ثقافة

دروس في الأخلاق السياسية في الإسلام (الحلقة الأولى)

مما جاء في كتاب النبي الأعظم(ص) لولاته على اليمن: «وخذهم بأخلاق الله، واحملهم عليها، فإنّ الله تعالى يحبّ معالي الأخلاق ويبغض مذامها»(1). مما لا ريب فيه أن النبي وأهل بيته (صلى الله عليهم أجمعين) قد بذلوا جهدهم في تأسيس مدرسة أخلاقية تربوية رائدة، لتُساهم في تحقيق مكارم الأخلاق باعتبار أن مكارم الأخلاق هي الهدف الكبير لبعثة النبي الأكرم(ص)، وقد رُوي عنه(ص) أنه قال: «إنما بُعثت لأتمم مكارم الأخلاق»(2)، وقد وصف سبحانه وتعالى باني هذه المدرسة بقوله: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}(3)، وبما أنّ الإسلام قد جعل الأخلاق أساساً بنيت عليه مبادئه وأحكامه ومفاهيمه، فقد وجب علينا تحمل مسئوليتنا الأخلاقية في تعلم الأخلاق، والتلبس بها، والدعوة إليها، ومن هنا أجد ضرورة دراسة الأخلاق دراسة موسعة، لما لذلك من أثر في جميع مفاصل حياتنا العلمية والعملية، فإن سوء تعامل الإنسان مع ذاته ومع المحيط من حوله ومع ربه هي أزمات أخلاقية تعصف بمجتمعاتنا المُسلمة، فضلاً عن غيرها.

 وبودي أن أركز حديثي الأخلاقي في بعده السياسي، لتطلعي نحو صياغة حياة سياسية طاهرة، تقود العاملين فيها نحو الله سبحانه وتعالى، إذ ما نجده اليوم في الصف المؤمن من اختلافات مرفوضة، ونزاعات مريضة، وتنافسات مقيتة ليس إلاّ بسبب الابتعاد عن القيم الأخلاقية وتعاليم المدرسة المحمدية.

 وعنوان البحث الذي أود استيعابه –إن أبقاني الله ووفقني- هو: الأخلاق السياسية في الإسلام. وقفة مع عنوان البحث: تعريف الأخلاق: ومن أجل التعرف على معنى الأخلاق، أشير إلى معناه في اللغة ومن ثمّ معناه الاصطلاحي. التعريف اللغوي: أما الأخلاق في اللغة، فهي جمع خُلُق _بضم اللام وسكونه_، والخُلق على معان:

 -1 السجية والفطرة والطبع، وهو ما جُبل عليه الإنسان ولا يزول منه، وقد استخدم هذا المعنى في بعض الروايات، ففي الخبر عن إسحاق بن عمار: قال: قال أبو عبد الله(ع): «إنّ الخلق منيحة –أي عطية- يمنحها الله خلقه، فمنه سجية –أي طبيعة- ومنه نية –أي يكون عن قصد واكتساب، فقلت: فأيتهما أفضل؟ فقال(ع): صاحب السجية هو مجبول لا يستطيع غيره، وصاحب النية يصبر على الطاعة تصبراً، فهو أفضلهما»(4).

 -2المروءة، و”هي اتباع محاسن العادات، واجتناب مساوئها، وما ينفر عنه من المُباحات، ويؤذن بخسة النفس ودناءة الهمة(5)، كقيام الفقيه بالأكل أو البول في الأسواق أو يُفرط في المزاح ويُكثر من ذكر الحكايات المضحكة، فذلك مما يدل على ضعف في عقله. ويمكن أن تعرف بـ “التخلق بخلق أمثاله في زمانه ومكانه”، فأكل السوقي في السوق يختلف عن أكل غيره.

 -3الدّين والملّة. التعريف الاصطلاحي: وأما معنى الأخلاق في الاصطلاح، اصطلاح علماء الأخلاق، فحينما نطلق لفظة الأخلاق، فإننا نريد منها أحد أمور ثلاثة: الأمر الأول: أن المراد من الأخلاق هي: الأخلاق الصفاتية الباطنية: الخُلق ملكة من ملكات النفس، أي صفة راسخة في النفس لا تزول بسرعة، وأظهر خاصية تتميز بها الملكة هي أن أفعال الإنسان تصدر منه، بلا إمعان فكر أو إعمال روية، ففي نفس كل إنسان صفات كثيرة العدد، مُتباعدة الآثار كالوفاء، والصدق، والسخاء، والشجاعة، وهذه الصفات وأمثالها هي التي تكون مصدراً لأكثر أعمال الإنسان.

 فالأخلاق على هذا الأساس هي مجموعة الكمالات المعنويّة، والسّجايا الباطنيّة، والصفات النفسية التي تركزت في النفس، وانطبعت بها انطباعاً كاملاً، وليست عملاً من الأعمال، وإن كان العمل الاختياري مظهرها الخارجي، نعم ذهب بعضهم إلى أن الأخلاق هي العمل الخارجي، وسيأتي الحديث عنه في الأمر الثاني.

 الأمر الثاني: هو أن يُقال بأن المراد من الأخلاق: الأخلاق السلوكية النابعة من الباطن: هي الأعمال والسّلوكيات الناشئة من الملكات النفسانية للإنسان، فمثلا يُقال عن الشّخص الذي يعيش في حالة من الغضب والحدّة دائماً بأنّه ذو أخلاق رديئة، وبالعكس، ويقولون عن الشخص الكريم بأنه ذو أخلاق طيِّبة، والعكس، وقس على ذلك الكثير من السلوكيات.

 هذه السلوكيات يُعبر عنها بالسلوكيات أو الأفعال الأخلاقية وهي تُقابل السلوكيات والأفعال العادية، ويفرق بين الفعلين الأخلاقي والعادي بالقيمة، فالفعل العادي له قيمة مادية، فيُقال بأن عمل المهندس أو الباني يُساوي كذا دينار، بينما ليس للفعل الأخلاقي قيمة مادية، فإن قيمته أعلى وأكبر من ذلك، بل يبقى الذهن البشري عاجزاً عن تقدير قيمة بعض الأفعال الأخلاقية، فهل بإمكان الذهن البشري أن يُقدر مادياً تضحية الإمام الحسين(ع) بالطفل الرضيع وبولده علي الأكبر وبابن أخيه القاسم وبأخيه أبي الفضل العباس وبعيالاته وخيرة أصحابه؟ هل يُمكن القول بأن تضحيته بابنه الرضيع تساوي مائة مليون دينار؟! هل يُمكن القول أن تضحيته بنفسه تساوي مئات ملايين الدنانير؟! طبعاً لا، إنّ هذا الفعل الأخلاقي يبقى مُقدراً، ممدوحاً، محلاً للثناء، وأكبر من أن يُقيم بالأشياء المادية.

الأمر الثالث: أن المراد من الأخلاق هي: القوانين الأخلاقية: وهي «عبارة عن مجموعة من المبادئ التي ينبغي أن يجري السلوك البشري على مقتضاها»، فهي المقياس الذي نقيس به سلوكياتنا، ونرسم على ضوئه طريق السلوك الحميد.

 ومن هنا يمكن أن نعرّف الأخلاق بأنّها: «علمٌ يُبحَث فيه عن أُسس اكتساب هذهِ الصفات الحسنة، وطُرق محاربة الصّفات السّيئة، وآثارها على الفرد والمجتمع».

 علمٌ يُعلمنا كيف نُحرك تعاليم المدرسة المحمدية في سلوكياتنا، وكيف نصوغها في حياتنا، فيكون هَمُّنا الإسلام، حركته، نموه، عزته، ارتفاعه، نهضته، فإذا كان ذلك لا يتحقق إلاّ على يد فلان من الناس المؤمنين، أو كان ذلك سيتحقق على يد فلان الصالح بشكل أفضل، فيجب علي التنحي وإعطائه فرصة إدارة الأمور وصيانتها وتحقيقها، وليس من المهم أن يظهر اسمي، بل المهم أن يرتفع اسم الإسلام عالياً، فإذا كانت رفعة الإسلام تتطلب تواضعي فيجب علي ذلك، يجب أن أكون متواضعاً لمن كان أعلم أو أكفأ أو أصلح مني، وأتحول من موقع القيادة –صغيرة كانت أو كبيرة- لموقع التبعية لأكون تحت يدي الأصلح الأكفأ في قيادة المسيرة، أو في خدمة الدين، أو في إمامة المؤمنين أو في أي شأن من شئون الحياة السياسية أو الاجتماعية أو غيرها، فقد روي عن النبي(ص): (من أمّ قوماً وفيهم من هو أعلم منه لم يزل أمرهم إلى سفال إلى يوم القيامة)(6).

 إذاً، إذا صاغتنا أخلاق الإسلام فلن تجد للهوى مكاناً، وللنزاعات وجوداً.

 السياسة والإسلام: أما تعريف السياسة: «فيمكن القول بأن “السياسة” في علم السياسة الغربي، مرتبطة بمجموعة مفاهيم، مثل مفهوم: الشعب والقانون والسلطة والمصلحة العامة والدولة، ويستبطن قيم الصراع والتكييف والحلول الوسط وتحكيم الواقع بلا ضوابط، ولذا عرفها بعض الغربيين بأنها: “فنّ المُمكن».

 وبعض آخر بأنها: “فن يقوم على الخديعة والمكر والنفاق…”، إلى غير ذلك من الأوصاف الدنيئة التي ألحقت بالسياسة، ومن ذلك يقضي هذا البعض بضرورة فصل الدين عن الدولة، مما يعني عزل الإسلام عن الشئون السياسية.

 ويذهب بعضهم إلى تعريفها بأنها “فن إدارة البشر والأشياء”، وهذا التعريف قد يكون مقبولاً بنظرة ما، لكن الواقع العملي للسياسيين يفسر هذا التعريف بفن إخضاع البشر وتملك الأشياء، ولذا لا تزال كلمة السياسة محمَّلة في الأذهان بإيحاءات الترويض والتذليل والإكراه ومعاني التحكم والتسلط والولاية الجائرة.

 إذاً، نحن لسنا مُلزمين بتعريف السياسة بما يعتقدون، وعلينا أن نُعرفها بطريقة تُبعدها عن الخبث والخديعة، لأن منظورنا الإلهي القائم على أساس توحيد الخالق يفرض علينا ذلك، ويُوجبُ علينا الالتزامَ بالقسطِ والعدلِ في كل شأن من شئون الحياة. ومن هذا المُنطلق يُمكن القول بأن التعريف اللغوي للسياسة بـ”القيام على الشيء بما يُصلحه”(7) أو “القيام بالأمر وتدبيره”، هو معنى عام يشمل شؤون الدولة والحكم ولا يختص بهما، ويتناسب مع مفهوم السياسة في الرؤية الإسلامية التوحيدية.

 وكذلك بعض التعريفات الاصطلاحية، مثل الذي يُعرفها بأنها: “القانون الموضوع لرعاية الآداب والمصالح وانتظام الأموال”(8)، أو يعرفها بأنها: ” تدبير الأمور الاجتماعية العامة ذات الصلة بالحكم والسلطة”، مثل هذه التعاريف تتناسب أيضاً مع مفهوم السياسة في الرؤية الإسلامية التوحيدية، فإنّ أمور الأمة كلها الداخلي منها والخارجي يُساس في الإسلام وفق مصلحة الأمة العامة، وهذه المصلحة العامة ليست محكومة برؤية الحزب الواحد أو العائلة الواحدة أو الطائفة الواحدة أو الفرد الواحد، بل إنّ هذه المصلحة محكومة بتعاليم الشريعة السمحاء، التي تضمن عدم وجود أيّ تعدّ على حق أي إنسان، مُسلماً كان أو غير مُسلم.

 ومن الواضحات أن “الخَلْق” من أهم هذه الأشياء التي يراد إصلاحها، والذي يتمّ عن طريق إرشادهم وهدايتهم؛ مما يجعل السياسة قيادة إلى ما فيه خير الناس الدنيوي والأخروي، وتهدف إلى عبودية البشرية لرب واحد، وتفعيل مبدأ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر وجلب المصالح ودرأ المفاسد لتتحقق بذلك الغاية التي من أجلها خلقهم الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك لا يتحقق على يد الفرد الواحد، بل بحاجة إلى تآزر جماعي، مما يعني أن السياسة في الرؤية الإسلامية تتسم بالشمولية والعمومية، فتخاطب – كمفهوم – كل فرد مكلف في رسالة الإسلام بأن يرعى شؤونه، ويهتم بشئون المسلمين من حوله، فيُصبح الشأن العام في المنظور الإسلامي هما شخصيا، يتحمل كل فرد مسئولية ما تجاهه، بمقدار إمكانياته، وبحسب موقعه بما يمكنه.

 فالسياسة وعي فردي مسئول، تجعل الممارسة الفردية اليومية مرتبطة ارتباطاً تاماً بعموم الناس، ومفهومها – السياسة- مُرتبطاً بالتوحيد والاستخلاف والشريعة ومصلحة الشرع والأمة، وتنمو –السياسية- وتتكامل من خلال مفهوم الواجب مع باقي مفاهيم الرؤية الإسلامية مستبطنةً القيم الإسلامية وأبرزها العدل.

معنى الإسلام: عندما نقول «الإسلام» فإننا نقصد به الدِّين الّذي يتكفل بيان الطّريق الصّحيح في «العمل» و«الوظيفة»، وحينما قلنا بأنّ الإسلام يتولى مسألة الهداية والإرشاد، فإنه يتولاه في جميع مجالات «العمل» و«الوظيفة»، ويبين الصّحيح مما سواه في جميع تلك الموارد، فالإسلام دينٌ وفكرٌ جامعٌ وشموليٌ، يعالج الهواجس القلبية والوظيفية للإنسان، إزاء نفسه وإزاء الآخرين أيضاً.

وفي مقدمة هذهِ الأمور، السّلطة والحكومة الّتي تشكل محور «العمل السّياسي» الإنساني

. وعلى أساس هذا المعتقد، للإسلام حكومته الخاصة والّتي تسمى بـ«الحكومة الإسلامية».

 معنى الأخلاق السياسية في الإسلامية: فالأخلاق السياسية في الإسلام على ضوء ما تقدم، هي: مجموعة من المبادئ، التي يراد جريان السلوك البشري على مقتضاها في مجال العمل السياسي، وتكون مقياسه الذي يقيس به سلوكياته، ويرسم على ضوئه طريق السلوك السياسي الحميد.

وبهذا نُعطي الأخلاق بعداً يتجاوز دائرة الضبط الفردي، لضبط المجتمع وتوجيهه الوجهة الخيرة في علاقاته وشئونه السياسية.

وبهذا نحقق الاندماج الديني في بعده الأخلاقي مع السياسة، رافضين المفهوم “الإكليريّ” “الكنسيّ” الذين يقول: «إنَّ الدين لله والوطن للجميع، وإنَّ ما لقيصر لقيصر، وما لله لله» عبارة العلمانيين المنسوبة للسيد المسيح(ع)، فالرسالة التي بُعث بها سيدنا محمد بن عبد الله(ص)، لم تركز على الروح وتزَكيتها فحسب، بل ركَّزت معالجتها –بالإضافة لذلك- على الأخلاق ومكارمها الفردية والاجتماعية، وفي الخبر عن فضيل بن يسار، قال: سمعت أبا عبد الله(ع) يقول لبعض أصحاب قيس الماصر: «إنّ الله  أدّب نبيّه فأحسن أدبه، فلما أكمل الأدب، قال: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ}، ثمَّ فوض إليه أمر الدين والأمة ليسوس عباده، فقال : {وَمَا آَتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا}، وإنّ رسول الله(ص) كان مُسدداً موفقاً مؤيداً بروح القدس، لا يزلّ ولا يُخطئ في شيء مما يسوس به الخلق فتأدب بآداب الله»(9).

 وعلى ضوء الاندماج الديني –في بعده الأخلاقي- مع السياسة يُمكننا تصحيح بعض المفاهيم السياسية الرائجة، كمقولة: “أنَّ السياسة لا دين لها”، فهذه المقولة تُجرِّد السياسة من القيم والأخلاق، وتجعلها سياسة كذبٍ ونفاقٍ وخداع..

سياسة منافع ومصالح فرديَّةٍ وشخصيَّةٍ وفئويَّة.. سياسة ممارساتها “ميكيافيليَّة” وهي «مبدأ سياسي ابتدعه نيكولو ماكيافيل كاتب سياسي إيطالي ( 1469 – 1527م) يقضي بإيثار الغشّ والخداع والمراوغة والتسويف وسوء النية والدهاء والأنانية في تحقيق الأهداف المنشودة, دون إقامة أي اعتبار لنداء الضمير أو مبادئ الدين والأخلاق, على أساس أنّ الغاية تبرّر الوسيلة».

 تعتمد الخداع والغشَّ وكلَّ ما يبرِّر الوسيلة من أجل الغاية.

إنَّ هذا المفهوم للسياسة مرفوضٌ في الإسلام كدينٍ وكتشريع، فالإسلام يعتبر أنَّ الدين لله والوطن لله، ويعتبر أنَّ ما لقيصر لله، وأن لا فصل -في الإسلام- بين الدين والدولة، أو بين السياسة والدين، وأنَّ السياسة يجب أن تُبنَى على الدين، وبذلك تكون “سياسةً متديِّنة” أي سياسةً مبنيَّةً على القيم والمثل والأخلاق.

 بعض المقدمات المهمة في البحث: المقدمة الأولى- موضوع الأخلاق السياسية في الإسلام: من المُتعارف عليه بيان موضوع العلم المبحوث فيه، إذ أن لكل علم موضوع، فموضوع علم الطب هو جسم الإنسان وبدنه من حيث اتصافه بالصحة أو عروض المرض عليه، وعلى هذا الأساس نقول بأن موضوع علم الأخلاق السياسية في الإسلام: هو نفس الإنسان وروحه من حيث اتصافها بصفات سياسية حسنة ممدوحة أو قبيحة مذمومة، وهذا يُعطي قيمة كبيرة لهذا العلم، قيمته بأنه يهتم بجوهر الإنسان وحقيقته، ولذلك فالخطاب الإلهي في قوله تعالى: {قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذي وُكِّلَ بِكُم}(10)، لم يتوجه لبدنه الزائل الفاني بل توجه لروحه ونفسه وعقله وقلبه، فنحن في هذا العلم نعتني بما يصون الروح الخالدة.

المقدمة الثانية- مسائل علم الأخلاق السياسية في الإسلام: أما المسائل التي نبحثها في علم الأخلاق السياسية من منظور إسلامي، فهي تلك الأبحاث التي تدرس الصفات والملكات المعنية بالبعد السياسي، لتُبين حقائقها وروابطها، وانشعاب بعضها عن بعض، وعلل حصولها وزوالها، وطرق تحصيل كرائمها، وكيفية إزالة رذائلها.

المقدمة الثالثة- أغراض الأخلاق السياسية في الإسلام: هناك الكثير من الغايات والأغراض المترتبة على دراسة وتطبيق الأخلاق السياسية الإسلامية في حياة الإنسان والناس، نذكر منها الأغراض التالية: الغرض الأول- إيصال الإنسان إلى الكمال السياسي: وهذا الكمال لا يُمكن تحققه إلاّ من خلال تقويم بُعدين: البعد الأول: البعد (الباطني) النفسي: وذلك عن طريق تهذيب النفس من رذائل الأخلاق السياسية، وتطهيرها من العقد المريضة والتصورات السياسية الفاسدة والمغلوطة، ففي كل إنسان قوة نفسية -تصدر عنها أعماله وتصرفاته- تُسمى بالإرادة، وهي مقياس التمايز بين الإنسان وغيره من الحيوانات، وبين الإنسان والإنسان.

 فإذا كانت إرادة الإنسان مسبوقة بالتعقل والتدبر، فسوف تتوجه إلى الأغراض النافعة وحينئذ يكون تنافس الإنسان مع العقلاء الشرفاء، ويصل في هذه المنافسة لمراتب يسمو فيها على الملائكة.

 أما إذا كانت إرادة الإنسان مسبوقة بالأوهام فسوف تتوجه إلى ما تأمر به غرائزه وميوله وشهواته، وحينئذ يكون تنافسه مع الحيوانات، ويصل في هذه المنافسة لدرجة يكون {إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبيلاً}(11).

 البعد الثاني: البعد (السلوكي) الاجتماعي: وذلك عن طريق التخلق بأخلاق الله تعالى، والتأدب بآداب الرسل والأولياء، ليتمكن من خلق التعايش الآمن، وتطبيق قوانين العدالة، وصيانة الحقوق من الظلم والجور.

 فإذا تزكت نفوس المسئولين والقيادات السياسية أياً كان موقعها، انعكست تلك التزكية على سلوكياتهم في التعامل مع الله وفي التعامل مع الناس، فقد قال موسى(ع) لفرعون: {فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى‏ أَنْ تَزَكَّى * وَأَهْدِيَكَ إِلَى رَبِّكَ فَتَخْشَى}(12) لكون التزكية مُطهرة من الأمراض والآفات، وضابطة للسلوكيات.

فمن تزكت نفسه وخشي ربه لن يكون ظالماً في سلوكه أو جائراً في ممارساته، وسيتغير كيانه كما تغير أصحاب السحرة حينما أمنوا بنبي الله موسى بن عمران(ع)، فرغم قربهم من السلطان، ورغم رغد عيشهم مُقارنة لغيرهم، لكنهم آثروا أن يُقتلوا تطلعاً لما عند الله تعالى، فكان شعارهم: {وَمَا عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَأَبْقَى}(13)، ذلك لأنّ الإيمان بالآخرة أخذ من أنفسهم فصاغ سلوكياتهم.

والجدير ذكره، أنّ مما يتلمسه الإنسان في نفسه، وهي نزعة نفسية ثابتة، حبّ الجودة في كلّ شيء من صفاته وأفعاله وممتلكاته، فإنه يحب أن يكون جميلاً في كل مظهر من مظاهره، ومتميزاً في كلّ شأن من شئونه، ومُتقدماً في كل ما يتطلع إليه، وناجحاً في جميع أعماله، ولذا تجده مُحباً للتقدير، مُتلذذاً من الكلمات المادحة الموجهة إليه، – طبعاً لست في صدد بيان كيفية التعامل مع مثل هذه السلوكيات الآن، وما هو الموقف من مدح الناس وما شابهه، ولكني في صدد بيان كون هذا الحب من تكوين الإنسان- وهذا يدلنا على أنّ الغاية الأولى للإنسان هي الكمال المُطلق.

إذا تبين هذا الكلام فسوف نعرف قيمة المعرفة والعمل بالأخلاق السياسية الإسلامية، فإن علم الأخلاق السياسية يدرس صفات وأفعال الإنسان السياسية، ويعرفه بكيفية التحلي بالجيد منها، والتخلي عن الفاسد منها، لتتحقق حالة التوازن والتميز والجودة التي توصله إلى الكمال المُطلق في أخلاقه وأفعاله السياسية لتحقق سعادته وغايته في الدارين.

الغرض الثاني- تحقيق اللذة المادية والمعنوية: فالمُتحلي بالأخلاق السياسية من منظور الإسلام، لا يقف في هدفه النهائي عند حدود اللذائذ المادية والدنيوية، بل يتطلع إلى اللذائذ المعنوية أيضاً، فالطمأنينة لذة معنوية لا تُضاهيها لذائذ الدنيا بأسرها، ويُمكننا بكلمات الإمام السجاد(ع) أن نقترب من موقعية اللذائذ المعنوية – هذا إذا كنا محرومين من استذواقها-، «إِلَهِي مَنْ ذَا الَّذِي ذَاقَ حَلاوَةَ مَحَبَّتِكَ فَرَامَ مِنْكَ بَدَلاً وَمَنْ ذَا الَّذِي أَنِسَ بِقُرْبِكَ فَابْتَغَى عَنْكَ حِوَلاً»(14)، وحول مناجاته لربه يقول: «وَفِي مُنَاجَاتِكَ رَوْحِي وَرَاحَتِي وَعِنْدَكَ دَوَاءُ عِلَّتِي وَشِفَاءُ غُلَّتِي وَبَرْدُ لَوْعَتِي»(15) «يَا نَعِيمِي وَجَنَّتِي وَيَا دُنْيَايَ وَآخِرَتِي‏»(16).. إنه يُعبر لنا عن لذة لا تُجاريها لذة، وسعادة لا تُضاهيها سعادة.

ويُمكن القول بأن التطلع للمعنويات في حقيقة الأمر مسألة فطرية في الإنسان وليس هي نتيجة للتحلي بالأخلاق من منظور إسلامي، يُمكنني القول بأن التحلي بالأخلاق من منظور إسلامي، يلبي هذه الحاجة الفطرية ويُنميها ويُشعلها، فلو جئنا لمسألة حب التسلط والاقتدار مثلاً، فهو مسألة موجودة في الإنسان في مختلف مراحله العمرية، صغيراً كان أو كبيراً عجوزاً معتقاً، كما ورد عن النبي(ص): «يهرم ابن آدم ويشب فيه اثنان: الحرص على المال، والحرص على العمر»(17) وفي أخرى: (الحرص على الحياة)، فحب التسلط والاقتدار أمر مغروز في فطرة الإنسان منذ ولادته حتى مماته، وما حركته الدءوبة في تسخير الكائنات، واختراع الصناعات، وتسخير الطاقات إلاّ لأجل إشباع هذا الميل الفطري.. وقد يتجاوز هذا الإشباع الأمور المادية للاقتدار الاعتباري كالوصول أو الحصول على المواقع الاجتماعية المرموقة، كالرئاسة لموقع من المواقع السياسية والاجتماعية، وتجد أن تلبية حاجات هذه الميول الفطرية قد يتزايد لدرجة النهم، وما صورة الاحتلال والظلم والجور والقهر وسلب الحقوق إلاّ مفردات لتلبية الحاجة الغريزية التي لم تُقيدها الضوابط الأخلاقية الإسلامية، ولذا أقول مهما سعى الإنسان لتلبية ميله الفطري، فلن يستطيع أن يسد جوعته حتى لو تمكن من تسخير كل القوى المادية ووصل إلى أعلى المواقع الاعتبارية، ولن يُشبع هذا الميل الفطري اللانهائي إلاّ إذا اتصل بالقدير المتعالي، منبع القدرة اللامتناهي.

ولذا فمن حصر اللذائذ بالشهوة الجنسية أو المالية أو ما شابهها فهو واهم، فهل الملائكة التي ليس لها هذه الشهوات ليس لها لذة؟! بل لها من اللذائذ ما نتطلع لاستذواقه، بل يُمكن القول أيضا بأن من حصر التمتع بدائرة اللذائذ الدنيوية من دون التّفكير بنتائجها الصّالحة أو السيئة، وترك اللّذائذ المعنويّة ورعاية الأخلاق، فسوف لن يحرم نفسه اللذائذ الحقيقية فحسب، بل سيحرم نفسه حتى من الوصول إلى اللذائذ الماديّة التي يتطلع إليها، فحال الظلمة السياسيين الذين يسلبون حقوق البشر، ويتمتعون بها بغير وجه حق، كذلك المُعتاد على الأفيون، فإنه وإن انتعش باللذة حال استخدامه، ولكنه بعد زوال تلك النشوة يعيش مع الآلام المادية والمعنوية القاتلة من الأمراض العصبية، والقلق، والندم الشديد وربما الموت، وأنى لمن أسرته شهوته من التخلي عن هذه اللذة الدنيوية المُحرمة؟! وأنّى لمن أسرته شهوة السلطة والقوة من التخلي عن الخطايا والخيانات السياسية؟! وهل سيبقى ظلمه وجوره بلا آلام مادية ومعنوية؟! ألم يعيشوا الوحدة والخوف وهم في أوج القدرة المادية؟ هل سيبقى الطغاة السياسيون في حصانة من رجال العزة والكرامة؟ أين فرعون؟ أين نمرود؟ أين إرم؟ أين عاد؟ أين السادات؟ أين شاه إيران؟ أين صدام؟ والقائمة طويلة ممن خسروا لذائذهم المادية والمعنوية.

 فمن أراد اللذائذ الدنيوية والمعنوية السياسيتين فليتحلى بالأخلاق السياسية الفاضلة، كالعفّة السياسية، والأمانة السياسية، والصّدق السياسي، والرجولة السياسية، وغيرها من الأخلاق الفاضلة التي تجعل السياسي في راحة بال، ويشعر بدعم الناس في المآزق السياسية، ويتعزز في نفسه عنصر المقاومة والصّمود أمام المشكلات والأزمات.

 فالتمسك بالأخلاق السياسية الفاضلة من شأنه المساعدة في عمران الدنيا وتحويلها إلى جنّة مليئةٍ باللّذائذ، قال تعالى: {وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى‏ آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَالأَرْضِ}(18)، كما أن التمسك بالأخلاق السياسية الفاضلة من شأنه عمران الآخرة لما تؤدي به من قرب لله ونيل لثوابه، أما التمسك بالأخلاق السياسية الفاسدة والإجرامية فمن شأنه خراب الدنيا، وتحويله إلى محرقة ودمار، ومن شأنه خراب الآخرة، ودخول النّار المحرقة، المتولدة من وَحل المفاسد الأخلاقيّة.

 الغرض الثالث- بناء المُجتمع المُسلم: فالحياة السياسية أحد الأبعاد الاجتماعية التي يُراد صياغتها وفق التعاليم الإسلامية لتنطلق من منطلق الرؤية التوحيدية، وتتحرك في فلك عبودية الله سبحانه وتعالى، وإننا إذا لم نُفعل تعاليم الشريعة في هذا البعد الحيوي فلن نكون مُسلمين، ولن نتمكن من صناعة مُجتمع سياسي مُسلم في رؤيته وتفكيره وممارساته، بل سيظل مُجتمعاً مرقعاً في رؤيته ومبانيه وتوجهاته وممارساته.

 نعم، إننا لن نتمكن من بناء واقع إسلامي في أخلاقه السياسية من دون تطبيق سياسة إسلامية حقيقية مُستمدة من القرآن الكريم والسنة المطهرة للنبي وأهل بيته (صلى الله عليهم أجمعين)، وتطبيقها وتجسيدها لن يكون ممكنا إذا كنا نجهلها، فالإيمان بالله ورسوله وبأهل بيته (صلى الله عليهم أجمعين) يفرض على المؤمن أن لا يرضى بتسلط مفاهيم الباطل ورؤاه، ولذا فإنه يبذل جهده للإحاطة بالقوانين والتعاليم الإلهية الذي تقوم بموجبها سيادة نظام الحق في الدولة والمؤسسات والفرد والعمل على تحقيقها على أرض الواقع.

 فالخلاصة أن الجاهليات الحديثة استهدفت تقويض شريعة السماء، وهدم أخلاقنا الربانية التي صاغت {خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاس}(19)، وفهم ودراسة والعمل بالأخلاق السياسية من المنظور إسلامي يُساهم في إعادة تلك الصياغة الخيرة في بعد من أبعاد الحياة الإنسانية.

الهوامش والمصادر

  • (1) (مكاتيب الرسول للأحمدي الميانجي ج2 ص651).
  • (2) بحار الأنوار، ج16 ص210.
  • (3) سورةالقلم: 4.
  • (4) الاصول من الكافي، ج2 باب حسن الخلق الحديث رقم 11.
  • (5) رياض المسائل السيد علي الطباطبائي ج 4 الصفحة [ 329 ] [ 330 ].
  • (6) علل الشرائع: ص326.
  • (7) تاج العروس في مادة سوس.
  • (8) البحر الرائق (5/76).
  • (9) أصول الكافي ج1، ص266.
  • (10) سورة السجدة: 11.
  • (11) سورة الفرقان: 44.
  • (12) سورة النازعات: 18- 19.
  • (13) سورة الشورى: 36.
  • (14) مناجاة المحبين.
  • (15) مناجاة المريدين.
  • (16) مناجاة المريدين.
  • (17) مستدرك الوسائل ومستنبط المسائل، ج‏12، ص: 58.
  • (18) سورة الاعراف: 96.
  • (19) سورة آل عمران: 110.
المصدر
مجلة رسالة القلم

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى