ثقافة

داء القلوب ودواؤها -2

بسم الله الرحمن الرحيم

بعد معرفتنا بأنّ القلوب يعترضها الدواء والمرض، والأسباب التي تؤدّي إلى تلك الأمراض, كان من الّلازم التعرّف على الدواء النافع لإزالة هذه الأمراض واقتلاعها من الجذور.

معرفة الداء وأهميّتها:
ورد في الحديث عن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله) أنّه قال: “ألا أنبّئكم بدائكم من دوائكم”، قلنا: بلى يا رسول الله. قال: “داؤكم الذنوب ودواؤكم الاستغفار”1.

من الحقائق الهامّة التي ينبغي الإذعان لها هو وجود الدواء لكل داء، لكن الأهمّ من معرفة الداء هو معرفة الدواء وكيفية العلاج.

وكما هو معلوم فإنّ داء القلوب والنفوس هو الذنوب والخطايا والمعاصي، ولأنّ الله تبارك وتعالى هو الخالق لهذا الإنسان، فلا شكّ أنّه العارف بما ينطوي عليه، وما يمكن أن يقترفه من الذنوب والمعاصي.

لذلك كلّه كانت الخطوة الأولى التي دعانا الله تبارك وتعالى إليها هي “التوبة النصوح” إذ أنّها العلاج الأول والأخير الذي يقي الإنسان من سيّئات أعماله.

ومن المهمّ أيضًا بعد معرفة وتشخيص الدواء أن يلتفت الإنسان إلى جرأته ومعصيته، وعلى من يتجبَّر ويعصي.

لتعلَمَ أيّها العبد أنّك تعصي جبَّار السموات والأرض، ومن بيده خلقك ورزقك ومسكنك، ومن له القدرة على حرمانك من كلّ زخارف الدنيا ومباهجها.

يقول الإمام الخمينيّ (قدس سره) في هذا المجال: “العالم محضر الله فلا تعصِ الله في محضر الله”.

والإمام الصادق (عليه السلام) يلفت نظرنا إلى هذه الحقيقة حيث يقول في وصيّته لأحد أصحابه وهو إسحاق: “خفِ الله كأنّك تراه، وإن كنت لا تراه فإنّه يراك، فإن كنت ترى أنّه لا يراك فقد كفرت، وإن كنت تعلم أنّه يراك ثم برزت له بالمعصية، فقد جعلته من أهون الناظرين عليك”2“.

ولعلّ معرفة عظمة الخالق تعالى ونِعَمه لا تشكّل دواءً لأصحاب القلوب المريضة فحسب، بل هي نوع من الوقاية من الخطر الذي قد يصل إليه عبر المعصية والذنب.

ولذلك فإنّنا قبل البحث عن الدواء علينا تشكيل الحاجز والمانع من الوصول إلى المرض، واتّخاذ سُبُل الحماية والوقاية من تلك الأمراض الخبيثة والهدّامة التي قد تصيبنا.

يُروى أنّ الإمام الحسين (عليه السلام) جاءه رجل فقال له: أنا رجلٌ عاصٍ ولا أصرُّ على المعصية، فعظني، فقال (عليه السلام):

“إفعل خمسة أشياء وأذنب ما شئت:
فأوّل ذلك:لا تأكل رزق الله، وأذنب ما شئت.
والثاني: أُخرج من ولاية الله، وأذنب ما شئت.
والثالثأُطلب موضعًا لا يراك الله، وأذنب ما شئت.
والرابع:إذا جاء ملك الموت ليقبض روحك، فادفعه عن نفسك، وأذنب ما شئت.
والخامس:إذا أدخلك مالكٌ النار، فلا تدخل في النار، وأذنب ما شئت”3.

الطريق لمعالجة داء القلب:
إنّ داء القلوب كما علمنا سابقًا لا ينحصر بسببٍ أو عاملٍ واحد، بل إنّ منشأه متعدّد، وبالتالي فإنّ أسبابه كثيرة، ولا شكّ بأنّ معرفتنا بهذه الأسباب تمثّل خطوة كبيرة في تشخيص نوعية العلاج وكيفيّته.

وما يمكن قوله هنا هو أنّ كلّ هذه الأسباب المؤدّية لأمراض القلوب يجمعها عاملان أساسيّان وهما:
1- اتّباع الشيطان
2- ارتكاب الذنوب والمعاصي


كما أنّ العامل الثاني ناشئ بكلّ تأكيد عن العامل الأوّل.

ولهذا فإنّ الذي يبقى لدينا هو العمل على التحذير من الشيطان وكيفية الابتعاد عن إغوائه، والطريق إلى ذلك هو اتّباع الخطوات التالية:

أوّلًا: الإحساس بالرقابة الإلهية:
فإذا ما أدرك الإنسان وتيقّن بأنّ الله تعالى موجود معه في السرّ والعلانية- كما تقدَّم في الرواية التي ذكرناها عن الإمام الحسين(عليه السلام)- فإنّ هذا يشكّل حصنًا ورادعًا له من اتّباع خطوات الشيطان.
يقول الله تعالى: ﴿وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ مَا كُنتُمْ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾4

والشعور الدائم والمستمرّ بهذه الرقابة الإلهيّة يبعث على ما يلي:
أ‌- التفكّر بعظمة الله تعالى، والاعتبار بالآيات والبيّنات، والحجَج والبراهين التي تردع الإنسان عن الوقوع في المعصية.
يقول أمير المؤمنين(عليه السلام): “رحم الله امرءًا نظر فتفكَّر، وتفكَّر فاعتبر، واعتبر فأبصر، وأبصر فأقصر، فقد أبصر أقوام ولم يقصروا، ثمّ هلكوا فلم يدركوا ما طلبوا..”5
ب‌- العزم وأخذ القرار الحازم بترك المعاصي وأداء الواجبات، والسير نحو الله وطاعته، وترك إطاعة الشيطان، والسعي في سبيل ذلك والتحرّك إليه.

ثانيًا: إصلاح النفس:
وذلك بالعمل على إصلاح الصورة الباطنيّة والاهتمام بها، كما يكون الاهتمام بالصورة الظاهريّة، لأنّ الإنسان العاقل يسعى نحو إزالة كلّ خبث انطوت عليه سريرته، وإلّا كان حاله حال أولئك الذين حذَّر النبيّ (صلى الله عليه وآله) منهم بقوله: “سيأتي على النّاس زمان، تخبث فيه سرائرهم، وتحسن فيه علانيتهم، طمعًا في الدنيا، لا يريدون ما عند ربّهم، يكون دينهم رياءً، لا يخالطهم خوف، يعمّهم الله بعقاب، فيدعونه دعاء الغريق، فلا يستجيب لهم”6.
ومن أجل ذلك كان التوجيه من أهل البيت(عليهم السلام) لكل المؤمنين بضرورة تهذيب النفس، وإصلاح السريرة، لتكون يُنبوعًا فيّاضًا بشرف الفضائل وحُسن الأخلاق.

ثالثًا: ضبط النفس:
حثّ القرآن الكريم على ضرورة ضبط النفس، ومنعها من النزوع بغرائزها وشهواتها إلى الشذوذ والانحراف، لأنّها كما يصفها القرآن الكريم: ﴿ إِنَّ النَّفْسَ لأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ مَا رَحِمَ رَبِّيَ﴾7
وقد رسم القرآن الكريم الخطوط العامّة لعملية ضبط النفس بما ورَد في آياته الكريمة ومنها: ﴿ وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا ، فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا، قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا ، وَقَدْ خَابَ مَن دَسَّاهَا﴾8
وقال تعالى: ﴿ وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى، فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوَى 9
 

رابعًا: غسل القلوب وجلاؤها:
وهذا النوع من العلاج هو المعوَّل عليه بعد قطع المراحل المتقدّمة في عملية العلاج، حيث من المفيد السعي نحو تصفية القلب من القذارات التي علقت به، وتنقيتها من الشوائب التي لحقت به، فالقلوب آنية الله في أرضه، فأحبّها إليه أرقّها وأصلبها وأصفاها.
والشريعة الإسلامية التي هي الطبيب المداوي والنافع للقلب رسمت لنا وبيّنت جملة من العوامل الأساسيّة النافعة لغسل القلوب وجلائها وهي:

أ‌. ذكر الله تعالى:
قال الله تعالى في كتابه الكريم:﴿الَّذِينَ آمَنُواْ وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُم بِذِكْرِ اللّهِ أَلاَ بِذِكْرِ اللّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ﴾10.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: “إنّ الله سبحانه جعل الذكر جلاء القلوب”11.

ب‌. قراءة القرآن:
يقول الله تعالى: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جَاءتْكُم مَّوْعِظَةٌ مِّن رَّبِّكُمْ وَشِفَاء لِّمَا فِي الصُّدُورِ وَهُدًى وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ﴾12.
وعن أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: “إنّ هذه القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد”، فقيل: فما جلاؤها؟ قال: “تلاوة القرآن وذكر الموت”13.
وعنه (عليه السلام) قال: “إنّ الله سبحانه لم يعظ أحدًا بمثل هذا القرآن، فإنّه حبل الله المتين وسببه الأمين، وفيه ربيع القلب وينابيع العلم، وما للقلب جلاءٌ غيره..”14.

ت‌. استماع الموعظة:
القلب له حياة وموت، ومرض وشفاء، وذلك أعظم ممّا للبدن،. قال تعالى: ﴿أَوَ مَن كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَن مَّثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِّنْهَا كَذَلِكَ زُيِّنَ لِلْكَافِرِينَ مَا كَانُواْ يَعْمَلُونَ﴾15.

فالقلب الميت حياته بالإيمان والتقوى والورع ومن الوسائل الأساسيّة لذلك هو الاستماع للموعظة.

يقول الإمام علي(عليه السلام): “المواعظ صقال النفوس وجلاء القلوب”16.

إلى غير ذلك من الأمور التي قد يستعين بها الإنسان لمعرفة الدواء الشافي، والعلاج النافع لأخطر مرضٍ يتهدّده في هذه الحياة الدنيا.

ولكن يبقى الكلام الأخير في هذا المجال وهو الإشارة إلى ضرورة بقاء الإنسان في حالة يقظة دائمة ومستمرّة لمواجهة العدوّ الذي يتحيّن الفرص للدخول إلى القلب الصافي وتلويثه بالمعاصي والذنوب.

عصمنا الله وإيّاكم من الزلل والخطأ ووفّقنا لما فيه الخير والصلاح

والحمد لله ربّ العالمين


المصادر والمراجع

1- بحار الأنوار، ج 90، ص 283.
2- الكافي، ج12، ص67.
3- بحار الأنوار، ج 75، ص 126.
4- سورة الحديد، الآية: 4.
5- شرح نهج البلاغة، ابن ابي الحديد، ج 5، ص 147.
6- الوافي، ج3، ص 148.
7- سورة يوسف، الآية: 53.
8- سورة الشمس، الآيات: 7-10.
9- سورة النازعات، الآيتين: 40-41.
10- سورة الرعد، الآية: 28.
11- بحار الأنوار، ج66، ص 325.
12- سورة يونس، الآية: 57.
13- شرح نهج البلاغة، ج1، ص 144.
14- المصدر نفسه، ج 10، ص 144.
15- سورة الأنعام، الآية: 122.
16- غرر الحكم ودُرر الكلام، ص 224.

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى