2 مايو 2011م بالإنترنت:
  • (6) لاحظ مثلاً: أعيان الشيعة، السيد محسن الأمين، ج1، ص18.
  • (7) خطط الشام، محمد بن عبد الرزاق بن محمد كرْد علي، ج6، ص245.
  • (8) الدر المنثور في التفسير المأثور، جلال الدين السيوطي، ج6، ص379.
  • (9) مقال للدكتور حسن الشيخي بعنوان: (أكاذيب شيعة البحرين) نشر بتاريخ: 2 مايو 2011م بالإنترنت: .
  • (10) يمكن مراجعة الكتب التاريخيّة المتخصّصة في خصائص البلدان وظروفها مثل: أنساب ‏الأشراف، البلاذري، ج‏4، ص245؛ أيضاً: آكام المرجان في ذكر المدائن المشهورة في كل مكان، إسحاق بن الحسين، ص55؛ أيضاً: رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ج‏2، ص151؛ وغيرها.
  • (11) التشيّع في البحرين تاريخه وأهدافه، د. عبد العزيز بن أحمد البداح، ص44- 46.
  • (12) موقع الموسوعة الحرّة: بعنوان: سكان البحرين. (بتصرّفٍ بسيط).
  • (13) التشيّع في البحرين تاريخه وأهدافه، د. عبد العزيز بن أحمد البداح، ص45؛ أيضاً: مشكلات التغيير السياسي والاجتماعي في البحرين، محمد الرميحي، ص57؛ كذلك: مقال للدكتور حسن الشيخي بعنوان: (أكاذيب شيعة البحرين) نشر بتاريخ: 2 مايو 2011م بالإنترنت: .
  • (14) انظر مثلاً: مقالة للكاتب عبد الرحمن سعد الدوسري بعنوان: (الشيعة في البحرين من أين أتوا… خرافة السكان الأصليّين) المنشورة على شبكة الانترنت برابط: .
  • (15) انظر مثلاً: فجر الإسلام، أحمد أمين، ص314.
  • (16) راجع: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج7، ص493-494؛ أيضاً: تاريخ ‏ابن ‏خلدون، ج‏3، ص437؛ وكذلك: بحوث في الملل والنحل، الشيخ السبحاني، ج8، 333.
  • (17) أنوار البدين، الشيخ علي البحراني، ص394.
  • (18) التشيّع في البحرين تاريخه وأهدافه، د. عبد العزيز البداح، ص84- 85.
  • (19) تاريخ المستبصر، يوسف بن يعقوب (ابن المجاور)، ص109 (بترتيب المكتبة الشاملة).
  • (20) معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج4، ص150.
  • (21) درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، أحمد بن علي المقريزي، ج1، ص82.
  • (22) التحفة النبهانيّة في تاريخ الجزيرة العربية، محمد بن الشيخ خليفة النبهاني، ص85.
  • (23) انظر: الخراج وصناعة الكتابة، قدامة بن جعفر، ص278؛ أيضاً: معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج1، ص347. وغيرها، وهو أمرٌ ذائع ومعروفٌ عند أهل النسب والتاريخ.
  • (24) المعارف، ابن قتيبة الدينوري، ج1، ص339.
  • (25) ورد في بعض المصادر الأخرى بلفظ (حمراء) وليس سوداء، فعن بن مزاحم: “نصر عن عمرو بن شمر قال: أقبل الحضين بن المنذر وهو يومئذ غلام يزحف برايته قال السدي: وكانت حمراء فأعجب علياً زحفه وثباته فقال: لمن راية حمراء يخفق ظلها…” وقعة صفين، نصر بن مزاحم، ص289.
  • (26) مروج الذهب ومعادن الجوهر، المسعودي، ج3، ص48.
  • (27) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج3، ص226.
  • (28) تاريخ دمشق، ابن عساكر، ج16، ص208.
  • (29) وقعة صفين، نصر بن مزاحم، ص287- 288.
  • (30) تاريخ الأمم والملوك (تاريخ الطبري)، ابن جرير الطبري، ج5، ص116.
  • (31) أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، ج1، ص 47.
  • (32) الاستيعاب، ابن عبد البر، ج2، ص422.
  • (33) أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، ج1، ص 575.
  • (34) الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج4، ص73.
  • (35) طبقات الرجال (رجال البرقي)، البرقي، ص63- 64.
  • (36) راجع: الردة، الواقدي، ص59- 61.
  • (37) انظر مثلاً: فتوح البلدان، البلاذري، ص90- 92.
  • (38) وهو أمرٌ متداول عند أرباب السير والتاريخ، راجع مثلاً: الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج‏4، ص487.
  • (39) راجع: تاريخ اليعقوبي، أحمد بن أبي يعقوب (اليعقوبي)، ج2، ص201؛ أيضاً: نهج البلاغة، جمع الشريف الرضي، الرسالة 42، ص414 (بترتيب وتنظيم د. صبحي الصالح).
  • (40) الفتوح، بن أعثم الكوفي، ج2، ص455- 456.
  • (41) وكان الإخوة الثلاثة من خطباء وحملة راية معسكر الإمام علي (عليه السلام) في حرب الجمل، وزيد وسيحان استشهدا فيها، وأما صعصعة فجرح ولم يستشهد. انظر مثلاً: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج6، ص244.
  • (42) الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، ج2، ص717.
  • (43) البلدان، ابن الفقيه، ص164.
  • (44) الغارات، الثقفي الكوفي، ج2، ص888.
  • (45) الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج3، ص373.
  • (46) لاحظ الترجمة في: الأعلام، خير الدين الزركلي، ج3، ص205.
  • (47) لاحظ مثلاً: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص238.
  • (48) انظر من باب المثال: أسد الغابة في معرفة الصحابة، ابن الأثير الجزري، ج1، ص 312- 313؛ كذلك: الاستيعاب في معرفة الأصحاب، ابن عبد البر، ج1، ص262- 264؛ الإصابة في تمييز الصحابة، ابن حجر العسقلاني، ج1، ص552- 554.
  • (49) مقتضب الأثر في النص على الأئمة الإثني عشر، ابن عياش الجوهري، المتن، ص31- 39.
  • (50) راجع: الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص238.
  • (51) الفتوح، أحمد بن أعثم الكوفي، ج1، ص48.
  • (52) الردة، محمد بن عمر الواقدي، ص59- 63.
  • (53) المعرفة والتاريخ، يعقوب بن سفيان الفسوي، ج1، ص297.
  • (54) الطبقات الكبرى، ابن سعد، ج1، ص 238.
  • (55) راجع مثلاً: أنساب الأشراف، البلاذري، ج7، ص445؛ أيضاً: موقع الموسوعة الحرّة (ويكيبيديا) تحت عنوان: إقليم البحرينhttp://ar.wikipedia.org/wiki/. (56) الشيعة في الميزان، الشيخ محمد جواد مغنية، ص199.
  • (57) الأعلام، خير الدين الزركلي، ج3، ص124.
  • (58) أنساب الأشراف، البلاذري، ج4، ص245؛ وراجع أيضاً: الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج5، ص604.
  • (59) الكامل في التاريخ، ابن الأثير، ج6، ص197.
  • (60) لاحظ مثلاً: التشيّع في البحرين تاريخه وأهدافه، د. عبد العزيز بن أحمد البداح، ص44- 46.
  • (61) م ن، ج7، ص493-494؛ أيضاً: تاريخ ‏ابن ‏خلدون، ج‏3، ص437.
  • (62) أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، محمد بن أحمد المقدسي، ص93 و96.
  • (63) انظر: نقود الدولة العيونية في بلاد البحرين، نايف الشرعان، وهو من نشر مركز الملك فيصل للبحوث والدراسات الإسلاميّة.
  • (64) أمل الآمل (تذكرة المتبحرين في العلماء المتأخرين)، الحر العاملي، ج2، ص132؛ وخاتمة المستدرك، الميرزا النوري، ج3، ص34.
  • (65) أنوار البدين، الشيخ علي البحراني، ص58.
  • (66) فهرست علماء البحرين، الشيخ سليمان الماحوزي، ص64.
  • (67) أمل الآمل (تذكرة المتبحرين في العلماء المتأخرين)، الحر العاملي، ج2، ص298.
  • (68) لاحظ مثلاً: فهرست علماء البحرين، الشيخ سليمان الماحوزي، ص45- 49.
  • (69) أجوبة المسائل النصيرية (20 رسالة)، الخواجة نصير الدين الطوسي، ص72.
  • (70) معجم البلدان، ياقوت الحموي، ج4، ص150.
  • (71) تاريخ المستبصر، يوسف بن يعقوب (ابن المجاور)، ص109 (بترتيب المكتبة الشاملة).
  • (72) رحلة ابن بطوطة (تحفة النظار فى غرائب الأمصار وعجائب الأسفار)، ج‏2، ص151- 153.
  • (73) م ن، ج2، ص13.
  • (74) درر العقود الفريدة في تراجم الأعيان المفيدة، أحمد بن علي المقريزي، ج1، ص82.
  • (75) أدوار الفقه الإمامي، الشيخ السبحاني، ص199- 200.
  • (76) مجلة العرب، السنة الخامسة والعشرون، ذو القعدة وذو الحجة 1420هـ، الجزء 5 و6، ص257.
  • (77) فهرست علماء البحرين، الشيخ سليمان الماحوزي، ص84- 87.
  • (78) م ن، ص88- 96.
  • (79) م ن، ص100.
  • (80) م ن، ص145.
  • (81) م ن، ص111.
  • (82) التحفة النبهانيّة في تاريخ الجزيرة العربية، محمد بن الشيخ خليفة النبهاني، ص85
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى