ثقافة

دروس في الأخلاق السياسية في الإسلام (الحلقة الثانية)

نفتتح هذه الحلقة بالإشارة إلى مبحث المذاهب الأخلاقيّة؛ لتتبيّن بعض الفروقات العامّة بين المذاهب البشريّة ومذهب خالق البشريّة (سبحانه وتعالى)، وهو المذهب الّذي يجب علينا استقاء أخلاقيّاتنا السياسيّة منه؛ لتحقيق سعادتنا الدنيويّة والأخرويّة في مجال الاجتماع والسياسة.

 المذاهب الأخلاقيّة: وإنّ ممّا لا شكّ فيه أنّ العالم المُعاصر يعيش أزماتٍ أخلاقيّةً حادّةً في كلّ الأبعاد، في علاقة الإنسان بربّه، أو بذاته، أو بالآخرين، وقد تعدّدت المذاهب، وتشعّبت الحلول؛ لمعالجة هذه الأزمات المعقّدة، ويوجد في علم الأخلاق مذاهب ومدارس كثيرةٌ، انحرف أكثرها، وآلَ بها الأمر إلى مُخالفة الأخلاق، وسوف أستعرضها بشكلٍ مُختصرٍ؛ لنعرف بعدها الفارق بينها وبين المذهب الأخلاقيّ الّذي بُعث به نبيّنا الكريم، محمّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله)، والّذي قد جعله محور بعثته بقوله (صلَّى الله عليه وآله): «إِنّما بُعِثْتُ لأُتمم مَكَارِمَ الأَخْلاق»(1).

طبعاً سوف يكون الحديث حول المذاهب الأخلاقيّة بشكلٍ عامٍّ، لكن يمكن النظر إليها من الزاوية الاجتماعيّة والسياسيّة أيضاً، وحريٌّ أن ألفت النظر إلى أنّ المراد من مُصطلح (المذهب) هو الطّريقة المُتّبعة، ولذا فنحن سوف نُشير إلى الطرائق الأخلاقيّة المتّبعة عند المجتمعات البشريّة، ولن أبين نقاط الخلل في هذه المذاهب، فعرضها كافٍ لبيان خللها، كما أنّ البحث فيما لا ثمرة عمليّة فيه سيطول جدّاً، ممّا قد يوجب الملل والسأم، ولذا سوف أجتنبه: المذهب الأوّل: المذهب المادّيّ: وهو المذهب الّذي يرى الأشياء كلّها بمنظار المادّة دون أن يكون للإيمان بالله والمسائل الروحية دخلاً في رؤيته، وهذا المذهب المادّيّ ليس واحداً، بل فيه مدارس مُتعدّدةٌ، وتعدّدتْ بسبب اختلاف النظرة إلى المادّة، ويُمكن تقسيم هذا المذهب المادّيّ إلى المدارس التالية: المدرسة الأولى: مدرسة المذهب المادّيّ التاريخيّ: – مذهب الشيوعيّين-، وهي المدرسة الّتي تذهب إلى القول بأصالة الاقتصاد، أي تعتبر الاقتصاد أساساً يُحدّدُ كلَّ شيءٍ في الوجود، والأخلاق في هذه المدرسة – وفقاً للأصل الّذي تتبناه- هي: كلّما يؤدّي إلى تقوية الاقتصاد الشّيوعيّ، أو قل: كلّما يُعجّل بالثورة الشيوعيّة، فتكون الثورة هي المعيار الأخلاقيّ، فالكذب يكون أمراً أخلاقيّاً حين يُسرّع بالثورة، بينما يكون الصدق أمراً غير أخلاقيٍّ إذا أضرّ بالثّورة.

 المدرسة الثانية: مدرسة المذهب المادّيّ العمليّ (البرجماتيّ): ويُسمّى أيضاً بـ(مذهب الذرائع): وهي المدرسة الّتي تذهب إلى القول بأصالة العمل (براجماتيسم)(2).

 ولا تعتبر أيّ قضيّةٍ حقيقيّةً إلاّ إذا كانت ذا فائدةٍ عمليةٍّ، فالمصدر الوحيد للحكم، والمقياس الّذي يفصل بين الحقّ والباطل، والّذي يفصل بين حقّانيّة القضايا وأصدقيّتها إذا ما تضاربت الآراء، واختلفت الأنظار في هذه المدرسة، فهو أنفع هذه الأشياء – أو القضايا -، وما كانت له نتائج عمليّةٌ في حياتنا العمليّة، فتجعل هدف الحياة مُنحصراً فيما كانت في الشيء منفعةٌ عمليّةٌ مادّيّةٌ، وتستخفّ في الوقت نفسه بالقيم المعنويّة، والأخلاق في هذه المدرسة – وفقاً لهذا الأصل الّذي تذهب إليه – فهي: الصّفات والأفعال الّتي تمهّد طريق الوصول إلى المنفعة العمليّة.

طبعاً، هذا المذهب وإن كان مرفوضاً عند أبناء المدرسة التوحيديّة، إلاّ أنّ الكثير منهم يمارسه عمليّاً، فالكثيرون يتبنّون المعتقدات والمواقف الّتي تُعينهم على تحقيق مصالحهم ومنافعهم الخاصّة، فيكون واقعهم هو الّذي يوجّه أفكارهم، وليس العكس، أي: ليست أفكارهم هي الّتي توجّه واقعهم، أو أخلاقيّاتهم، أو ممارساتهم، وربما قوله في سورة الإسراء: {وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إلى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَكانَ الإِنْسانُ كَفُوراً}(3) – ربما هذه الآية- تُشير إلى المسألة الّتي نذكرها، فهي تُلفت النظر إلى أنّ سلوكيّات الإنسان تتحرّك وفق الظروف الّتي يعيشها، فحين تنزل به بليّةٌ – أو مُصيبةٌ – ولا يجد أحداً ينجيه، يتوجّه لربّه، وخالقه، ويطمئنّ بما في جيبه وحسابه البنكيّ أكثر ممّا في السماء، فحاجته وظروفه هي الّتي تُذكّره بربّه، أمّا إذا لم تكن هناك ظروفٌ ضاغطةٌ، ولم تكن هناك حاجةٌ ماسّةٌ، فسوف ينسى الخالق المنعم المُتفضّل؛ هذا كلّه لأنّه انساق مع الظروف الّتي تكون فيها الهيمنة لأهوائه، وشهواته، وغفلته، طبعاً هذه الهيمنة للأهواء باختياره، أو بضغوطاتٍ خارجيّةٍ.

المدرسة الثالثة: مدرسة المذهب المادّيّ الفرديّ: (مذهب الرأسماليّين)، وهي المدرسة الّتي تذهب إلى القول بأصالة الفرد، وقد يُطلق عليها مدرسة مذهب الديمقراطيّة المُطلقة الّتي تُشجّع الفرديّة إلى أبعد الحدود، وتجعل الفرد مصدر الحكم على تصرّفاته، فللفرد اقتناء أيّ شيءٍ كان، وأن يعيش في ظلّ عرف المجتمع وعاداته، وله أن يخرج عن هذا العرف وعاداته، شرعيّاً كان هذا العرف أو اجتماعيّاً، بلا فرقٍ بين ما إذا كانت تؤدّي أفعاله – وقناعاته – إلى افتقار غيره أو لا، أو جرح مشاعر غيره أو لا، وقس على ذلك، فإذا جئنا إلى تملّك مصادر الإنتاج ووسائله مثلاً، فإنّنا نجد أنّ الرأسماليّة تتيح إلى الفرد – باعتباره صاحب رأس المال- أن يأخذ الفوائد الماليّة عند منح القروض للآخرين، ولذلك تجد هناك أزماتٍ أخلاقيّةً حادّةً، فبسبب ذلك يتحكّم فردٌ – أو جماعةٌ محدودةٌ – في طبقات المجتمع الواسعة، وتستغلّ مواردهم وطاقاتهم لمصالحها، لدرجة أنّ هذه الرأسماليّة قد استخدمت الدولة درعاً لحماية فردٍ – أو أكثر – من أصحاب الملايين، وتركت الآلاف يعيشون الكدح والفقر، ولذا تجد قوانين هذا البلد – فضلاً عن غيره- تُصاغ لمصلحة فردٍ، أو أكثر، والشعوب في العالم تتطلّع للديمقراطيّة لا لإيمانها بها، ولا لكونها الوسيلة المُحقّقة للسعادة، ولو كانت كذلك لحقّقت السعادة لشعوبها، ولما كانت هناك فئةٌ محدودةٌ هي الّتي تنتفع على حساب الملايين من الناس، وإنمّا لكون الشعوب في بلدانها الإسلاميّة تعيش الظلم، والقهر، والجور، فهي تبحث عن مخرجٍ يُخفّف من هذا الظلم والجور.

أليست هذه الديمقراطيّة – الّتي يُراد تبشيرها في العالم – هي الّتي تخدم فئةً محدودةً؛ لتسلب – ظلماً، وعدواناً – حقوق الملايين في العالم، وتُسخّر قوانين الأنظمة، والدول، وقوانين الأمم المتّحدة – وغيرها – من أجل مصالحها؟! ألم تتبنَّ دولنا العربيّة ديمقراطيّاتٍ تُبيح لها سرقة الشعوب، وقتلها بخيوطٍ حريريّةٍ؟! فالخلاصة: أنّه طالما كانت الحرّيّة الشخصيّة – والمصالح الفرديّة – هي مدار حقّانيّة الأشياء وصدقها، فسوف تسود الأنانيّة، والاحتكار، وحبّ الذات، وغيرها من الأخلاقيّات المريضة الّتي جرّتها ثقافة الرأسماليّة، والأخلاق – بناءً على النظرة الّتي تتبناها هذه المدرسة – هي: الّتي توصل وتنسجم مع منافع الفرد الشّخصية.

 المذهب الثاني: المذهب الاجتماعيّ: مذهب الاشتراكيّين، وهو المذهب الّذي يذهب إلى القول بأصالة المجتمع (الجماعة)، وليس للفرد – كما يذهب إليه المذهب الرأسمالي -، والأخلاق في هذا المذهب، هي: تلك الأفعال الّتي يعود نفعها على الغير.

 وأمّا إن عاد نفعها على الذات فهي أفعالٌ غير أخلاقيّةٍ، وعلى هذا الأساس تُكبتُ حُرّيّة الفرد، وتُصادر أملاكه، ويُجبر على تصرّفه لصالح الجماعة، فهم يفنون الفرد من أجل مصلحة الجماعة.

المذهب الثالث: المذهب الفلسفيّ: وفيه مدرستان -إن صحّ التعبير-: المدرسة الأولى: مدرسة مذهب الفلاسفة العقليّين: وهي المدرسة الّتي تذهب إلى القول بأصالة العقل، والأخلاق – بناءً على هذا الأصل – هي عبارةٌ عن: الصّفات ـ والأعمال ـ الّتي تساعد الإنسان على تحكيم عقله، وتُمكّنه من السيطرة على شهواته، ونزعاته، وأهوائه النفسانيّة في حركة الحياة.

 وهذا بحاجةٍ لدراسة تأثير السلوكيّات في واقع الفرد والمجتمع؛ لتتميّز السلوكيّات الحسنة من غيرها، وهو يحصل بالبحث والاستدلال.

المدرسة الثانية: مدرسة مذهب الفلاسفة الوجدانيّين: وهي المدرسة الّتي تذهب إلى القول بأصالة الوجدان لا العقل، والأخلاق – بناء على هذا الأصل – هي عبارةٌ عن: تلك الأمور الّتي يُدركها الوجدان بلا حاجةٍ إلى برهانٍ.

 ككون العدل، والإيثار، والشجاعة أموراً حسنةً، وككون الظلم، والأنانيّة، والجبن أُموراً قبيحةً، وهذه الأمور ممّا يُشخّصها الوجدان، ويُعطي حكماً بشأنها، بلا حاجةٍ إلى إقامة الأدلّة والبراهين.

 طبعاً، هذه المدرسة لا تنكر بأنَّ الوجدان عاجزٌ عن إدراك بعض الأمور، ولذا فإنّها تستعين بالشّريعة للتمييز بين الأمور الأخلاقيّة عن غيرها.

ومن خلال استعراض هذه المذاهب والمدارس تبيّن لنا الاختلاف ـ والتضارب ـ فيما بينها، الأمر الّذي يُوصلنا لحقيقة محدوديّة العقل البشريّ في إدراك الحقائق الواقعيّة، وضرورة الاستناد لعقلٍ كاملٍ يكفي البشريّة من التجارب المدمّرة والقاتلة، وليس هناك من عقلٍ كاملٍ إلاّ الشارع المقدّس؛ فهو سيّد العقلاء؛ لأنّه الوحي المُنزل من خالق العقل (سبحانه وتعالى)، والعقل البشريّ مهما توصّل إليه، فسوف يسلك الطريق الملائم – والنافع – بمنظار اللذائذ، والمنافع الآنيّة المؤقّتة، الّتي سوف يُنهيها الموت، وإذا تبيّن ما بعد الموت وجود منافع أبديّة، فما قيمة الفانية حينها؟! ولذا فليس أمامنا إلاّ خيار المذهب التوحيديّ، هذا المذهب الّذي صاغته يد الصانع الحكيم، يد الّذي لا تنفعه طاعة من أطاعه، ولا تضرّه معصية من عصاه، يد الّذي خلق الإنسان لسعادته في الدنيا والآخرة، ودولة بقيّة الله الأعظم (روحي لتراب مقدمه الفداء) ستكون النموذج الإلهيّ المُحقّق للسعادتين؛ الدنيويّة، والأخرويّة، حين تعجز كلّ الأطروحات الأرضيّة في معالجة الأزمات الأخلاقيّة المتنوّعة الأبعاد.

المذهب الرابع: المذهب التوحيديّ: وهو المذهب الّذي يذهب إلى القول بأنّ العالم عبارةٌ عن وحدةٍ مُتماسكةٍ، قطب دائرتها واجب الوجود سبحانه، فهو الّذي خلق الإنسان؛ ليقترب منه، وسيُميته؛ ليعود إليه، فيجازيه، والأخلاق – بناءً على هذا الأصل – هي: الصفات ـ والأفعال ـ الّتي تساعد الإنسان في سيره إلى الله.

 فإذا تحلَّى بها استطاع القرب من الله أكثر فأكثر، وسيكون لقربه الأثر الكبير في إنقاذه – وإنقاذ المجتمع البشري من حوله -، فبالقرب تزول عناصر الشرِّ – وقوى الانحراف – في الفرد، والمجتمع، وعندها تسود العدالة، ويعمّ الأمن، وينتشر الرخاء.

 وهذا المذهب هو الّذي بُعث به الأنبياء، وآخرهم نبيّنا محمّد بن عبد الله (صلَّى الله عليه وآله)، وهو المذهب الوحيد الموجب لسعادة الإنسان، المذهب الوحيد لأنّه يتعذّر – أو يتعسّر- على الإنسان التمييز بين محاسن صفاته عن مساويها من دون الرجوع إلى ما أوحاه الله، مودِع الطبائع والسجايا إلى أنبيائه (عليهم السلام)، فبالشرع وحده يعرف طريق كمال النفوس، وما هو جمالها، وجلالها، وما يكون موصلاً إليه (سبحانه وتعالى)، فهو سبحانه العالم، الحكيم، وما عداه فهو قاصرٌ، ناقصٌ، وكيف يوصل إلى الكمال من كان مُحتاجاً إليه؟! ما هي خصائص الأخلاق في الإسلام؟ الحديث حول الأخلاق السياسيّة في الإسلام ليس موجّهاً للسياسيّين فقط، بل هو حديثٌ شاملٌ؛ لأنَّ التخصيص بالسياسة بُعدٌ تطبيقيٌّ فقط على حالةٍ خاصّةٍ؛ لتكون أقرب للفهم لشريحةٍ واسعةٍ جدّاً، سيّما في هذا العصر الّذي أصبح كلّ شيءٍ مرتبطٌ بالسياسة.

 وكيف كان، تكميلاً للبحث أقول: بأنّ لكلّ مذهبٍ من المذاهب خصائصه الّتي تُميّزه عن غيره، تحدّد هوّيته، وتبيّن مرتكزاته، وتُبلور أهدافه، وترسم طريقته، وتطبع كافّة ممارساته، والبنية الفكريّة – القاعدة المفاهيميّة- هي الأساس الّذي تتقوّم بها الخصائص المنهجيّة بشكلٍ عامٍّ، وبما أنّ القاعدة الفكريّة للمذهب الإسلاميّ قاعدة إليها، ويستمدّ خصائصه منها دون سواها، فسوف تتميّز أخلاقيّاته السياسيّة عن غيرها من أخلاقيّات المذاهب الأخرى، وهنا أُشير لبعض الخصائص الّتي تتميّز بها الأخلاق السياسيّة باعتبارها مفردةً من مفردات الإسلام: أوّلاً: شموليّتها للبعدين الجسمانيّ والروحانيّ، فإنّ الإسلام لا يُقتصر في نظرته إلى الأخلاق على البعد المادّيّ وحده، أو على البعد الروحانيّ وحده، كما أنّه لا يُركّز في المجال الاجتماعيّ إمّا على الفرد، أو على المجتمع فحسب؛ لأنّ هذه الرؤية ناقصةٌ، جزئيّةٌ، بل ينظر إلى الأخلاق نظرةً كلّيّةً، كما ينظرها إلى الإنسان باعتبار جوانبه المادّيّة، والروحيّة، والفرديّة، والاجتماعيّة، وهي جوانب متداخلةٌ، وفي تفاعلٍ مستمرٍّ، ولهذا لا يُمكن فصلها عن بعضها البعض، ومن الواضحات بأنَّ نظرةً كهذه من شأنها المُساهمة في صياغة مذهبٍ أخلاقيٍّ مُنسجمٍ، ومنتجٍ، ومتقدّمٍ، وخالدٍ.

ثانياً: صناعتها السماويّة، فإنّ التعاليم – والقيم السياسيّة الأخلاقيّة في الرؤية الإسلاميّة- ليست من صنع الفكر البشريّ، وإنمّا هي من صنع الغيب؛ باعتبار كونها من الإسلام، والإسلام وحيٌ سماويٌّ، ودينٌ ربّانيٌّ.

 ثالثاً: ربّانيّتها (أصالة الثقافة والانتماء)، إذ بما أنّ قيم ـ وتعاليم الأخلاق السياسية ـ مُستقاةٌ من تعاليم الله (سبحانه وتعالى) كما قلنا، فإنّ من سيجعلها علاجاً لأمراضه السياسيّة، ومن سيحكّمها في جميع أخلاقيّاته وعلاقاته، فإنّ قلبه سوف يعمر بتوحيد الله سبحانه في بعدٍ من أبعاد تشريعاته، وبذلك تتّصف نظراته ـ وأخلاقياته ـ بالربّانيّة، وقد قال تعالى: {صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً وَنَحْنُ لَهُ عابِدُونَ}(4)، فتلقّي الأخلاق السياسيّة من الإسلام يُخرج الإنسان من خانات الجاهليّة، والأعراف المُنحرفة، وإغراءات الأهواء، وممارسات الباطل، ويُدخله في دائرة الإسلام، ويصوغ أعرافه، ويوجّه أهواءه، ويُقنّن ممارساته وفق الحقّ والصدق.

 رابعاً: انسجامها مع العقل، وهذه الميزة تتأسّس على أساس أنّه لا تناقض بين العقل والدين في المنظور الإسلاميّ، فإن الدين الحنيف لم ينفِ دور العقل في عمليّة تقييم سلوكيات وأفعال الإنسان، بل أعطاه دوره في ذلك، ولكن، بما أن إدراك العقل نسبيٌّ، وليست له القدرة الذاتيّة على التقييم وحده، فقد أعطاه دوره في أفق علاقته بالغيب، ومن حيث هو بعدٌ غيبيٌّ في الإنسان الخليفة، وعلى هذا الأساس فالنظريّة الأخلاقيّة الإسلاميّة ليست مجرّد انعكاسٍ لواقع الأمّة الإسلاميّة، وإنمّا هي ـ بالإضافة إلى ذلك ـ تنطلق من الدين الحنيف لتُعالج الواقع، وبذلك لا تكون المُعالجة وفق رؤيةٍ عقليّةٍ محدودةٍ قد يتبيّن قصرها غداً، وإنمّا ستكون وفق رؤيةٍ عقليّةٍ كاملةٍ باعتبار أنّ الدين – بما يتضمّنه من قيمٍ روحيّةٍ وأخلاقيّةٍ ذات مصدرٍ غيبيٍّ- سيّد العقلاء، وهذه محطّة افتراقٍ بين نظرة الإسلام والغرب للعقل، فالغربُ ـ خاصّةً المذهب المادّيّ ـ جعل العقلَ مقابل الغيب، وبهذا ينفون الغيب إطلاقاً، وهذا ما لا يتبناه الإسلام.

القواعد العامّة لصناعة الأخلاق السياسيّة: وفي الحديث العمليّ يُمكن القول – بدايةً – : إنّ النفس الإنسانيّة أرقى الموجودات، وأشرف المخلوقات، وهي باقيةٌ أبديّةٌ، بخلاف الجسد، فإنّه فانٍ زائلٌ، ولهذه النفس لذائذ وآلام، ومهلكاتٌ ومنجياتٌ، أمّا آلامها – ومُهلكاتها – فهي رذائل الأخلاق، وبها تهبط إلى أخسّ الدرجات إذا لم تُوجّه التوجيه السليم، وأمّا لذائذها – ومُنجياتها – فهي تمسكها بالفضائل، وبها ترتفع إلى ملكوت الله، وتوصل إلى مقام القرب، وعلمي الأخلاق والسير والسلوك هما العلمان المتكفّلان ببيان طريق رياضة النفس، وطرق معالجة رذائل الأخلاق، وطرق التحلّي بفضائلها، وقبل الدخول في تفاصيل المسائل الأخلاقيّة، أرغب في استعراض القواعد العامّة المُفيدة في معالجة المعاصي السياسية: القاعدة الأولى: اليقظة الباطنيّة تجاه أوضاعنا الأخلاقيّة السياسيّة: موقعيّة اليقظة السياسيّة: إنّ أوّل خطوةٍ في طريق طيّ منازل الكمال وتغيير الأخلاق السياسيّة هي اليقظة، والإفاقة من سبات الغفلة السياسيّة، ومن غير الممكن طيّ هذا الطريق بالغفلة القلبيّة عن الهدف الّذي خُلقنا لأجله.

تعريف اليقظة السياسيّة:

 1) اليقظة هتافٌ في الضمير، يُحرّك الإحساس بالتقصير، والعقوق، والحرمان، والبعد من الخالق المنعم بسبب المعاصي، والجرائم السياسيّة الّتي قام بها، أو يقوم بها، اليقظة شعلةٌ تتوقّد في داخل الإنسان؛ لينتفض على ذاته.

 2) اليقظة محاكمةٌ باطنيّةٌ للأوضاع المتردّية الموجبة لمعصية الله (سبحانه وتعالى)، فيبصر بسبب هذه المُحاكمة طريقه، ومن هنا فهي نورٌ، كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «اَلْيَقَظَةُ نُورٌ»(5).

 3) اليقظة تعني التنبّه لإنسانيّتي؛ أنّني إنسانٌ ولست حيواناً، ولذا فيجب أن يكون هناك فارقٌ بيني وبين الحيوان في مسيرتي وحياتي، فلماذا غلبت المادّيّات في حياتي على الروحانيّات؟! لماذا أصبحت نظرتي ورؤيتي غريزيّة؟! ولماذا أصبحت معاملاتي وتصرّفاتي بهيميّة؟! لماذا أفكّر في اقتطاف المنصب السياسيّ من الصالحين؟! ولماذا أعمل على استيلاء المكاسب السياسيّة بلا وجه حقٍّ؟! ولماذا أُسقط الآخرين لمُجرّد اختلافهم معي في رؤيتي، أو موقفي السياسيّ؟! أليست أفعالي هذه غرائزيّةً، بهيميّةً، شهويّةً؟! أما آن لي أن أُغيّر نظرتي وأخلاقي؟! أما آن لي أن أتحرّر من حيوانيّتي، وأسير إلى حرم الإنسانيّة؟!

 4) اليقظة تعني التنبّه إلى أنّ لي أهدافاً ساميةً من العمل السياسيّ، يجب أن أصل إليها، كخدمة المظلومين، والمُستضعفين، والمضطهدين، تقرّباً لوجه الله أكرم الوجوه؛ لنيل رضوانه، وجنانه، ومرافقة {الَّذينَ أَنْعَمَ اللهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقينَ وَالشُّهَداءِ وَالصَّالِحينَ وَحَسُنَ أُولئِكَ رَفيقاً}(6)، وليس من أجل أهدافٍ سياسيّةٍ فانيةٍ زائلةٍ، كالقرب من السلطان خوفاً من شرِّه، أو طمعاً في خيره.

 5) اليقظة تعني الالتفات إلى قصر العمر، وكون الموت قادماً لا محالة، ويجب الإعداد لما بعد الموت، وأنّ طول الأمل، وتخيّل وجود المُتّسع من الوقت، من أهمّ أسباب الغفلة المؤدّية لنسيان الغايات الحقيقيّة، ولذا فأيّ قيمةٍ للبعد عن الله بممارسة المعاصي السياسيّة؛ تقرّباً لمسئولٍ سياسيٍّ سيُفارق الحياة الدنيا في أيّ لحظةٍ من اللحظات؟! نعم، إنّها لخسارةٌ عظمى أن أقترب من ملكٍ أو سلطانٍ صغيرٍ أو كبيرٍ، وأُغضب مالك المُلك، مُجري الفُلك.

 تحدّيات اليقظة السياسيّة: وهناك تحدّياتٌ بشأن اليقظة السياسيّة يجب التنبّه إليها لتحقيقها: التحدّي الأوّل: خلق اليقظة السياسيّة في الباطن، وهي الّتي حثّنا عليها أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بقوله: «ضَادُّوا الْغَفْلَةَ بِاليَقَظَةِ»(7)، ومن هذه الكلمة النورانيّة نفهم أنّ تحصيل اليقظة باختيار الإنسان، وقد سُمّيت اليقظة من هذا النوع بـ(اليقظة الكسبيّة)، وهي تُقابل اليقظة المُسمّاة بـ(اليقظة الجذبيَّة)، وهي الّتي يتلطّف الله بها على مَنْ يشاء مِنْ عباده المُجاهدين فيه، أو في سبيله.

 التحدي الثاني: جعْل اليقظة مُستمّرةً طوال مسيرة العمل السياسيّ. التحدي الثالث: جعْل اليقظة راسخةً متجذّرةً في النفس، لا تهزّها أعاصير الغفلة.

 طرق اليقظة السياسيّة: ويمكننا مواجهة هذه التحدّيات الثلاثة، وتحصيل اليقظة المستمرّة الراسخة بواسطة الطرق الآتية، وسأبين أوّلاً طرق تحصيل اليقظة الكسبيّة: أوّلاً: طرق تحصيل اليقظة الكسبيّة: ويُمكننا الحصول على (اليقظة الكسبيّة) من خلال الطرق التالية: الطريق الأوّل: التلاوة السياسيّة: بمعنى أن يجعل السياسيّ له ورداً قرآنيّاً يوميّاً، ويتدبّر في آيات الله تدبّراً من منظار واقعه السياسيّ، ويُعالج حاله وأوضاعه السياسيّة من خلال التأمّل القرآنيّ، وإسقاط الآيات القرآنيّة على واقعه، وأنا مُطمئنٌّ بأنّ الحياة السياسيّة قد ألهتنا لدرجة أنَّ الكثير منّا ما عادت له علاقةٌ بالقرآن، بينما نُقل عن رسولنا الكريم (صلَّى الله عليه وآله): «من قرأ عشر آياتٍ في ليلةٍ لم يُكتب من الغافلين، ومن قرأ خمسين آيةً كُتب من الذاكرين»(8)، فخروجنا من ديوان الغافلين متوقّفٌ على قراءة عشر آياتٍ، ودخولنا في ديوان الذاكرين متوقّفٌ على قراءة خمسين آيةً، وإذا كان كذلك فأيّ يقظةٍ هذه بلا تلاوةٍ قرآنيّةٍ خمسينيّةٍ؟! نعم، إنَّ للتلاوة أثرها في صناعة يقظةٍ سياسيّةٍ مؤثّرةٍ، وفاعلةٍ، وذات حصانةٍ ومناعةٍ.

 نعم، من شأن القرآن أن يهزَّ الأعماق، فمن كان مُنغمساً بالمحرّمات السياسيّة، ووصل مثلاً لقوله تعالى: {إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفيراً * وَإِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً}(9)، فإنّ باطنه سوف يتغيّر، وكيف لا يتغيّر لو توقّف، وتدبّر، وتأمّل، وتخيّل نفسه مُلقاةً في الجحيم؟! نعم، بالقرآن سوف تتغيّر أمراض الأخلاق السياسيّة، وكيف لا تتغيّر وقد قال تعالى: {وَنُنزّلُ مِنَ القُرآنِ مَا هُو شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ}(10)؟! وإذا كان ذلك فما أحرى بالإنسان حين يمرّ بآيات العذاب أن يقول كما علّمنا الإمام زين العابدين (عليه السلام): «آهُ وَا حُزْنَاه، لَيْتَنِي لَمْ أَكُ شَيْئاً أَبَداً، آهُ وَا حُزْنَاه مِنْ مَلائِكَةٍ غَلاظٍ شِدَادٍ لا يَرْحَمُونَ مَنْ شَكَا وَبَكَى، آهُ وَا حُزْنَاه مِنْ رَبٍّ شَدِيدِ القُوَى، آهُ وَا حُزْنَاه، أَنَا جَلِيسُ مَنْ نَاحَ عَلَى نَفْسِهِ وَبَكَى»(11).

ومن هنا فإذا لم يكن هناك تأثّرٌ في باطننا كقرّاء سياسيّين حينما نقف بين يدي القرآن، فلنترحم على أنفسنا، ولنبكِ عليها، مردّدين قول زين العابدين (عليه السلام): «إِلهِي إليكَ أَشكوا قلباً قاسياً»(12)، نبكي؛ لعدم تأثّرنا بأدنى مستوياته؛ لأنّ هناك أناساً قد قتلهم، فأين نحن من أولئك؟! يقول صاحب سفينة البحار – كما في المنقول عنه – في بيان سبب وفاة عليّ بن الفضيل – الزاهد العابد-: كان عليّ بن الفضيل يوماً واقفاً قرب ماء زمزم في المسجد الحرام، فسمع قارئاً يقرأ: {وَتَرَى المُجْرِمِينَ يَومَئذٍ مُقّرَّنينَ في الأَصْفَادِ سَرَابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرَان وتَغْشَى وُجُهُهُمُ النَّارُ}، فصعق ومات(13).

 فلماذا صعق ومات؟! لأنّه أسمع نفسه، وجعلها المقصودة بهذه الآية، ولذلك أعطت مفعولها القاتل، أمّا مثلي – وأمثالي المساكين – فنقرأ القرآن وكأنّه قصّةٌ حدثت لغيرنا، ولسنا معنيّين بها.

 الطريق الثاني: المُداومة على ذكر الله: كما قال أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب (عليه السلام): «بِدَوامِ ذِكْرِ اللهِ تَنْجابُ الغَفلة»(14)، وكما علَّمَنا طلب هذا الهمِّ في دعاء كميل: (واجعل لساني بذكرك لهجاً، وقلبي بحبّك مُتيّماً)، وفي مدرسة أهل البيت (عليهم السلام) من التراث الدعائيّ الضخم، الّذي يوقظنا، وينبّهنا من سنة الغفلة، ولذا فحريٌّ بنا أن نلازم الصحيفة السجّاديّة؛ لنتعلّم منها كيف نُخاطب ربّنا، وننبّه بها نفوسنا، فمن شأن ذلك شدُّ الوجدان بالله (سبحانه وتعالى)، وتعويد القلب حالة الاتّصال بمحبوبه الأوحد، فهذه التجارب الذكريّة ـ إن صحّ التعبيرـ سيكون لها تأثيراتها في خضمّ الحوادث السياسيّة الاستثنائيّة، وللحرّ تجربةٌ ذكريّةٌ رائدةٌ، فقد هزَّه المشهد الكربلائيّ إلى حدٍّ أخذت الرعدة جسمه، حتّى قال له المُهاجر بن أوس: إنَّ أمرك لمُريبٌ! والله ما رأيت منك في موقفٍ قطّ مثل هذا، ولو قيل لي: من أشجع أهل الكوفة؟ لما عدوتك، فما هذا الّذي أرى منك؟! فقال له الحرُّ: إنيّ والله أخيّر نفسي بين الجنّة والنار، فو الله لا أختار على الجنّة شيئاً، ولو قُطّعت، وأُحرقت.

 ثمَّ ضرب فرسه، فلحق الإمام الحسين (عليه السلام)، وطلب منه التوبة(15).

 فاليقظة هي الّتي تحدّد الخيارات، فالسياسيّ إمّا أن يخضع لإغراءات المال، أرضاً وسيّارة بآخر موديل، أو منصباً، حينما يقف مع السلطان، ويكون أداةً للظلم، والجور، والقهر، أو يرفض كلّ ذلك ويقف مع المُستضعفين، والمظلومين، وتحديد أيّ الخيارين بحاجةٍ ليقظةٍ سياسيّةٍ مُتحرّرةٍ، فلنبتهل – ونتضرّع – إلى الله صادقين في أن يهدينا طريق الخلاص من المعاصي السياسيّة، ويُعيننا على تطهير أنفسنا وصلاحها.

الهوامش والمصادر

  • (1) بحار الأنوار، ج 71، ص 373 و382.
  • (2) Pragmatism اشتقّت من اللفظ اليونانيّ: (براجما)، وتعني: «العمل». ويعرّفها قاموس «ويبستر» بأنّها: تيّارٌ فلسفيٌّ، أنشأه «تشارلز بيرس»، و«وليام جيمس»، يدعو إلى أنّ حقيقة كلّ المفاهيم لا تثبت إلا بالتجربة العلميّة، نشأت البراجماتيّة في الولايات المتّحدة الأمريكيّة، في أواخر القرن التاسع عشر، حيث ظهر هذا اللفظ للمرّة الأولى في مقالٍ لـ«تشارلز بيرس» عام: 1878، وهي مذهبٌ – أو معتقدٌ – فلسفيٌّ يركّز على العواقب، والنفعيّة، والعمليّة، ويعتبرها المكوّنات الحيوّية للحقيقة.
  • (3) سورة الإسراء، الآية: 67.
  • (4) سورة البقرة، الآية: 138.
  • (5) تصنيف غرر الحكم ودرر الكلم، ص 448، الحديث 10288.
  • (6) سورة النساء، الآية: 69.
  • (7) غرر الحكم ودرر الكلم، ج 4، ص 232، الحديث 5925.
  • (8) البيان في تفسير القرآن، ص 25.
  • (9) سورة الفرقان، الآيتان 12- 13.
  • (10) سورة الإسراء، الآية: 82.
  • (11) الصحيفة السجّاديّة، دعاؤه (عليه السلام) في التأوّه.
  • (12) مناجاة الشاكين.
  • (13) سفينة البحار، ج 7، ص103، الطبعة الحديثة.
  • (14) فروع الكافي، ج‏3، ص270.
  • (15) الملهوف على قتلى الطفوف، ص159.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى