ثقافة

الطريق إلى قراءة الإسلام

وقفة مع شعار المجلس جرت العادة في كل عام أن يطلق المجلس الإسلامي العلمائي في البحرين شعاراً يهدف من ورائه إلى تنشيط الساحة الإسلامية، وأن يكون لهذا الشعار حضورا فاعلاً بين الناس، بحيث يلتفتون إلى مضامينه ومعناه ويترسخ في أذهانهم، ويلقى زخماً كبيراً في أوساطهم، فيتقبلونه ويتفاعلون معه حتى يجد هذا الشعار طريقه إلى أرض الواقع.

 هذه الخطوة من قبل المجلس مهمةٌ جداً على طريق شد الناس إلى إسلامهم، وربطهم بمنهجهم القويم الصافي، ومنبعهم الأصيل الذي يضمن لهم سعادة الدارين، ولقد أثبت لنا التاريخ أنَّ الشعوب التي اتبعت الأطروحات والأيدلوجيات الأرضية من الماركسية والرأسمالية وغيرها وابتعدت عن منهج السماء كان نصيبها الفشل والضياع والسقوط في الهاوية، والواقع شاهد على ذلك.

كان شعار المجلس لهذا العام (اقرأ إسلامك)، فهو يتكون من كلمتين جميلتين، رائعتين، عميقتين في المعنى والمضمون.

 فمن أجل أن يتضح المقصود من هذا الشعار نحتاج أن نقف مع هاتين الكلمتين وقفة تأمل قصيرة.

 القراءة مفتاح المعرفة فالكلمة الأولى في الشعار هي القراءة، فالقراءة لها قداسة خاصة في نفوس البشر، وقد اكتسبت هذه القداسة من حيث أنها مفتاح للعلوم، والطريق للوصول للمعرفة، وهي الوسيلة التي توصِّلُ الإنسانَ إلى التطور والتقدم العلمي والمعرفي على جميع الأصعدة والمستويات، ومن خلالها يستطيع الإنسان أن يشقَّ طريقه إلى الكمال الإنساني الذي خلق من أجله. ومن هنا نجد الإسلام العظيم قد أعطى لهذه الكلمة وزناً خاصاً وموقعاً مرموقاً، حيث أول ما نزل الوحي على الرسول الأكرم(ص) بدأ بهذه الكلمة، فالقرآن الذي استمر نزوله ثلاثاً وعشرين عاماً بدأ بهذه الكلمة العظيمة «اقرأ».

مع أنَّ القرآن يحتوي على ما يزيد على سبع وسبعين ألف كلمة، ومن بين كل هذا السيل الهائل من الكلمات كانت كلمة «اقرأ» هي الأولى في النزول.

ومع أن في القرآن الكريم آلافاً من الأوامر مثل أقم الصلاة.. وآتوا الزكاة… وجاهدوا في سبيل الله وغيرها الكثير في القرآن ومن بين هذه الأوامر نزل هذا الأمر الأول «اقرأ».

من هنا يتضح لنا عظم شأن هذه الكلمة والقيمة العالية التي تمتلكها، من حيث أنها هي الوسيلة التي توصلنا إلى العلم والمعرفة، فالقرآن يكشف عن هذه الحقيقة في قوله(عزّ وجلّ): {اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ} (1)؛ فمع أن العلم والمعرفة هي غاية القراءة إلا أن الله(عزّ وجلّ) لم يبدأ القرآن الكريم بكلمة «تعلم» أو غيرها من الكلمات إنما بدأ بكلمة «اقرأ».

ومهما تعددت الوسائل التي توصلنا إلى المعرفة -وما أكثرها في يومنا الحاضر- تبقى القراءة هي الوسيلة الأعظم والأبرز للتعلم والوصول للمعرفة.

 بعد هذا يصل بنا المطاف للوقوف مع كلمة المعرفة والخوض في غمارها حتى تتضح الصورة أكثر وينكشف المعنى بصورة أوضح.

أثر المعرفة في حياة الإنسان بعد أن اتضح لنا بأنه لا توجد موضوعية لكلمة القراءة في حد ذاتها إلا لأنها هي الموصلة إلى المعرفة والوسيلة الدالة عليها، على إثر ذلك نجد أن الدين الإسلامي قد أعطى لهذه الكلمة (المعرفة) مركزاً متميزاً ومقاماً رفيعاً بحيث عبَّر عنها بالخير الكثير الذي يُسعد الإنسان ويأخذ بيده إلى طريق الخير والصلاح، فقد جاء في تفسير الآية الكريمة: {يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُو الأَلْبَابِ} (2)في تفسير العياشي، عن أبي جعفر(ع): «إن الحكمة المعرفة والتفقه في الدين، فمن فقه منكم فهو حكيم، وما من أحد يموت من المؤمنين أحب إلى إبليس من فقيه» (3)من هنا يعرف بأن المعرفة إذا نزلت بساحة أحد من الناس فقد نزلت بساحته البركة والخير الكثير.

 ومن جهة أخرى نجدها هي المقياس في أفضلية الإنسان على غيره من بني البشر فقد ورد عن الرسول الأكرم (ص): «أفضلكم إيماناً أفضلكم معرفة» (4)، وفي مقام آخر نجد مولانا أمير المؤمنين(ع) قد جعلها هي التي تعطي القيمة والدرجة الرفيعة للإنسان بين بني جنسه ففي هذا السياق ينقل لنا الإمام الحسين عن أبيه أمير المؤمنين(ع) يقول سمعت أبي علياً يقول: «قِيمَةُ كُلِّ امْرِئٍ مَا يُحْسِنُهُ»، وسمعت جدي يقول: «المعروف بقدر المعرفة» (5).

مضافاً إلى كل ذلك نجدها من جهة أخرى هي الميزان في قبول الأعمال، فقد ورد عن إمامنا أبي عبد الله الصادق(ع): «لا يَقْبَلُ اللَّهُ عَمَلا إِلا بِمَعْرِفَةٍ ولا مَعْرِفَةَ إِلا بِعَمَلٍ؛ فَمَنْ عَرَفَ دَلَّتْهُ الْمَعْرِفَةُ عَلَى الْعَمَلِ، ومَنْ لَمْ يَعْمَلْ فَلا مَعْرِفَةَ لَهُ، أَلا إِنَّ الإيمَانَ بَعْضُهُ مِنْ بَعْضٍ» (6)، وفي موقع آخر نجدها هي التي تُدخِل الإنسان تحت عنوان الصالحين، فحتى يكون منهم فلا بد له من معرفة تُأهِّله للدخول تحت هذا العنوان، فقد ورد عن إمامنا الصادق(ع): «إِنَّكُمْ لا تَكُونُونَ صَالِحِينَ حَتَّى تَعْرِفُوا…» (7)، وغيرها الكثير الكثير من الروايات التي تبين موقع هذه الكلمة (المعرفة) كقاعدة للانطلاق في فهم الإسلام وتأثيره في حياة الإنسان.

حقيقة الإسلام الكلمة الأخرى التي تضمنها الشعار هي (الإسلام)، والإسلام يعني التسليم، والمقصود منه التسليم للّه(عزّ وجلّ)، والقرآن الكريم يشير إلى هذه الحقيقة ويقول: {إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الإِسْلامُ} (8)، ومعنى ذلك أنَّ الدين الحقيقي عند اللّه هو التسليم لأوامره وللحقيقة.

 ومن أجل أن نعرف حقيقة الإسلام والتعرف على معناه بصورة أوضح نستعير هذا البيان الرائع والعميق لمولانا أمير المؤمنين ومولى المتقين الإمام على بن أبي طالب(ع) حيث يقول: «لأَنْسُبَنَّ الإِسْلامَ نِسْبَةً لَمْ يَنْسُبْهَا أَحَدٌ قَبْلِي، الإِسْلامُ هُوَ التَّسْلِيمُ، وَالتَّسْلِيمُ هُوَ الْيَقِينُ، وَالْيَقِينُ هُوَ التَّصْدِيقُ، وَالتَّصْدِيقُ هُوَ الإِقْرَارُ، وَالإِقْرَارُ هُوَ الأَدَاءُ، وَالأَدَاءُ هُوَ الْعَمَل» (9).

الإمام في كلمته هذه يضع للإسلام ستّ مراحل: الأُولى: التسليم أمام الحقيقة. الثانية: ثمَّ يقول إنَّ التسليم بغير يقين غير ممكن (إذ أنَّ التسليم بغير يقين يعني الاستسلام الأعمى، لا التسليم الواعي).

 الثالثة: ثمَّ يقول إنَّ اليقين هو التصديق (أي أنّ العلم وحده لا يكفي، بل لا بدَّ من الاعتقاد والتصديق القلبيَّين).

 الرابعة: التصديق هو الإقرار (أي لا يكفي أن يكون الإيمان قلبيَّا فحسب، بل يجب إظهاره بشجاعة وقوَّة).

 الخامسة: ثمَّ يقول إنّ الإقرار هو الأداء (أي أنَّ الإقرار لا يكون بمجرَّد القول باللسان، بل هو التزام بالمسؤولية).

السادسة: وأخيرا يقول إنَّ الأداء هو العمل (أي إطاعة أوامر اللّه وتنفيذ البرامج الإلهية)؛ لأنَّ الالتزام وتحمُّل المسؤولية لا يعنيان سوى العمل. أمّا الذين يُسخِّرون كلَّ قواهم وطاقاتهم في عقد الجلسات تلو الجلسات وتقديم الاقتراحات وما إلى ذلك من الأمور التي لا تتطلَّب سوى الكلام فلا هم تحمّلوا التزاماً ولا مسئولية، ولا هم وعوا روحَ الإسلامِ حقَّاً.

هذا أجلى تفسير للإسلام من جميع جوانبه» (10).

 بعد أن وقفنا على المفردتين اللتين يتكون منهما الشعار، جاء دور الحديث عن المضمون العام للشعار

 ومن أجل الولوج في ذلك نحتاج أن نطرح هذا السؤال

 لماذا نقرأ الإسلام ؟ الجواب بكل سهولة لأنَّه هو المنهج لحياتنا والطريق لسعادتنا؛ فلا تصح دنيا ولا تصح آخرة إلا به، ونحن نرى بأمَّهات أعيننا آثار الانفلات والابتعاد عن الإسلام، فلا حياة سعيدة في الدنيا ولا نجاة في الآخرة إلا بالإسلام العزيز

 وبما أنه هو خاتم الرسالات، وهي الرسالة التي جاء بها النبي الكريم(ص) من أجل أن تُخرِجَ الناسَ من الظلمات إلى النور، وتُوفرَ لهم حياة كريم مطمئنة، من أجل ذلك كله فلا بد أن نقرأه ونتعرف عليه.

 فهو المنهج الذي يكفل للبشرية سعادة الدارين، فهو الدين الخاتم الذي لا يقبل الله من أحد التدين بغيره وقد جاء هذا المعنى صريحا في القرآن الكريم {وَمَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلَامِ دِينًا فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآَخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِينَ} (11).

 فهو المنهج القويم والنهج الإلهي الأكمل من بين الأديان والشرائع السماوية، وهو المخطط الذي رسمه الله تعالى لسلوك الإنسان الفكري والعملي، وهو الكفيل بإسعاد الإنسان إذا ما مشى على نهجه وسلك سبيله.

 إلا أنه ومع الأسف قد لا نبالغ إذا قلنا بأن هناك شريحة كبيرة من أبناء الأُمة الإسلامية تعيش نوعاً من الأمية -أُمية غير مباشرة- اتجاه رسالة السماء، مع أنهم يجيدون القراءة والكتابة ولكنهم يجهلون بعض الأساسيات التي يقوم عليها الدين الإسلامي، ويفتقرون إلى أبسط أبجديات هذا الدين.

 قد تواجه أستاذاً جامعياً أو طبيباً أو مهندساً وتجده أميَّاً لا يتوفر على أوليات الدين وأساسياته، فهذه مشكلة حقيقة تعيشها مجتمعاتنا وهي ظاهرة خطيرة.

 فإنَّ المفتاحَ لحلِّ هذه المشكلة هو الانفتاح على قراءة الإسلام، القراءة الواعية والصادقة العميقة والموضوعية التي توصلنا إلى المعرفة الحقة، وتنتشلنا من واقعنا الذي نعيشه.

ومن هنا ينْجرُّ بنا الكلام للحديث حول أهمية الدعوة المركَّزة التي أطلقها الإسلام للتفقه في الدين والإطلاع على معارفه.

 أهمية التفقه في الدين التفقه بالمعنى الخاص: عندما نلاحظ النصوص التي حثَّت على ضرورة التفقه في الدين نجد هذه الدعوة تنحلُّ إلى نحوين من التفقه، الأول وهو الذي انصبَّ على ضرورة أن تنبري مجموعةٌ من المؤمنين للتخصص في علوم الدين وتحصيل علوم الشريعة، وهذا ما أشارت له الآية المباركة في سورة التوبة: {وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْلا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طَائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَلِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذَا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ} (12).

 فالآية الكريمة تشير إلى ضرورة التفقه في الدين والمراد تحصيل جميع المعارف والأحكام الإسلامية، وهي أعمُّ من الأصول والفروع، لأنَّ كلَّ هذه الأمور قد جُمعت في مفهوم التفقه.

 فالتفقه في الدين يعني أن يمتلك الإنسان رؤية واضحة عن المفاهيم الإسلامية، وأن يتوفر على معرفة واضحة عن مقاصد الإسلام وبما يهتم به الإسلام من أهداف كبرى لا يرضى بتضييعها.

 “فالآية الكريمة مضافاً إلى ذلك فإنَّ فيها دليل واضح على وجوب توجه فئة من المسلمين وجوباً كفائياً على الدوام لتحصيل العلوم في مختلف المجالات الإسلامية، وبعد الفراغ من التحصيل العلمي يرجعون إلى مختلف البلدان، وخصوصا بلدانهم وأقوامهم، ويعلمونهم مختلف المسائل الإسلامية” (13).

فهي توضح لنا أن التفقه المطلوب هنا هو التفقه بمعناه الخاص حيث أنها أمرت طائفة من المؤمنين أن يأتوا إلى مركز طلب العلم الذي كان متمثلاً -آنذاك- بمدينة الرسول الأعظم(ص)، وفي يومنا الحاضر هي الحوزات العلمية والمراكز الإسلامية المتخصصة في علوم الشريعة.

 والنصوص التي تُرغِّب وتحثُّ على التفقه في الدين بمعناه الخاص كثيرة جداً، بحيث لو أردنا التعرض لها لخرجنا عن صلب الموضوع ومحل الكلام.

 التفقه بالمعنى العام: وأما النحو الآخر الذي يظهر من النصوص التي دعت إلى التفقه في الدين هو التفقه العام، أو ما يصطلح عليه الثقافة الدينية العامة، فهي كثيرة نحاول أن نستعرض بعض تلك النصوص التي تُأكِّد على هذا المحور على نحو الاختصار وبما يسمح به المقام.

 عندما نطالع طائفة من هذه النصوص نجد فيها اهتماماً شديداً جداً من الشارع المقدس لهذه المسألة في مرحلة مبكرة من عمر الإنسان، حيث حثُّ الآباءِ على ضرورة حفظ ثقافة أبنائهم قبل أن يصلوا إلى سن البلوغ، وكانت هذه النقطة الجوهرية مثار اهتمام الأئمة(ع)، وهي ضرورة تحصين عقول الناشئة من الاتجاهات والتيارات الفكرية المنحرفة من خلال تعليمهم علوم أهل البيت(ع) واطلاعهم على أحاديثهم، وما تتضمنه من بحر زاخر بالعلوم والمعارف.

وحول هذه النقطة بالذات، يقول الإمام علي(ع): «عَلِّمُوا صِبْيَانَكُمْ مِنْ عِلْمِنَا مَا يَنْفَعُهُمُ اللَّهُ بِهِ لا تَغْلِبُ عَلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ بِرَأْيِهَا».

 وعن أبي عبد الله الصادق(ع) قال:«بَادِرُوا أَوْلادَكُمْ بِالْحَدِيثِ قَبْلَ أَنْ يَسْبِقَكُمْ إِلَيْهِمُ الْمُرْجِئَةُ».

ومن المعلوم أن فكر المرجئة حينذاك يملي للظالمين ويمد لهم حبال الأمل في النجاة، لأنَّه يرفض الثورة على الحاكم الظالم، ويرجئ حسابه إلى يوم القيامة، ويعتبر الفاسق الذي يرتكب الكبائر مؤمناً!.

لأجل ذلك أهتمَّ الأئمة(ع) بتحصين فكر النشئ الجديد ضد التيارات الفكرية المنحرفة والوافدة، من خلال الدعوة إلى تعليم الأطفال الأفكار الإسلامية الأصيلة التي تستقى من منابع صافية وأصيلة.

هذا الاهتمام برز عند الأئمة الأطهار في تلك العصور التي لم تشهد التطور التكنولوجي، وانتشار الوسائل الحديثة في الاتصالات كما نشهده نحن اليوم؛ حيث إن الأفكار السامة والهدامة تغزونا في عقر دارنا ولا نستطيع صدها والوقوف أمامها بسهولة، فالمفروض أن يكون الجهد في زماننا هذا مضاعفا وتكون المواجهة أكبر؛ لأنَّ الهجوم اليوم أوسع وقد أخذ أشكالاً مختلفة مع تطوُّر الحياة وتقدمها. طائفة أُخرى من النصوص في نفس سياق الموضوع تشير لهذه المسألة بصورة عامة، منها ما روي عن الإمام الصادق(ع): «تَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ مِنْكُمْ فِي الدِّينِ فَهُوَ أَعْرَابِي…» (14)، فالمقصود من هذا التعبير هو أن الذين يسكنون البوادي ويبتعدون عن مراكز العلم والحضارة والمدينة لا يمكنهم الوقوف على الحقائق التي يحتاجها كل إنسان، وهذا سوف يترتب عليه نتائج سلبية تترك آثارها عليهم في الدنيا قبل الآخرة.

من تلك النصوص أيضاً ما عن إمامنا الصادق(ع): «عَلَيْكُمْ بِالتَّفَقُّهِ فِي دِينِ اللَّهِ وَلا تَكُونُوا أَعْرَاباً، فَإِنَّهُ مَنْ لَمْ يَتَفَقَّهْ فِي دِينِ اللَّهِ لَمْ يَنْظُرِ اللَّهُ إِلَيْهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَلَمْ يُزَكِّ لَهُ عَمَلا».

هذا يعني أن غير المتفقه في الدين لا يكون مورداً لعناية الله تعالى ولا قيمة لأعماله.

 بالإضافة إلى ذلك، فنحن نجد أن الإنسان الذي لا يملك الثقافة التي تساعده على المضي في الطريق الصحيح، ويفتقد للرؤية الواضحة فهو كلما سار لا تزيده كثرة السير إلا بعداً، مما يعني أن نتائج حركة هذا الإنسان تأتي دائماً بنتائج عكسية، كما ورد في الحديث الشريف الوارد عن إمامنا الصادق(ع): «العامل على غير بصيرة كالسائر على غير طريق لا تزيده سرعة السير إلا بعداً» (15).

وهنا نختم هذا المحور بحديث شديد اللهجة يتعلق بهذا الموضوع، وهو إنما يدل على أهمية الأمر والضرورة القصوى التي يتطلبها الموقف، فقد ورد عن الإمام الصادق(ع): «لَوَدِدْتُ أَنَّ أَصْحَابِي ضُرِبَتْ رُءُوسُهُمْ بِالسِّيَاطِ حَتَّى يَتَفَقَّهُوا» (16)،بيان شديد اللهجة ينمُّ عن حساسية المسألة وخطورتها.

على كل حال، فالإنسان عندما يقف على هذه النصوص يدرك حقيقة الأمر وأهمية الموضوع، ويصل إلى نتيجة مفادها أن مسألة التفقه في الدين مسألة جوهرية عند الشارع المقدس، لا يمكن التفريط فيها أو التنازل عنها.

 فاتضح أنَّ تحصيل الثقافة الدينية أمر في غاية الأهمية؛ لأنَّه يكسب صاحبه حصانة تقيه المزالق، وتحميه من مخاطر الغزو الثقافي والهجمات الفكرية التي تتعرض لها الأمة الإسلامية على الدوام، فهي بالإضافة إلى ذلك تعطي الإنسان قدرة ومكنة على فهم المسائل الشرعية والقضايا العقائدية والأخلاقية، وتكسبه القدرة على تطبيقها بشكل صحيح ودقيق، فالإنسان الذي يحمل ثقافة إسلامية عامة، إذا ما واجه أفكارا غريبة لا تنسجم مع الأُسس التي يعرفها عن الإسلام وإن لم يستطيع الإجابة عليها أو مناقشتها إلا أنه يرفضها بفضل الثقافة التي يحملها، فهو يملك السلاح الوقائي الذي يعبر عنه بالحصانة الفكرية.

وقبل أن نغادر هذه النقطة، نود الإشارة إلى أمر مهم في المقام جدير بالاهتمام، وهو أنه عندما تصبح عند الإنسان -الذي يهتم بهذا الجانب- حصيلة علمية وثقافة فكرية لا بأس بها، ينبغي أن لا تخلق عنده حالة من الغرور والاعتداد بالنفس، بحيث تنشأ عنده فكرة عدم الحاجة للرجوع لأهل التخصص في الدين، فإن هذه المسألة قد ابتلي بها البعض ووقعوا في فخها، من هنا نجد من الجدير الوقوف عند هذه النقطة التي كثر فيها اللغط والقيل والقال.

الرجوع إلى أهل التخصص حيث أن بعض المثقفين أو بعض المتنورين من حملة الشهادات الأكاديمية يرون أنفسهم قادرين على تعيين تكاليفهم الشرعية والدينية من دون الحاجة للرجوع إلى أهل الاختصاص في الدين، مع أن الرجوع إلى أهل الاختصاص مسألة بديهية، وسيرةُ العقلاء في كل مجتمعات الأرض قائمةٌ عليها، والشارع المقدس أقرَّ مثل هذه السيرة، وحياة الناس منذ الأزل مبنية على ذلك، والمجتمعات تمارس ذلك بكل شفافية، فلا داعي للمغالطة فيها، فهي واضحة وضوح الشمس.

فضلاً عن أن التوقيع (17)الشريف الصادر عن مولانا صاحب العصر والزمان(عج) يدعونا إلى الرجوع إلى الفقهاء العدول، ويؤكد على ذلك ويحذر من مخالفتهم والرد عليهم.

إلا أن البعض قد يحلو له خلط الأوراق من أجل أمور أصبحت واضحة للجميع، ومن أهمها وأبرزها هو فصل الناس عن علماء الدين المخلصين الذين يحفظون دين الناس ويمارسون وظيفتهم الشرعية، ويرعون مصالح الأمة والمجتمع، حيث أن البعض يرى أن هذا الدور الذي يقوم به العلماء يصطدم مع ميولاته وتوجهاته وممارساته، فتجده يصبحُ حَجَرَ عثرةٍ أمام هذا الدور، ويثير الشبهات والإشكالات من أجل أهداف أصبحت مكشوفة، وإلا فمَن مِن هؤلاء إذا مرض لا يراجع الطبيب المتخصص في ذلك، فلماذا لا يستغني بثقافته وتحصيله الأكاديمي عن الرجوع إلى الطبيب المختص؟! بل نحن نجد الأطباء أنفسهم يرجع بعضهم إلى الآخر إذا مرض بمرض خارج دائرة تخصصه.

وهنا لا يوجد عاقل يُسفِّهُ مثلَ هذا الرجوع؛ فهو رجوع ممدوح وعقلائي جداً، ولكن مجرد أن تصل النوبة إلى الرجوع إلى علماء الدين تحصل المشكلة، وتنشئ الإشكالات، وتُخلَق الشبهات، كل ذلك من أجل أهداف أصبحت معروفة للجميع.

بعد الإطلالة الإجمالية حول(الطريق إلى قراءة الإسلام)، نجد من اللازم التأكيد على قراءة الإسلام بصورة واعية تتسم بالموضوعية والشفافية والصدق في التعاطي معه، حيث أن مصير الإنسان ومستقبله مرتبط بالإسلام، فليس من الصحيح أن يتعامل مع هذا الأمر بصورة باهتة هامشية، وخالية من المصداقية، فمن الضروري جداً أن نحمِلَ المسألة على محمل الجد، ولا نتهاون فيها؛ لأهميتها وضرورتها.

 في الختام.. نسأل الله (عزّ وجلّ) أن يرزقنا معرفة الإسلام والعمل به، وأن يوفقنا لحمل راية الإسلام تحت لواء مولانا صاحب العصر والزمان روحي وأرواح العالمين لمقدمه الفداء، وأن يُعزَّنا بالإسلام، وأن ينصر الإسلام والمسلمين، إنه على كل شيء قدير.

المصادر والهوامش

  • (1) العلق: 3.
  • (2) البقرة: 269.
  • (3) تفسير العياشي، ج1، ص151.
  • (4) جامع الأخبار: ص5.
  • (5) المصدر السابق.
  • (6) الكافي، ج2، ص45.
  • (7) الكافي، ج1، ص181.
  • (8) آل عمران: 19.
  • (9) نهج البلاغة، ص429.
  • (10) مقتبس من تفسير الأمثل، ج2، ص429.
  • (11) آل عمران: 85.
  • (12) التوبة: 122.
  • (13) مستفاد من تفسير الأمثل، ج6، ص268.
  • (14) الكافي، ج1، ص30.
  • (15) بحار الأنوار، ج75، ص244.
  • (16) الكافي، ج1، ص30.
  • (17) الوسائل، ج27، ص140، (…وَأَمَّا الْحَوَادِثُ الْوَاقِعَةُ فَارْجِعُوا فِيهَا إِلَى رُوَاةِ حَدِيثِنَا فَإِنَّهُمْ حُجَّتِي عَلَيْكُم وأَنَا حُجَّةُ اللَّهِ…).
المصدر
مجلة رسالة القلم

اترك تعليقاً

زر الذهاب إلى الأعلى