ثقافة

المرجعية في ظل الولاية وفقاً لرؤية الإمام

لم يكن إنتصار الثورة الإسلامية المباركة في إيران بقيادة الإمام الخميني قده مجرّد حدث يُضاف إلى أرقام الثورات التي حدثت عبر التاريخ، وأنَّها تعبير عن إرادة شعب قاوم الحاكم الظالم والمستعمر وأسقط العرش العظيم للشاه المخلوع، بل إن عظمة الثورة الإسلامية وأهميتها تكمن في التحوّل والتطور التناريخي الذي شهده الفكر السياسي الشيعي في موضوع الإمامة والقيادة، حيث أنَّها أخرجت هذا الفكر الذي طالما بقي في صفحات الكتب والنظريات التي كتبها علماء الشيعة وفقهاؤهم إلى عالم الواقع وميدان التجربة.

ومن جملة هذه الأمور التي أصبحت تحتاج إلى بحث وتنقي ودراسة بعد انتصار الثورة الاسلامية المباركة في إيران، موضوع التمييز بين وظيفة الإفتاء للفقيه والمرجع وولاية الأمر. فبما أن عامة الناس لا تتوفر عندهم المقدرة على إستنباط الأحكام الشرعية من مصاردها المقررة وجب على غير المجتهدين أن يرجعوا في شؤون دينهم ومسائلهم الشرعية الى الفقه المرجع ولذلك وجد في الإسلام منصب المرجع، الذي يتصدى لشؤون الإفتاء.

وهذا المرجع ينبغي أن تتوفر فيه عدة شروط منهاالإجتهاد والفقاهة التي هي عبارة عن القدرة على إستنباط الأحكام الشرعية من مصاردها، والعدالة والضبط المتعارف بمعنى أن لا يكون الفقيه مبتلى بكثرة السهو والنسيان.

والذي وقع مجالاً للبحث والنقاش هو أن هذا المتصدي للمرجعية هل يكون ولياً للأمر؟ أم أن مقام الولاية والقيادة غير مقام الإفتاء؟

لا شك بأنه قد يحصل لدينا أن تتوفر في شخص ما شروط المرجعية دون أن تتوفر فيه شروط ولاية الأمر التي هي مجموعة من الشروط التي تضاف إلى شروط المرجعية مثل القدرة والخبرة السياسية والاجتماعية والمعرفة بأمور الزمان والمكان، وما شابه ذلك.

وقد تعرض الامام الخميني قده إلى ذكر هذه الشروط في كتابه الحكومة الإسيلامية حيث قال: الشروط التي ينبغي توفرها في الحاكم نابعة من طبيعة الحكومة الإسلامية، فإنه بصرف النظر عن الشروط العامة كالعقل والبلوغ وحسن التدبير، هناك شرطان مهمان هما:
1 – العلم بالقانون الإسلامي.
2 – العدالة.

فإذا توفرت شروط الولاية في شخص المرجع فهذا ما يمكن أن يحل لنا الكثير من المشاكل لأنه بذلك لا يحصل تفريق بين مقام المرجعية ومقام الولاية.

وهذا ما حصل بالفعل مع الإمام الخميني قده وسماحة السيد على الخامنئي دام ظله حيث توفرت فيهما شروط المرجعية وشروط الولاية بلا أدنى ريب أو شك.

ولكن مع وجود المرجع الذي لا يحوز على شروط القيادة والولاية في ظل وجود مرجع حائز على هذه الشروط، أو مع وجود مجموعة من المراجع سواء كانت لديهم شروط الولاية أم لا، في ظل وجود مرجع حائز على شروط الولاية. فلمن تكون ولاية الأمر، وهل يجب على الأمة وفقهائها طاعته والإنقياد إليه؟ هذا ما وقع مورداً للبحث والنقاش العلمي. وهذا ما سنحاول الاجابة عنه.

العلاقة بين المراجع والولي الفقيه:

من الأسئلة والقضايا الفكرية الهامة التي طُرحت في موضوع صلاحيات الولي الفقيه، مسألة العلاقة بين المرجعية والولي الفقيه؟ وهل أنَّه من الممكن أن يتعارض المرجع مع الولي الفقيه فيما لو لم يكن الولي الفقيه متصدياً لمقام الفتيا والمرجعية على المستوى الفقهي؟

وحتى لو كان الولي هو المرجع، فما هو حال ودور سائر الفقهاء والمراجع؟

هذا طبعاً مع التأكيد على أن المصلحة الإسلامية العليا، والظروف الموضوعية تفرض علينا الإلتزام والسعي نحو توحيد المرجعية والقيادة في شخص واحد إذا ما أريد للمرجعية أن تحتفظ بما تملكه اليوم من خصائص، ولا شك بأن هذا الأمر (وحدة المرجعية والقيادة) يوفّر على الأمة وفقهائها ومراجعهاالكثير من العناء والتعب والسلبيات التي يمكن أن تنشأ من خلال الفصل بين موقع المرجعية وموقع الولاية.

فبحثنا إذن يدور حول معالجة القضية في حال التعددية بين المقامين، وعلى فرض الوحدة كذلك نبحث عن العلاقة بين مقام الولي الفقيه وسائر الفقهاء والمراجع.

وهذا السؤال أُثير منذ زمن بعيد، وحاول فقهاء الشيعة الإجابة عنه في الأبواب الفقهية المختلفة، ونحاول الآن الإجابة عنه بإختصار كمقدمة للبحث والخوض في تفاصيل هذا الموضوع.

يستفاد من إطلاق أدلة الفقيه أن أحكام الولي الفقيه تملك حجية النفاذ على الفقهاء الآخرين الذين يجهلون سند حكم الحاكم.

أما الأحكام التي يصدرها الحاكم والولي من باب ولايته على الأمة، فإنَّها قد تكون موافقة للفقيه وقد تكون معارضة لها.

فإن وافقت رأي الفقيه غير الحاكم، فإنَّه يعمل بها من باب العمل برأيه.

وإن تعارضت معها، وكان هذا التعارض سبباً لإختلال النظامخ وتفريق صفوف الأمة، وجب عليه إتباع رأي الحاكم.

إذن فإن حكم الحاكم الفقيه العادل الذي يرأس النظام الإسلامي، نافذ على جميع المراجع الآخرين ومقلّديهم.

وفي هذا المجال يقول الامام الخميني قده في كتابه الحكومة الإسلامية: “فالله جعل الرسول ولياً للمؤمنين جميعاً، وتشمل ولايته حتى الفرد الذي سيخلفه، ونم بعده كان الإمام عليه السلام ولياً، ومعنى ولايتهما أن أوامرهما الشرعية نافذة في الجميع، وإليهما يرجع أمر تعيين القضاة والولاة، ومراقبتهم وعزلهم إذا إقتضى الأمر، نفس هذه الولاية والحاكمية موجودة لدى الفقيه، بفارق واحد هو أنه ولاية الفقيه على الفقهاء الآخرين لا تكون بحيث يستطيع عزلهم أو نصبهم، لأن الفقهاء في الولاية متساوون من ناحية الأهلية”.

ويقول صاحب العروة حول نفاذ حكم الحاكم والولي: “حكم الحاكم الجامع للشرائط لا يجوز نقضه ولو لمجتهد آخر إلاّ إذا تبيّن خطأه”.

وقد يقول قائل: هذا الحكم يكون نافذاً إذ كان الحاكم هو الأعلم.

والجواب: أعلمية الحاكم المطلوبة، إنَّما هي في شؤون الحكومة والولاية، فضلاً عن أن الكثير من الفقهاء يشترطون الأعلمية في شؤون الولاية. ويكاد الجميع يتفقون على هذا الرأي، لذا يقول صاحب العروة: “لا تعتبر الأعلمية فيما أمره راجع إلى المجتهد إلاّ في التقليد، وأما الولاية على الأيتام والمجانين والأوقاف التي لا متولي لها و… فلا تعتبر الأعلمية”.

يقول الفقيه آية الله الشيخ جواد التبريزي: “… إذن في الحالات التي تتعارض فيها أحكام الحاكم، مع أحكام المراجع الآخرين، المتعلقة بشؤون الحكومة والنظام، يكون الحل في إتباع المراجع ومقلديهم لحكم الولي الفقيه، وإلاّ فسوف يؤدّي الإختلاف إلى إختلال النظام وإلحاق الضرر بالأمة وهذا أمر حرام”.

الفتوى وأحكام الولي الفقيه:

بناءً على إمكانية تعدد مقام الولاية والمرجعية، بحيث أنه لو فرضنا أن هناك مرجع أو عدة مراجع في ظل وجود ولي الفقيه فقد ينشأ تعارض بين الفتاوى الصادرة عن هؤلاء المراجع مع أحكام الولي الفقيه، فما هو الحل لهذه المشكلة؟

الجواب عن هذا السؤال قد تمّ في النقطة السابقة. ولكن إتمامً للفائدة نرى أنه من الضروري التوضيح للقارئ الكريم معنى كلٍّ من فتوى المفتي وحكم الولي الفقه وكيف يحصل الإختلاف بين الفتوى والحكم وما هي مساحة كلٍّ من الفتوى والحكم الولايتي.

الفتوى في إصطلاح الفقهاء هي الإخبار عن حكم الله، بواسطة الفقيه المستنبط، والمفتي هو الفقيه الذي يبدي رأيه في الأحكام الشرعية من خلال الأدلة الشرعية.

أما حكم الحاكم فهو الأمر بتنفيذ الأحكام الشرعية، وكذلك الإلزام من قبل الحاكم الإسلامي بأداء أو ترك عمل معيّن حسبما تقتضيه المصلحة.

من هنا فإن الفتوى غير الحكم، والمفتي غير الحاكم.

وعن الفرق بين الفتوى والحكم يقول صاحب الجواهر: “… الظاهر أن المراد بالاولى الإخبار عن الله تعالى بحكم شرعي متعلق بكلي، كالقول بنجاسة ملاقي البول أو الخمر… وأما الحكم فهو إنشاء إنفاذ من الحاكم لا منه تعالى لحكم شرعي أو وضعي أو موضوعهما في شيء مخصوص”.

وعلى هذا الأساس يكون هناك إختلافان بين الفتوى والحكم.
أ- من حيث الإخبار أو الإنشاء.
ب- من حيث كلية الموضوع أو جزئيته.

فالفتوى هي إخبار الفقيه عن الحكم الإلهي في الأمور المادية والمعنوية، بينما الحكم هو الأمر الذي يصدره الحاكم بشأن من الشؤون العامة للناس، ومخالفة الفتوى جائزة لذوي الخبرة، وليس لأحد أن يمنعهم منها، فعلى سبيل المثال، حين يفتي فقيه بنجاسة الدم الموجو في البيضة مثلاً يجوز لفقيهٍ آخر أن يفتي بطهارته، بل جيوز للمقلّد أن يخالف فتوى المجتهد ويرجع إلى المجتهد أعلم وأورع، ولكن لا يجوز نقض الحكم، لأنّه يحدث إختلالاً في النظام.

وأما عن علاقة الناس بالحاكم والمفتي:

فإن علاقة الناس بالمفتي والمرجع هي علاقة غير المتخصصين بالمتخصّص الخبير، لا غير.

أما علاقتهم بالحاكم الإسلامي، فهي علاقة الأمة بالامام، فالفقيه الواجد لشروط القيادة، هو حاكم الأمة الإسلامية وقائدها.

ومساحة فتوى المفتي تختص به وبمقلّديه، وليس لمفتٍ آخر ولا لمقلِّديه، أن يعمل بها، بينما يمكن للفقهاء العمل بحكم الحاكم، بل هم ملزمون بذلك، ويجب عليهم وعلى جميع الناس إطاعته وإتباعه، حتى لو خالف رأي أحدهم غيره حين التزاحم.

(إن الولاية والحاكمية الموجودة لدى الفقيه هي نفسها للمعصوم بمعنى أن أوامره الشرعية نافذة في الجميع).

(إن الأعلمية المطلوبة للحاكم إنما هي في شؤون الحكومة والولاية).


سماحة الشيخ خليل رزق‏.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى