ثقافة

دور صلاة الليل في تعيمق المحبة

بسم الله الرحمن الرحيم، اللهم إنّي أحمدك على ما هديتني إلى فضائل نعمك، وأدعوك أن تتواصل أفضل صلواتك على محمّد أشرف رسلك الذي بعثته بأكمل كتبك إلى الثقلين من عبادك، وعلى خلفائه المعصومين الهادين إلى العمل بما يرضيك، واللعن على أعدائهم إلى يوم لقائك.

 إنّ الدخول إلى الأشهر الثلاثة -رجب وشعبان ورمضان- من منن الله تعالى، الموجبة للشكر، لِما أعدّه الله تعالى وأكرم به عباده فيها، وهي أشهر تعين المؤمن في كماله الروحيّ والمعنويّ.

والحديث عن الكمال الروحيّ، حديث في الحقيقة عن الميل الفطري -الذي يجده كل واحد منّا في نفسه- وهو التعلّق بشيء يجذبه إليه، كما يجذب المغناطيس الحديد، والميل للتجاذب والاتصال الوجوديّ والإدراكيّ، ولهذا الميل الذي نعبّر عنه بالحبّ الفطريّ تجليات: كحبّ الأم الذي تغرق في اللذة حين تحتضن طفلها أو تلاعبه أو تراقبه، وكذا الانجذاب للإخوان والأقرباء والجيران وأهل البلد وأهل الدين.

 وهناك انجذاب إلى ما يؤثر في راحتنا كالمال والملبس والمأكل ونحو ذلك. وهناك انجذاب لكل ما هو جميل، وكل جميل يروي ظمأ من جوانب الظمأ الفطريّ الإنسانيّ، فكما يرتوي أصحاب الحس المرهف بالجمال البلاغيّ، فإنّ الحكماء والفلاسفة يجذبهم الجمال العقلاني كروعة التنظيم في هذا الكون، والعرفاء يجذبهم الجمال الوجوديّ عبر الشهود؛ إذ بمقدار السعة الوجودية يتلذذون بأنوار الجمال الإلهيّ، فيشاهدون قربه وارتباطه بمنبع القدرة اللانهائيّ، «يَا غَايَةَ آمَالِ المُحِبِّينَ»(1).

 والكمال الروحيّ، في بعد من أبعاده يعني المحبّة والميل والانجذاب للكمال والجمال المطلق، وهذه السطور تستهدف بيان دور صلاة الليل في تأصيل هذه المحبّة وكمالها، باعتبار أنَّها ميزان المحبّة والوصال، كما ورد فيما رواه المفضّل بن عمر، قال: سمعت مولاي الصادق (عليه السلام) يقول: «كان فيما ناجى الله عزّ وجلّ به موسى بن عمران (عليه السلام) أن قال له: يا بن عمران، كذب من زعم أنّه يحبّني فإذا جنّه الليل نام عني، أليس كل محبّ يحب خلوة حبيبه، ها أنا ذا يا بن عمران مطّلع على أحبائي، إذا جنّهم الليل حولت أبصارهم من قلوبهم، ومثلت عقوبتي بين أعينهم، يخاطبوني عن المشاهدة، ويكلموني عن الحضور.

 يا بن عمران، هب لي من قلبك الخشوع، ومن بدنك الخضوع، ومن عينيك الدموع في ظلم الليل، وادعني فإنّك تجدني قريباً مجيباً»(2).

ويود كاتب السطور أن يُشير إلى أدوار صلاة الليل في الحبّ من خلال لوازمه، وسيشير إلى أربعة لوازم: اللازم الأول: الشوق والأنس في الخلوة مع المحبوب: ولصلاة الليل أدوار مهمّة تجاه شوق العبد وأنسه، ومن هذه الأدوار الآتي: الدور الأول: التعزيزيّ والتأجيجيّ، فمن شأن قيام الليل تعزيز الوصال وتقويته وتأجيجه، قد تقدمت الإشارة في الحديث القدسي، ومثله -مع قيود- ما ورد عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «كان فيما أوحى الله إلى موسى بن عمران  (عليه السلام): يا موسى كذب من زعم أنّه يحبني فإذا جنّه الليل نام.

يا بن عمران لو رأيت الذين يصلّون لي في الدجي، وقد مثلت نفسي بين أعينهم يخاطبوني، وقد جليت عن المشاهدة، ويكلموني وقد عززت عن الحضور»(3).

فإنّ النص يُشير إلى أن المحبّ عاشق، والعاشق يأنس بالخلوة مع الحبيب، ويشتاق إلى تلك الخلوات، فمن قصر في الخلوات وغاب عن الحضور، كان ذلك مؤدياً إلى ضعف المحبّة وذبولها، فالوصال يؤجج الحبّ ويعمّقه.

ومن هذا المعنى تفهم قوله الله تعالى: ﴿كَانُوا قَلِيلاً مِّنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ﴾(4).

 فمن طال هجوعه، وقلّ قيامه كان حبّه ضعيفاً، وقيامه موجب لزيادته وتأجيجه… فالمشاعر تتدفق حين اللقاء، وتتبلور بحسب طبيعة العشق وقوته، وإليك صورة للقائمين، فقد قال تعالى: ﴿تَتَجَافَى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضَاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَطَمَعاً وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ﴾(5).

وعن ابن عباس قال: قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): «من رزق صلاة الليل من عبد أو أمة، قام لله عزّ وجلّ مخلصاً، فتوضأ وضوءًا سابغاً، وصلّى لله عزّ وجلّ بنيّة صادقة، وقلب سليم، وبدن خاشع، وعين دامعة، جعل الله تبارك وتعالى خلفه تسعة صفوف من الملائكة، في كل صف ما لا يحصي عددهم إلا الله تبارك وتعالى، أحد طرفي كلّ صف بالمشرق، والآخر بالمغرب.

 قال: فإذا فرغ كتب له بعددهم درجات»(6).

 وحين نتكلم عن الأنس في الخلوة، فإنّ الأحباب يختارون سكون الليل لهذه الخلوات، ووقت صلاة الليل هو أفضل زمان للقاء المحبوب الأوحد، فعن ابن أبي يعفور، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قلت له: أخبرني جعلت فداك أيّ ساعة يكون العبد أقرب إلى الله، والله منه قريب؟ قال: إذا قام في آخر الليل، والعيون هادئة، فيمشي إلى وضوئه حتى يتوضأ بأسبغ وضوء، ثم يجيء حتى يقوم في مسجده فيوجّه وجهه إلى الله، ويصفّ قدميه، ويرفع صوته ويكبّر وافتتح الصلاة فقرأ أجزاء وصلّى ركعتين وقام ليعيد صلاته، ناداه مناد من عنان السماء عن يمين العرش: أيّها العبد المنادي ربّه إن البر لينشر على رأسك من عنان السماء، والملائكة محيطة بك من لدن قدميك إلى عنان السماء، والله ينادي: عبدي لو تعلم من تناجي إذا ما انفتلت؟ قال: قلت: جعلت فداك يا بن رسول الله ما الانفتال؟ قال: تقول بوجهك وجسدك هكذا، ثم ولّى وجهه، فذلك الانفتال.

 وقال: أبغض الخلق إلى الله جيفة بالليل بطال بالنهار.

وقال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): خياركم أولوا النّهى. قيل: يا رسول الله مَن أولوا النّهى؟ فقال: المتهجدون بالليل والنّاس نيام»(7).

الدور الثاني: التكميليّ، أن الحبيب يتكامل بوصاله مع محبوبه، فالحبّ يصنع المعجزات، ولذا فأهل الليل يرقون بمستوى الوصال الحاصل مع المحبوب في الأزمنة الأخرى، وبعبارة أُخرى فإنّ قيام الليل يرقي بوصال الفرائض إلى مستوى القبول والتأثير، ففي صحيحة زرارة، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إذا ما أدّى الرّجل صلاة واحدة تامّة، قُبلت جميع صلاته، وإن كنّ غير تامّات، وإن أفسدها كلّها لم يقبل منه شيء منها، ولم يحسب له نافلة ولا فريضة، وإنّما تقبل النّافلة بعد قبول الفريضة، وإذا لم يؤد الرّجل الفريضة لم يقبل منه النّافلة، وإنّما جُعلت النّافلة ليتم بها ما يفسد من الفريضة»(8).

 وعن حمران بن أعين، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ الباقر (عليه السلام) في بيان أحوال أمير المؤمنين (عليه السلام) قال: «ولقد صلّى ذات يوم فسقط الرداء عن إحدى منكبيه، فلم يسوّه حتى فرغ من صلاته، فسأله بعض أصحابه عن ذلك، فقال: ويحك، أتدري بين يدي مَن كنت؟ إنّ العبد لا يقبل مِن صلاته إلاّ ما أقبل عليه منها بقلبه.

 فقال الرجل: هلكنا. فقال (عليه السلام): كلا إنّ الله عزّ وجل متمّم ذلك بالنّوافل»(9).

عن العيص بن القاسم، عن أبي عبد الله (عليه السلام) أنّه قال: «والله إنّه ليأتي على الرّجل خمسون سنة وما قَبِل الله منه صلاة واحدة فأيّ شيء أشدّ من هذا، والله إنّكم لتعرفون من جيرانكم وأصحابكم مَن لو كان يصلّي لبعضكم ما قَبِلها منه لاستخفافه بها، إنّ الله عزّ وجلّ لا يقبل إلاّ الحسن فكيف يقبل ما يستخف به».

 للصلاة بشكل عام تأثير خاص ورد في قوله تعالى: ﴿إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاء وَالْمُنكَرِ﴾(10)، ويخطر في البال أنّ صلاة النّوافل، تكمل هذا التأثير الناقص، جراء النّقص في الفرائض، سيّما نافلة صلاة الليل للتنصيص الخاص، فعن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: «عليكم بقيام الليل فإنّه دأب الصالحين قبلكم.

 وأنّ قيام الليل قربة إلى الله، وتكفير السيئات، ومنهاة عن الإثم، ومطردة الداء عن الجسد»(11).

 فنجد تنصيصاً خاصاً في كونها ناهية عن المآثم، ولهذا تأثير كبير في تكامل الإنسان الروحيّ.

اللازم الثاني: المحبّ ذاكر لمحبوبه ولكلّ ما يتعلق بمحبوبه: ولذا المحبّ عاشق للنبيّ وآله وللقرآن، وقيام الليل يُشكل دوراً ذكريّاً للمحبوب، فعن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل وصلّيا كُتبا من ﴿الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَالذَّاكِرَاتِ﴾(12)»(13).

 وأصبح المؤمن بقيامه، مصداقاً لهذه الآية القرآنية. اللازم الثالث: إيثار مراد المحبوب على مراده: المحبّ منشغل برضى المحبوب، لا يهدأ إلاّ إذا لبّى مراداته، ولا يغفل عن عبادته وذكره في كل أحواله.

ولصلاة الليل أدوار في تحقيق مرادات المحبوب، ومن هذه الأدوار الآتي: الدور الأول: الدور الرّعوي، فإنّ لصلاة الليل دوراً في إعانة المؤمن على صيانة أوقات الفرائض عن الاستخفاف والتهاون، عن عبد الله بن سنان، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قلت -وهو سؤال من مجموعة أسئلة-: ولأيّ علّة كان يصلّى صلاة الليل في آخر الليل، ولا يصلّى في أول الليل؟ قال (عليه السلام): لتأكيد الفرائض -إلى أن قال (عليه السلام)- ليسرعوا إلى القيام إلى صلاة الفجر، فلتلك العلّة وجب هذه هكذا»(14).

والحفاظ على الأوقات له أثره في الكمال، فقد ورد في صحيحة أبي بصير قال: سمعت أبا جعفر (عليه السلام) يقول: «كلّ سهو في الصلاة يطرح منها غير أن الله تعالى يتم بالنّوافل، إنّ أوّل ما يحاسب به العبد الصلاة، فإن قُبلت قُبل ما سواها، إنّ الصلاة إذا ارتفعت في أول وقتها رجعت إلى صاحبها وهي بيضاء مشرقة، تقول: حفظتني حفظك الله، وإذا ارتفعت في غير وقتها بغير حدودها، رجعت إلى صاحبها وهي سوداء مظلمة، تقول: ضيّعتني ضيّعك الله»(15).

 “والتقريب في هذه الأخبار أن المراد بهذه المواقيت المأمور بالمحافظة عليها هي الأوقات الأوائل وهي أوقات الفضائل بلا ريب ولا إشكال وهي التي تتصف فيها الصلاة بمزيد الشرف والكمال والقَبول مِن حضرة ذي الجلال، وأنّ الأوقات الأخيرة متى لم يكن التأخير إليها ناشئاً عن عذر من تلك الأعذار المذكورة جملة منها في الأخبار فصاحبها مستوجب لمزيد البعد منه سبحانه، كما دلّت عليه هذه الأخبار، وأنّه داخل تحت المشيئة، بمعنى أنّه ليس ممن يستحق بعمله ذلك الجزاء بالثواب، وما أعده الله تعالى على تلك العبادة من الأجر الذي لا تحيط به الألباب، بل هو من المرجئين لأمر الله، إن شاء عذبه بتقصيره وتأخيره الصلاة عن ذلك الوقت الأول، وإن شاء عفى عن تقصيره بكرمه ورحمته، وهذا ما تضمنه حديث الفقيه المتقدم مِن أنّ «آخر الوقت عفو الله والعفو لا يكون إلا عن ذنب»، ولا جائز أن يحمل هذا الوقت الأخير الذي جعل صاحبه تحت المشيئة على خارج الوقت الذي هو المشهور عندهم، وهو ما بعد غروب الشمس بالنسبة إلى الظهرين مثلاً.

كما ربما يتوهّمه بعض معكوسي الأذهان ومَن ليس من فرسان هذا الميدان، فإنّه لو كان كذلك لم يحكم على صاحبه بأنّه تحت المشيئة، بل يجب الحكم عليه بالفسق، بل الكفر كما دلت عليه الأخبار المتقدمة مِن أنّ “تارك الصلاة عمداً كافر”، فهو مستحق لمزيد النكال والعذاب كما لا يخفى على ذوي الألباب.

ومما يزيد ذلك تأييداً ويعليه تشييداً الأخبار الواردة في وضع الأوقات وإشارة جبرئيل بها على النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) فإنّها إنّما تضمنت أوائل الأوقات خاصّة دون أواخرها، ففي موثّقة معاوية بن وهب عن أبي عبد الله (عليه السلام): «أنّه أتاه حين زالت الشمس فأمره فصلّى الظهر ثم أتاه حين زاد الظل قامة فأمره فصلّى العصر ثم أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلى المغرب ثم أتاه حين سقط الشفق فأمره فصلّى العشاء ثم أتاه حين طلوع الفجر فأمره فصلى الصبح ثم أتاه من الغد حين زاد في الظل قامة فأمره فصلّى الظهر ثم أتاه حين زاد من الظل قامتان فأمره فصلّى العصر ثم أتاه حين غربت الشمس فأمره فصلّى المغرب ثم أتاه حين ذهب ثلث الليل فأمره فصلّى العشاء ثم أتاه حين نوّر الصبح فأمره فصلّى الصبح ثم قال ما بينهما وقت»، ونحو هذه الرواية غيرها أيضاً، والظاهر أنّ وضع هذه الأوقات في أول الأمر للمكلّفين ثم حصلت الرخصة لذوي الأعذار والاضطرار بالوقت الثاني بعد ذلك كما سيأتي بيانه إن شاء الله تعالى، وبذلك يجمع بين هذه الأخبار وبين الأخبار الدالة على الوقتين، بحمل ما دل على الثاني على ذوي الأعذار والاضطرار وتخرج الأخبار المتقدمة شاهداً على ذلك”(16).

 الدور الثاني: الدور التحريريّ، وأعني به التحرر من الوسادة، ومن تسويلات الشيطان، عن محمّد بن مسلم، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «إنّ لليل شيطاناً يقال له الزهاء، فإذا استيقظ العبد وأراد القيام إلى الصلاة قال له: ليست ساعتك، ثم يستيقظ مرة أخرى فيقول: لم يأن لك، فما يزال كذلك يزيله ويحبسه حتى يطلع الفجر، فإذا طلع الفجر بال في أذنه ثم انصاع يمصع بذنبه فخراً ويصيح»(17).

 بيان: قال الفيروزآبادي: “انصاع انفتل راجعاً مسرعاً”، وقال: “مَصَعَت الدابّة بذنبها حركته وضربت به”.

 فمَن تَمَكّن من صلاة الليل، لم يكن ممن يسقط في جبهة الصراع مع الزهاء… الشيطان.

والقائم إلى الليل متحرر بحبّه الذي قاده إلى رضوان الله تعالى، ودفعه عن ترك محبوبات نفسه إلى محبوبات ربّه… إنّ البعض قد لا يجد القيام من الفراش صعباً، لأنّه يعيش ساسة السهر، ولكنّ الوضع العام هو أنّ القيام من الفراش أمر شديد، يتطلّب مقاومة لسلطان النّوم وشهوته، سيّما إذا كان الجسد مرهقاً من تعب العمل، فالقيام من الفراش تحرر.

 فعن النبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: «إذا قام العبد من لذيذ مضجعه، والنّعاس في عينيه، ليرضى ربّه عزّ وجلَّ بصلاة ليله، باهى الله به ملائكته، فقال: أما ترون عبدي هذا، قد قام من لذيذ مضجعه إلى صلاة لم أفرضها عليه، اشهدوا أنّي قد غفرت له»(18).

وفي هذا النّهوض بناء قويّ للنّفس، ولهذا التحرر دور كبير في ثبات الإنسان على الخير والحق، ففي صحيحة هشام بن سالم، عن أبي عبد الله  (عليه السلام)«في قوله  (عزَّ وجلَّ): ﴿إِنَّ نَاشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئًا وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾(19).

 قال: (يعني بقوله: ﴿وَأَقْوَمُ قِيلاً﴾: قيام الرّجل عن فراشه يريد به الله عزّ وجلّ، لا يريد به غيره»(20).

 وفي معنى الأشديّة وجوه، منها: “أشدّ ثبات قدم، وأبعد من الزلل.

أو أثقل وأشدّ على المصلي من صلاة النّهار”(21)، فصلاة الليل تبني إرادة في مواجهة الشهوة، وتزيد من صبر الإنسان على التحمّل، وكم هي حاجة المؤمن والمؤمنة لمثل هذا الزاد المعين على مشكل الحياة الأسريّة، أو على مسيرة الحياة السياسيّة الصعبة وغير ذلك.

 صلاة الليل تعين على الثبات في الحق  عن أبيه، عن آبائه (عليهم السلام) قال: «قال رسول الله (صلَّى الله عليه وآله): إنّ الله جلّ جلاله أوحى إلى الدنيا أن أتعبي مَن خدمك، واخدمي من رفضك، وإنّ العبد إذا تخلّى بسيده في جوف الليل المظلم وناجاه، أثبت الله النّور في قلبه، فإذا قال يا رب يا رب، ناداه الجليل جلّ جلاله: لبيك عبدي، سلني أعطك، وتوكّل عليّ أكفك، ثم يقول جلّ جلاله لملائكته: يا ملائكتي انظروا إلى عبدي، فقد تخلّى بي في جوف هذا الليل المظلم، والبطالون لاهون، والغافلون نيام، اشهدوا أنّي قد غفرت له»(22).

ويخطر في بالي شمول التثبيت على الحكمة وإجراء الصواب في أقواله وأفعاله، باعتبار أن التحرر من الوسادة نوع من أنواع الزهد، وقد ورد عن ابن واقد الحريري، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «مَن زهد في الدنيا أثبت الله الحكمة في قلبه، وأنطق بها لسانه، وبصّره عيوب الدنيا داءها ودواءها، وأخرجه من الدنيا سالماً إلى دار السلام»(23).

الدور الثالث: الخروج من دائرة المضيعين لسنّة النبيّ (صلَّى الله عليه وآله)، فعن عبد الله بن سنان قال: قلت لأبي عبد الله (عليه السلام): «رجل عليه من صلاة النّوافل ما لا يدري ما هو من كثرته كيف يصنع؟ قال: فليصلّ حتى لا يدري كم صلّى من كثرته فيكون قد قضى بقدر علمه، قلت: فإنّه لا يقدر على القضاء من كثرة شغله؟ فقال: إن كان شغله فطلب معيشة لابد منها أو حاجة لأخ مؤمن فلا شيء عليه وإن كان شغله لدنيا تشاغل بها عن الصلاة فعليه القضاء وإلا لقي الله مستخفاً متهاونا مضيعاً لسنّة رسول الله (صلَّى الله عليه وآله) قلت: فإنّه لا يقدر على القضاء فهل يصلح له أن يتصدق؟ فسكت ملياً ثم قال: نعم فليتصدق بصدقة، قلت: وما يتصدق؟ فقال: بقدر طوله وأدنى ذلك مُدّ لكلّ مسكين مكان كل صلاة، قلت: وكم الصلاة التي تجب عليه فيها مُدّ لكل مسكين؟ فقال: لكل ركعتين من صلاة الليل وكل ركعتين من صلاة النّهار.

فقلت: لا يقدر، فقال: مُدّ لكل أربع ركعات، فقلت: لا يقدر، فقال: مُدّ لكلّ صلاة الليل ومُدّ لصلاة النّهار والصلاة أفضل والصلاة أفضل»(24).

 اللازم الرابع: الشعور بالظمأ وقلق انقطاع الوِصال: فهناك حاجات يراد أن تروى بالخلوة مع المحبوب، وهذه الحاجات تحققها صلاة الليل من خلال أدوارها في هذا الجانب، ومن هذه الأدوار: الدور الأول: الدور التطهيريّ، فعن زرارة، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «صلاة الليل كفّارة لما اجترح بالنّهار»(25). وعن إبراهيم الكرخي، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «قال الله في كتابه: ﴿إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّـيِّئَاتِ﴾(26).

 قال: قال: صلاة الليل تذهب بذنوب النّهار، وقال: تذهب بما جرحتم»(27).

 الدور الثاني: الدور اللطفي: صلاة الليل موجبة لعدد من الألطاف، فعن عليّ بن محمّد النوفليّ قال: سمعته يقول: «إنّ العبد لَيقوم في الليل فيميل به النّعاس يميناً وشمالاً، وقد وقع ذقنه على صدره، فيأمر الله تبارك وتعالى أبواب السماء فتفتح، ثم يقول لملائكته: انظروا إلى عبدي ما يصيبه في التّقرب إليّ بما لم أفترض عليه، راجياً منّي لثلاث خصال: ذنباً أغفره، أو توبة أجدّدها، أو رزقاً أزيده فيه، أشهدوا ملائكتي أني قد جمعتهن له»(28). والمغفرة تعني “تغطية الذنب بإيجاب المثوبة”(29).

أو قل: المغفرة: أن الله تعالى بعد أن يسقط عن عبده عذابه، “يستر عليه بعد ذلك جرمه صوناً له عن عذاب الخزي والفضيحة، فإنّ الخلاص من عذاب النّار إنّما يطلب إذا حصل عقيبه الخلاص من عذاب الفضيحة”(30)، ولذا فرق بين العفو والمغفرة، أنّ “العفو إسقاط العذاب الجسمانيّ.

والمغفرة: إسقاط العذاب الروحانيّ، والتجاوز يعمهما”(31).

فصلاة الليل من موجبات إسقاط العذاب الروحانيّ.

 الدور الثالث: الدور الإروائيّ، فإنّ الوِصال مع الحبيب يعيد الهدوء والسكينة والطمأنينة للحبيب، عن زين العابدين (عليه السلام) في مناجاة المفتقرين: «وغلتي لا يبردها إلاّ وصلك، ولوعتي -أي: حرقتي- لا يطفيها إلاّ لقاؤك، وشوقي لا يبلّه -أي: يشفيه- إلاّ النّظر إلى وجهك»(32).

ويقول زين العابدين (عليه السلام) في مناجاة المحبين: «إلهي مَن ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام –أي: طلب- منك بدلاً، ومَن ذا الذي أنس بقربك فابتغى عنك حولاً -أي: انتقالاً-»(33).

هذه اللذة وردت في الأخبار، والنّاظر في الأخبار يجد ربط قيام الليل باللذة الشهويّة -جنس وأكل- واللذة الاجتماعية بلقاء الإخوان، وأذكر نموذجين: عن زرارة بن أعين، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لهو المؤمن في ثلاثة أشياء: التمتّع بالنّساء، ومفاكهة الإخوان، والصلاة بالليل»(34).

 “بيان: المفاكهة الممازحة، وعدّ صلاة الليل من جملة اللهو والفرحات وجعلها مع ما مر في قرن، لبيان أنّه ينبغي للمؤمن أن يكون متلذذاً بمناجاة ربه، والخلوة مع حبيبه، فرحاً بهما، بل فيه تنبيه إلى أنّه ليس المؤمن على الحقيقة إلا من كان كذلك”(35).

وعن بحر السقاء، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «إنّ مِن رَوح الله عزّ وجلّ ثلاثة: التهجد بالليل، وإفطار الصائم، ولقاء الإخوان»(36).

“بيان: (مِن رَوح الله): الرَّوح -بالفتح- الراحة، والرَّحمة، ونسيم الرِّيح أي راحة جعلها الله للمؤمن يتروّح إليها لأنّه يستريح من معاشرة المخالفين بلقاء الإخوان في الدّين، ومن أشغال اليوم إلى عبادة الليل، والإفطار ظاهراً، وهذه الثلاثة من رحمة الله بالعبد وتفضله ولطفه وحسن توفيقه، أو أنّها تصير سبباً لرحمته تعالى والدعاء عندها مستجاب، أو عندها تهب نسائم لطفه وفيضه ورحمته على المؤمن والأول أظهر”(37).

 طبعاً عملية ارتواء العاشقين يتفاوت بحسب طبيعة الحبّ والعشق، فكان زين العابدين (عليه السلام) يقول حين يقوم للصلاة أول الليل وآخره: «متى راحة من نصب لغيرك بدنه!؟ ومتى فرح من قصد سواك بنيّته (بهمّته)!؟ إلهي قد تقشّع الظلام –أي: تصدّع وانكشف- ولم أقض من خدمتك وطراً، ولا من حياض مناجاتك صدراً، صلِّ على محمّد وآله، وافعل بي أولى الأمرين بك يا أرحم الراحمين»(38). الدور الرابع: الدور التكاملي، بمعنى الترقّي بالعبد لمديات القرب المعنوي، باعتبار أنّ صلاة الليل من النّوافل، والنّوافل من الأعمال التي يُقصد بها القرب من رحمة الله تعالى، فعن موسى بن بكر، عن أبي الحس -موسى بن جعفر- (عليه السلام) قال: «صلاة النّوافل قربان إلى الله لكل مؤمن»(39).

 وعن أبي بصير، عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال: «كان فيما وعظ الله عزّ وجلّ به عيسى بن مريم (عليه السلام): يا عيسى، أنزلني من نفسك كهمّك، واجعل ذكري لمعادك، وتقرّب إليّ بالنّوافل، وتوكّل عليّ أكفك، ولا تولّ غيري فأخذلك»(40).

 وحالة القرب هذه موجبة لمحبّة الله تعالى، لأنّه يكشف عن ثبات العبد في مقام الامتثال، وحبّه لخالقه، عن أبان بن تغلب، عن أبي جعفر (عليه السلام) قال: «لما أسري بالنبيّ (صلَّى الله عليه وآله) قال: –إلى أن قال:- وما يتقرّب إلي عبد من عبادي بشيء أحبّ إليَّ مما افترضت عليه، وإنّه ليتقرب إليّ بالنّوافل حتى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يُبصر به، ولسانه الذي ينطق به، ويده التي يبطش بها، إن دعاني أجبته، وإن سألني أعطيته»(41).

وإذا أحبّ الله تعالى عبده، أذاقه حلاوة ذلك الحبّ، وعندها يصل المؤمن إلى كماله، «إلهي مَن ذا الذي ذاق حلاوة محبّتك فرام منك بدلاً»(42).

وقال الشيخ المجلسيّ (قدِّس سرُّه) في تعليقه على هذا الخبر: “هذا الخبر يحتمل وجوها: (الأول): إنّه لكثرة تخلّقه بأخلاق ربّه، ووفور حبّه لجناب قدسه، تخلّى عن شهوته وإرادته، ولا ينظر -إلا- إلى ما يحبّه سبحانه، ولا يبطش إلا إلى ما يوصله إلى قربه تعالى وهكذا.

(الثاني): أن يكون المراد أنّه تعالى أحبّ إليه مِن سمعه وبصره ولسانه ويده ويبذل هذه الأعضاء الشريفة فيما يوجب رضاه، فالمراد بكونه سمعه أنّه في حبّه وإكرامه بمنـزلة سمعه بل أعزّ منه، لأنّه يبذل سمعه في رضاه وكذا الباقي.

 (الثالث): أن يكون المعنى: كنت نور سمعه وبصره، وقوّة يده ورجله ولسانه.

والحاصل أنّه لما استعمل نور بصره فيما يرضى ربّه، أعطاه بمقتضى وعده سبحانه {لَئِن شَكَرْتُمْ لأَزِيدَنَّكُمْ} نوراً مِن أنواره به يميّز بين الحق والباطل، وبه يعرف المؤمن والمنافق، كما قال الله تعالى: ﴿إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِّلْمُتَوَسِّمِينَ﴾(43)، وقال (صلَّى الله عليه وآله): «المؤمن ينظر بنور الله»(44).

وكذا لما بذل قوّته في طاعته، أعطاه قوّة فوق طاقة البشر، كما قال مولانا الأطهر: «ما قلعت باب خيبر بقوّة جسمانيّة بل بقوة ربانية»(45) وفيه: (لكن بقوّة إلهيّة) بدل المذكور هنا: (بل بقوة ربانيّة)، وهكذا.

(الرابع): أنّه لما خرج عن سلطان الهوى، وآثر على جميع مراداته وشهواته رضا المولى، صار الرّب تبارك وتعالى متصرّفاً في نفسه وبدنه، مدبراً لقلبه وعقله وجوارحه، فبه يسمع وبه يبصر وبه ينطق وبه يمشي وبه يبطش، كما ورد في تأويل قوله تعالى: ﴿وَمَا تَشَاؤُونَ إِلاَّ أَن يَشَاءَ اللَّهُ﴾(46)، وهذا معنى دقيق لا يفهمه إلا العارفون، وليس المراد به المعنى الذي باح به المبتدعون، فإنّه الكفر الصريح والشرك القبيح”(47).

الهوامش والمصادر

  • (1) مصباح المتعبد للطوسي: 847.
  • (2) الأمالي للصدوق: 438 ح577.
  • (3) عدة الداعي لابن فهد: 193.
  • (4) الذاريات: 17-18.
  • (5) السجدة: 16.
  • (6) الأمالي للصدوق: 124 ح114.
  • (7) بحار الأنوار للمجلسي: 84 / 158 ح46.
  • (8) الكافي للكليني: 3 / 269 ح11.
  • (9) الخصال للصدوق: 517 ح4.
  • (10) العنكبوت: 45.
  • (11) الدعوات للراوندي: 76 ح183.
  • (12) الأحزاب: 35.
  • (13) تفسير مجمع البيان للطبرسي: 8 / 159.
  • (14) علل الشرائع للصدوق: 2 / 328 ح3.
  • (15) الكافي للكليني: 3 / 268 ح4.
  • (16) الحدائق الناضرة للبحراني: 6 / 93.
  • (17) المحاسن للبرقي: 1 / 86 ح25.
  • (18) أعلام الدين في صفات المؤمنين للديلمي: 262.
  • (19) المزمل: 6.
  • (20) تهذيب الأحكام للطوسي: 2 / 326 ح1385.
  • (21) جوامع الجوامع للطبرسي: 3 / 665.
  • (22) الأمالي للصدوق: 353 ح432.
  • (23) الكافي للكليني: 2 / 128 ح1.
  • (24) الكافي للكليني: 3 / 453 ح13.
  • (25) الأصول الستة عشر لعدة محدثين: 112.
  • (26) هود: 114.
  • (27) تفسير العياشي للعياشي: 2 / 162 ح75.
  • (28) تهذيب الأحكام للطوسي: 2 / 121 ح460.
  • (29) التبيان للطوسي: 2 / 169.
  • (30) الفروق اللغوية لأبي هلال: 263 رقم: 1459.
  • (31) الفروق اللغوية لأبي هلال: 263 رقم: 1459.
  • (32) الصحيفة السجاديّة لزين العابدين (عليه السلام): ص416.
  • (33) الصحيفة السجادية لزين العابدين (عليه السلام): ص413.
  • (34) الخصال للصدوق: 161 ح210.
  • (35) بحار الأنوار للمجلسي: 84 / 142
  • (36) من لا يحضره الفقيه للصدوق: 1 / 472 ح1361.
  • (37) بحار الأنوار للمجلسي: 84 / 143.
  • (38) الصحيفة السجادية لزين العابدين (عليه السلام):165.
  • (39) ثواب الأعمال للصدوق: 29.
  • (40) الأمالي للصدوق: 606 ح841.
  • (41) الكافي للكليني: 2 / 352 ح8.
  • (42) الصحيفة السجادية لزين العابدين (عليه السلام) :413.
  • (43) الحجر: 75.
  • (44) المحاسن للبرقي: 1 / 131 ح1.
  • (45) الطرائف في معرفة مذاهب وطوائف لابن طاووس: 519.
  • (46) الإنسان: 30.
  • (47) بحار الأنوار للمجلسي: 84 / 31.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى