ثقافة

بين الإسلام والمسيحية حوارٌ مع الأستاذ الشيخ علي الشيخ

أثارت تصريحات البابا الأخيرة ومن قبلها الإساءة إلى شخص الرسول الأعظم(ص) الكثير من السجالات بين أتباع الديانتين المسيحية والإسلامية، وحركت الدفائن نحو الحديث عما يخص ويميز كل ديانةٍ عن الأخرى، وبات هذا الموضوع متداولاً على ألسنة العامة والخاصة.

 من هذا المنطلق، ونظراً لحساسية وأهمية طَرْقِ هذا الباب، ارتأت المجلة إجراء حوارٍ مع أحد الباحثين في هذا المجال، والذي كان في الأصل مسيحياً ونوره الله باعتناق الإسلام ومذهب أهل البيت(ع)، وهو سماحة الشيخ علي الشيخ، وقد رحب بالفكرة وكان معه اللقاء الآتي.

 * في البداية حبّذا لو توجزون لنا قصة رحلتكم الإيمانية من المسيحية إلى الإسلام؟ كانت ولادتي ونشأتي في مدينة بغداد، ومن عائلةٍ مسيحيةٍ كاثوليكيةٍ تؤمن وبعمقٍ بتعاليم الكنيسة، وكنت أمارس الطقوس الدينية من صلاةٍ وصيامٍ، وأذهب إلى الكنيسة بانتظام.

 وعندما تجاوزت العشرين تعمّقَتْ في نفسي هذه التعاليم والعقائد، ولم يكن ليخطر ببالي في يومٍ من الأيام أن أبحث وأحقق في هذه العقائد، ومن أهم المعتقدات التي كنت أؤمن بها هي أنّ المسيحية فقط هي الدين الحق، وباقي الأديان كلها باطلةٌ، ومَنْ لم يكن مسيحياً فهو لا يدخل الجنة مهما فعل، وبالمقابل فإنّ المسيحي الذي يؤمن بأنّ المسيح هو ابن الله وهو الفادي والمخلص فإن مصيره لا محالة إلى الجنة مهما كان عمله.

 وأيضاً كنت أحمل صورةً غير جيدةٍ عن الإسلام والمسلمين توارثتُها عن والدي والأقارب والقساوسة، فكنت أعتقد أنّ المسلمين يسيئون إلى المسيح وأمه مريم العذراء(ع)، ولذلك كانت هناك صورةٌ في ذهني سيئةٌ عن الإسلام.

 وشاءت الأقدار الإلهية أن أحطّ الرحال في إيران بعد انتصار الثورة الإسلامية بسنواتٍ، وابتعدتُ عن أهلي، وسنحت لي فرصةٌ جيدةٌ للقاء بعض المسلمين المثقفين من العراقيين المقيمين في إيران، وكانت تدور بيننا النقاشات حول الإسلام والمسيحية، ولم تكن تنتهي غالباً بهدوءٍ، إذ أنهم كانوا يطرحون بعض الاشكالات عن المسيحية كنت أعجز عن الإجابة عنها، ولكن كنت أدعي أنّ لكلّ هذه الإشكالات أجوبةٌ عند القساوسة وآباء الكنيسة، ولأول مرةٍ يقدّم لي أحد الأخوة القرآن الكريم وبالتحديد سورة مريم(ع)، وقال لي: هل تعلم أنّ في القرآن سورةٌ باسم مريم(ع)؟ نحن نقدّسها ونحبها كثيراً! فتعجبتُ جداً وقلت له: إني أعتقد أنكم تسيئون للمسيح ولأمه مريم(ع) كثيراً.

فناولني القرآن وشرعت في قراءة سورة مريم(ع)، والحقيقة أنّ هذه السورة هزتني من أعماقي، فلم أصدق أنّ هذا هو القرآن!! وهذا رأي القرآن في المسيح وأمّه(ع).

وبدأت أطلب من الإخوة بعض الكتب عن الإسلام وعقائده وتعاليمه، وبدأت بالمطالعة كثيراً فشعرت في نفسي ميلاً نحو هذه العقائد والتعاليم، وكنت كلما أطالع كلما كان يزداد هذا الميل، وبدء عقلي يستسلم لهذه التعاليم الرائعة، وأحسست أنّ هذه الاعتقادات والتعاليم أقرب إلى عقلي وفطرتي من تعاليم آبائي وأجدادي، ولكن الشيطان كان يمنعني من الإذعان للحق، وشعرت أنّ صراعاً حقيقياً أعيشه في داخلي بين جنود الرحمن وجنود الشيطان، فجنود الرحمن يدفعونني للاستسلام لنداء الفطرة والعقل، وجنود الشيطان توسوس لي بأنك كيف تستطيع أن تترك دين آبائك وأجدادك؟ وهل إنّ كلّ هؤلاء العلماء والقساوسة في المسيحية كانوا غافلين عن هذه الحقيقة وأنت وحدك الذي اكتشفتها؟ وكيف ستتعامل مع أهلك إن تركت دينهم واخترت ديناً آخر ولاسيما أنك تعلم البغض الذي يحملونه إزاء الإسلام؟ ووساوس أخرى كثيرةٌ.

 وفي الحقيقة فإني فقدت القدرة على اتخاذ قرار اعتناق الإسلام بسبب هذه الوساوس، ولكن عقلي وفطرتي تصران على اعتناق الإسلام، وفي إحدى الليالي تضرعت إلى ربي ببكاءٍ وصدقٍ وطلبت منه العون لإنقاذي من هذا الصراع، وفي صباح اليوم التالي شعرت في نفسي بقوةٍ عظيمةٍ لم أعهدها من قبل، وأحسست بانشراحٍ عجيبٍ في صدري، واتخذت أصعب قرارٍ في حياتي بكل طمأنينةٍ وسكونٍ، وقررت أن اتبع سبيل الحق وأعتنق الإسلام مهما كان الثمن، وفعلاً اعتنقت الإسلام، وبدأت حياتي الجديدة بهذه الولادة السعيدة، بفضلٍ وتوفيقٍ من الله.

 * ما هي أهم الأمور التي جذبتكم للإسلام وأثّرت في شخصيتكم؟ في الحقيقة إنّ هناك أموراً كثيرةً جذبتني للإسلام وأثَّرَتْ فيَّ، أهمها مسألة العقلانية والمعنوية، فعقائد الإسلام توافق العقل دائماً، وهي مع عمقها يشعر الإنسان بأنها تتناغم مع فطرته وعقله، وأدلتها قويةٌ ومستحكمةٌ، وأيضاً الجنبة المعنوية في الإسلام، فهي الأخرى مع العمق الذي تنطوي عليه إلاّ أنها تتلاءم مع فطرة وعقل الإنسان، فالإسلام دين المحبة والإخلاص والعشق الإلهي، بل إنّ الإنسان المؤمن في الإسلام هو الإنسان العاشق لله تبارك وتعالى، كما جاء في القرآن الكريم حيث يقول الله:{وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللهِ أَنْدَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا للهِ}(1)، فالمؤمنون في الإسلام هم الذين يحبون الله تعالى حباً شديداً أي يعشقونه، كذلك التعامل الرائع الذي يأمر الإسلام به أتباعه، ومن يطالع سيرة النبي(ص) والأئمة(ع) من أهل بيته، يجد من المثل الأخلاقية والإنسانية في التعامل مع الآخرين في سيرتهم ما يبهر العقول ويحيّر الألباب.

 وجنبةٌ أخرى أعتقد أنها منحصرةٌ في الإسلام دون غيره من الأديان وهي شمولية الشريعة الإسلامية لكل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية للإنسان، فكل من يطالع الأحكام الشرعية والتي جاء بها النبي(ص) قبل ما يزيد على أربعة عشر قرناً يتيقن بأنه وحيٌ من السماء، إذ كيف يمكن لإنسانٍ عاش في هذه الفترة وفي الجزيرة العربية التي لم تكن مهداً للحضارة -كما هو مشهورٌ- أن يأتي بشريعةٍ متكاملةٍ تشمل كل جوانب الحياة الفردية والاجتماعية وفيها أحكامٌ لأدق الأمور؟ إلاّ أن نقول بأنه مرتبطٌ بالسماء وإنّ هذه الشريعة الشاملة المتكاملة هي وحيٌ من الله تعالى إليه.

 *هل تستطيعون تلخيص أبرز عقائد المسيحيّة المتداولة حالياً؟ وهل هي مشتركةٌ عند كل الطوائف المعتنقة بالدين المسيحي؟ نعم هناك عقائد كثيرةٌ في المسيحية، ولكن الأساس فيها يمكن تلخيصه في ثلاث عقائد هي:

 1- التجسيد وبنوة المسيح لله حقيقةً، أي أنّ المسيح هو الله المتجسد.

 2- التثليث وأنّ الله سبحانه له أقانيم ثلاثةٌ هي:الأب والابن والروح القدس.

 3- الفداء، أي أنّ المسيح قد فدى البشرية بدمه (بصلبه)، وصالح البشرية مع الله.

وهذه العقائد الثلاثة مشتركةٌ بين جميع الفرق المسيحية، وهنا أرى من الواجب الإشارة إلى هذه العقائد التي كنت أعتقد بها ويعتقد بها كل مسيحيٍّ بشكلٍ مختصرٍ.

 1- التجسيد وكون المسيح ابن الله: إنّ الكنائس المسيحية على اختلافها تؤمن بأنّ المسيح(ع) هو ابن الله بالمعنى الحقيقي لا بالمعنى المجازي، فهم يعتقدون أنّ المسيح لم يخلق بل هو مولودٌ، وليست هذه الولادة جسمانيةٌ إطلاقاً، بل هو نورٌ ترشح من نورٍ، وكما جاء في قانون الإيمان النيقاوي والتي تؤمن به كل الكنائس حيث ينصّ:(أؤمن بإلهٍ واحدٍ، أبٍ ضابطٍ الكل…، وأؤمن بربٍّ واحدٍ يسوع المسيح ابن الله الوحيد، المولود من الأب قبل كل الدهور، إلهٌ من إلهٍ، نورٌ من نورٍ، إله حقٍّ من إله حقٍّ، مولودٌ غير مخلوقٍ، مساوٍ للأب في الجوهر).

وهم يعتقدون بأنّ كلمة الله تجسدت ولبست جسد المسيح، وكلمة الله صفةٌ ثابتةٌ قديمةٌ للذات الإلهية، فهي الله، وهذا يعني -كما يقولون- إنّ الله زار البشرية بالمسيح(ع).

 2- التثليث:إنّ عقيدة الثالوث -التثليث- تعتبر السر الأول في العقيدة المسيحية، وقد تعلمتها منذ نعومة أظفاري، ولا اعتقد أنّ هناك عقيدةً مترسخةً في نفس كل مسيحيٍّ كعقيدة التثليث، ولكن بالرغم من هذا ففهمها مشكلٌ جداً، بل مستحيلٌ.

وتلخيصها:هو أنّ المسيحيين يؤمنون بإلهٍ واحدٍ هو الله، له ثلاثة أقانيم وهي (الأب، الابن، الروح القدس) وهذه الأقانيم متساويةٌ وأزليةٌ، وكذلك يعتقدون أنّ هذه الشخصيات الثلاثة تمثل وتشكل شخص الله، وهذه الشخصيات متميزةٌ الواحدة عن الأخرى، وهذا التثليث في طبيعة الله ليس مؤقتاً، بل أبديٌّ وحقيقيٌّ، وهذه الشخصيات متساويةٌ جميعاً في جوهر الألوهية.

 وفي الحقيقة فإنّ هذه العقيدة مع كونها ظاهرةٌ في مخالفتها للعقل كما يصرح بذلك الكثير من علماء المسيحية أنفسهم، لأنهم يقولون بأنّ 1(ره)1(ره)1=1، وهذا مخالفٌ للعقل، ولكن مع ذلك يعتقدون بأنّ الوحي أي الكتاب المقدس (العهد الجديد) جاء بهذه العقيدة وقد أثبتُّ في كتابي (هبة السماء) بأنّ العهد الجديد الذي بين أيدينا لم يتطرق إلى هذه العقيدة أبداً، فليراجع.

 3- الفداء:وهي أيضاً من العقائد الأساسية في المسيحية، بل يمكن القول بأنها أساس المسيحية، ويمكن تلخيصها وفق نقاطٍ ثلاثٍ مهمةٍ: أ- إنّ أبونا آدم(ع) قد أخطأ منذ الزمن الأول، وقد انتقلت هذه الخطيئة إلى ذريته جميعاً بلا استثناءٍ سوى شخصٍ واحدٍ هو المسيح(ع) لأنه ليس ابن آدم، بل ابن الله، والخطيئة تعني الانفصال والابتعاد عن الله، وتوجب العقاب، ولأنّ الله عادلٌ فيجب أن يلقينا في جهنم، ولأنه رحيمٌ ويحبنا يريد أن يدخلنا إلى الجنة.

 ب- إنّ الله أرسل ابنه الوحيد -حسب المسيحية- المسيح(ع) وصلب ومات بالنيابة عن البشرية، وبصلبه وموته تمت المصالحة بين الله والبشر.

 ج- كل من يعتقد بأنّ المسيح هو الفادي والمخلص للبشرية فقد تطهر من الخطيئة الأصلية التي تكون بها عن طريق آدم(ع).

ولكن يبقى هنا سؤالٌ أساسيٌّ وهو:ما هو مصير الأنبياء(ع) قبل عيسى(ع) والمؤمنون بهم؟ هل تطهروا من الخطيئة أم لا؟ ويجيب المسيحيون على هذا السؤال جواباً أقل ما يقال عنه أنه مخالفٌ للفطرة والعقل وفيه إهانةٌ إلى أنبياء الله كنوح وإبراهيم وموسى وغيرهم(ع)، فيقولون إنّ المسيح(ع) بعد قيامته نزل إلى الجحيم، ليحرر هؤلاء الأنبياء(ع) من جهنم وكل من آمن بهم، فالأنبياء كانوا في جهنم ينتظرون مجيء المسيح لإنقاذهم!!! * يعدّ الإنجيل الكتاب المقدّس بالنسبة للمسيحيين، والقرآن الكريم كذلك بالنسبة للمسلمين، فما هي نظرة كلٍّ من الديانتين اتجاه كتابها وكيفية التعامل معه؟ في الحقيقة إنّ المسيحيين يعتقدون أنّ الكتاب المقدس الذي بين أيدينا الآن، والذي ينقسم إلى عهدين (العهد القديم – العهد الجديد) هو وحيٌ من الله، والعهد القديم نعني به التوراة، والعهد الجديد نعني به الإنجيل، وهم يرفضون رفضاً قاطعاً أنّ الله أوحى إلى عيسى المسيح(ع) كتاباً باسم الإنجيل، والإنجيل معربةٌ عن حكمةٍ يونانيةٍ وتعني البشارة، والعهد الجديد (الإنجيل) الذي بين أيدينا حالياً يتألف من 27 سفراً، وأول أسفاره هي الأناجيل الأربعة:

 1- إنجيل متى.

 2- إنجيل مرقس.

 3- إنجيل لوقا.

 4- إنجيل يوحنا.

 والذي يطالع هذه الأناجيل التي كُتِبَتْ كلها بعد المسيح وفي النصف الثاني من القرن الأول وحتى بداية القرن الثاني الميلادي سيجد فيها اختلافاً كبيراً فيما بينها، عكس القرآن الكريم وهذا يدلّ بوضوحٍ على أنّ هذه الأناجيل هي قصصٌ كتبها هؤلاء لمعرفة قصة المسيح(ع) وحياته بشكلٍ مختصرٍ،ومما يجدر الإشارة إليه أنه في نهاية القرن الأول الميلادي كان هناك ما يناهز المائة وأربعة أناجيل ورسالة، وفي القرن الرابع الميلادي رفضت الكنيسة كل تلك الأناجيل وقبلت هذه الأسفار الـ(27) فقط.

وإني كنت أوصي إخواني المؤمنين دائماً بأنّ الذي يريد أن يذوق حلاوة القرآن ويقف على روعته وجماليته ليقرأ هذه الأناجيل -مع الأمن من التأثر السلبي- أو العهد الجديد والقديم كله، ويلاحظ الفرق الواسع بين الكتابين، ويفهم حقيقة قوله تعالى:{وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً}(2).

* كيف يتم التشريع في المسيحية؟ وما هو تقييمكم له؟ هذا السؤال مهمٌّ لأننا عندما نطالع أقوال عيسى المسيح(ع) في الأناجيل نجد أنّ المسيح أكدّ مراراً على ضرورة الاهتمام بشريعة موسى(ع) وأنه جاء مكملاً لا ناسخاً لها حيث يقول:لا تظنوا أني جئت لأبطل الشريعة وتعاليم الأنبياء(ع)، ما جئت لأبطل بل لأكمل، وهو عملياً التزم بالشريعة الموسوية، فقد اختتن في اليوم الثامن كما ينقل ذلك لوقا في إنجيله، ودفع ضريبة الهيكل، وقدم والده الذي ربّاه (يوسف) الذبيحة للرب حسب الشريعة، وقد أكدّ في تعاليمه على أنه يقبل شريعة موسى(ع) ويوصي تلاميذه أن يتبعوا أقوال معلمي الشريعة الموسوية، ولكنَّا -للأسف- نجد أنّ المسيحيين اليوم تركوا الشريعة الموسوية، بل وحتى المسيحية، وتمسكوا بتعاليم شخصٍ آخر هو بولس الذي لم ير المسيح أبداً، وجاء بشريعة جديدة تسمى اليوم بشريعة المحبة، فالمحبة تمام الشريعة، ولذا نجد أنّ المسيحيين اليوم لا يُختنون ولا يلتزمون بالختان مع أنّ المسيح قد اختتن في اليوم الثامن كما ذكرنا، وهم يأكلون لحم الخنزير المحرم في الشريعة الموسوية وأبطلوا الحدود والديات وأغلب الأحكام التشريعية التي جاء بها موسى(ع) والتي أوصى بحفظها المسيح(ع).

 ولكنَّا نجد من جانبٍ آخر أنّ الكنيسة وفي المجامع الكنسية التي عقدتها من المجمع الأول في مدينة نيقية سنة 325 وإلى مجمع الفاتيكان الثاني سنة  1963-1965 شرَّعَتْ الكثير من القوانين والشرائع لتنظيم أمور المسيحيين والكنيسة، ولكنها تصرّ على رفض شريعة موسى(ع).

 * ما المقارنة بين العقلانية في المسيحية والإسلام؟ يتضح الجواب على هذا السؤال من خلال جواب السؤال الثالث حول أبرز العقائد المسيحية والتي أشرت إليها آنفاً، إذ أن عقيدة التجسيد بالمعنى المسيحي محالٌ عقلاً لأنّ التجسيد هو إمّا حلولٌ وإما اتحادٌ، والحلول بمعنى أنّ الله المطلق يأتي ويحل في موجودٍ محدودٍ، وهذا محالٌ عقلاً، وكذلك الاتحاد بمعنى أنّ موجوداً محدوداً أياً كان يتحد مع الذات الإلهية المطلقة وهو أيضاً محالٌ، وأيضاً عقيدة التثليث هي الأخرى مخالفةٌ للعقل، وقد صرّح بذلك الكثير من علماء المسيحية وإن حاول البعض مثل توما الأكويني وغيرهم توجيهها عقلاً ولكن مخالفتها للعقل واضحةٌ وظاهرةٌ بأدنى تأملٍ، إذ أنّ ذات الله تعالى لا يمكن أن تشكّلها أقانيم ثلاثة متمايزة، إذ أنه يؤدي إلى التركيب، والتركيب يعني الاحتياج، والله تعالى هو الغني المطلق، وأيضاً عقيدة الفداء كما ذكرناها، ولهذا نجد أنّ فلاسفة المسيحية وعلماءها يقولون بأنه يمكن أن تخالف بعض العقائد التي جاء بها الوحي العقل، وأعني بالعقل الضرورة العقلية، فالإيمان بتلك العقائد التي جاء بها الوحي مع مخالفتها للعقل لازمٌ وضروريٌّ.

 * ما هو تقييمكم للمسيحيّة المتبعة في زماننا؟ بعد مطالعتي العميقة للمسيحية وجدت أنّ المسيحية اليوم ليست هي الدين الذي جاء به النبي عيسى(ع)، فعيسى كان يصرح مراراً على أنه رسول الله ونبيه، وأنه ابن الإنسان، وكان يدعو الله صريحاً بإلهي، ولكن مع هذا نجد أنّ المسيحية اليوم تلصق الألوهية بالمسيح عنوةً، وكذلك التثليث نجد في الأناجيل أنّ المسيح لم ينطق بهذه العقيدة ولا مرةً واحدةً أبداً، وما جاء في آخر إنجيل متى يخالف ما ذكره لوقا وقس، ويعتقد الكثير من علماء المسيحية أنّ هذه الفقرة أضيفت إلى إنجيل متى، فالمسيح لم يتحدث ولم يعلم هذه العقيدة أبداً، ولم تُعرَفْ إلاّ نهاية القرن الثاني الميلادي، واعترفت بها الكنيسة رسمياً في مجمع نيقية سنة 325، فهي من نتاج وخيال بعض آباء الكنيسة وليست من تعاليم المسيح(ع).

 وأيضاً عقيدة الفداء التي ذكرناها، فإنّ المسيح(ع) لم يذكرها ولا مرةً واحدةً في تعاليمه كما تذكر ذلك الأناجيل التي بين أيدينا، بل أول من تكلم عنها هو (بولس) في رسائله المذكورة في العهد الجديد، ولذلك أعتقد أنّ تسمية بعض المفكرين المسيحيين للمسيحية اليوم بالبولسية غير مجانبٍ للحق.

 * كيف تحللون تصريح بابا الكاثوليك السادس عشر عن الإسلام في هذا الوقت بالذات؟ ومدى ربطه بما سبقه من افتراءاتٍ، كالتي تعرضت لشخص النبي الخاتم(ص).

 إنّ ما صرّح به البابا كان -بالنسبة إليّ- شخصياً صدمةً، وقد تعجبت كثيراً من تصريحاته حول العقلانية في الإسلام والمسيحية، فهذه العقائد التي ذكرتها وغيرها الكثير والتي تعتقد بها الكنيسة الكاثوليكية التي يتزعمها البابا والكنائس الأخرى كلها تخالف صريحاً العقل، ومع ذلك يدّعي بأنّ تعاليم الإسلام مخالفةٌ للعقل ففيه الكثير من العجب.

 وأعتقد أنّ البابا بتصريحه في هذا الوقت بالذات لا يخرج عن إطار الحملة التي يشنها الغرب في تشويه صورة الإسلام الحقيقية سواءً علم بذلك أم لا، إذ أنّ الغرب اليوم تيقن بأنّ الحاجز الحقيقي في نشر ثقافته الشيطانية والمدمرة في العالم ولاسيما في الشرق الأوسط هو الدين الإسلامي الحنيف، وتعاليمه السمحاء، والتي ترفض الخلاعة والإباحية والظلم، ولذلك يسعى بكل ما أوتي من قوةٍ إلى تشويه الصورة الناصعة لهذا الدين، والبابا نفسه تفطن إلى هذه الحقيقة ولكن بعد فوات الأوان.

* بتصوّركم ما هو مستقبل العلاقة بين المسيح والمسلمين في السنوات القادمة؟ وهل هو آخذٌ في الصعود أو الهبوط؟ أعتقد أنه إذا كانت هناك نوايا حسنة لدى قادة الكنيسة المسيحية في ضرورة رص صفوف المؤمنين على مختلف أديانهم أمام هذا الهجوم الثقافي الإباحي الغربي الذي يقف عدواً لله والدين فيمكن الانطلاق من هذه النقطة للحوار بين الأديان الإلهية وتشكيل جبهةٍ موحدةٍ أمام هذا الخطر الذي يحدق بالعائلة البشرية كلها، وأيضاً إذا فهم هؤلاء القادة ضرورة احترام الأديان الأخرى وعدم المساس بمقدساتها، فأعتقد أنه يمكن أن تكون هناك فرصةٌ كبيرةٌ للحوار والتقارب بين المسيحية والإسلام، ولاسيما أنه في عهد البابا السابق كانت العلاقات بين قادة الكنيسة المسيحية وعلماء الإسلام وديةً وإيحابيةً، وآمل أن تكون هذه التصريحات للبابا كسحابةٍ سوداء تنقشع، وتكون نقطة تحولٍ لقادة الكنيسة في التعامل مع الإسلام بشكلٍ صحيحٍ وعدم الانجرار وراء الخطط الخبيثة للغرب وثقافته، إذ الخاسر الوحيد إذا ما سادت لغة التشويه والتعرض للمقدسات بدلاً من لغة الحوار والتفاهم هو الدين والحقيقة، والرابح الوحيد هم أعداء الله والدين.

 * أخيراً هل لكم كلمةٌ تودون أن تختموا بها حديثكم؟ أتقدم بالشكر الجزيل إلى جميع الإخوة العاملين في هذه المجلة الثقافية الفكرية الجميلة سائلاً الله تعالى أن يوفقنا جميعاً لما يحب ويرضى.

الهوامش والمصادر

  • (1) البقرة: 166.
  • (2) النساء: 82.
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى